الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصاد ربع قرن
في حقل الدعوة الإسلامية في الشام
نشرت سنة 1953
هذا بحث وُلد قبل استكمال مدة الحمل، ولست أدري أيموت من يومه أم يَمُنّ الله عليه فيكتب له الحياة؛ ذلك أني كنت أدوِّن عناصره وأجمع أجزاءه ليجيء تاريخاً كاملاً للدعوة الإسلامية في بلاد الشام خلال ربع القرن الماضي، فجاءتني برقية الأخ الأستاذ سعيد رمضان تستعجلني (1)، فكتبته في مجلس واحد وأنا موقن أني نسيت كثيراً من الحقائق التي يجب أن تقال في هذا المجال، وإن كنت موقناً أيضاً بأني لم أقل إلا حقاً.
وأنا أتردد من ربع قرن على مصر والعراق ولبنان، وأقيم في كل منها الشهور الطوال أو السنة كلها أحياناً. والشام بلدي، وأعرف في كل من البلاد الأربعة، وفي الحجاز أيضاً، الصفوةَ من علمائه والدّعاة إلى الله فيه وأعمالهم وجهودهم، وكنت أعزم على
(1) نشرت هذه المقالة في مجلة «المسلمون» التي كان يصدرها الأستاذ سعيد رمضان، في العدد الثاني من أعداد السنة الثالثة الذي صدر في نهاية عام 1953 (مجاهد).
أن أحاول كتابة فصول في تاريخ الدعوة فيها جميعاً، ثم رأيت أن أقتصر على الشام وأدع لغيري (ممّن هم أعلم مني) كتابة الباقي.
* * *
لمّا قدمت مصر أول مرة كانت الدعوة الإسلامية فيها منحصرة في الأزهر المعمور، والرجال الذين تخرجوا فيه أو على أسلوبه، وفي المدارس التي كانت تنحو منحى الأزهر (وإن كان جلّ عنايتها بالعلوم اللسانية) كدار العلوم، وفي أفراد معدودين من غير الأزهريين، أخصّ بالذكر منهم:
أحمد تيمور باشا رحمه الله، الذي كان أمة وحده في دينه وعلمه وخلقه وتحقيقه وحيائه وتواضعه. ومن هو أقرب الناس شبهاً به في سَمته وصمته وأدبه وعلمه، أستاذنا السيد الخضر حسين مدّ الله في عمره. وخالي وأستاذي محب الدين الخطيب، الذي كان أول عامل على تنظيم الدعوة الإسلامية في مصر، كما كان أول عامل على إحياء الفكرة العربية في الشام من قبل. والطائفة المختارة من إخواننا، كالدكتور الدرديري، والأساتذة محمود شاكر وعبد السلام هارون وعبد المنعم خلاف، وآخرين لا تحضرني الآن -من العجلة- أسماؤهم. وكان مقرهم المطبعة السلفية في شارع الاستئناف عند الأستاذ محب الدين الخطيب، وهنالك عرفت بعضاً منهم، وعرفت بعضاً في دار العلوم العليا (وقد دخلتها حوالي سنة 1929 ولم أتمَّها) وفي مجلة «المنار» .
والأزهر -وإن ظل دهراً طويلاً المعقلَ الإسلامي من هجمات الإلحاد والمصباحَ الهادي في ظلمات الجهل- قد اقتصر
عمله على التعليم دون التوجيه الاجتماعي، واقتصر التعليم فيه على قراءة كتب معينة من كتب المتأخرين، وصرف الجهد كله في حل العُقَد من ألفاظها وكشف الغامض من معانيها
…
أي أن المقصد من التعليم كان الكتاب لا العلم (كما قال الشيخ محمد عبده). وكانت كتب الأئمة الأوّلين في الفقه والعربية وغيرهما منسية متروكة لا يكاد أحد يرجع إليها، وكان من هذه العلوم ما هو عبث لا طائل تحته ولا يكاد ينفع في دنيا ولا دين، كعلم الكلام (النّسَفية والسنوسية والمواقف وأشباهها) وعلم المنطق، ولقد كاد يسبقني القلم فأُلحق بها الكتب الأزهرية في البلاغة، وهي أقوى العوامل في إبعاد الطلاب عن البلاغة!
وكان عمل «المنار» وتلك الطائفة من العلماء الأخيار منحصراً في بقعة ضيقة وأفراد قلائل، لا يتعداهم أثره ولا يصل إلى جماهير الشعب ولا إلى طلاب المدارس، ولم يكن للدعوة من الصحف إلا المجلة الأسبوعية الجديدة يومئذ، مجلة «الفتح» التي أنشأها الأستاذ محب الدين. ولم أعدّ «المنار» من الصحف لأنها أولاً مجلة شهرية، ولأنها علمية ترتفع ثانياً عن أفهام الشباب ومدارك الأوساط من الناس، ولأنها لا تكاد تُباع في الأسواق ولا يقرؤها إلا المشتركون فيها. لذلك كله لم تتصل بالناس اتصالاً مباشراً، وإن كان لها أثر غير مباشر، أثر ظاهر في توجيه الفكر الإسلامي الحديث، وأن قرّاءها -على قلتهم- كانوا منبَثّين في جميع بلاد الإسلام، وكان لهم في بلدانهم منزلة عالية ومكان مرموق.
فكان الناس قسمين: مشايخ وأفندية، وكان الشعب بينهما
متديّناً على جهل بحقائق الدين، متمسكاً بالإسلام على مزج لكثير من البدع والخرافات بالإسلام؛ كان يجمع بين شهادة أن «لا إله إلا الله» وبين العكوف على القبور وسؤال أصحابها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن أنكر عليهم شيئاً من ذلك وصموه بالوهابية. وقد لا يبالي القارئ الشاب اليوم بهذه الوصمة ولا يرى فيها شيئاً، ولكنها كانت يومئذ من الوصمات الكبار، وأذكر أني علقت مرة في «علقة» الأستاذ في المدرسة ونالت قدمَيّ عصاه، لأني ضُبطت بالجرم المشهود حين أُمسكت واقفاً على درس الشيخ عبد القادر بدران في جامع بني أمية في دمشق!
* * *
هذه الصورة التي صوّرت بها مصر قبل ربع قرن هي «مصغَّرة» صورة الشام في تلك الأيام.
كان في الشام مشايخ أجلاء من أوعية العلم وصدور العلماء، ولكنهم كانوا -على الغالب- جاهلين بأحوال الناس، ينفرون من كل جديد ويطمئنون إلى كل قديم، عجزوا عن الدعوة إلى الله بالأساليب العصرية الجديدة وعن إدراك عقلية الشباب، فانسحبوا من المعركة وأخلوا الميدان، وانطووا على نفوسهم واعتكفوا في مدارسهم ومساجدهم.
و «أفندية» يقودهم من كانوا يُسمَّون في الشام رجال الرعيل الأول من الوطنيين، وكانوا -على الغالب- جاهلين بالإسلام ليس في نفوسهم منه إلا صور مشوَّهة، وكانوا حرباً على أهله والداعين إليه، وإن كان لهم فضل العمل على دفع الاستعمار
وتحقيق الاستقلال. وأستطيع أن أمثّل عليهم وعلى موقفهم من الإسلام باثنين: الأستاذ الكبير ساطع الحصري، شيخ المربّين من العرب، الذي حارب الدعوة الإسلامية عمرَه كله بقلمه ولسانه وسلطان وظيفته (كلما ولي وظيفة) حرباً علمية منظَّمة، وكان أسلوبه في محاربتها هو العمل على إحلال «العربية» محل «الإسلامية» ، وهي بذاتها دعوة الجاهلية التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وبيّن أن صاحبها ليس منا، وإقامة برامج المدارس على هذا الأساس الواهي.
والثاني هو الوطني المعروف فخري البارودي. وهو زعيم شعبي محبوب كان له في كل حركة وطنية عمل، ولكنه -مع الأسف- حرب على الدعوة الإسلامية، وأسلوبه فيها أسلوب المستهزئين من كفار قريش، وهو سَوْق النكات العامية والسخرية بالمشايخ وتركيب النوادر عليهم، على نحو ما يركّبها بعض الملحدين من النصارى على قسوسهم ورهبانهم.
وهنالك أسلوب ثالث، هو نفث هذا الحقد الدفين على المشايخ (الذين يمثلون الفكرة الإسلامية) بضربهم بسيف الحكومة، وقد طُبِّق هذا الأسلوب على أفظع شكل حينما ولي الحكم في الشام سعد الله الجابري الحلبي (وهو أيضاً من رجال الرعيل الأول)، وبطش بالمشايخ، وأودع كثيراً منهم السجون وهاج بهم الجرائد، لسبب تافه ليس هذا موضع بيانه (1).
(1) قال في «الذكريات» : "ثم عمدوا إلى فئة من خطباء المساجد حامَوا عن الفضيلة فساقوهم إلى المحاكم سَوق المجرمين، وأدخلوهم=
وسبب هذا كله المشايخ، أعني بعضهم، فهم الذين طبعوا في نفوس هؤلاء الناس تلك الصورة المشوَّهة للإسلام. المشايخ الذين طالما لقينا مِن تكفيرهم مَن يقول بكرويّة الأرض وحركتها وتكفير من يدرس الجغرافيا والكيمياء والطبيعة! وقد صرّح لي بذلك الأستاذ ساطع الحصري في القاهرة سنة 1947، فقلت له: إن هذا العذر من مثلك غير مقبول، لأنك تستطيع -في قوة عقلك وسعة علمك- أن تعرف حقيقة الإسلام من مصادره وتُخلي ذهنك مما تقول إن أولئك المشايخ قد وضعوه فيه، وأن تدرسه من جديد، فترى أن الإسلام ليس ديناً جامداً ولا منافياً للحضارة ولا معارضاً للمنطق، وأنه هو الطريق إلى ما نسعى إليه جميعاً من استعادة أمجادنا واسترداد مكاننا بين الأمم.
ولو فعل ذلك لصار من أقوى دعاة الفكرة الإسلامية. أما
= السجون من غير مستند إلى قانون من القوانين، وجرّعوهم كؤوس الذلّ، حتى صار مَن يذكر السفور بسوء أو يدعو إلى الفضيلة والستر كمن يدعو إلى الخيانة العظمى
…
وتولّى كِبْر ذلك سعد الله الجابري وكتلتُه، فسوّد به صفحته وأفسد وطنيته" (5/ 322 من الطبعة الجديدة). والقصة مفصَّلة في الحلقتين 148 و149 (في الجزء الخامس من الذكريات)، وهي طويلة، فمن شاء راجعها في موضعها هناك. وأصل هاتين الحلقتين المقالةُ التي نشرها علي الطنطاوي في «الرسالة» في تلك السنة، «دفاع عن الفضيلة» ، وهي من جواهره التي ينبغي أن تُقرَأ وتعاد قراءتها في كل حين؛ فمن أحب قراءتها مجرَّدةً فهي في كتاب «في سبيل الإصلاح» ، ومن أحب قراءتها مع الحواشي والشروح فليقرأ هاتين الحلقتين في «الذكريات» ، والحلقاتُ التي بعدهما متّصلٌ موضوعُها بموضوعهما كذلك (مجاهد).
السيد فخري البارودي وأمثاله من رجال الرعيل الأول (وصحفيّي الرعيل الأول
…
) فلا تنفع معهم مناظرة ولا يفيد جدال، وهل يُناظَر الهازل ويجادَل الساخر، ويناقَش المناقشةَ العلمية من يتكلم عمّا لا يعلم ويهرف فيما لا يعرف؟ وهل تجادل في فائدة الهندسة من يسخر من الهندسة وأهلها ويهجوهم بالنكات والنوادر والمضحكات، وهو بعدُ لم يدرس الهندسة في عمره، وليس يدري: أتبحث في السطوح والأجسام أو في قواعد طبخ الباذنجان وسيرة كسرى أنوشروان؟
وكانت الجرائد معهم، وكان لهم من الشعب المناضل مكان القيادة فمكّن ذلك لهم، حتى استطاع فخري البارودي أن يجمع مرة -في خطبة واحدة في الجامع الأموي- بين التعريض بذم شيخ الإسلام في ديار الشام الشيخ بدر الدين أخذاً له بجريرة ابنه الذي كان رئيس الوزراء، والتصريح بمدح البطريرك الماروني في لبنان، وقال إنه يحج إلى بكركي (مقر البطريرك)، نعم، بهذا اللفظ وفي جامع بني أمية!
* * *
وبقي المشايخ في عزلتهم حتى أخذت الحماسة الدينية مأخذها من اثنين منهم، هما الواعظان الشعبيان العالمان، الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب. وكان الأول أكثر شعبية وصوفية والثاني أعلم، فقاما بحركة هزّت دمشق وضواحيها هزّاً عنيفاً، وجدّدا الدعوة إلى الدين بعزيمة صادقة وهمّة وحماسة وعنف شديد، فأقبل عليهما الناس إقبالاً منقطع النظير، ولكنهما
-مع الأسف- قد جعلا همَّهما الأكبر اتخاذ العمائم وإسبال اللحى، وإلباس النساء الأُزُر البيض بدل الملاءات السود!
ثم إنهما دعوا إلى مقاطعة مدارس الحكومة قبل أن يعدّوا مدارس غيرَها، وإلى ترك العلوم الطبيعية ونبذ الأدب والاقتصار على النحو والفقه والحديث والتفسير والتصوف! فكان ذلك سبباً في فشل هذه الدعوة، وكان فشلها سريعاً كما كان نجاحها سريعاً، فكانت كأنها حريق في تل من القش (1).
على أن هذه الوثبة قد أبقت أثرين: أولهما أن العلماء لمّا رأوا هذا النجاح تبدد ما كانوا فيه من اليأس، وعلموا أنهم يستطيعون -إذا شاؤوا- اقتحام الميدان الشعبي، وأن العاطفة الدينية لا تزال أقوى العواطف في صدور العامة من أهل الشام.
والثاني: أن الجماعة التي كوّنتها هذه الوثبة قد اتبعت من بعدُ سبيل الحكمة، وسايرت الزمن من حيث يسير، فاستطاعت أن تنشئ مدارس عدة ثانوية ودينية، وأن يكون تلاميذها في مقدمة الناجحين في البكالوريا في كل دورة.
* * *
لبثت الحال على ذلك إلى أن أُلِّفت في مصر «جمعية الشبان المسلمين» ، فكان تأليفها بداية مرحلة جديدة في طريق
(1) تحدث علي الطنطاوي في ذكرياته عن «نهضة المشايخ» هذه في أكثر من موضع؛ انظر 1/ 240 (في الحلقة 23)، 1/ 284 (الحلقة 27)، 5/ 359 (الحلقة 152)(مجاهد).
الدعوة هي مرحلة العمل المنظَّم (ومن الوفاء للحقيقة أن أقرر أنها وُلدت في دار المطبعة السلفية في شارع الاستئناف في القاهرة)، ولمّا عدت إلى مصر المرة الثانية كان رئيسها الأستاذ الكبير في جسده ورجولته وقلبه وإيمانه عبد الحميد سعيد، خَلَف في الرياسة الأستاذَ الشيخ عبد العزيز شاويش، وكان أمين سرّها خالي الأستاذ المحب. ثم أُلِّفت جمعية الهداية الإسلامية، وكان رئيسها من يوم تأسيسها -فيما أعلم- الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر، وأُلِّف مثلهما في دمشق وفي بغداد، ثم أُلِّفت في دمشق «جمعية التمدن الإسلامي» ، وكان تلاميذ الأستاذ الشيخ علي الدقر قد ألّفوا جمعية سمّوها «الجمعية الغَرّاء» لتعليم أولاد الفقراء.
وسأصف لكم هذه المرحلة في المقالة الآتية إن شاء الله (1).
* * *
(1) لم يكمل جدي رحمه الله هذا البحث لسبب لا أعرفه ولم يصرّح به، فصدر العدد التالي من «المسلمون» وفيه مقالة «يا ابني» (وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية»)، وفي الذي يليه «كلمة صغيرة» (وهي في هذا الكتاب)، ثم لم ينشر في المجلة شيئاً حتى العدد الأول من السنة التالية (سنة المجلة الرابعة)، حيث نشر مقالة «المسلمون إلى خير» ، وهي منشورة في كتاب «في هتاف المجد» (مجاهد).