المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌إلى علماء الشيعة

‌إلى علماء الشيعة

نشرت سنة 1947

كان أهل القسطنطينية يتجادلون في مسائل تافهة لا تقدّم ولا تؤخر والعدوُّ على الأبواب، فضُرب بهم المثل حتى قيل لكل جدال سخيف في وقت عصيب:«جدال بيزنطي» .

ونحن المسلمين اليوم يحيط بنا الأعداء من كل جانب وتنصَبّ علينا المصائب من كل مكان، ثم نختلف في أبي بكر وعليّ: أيهما كان أحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي نتائج بنيناها على هذه المقدمة وفروع فرّعناها عن هذا الأصل، أطلنا الكلام فيها والجدال عليها، حتى لم يبقَ فيها شيء يُقال إلا قلناه ولا حجّة إلا احتججنا بها، وحتى صارت من الحديث المعاد والقول المملول، وصرنا -معشرَ أهل السُّنّة- نتمنى أن تُطوى صحيفتها ويُنسَخ حديثها ويُتناسَى حتى يُنسَى، لذلك رحبنا في مصر بالعالم الإيراني محمد تقي قُمّي، ومكنّاه من افتتاح «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» ، وسررنا حقيقة بتقرب إخواننا الشيعة منا ورجوعهم إلينا بعد إعراضهم عنا.

وجمهور أهل السنة لا يعلمون عن الشيعة إلا أنهم حزب سياسي أُلِّف في وقت من الأوقات لتأييد أحد المرشّحَين

ص: 229

للخلافة، اعتقاداً منهم بفضله وإيماناً بصلاحه، ويرون هذا شيئاً طبيعياً ومفهوماً لا يخلو من مثله بلد فيه انتخابات عامة، والحكومة فيه برأي الأمة لا بنصّ سماوي ولا بحق إلهي، فمن انتخبته الأمة ورضيت به فهو الحاكم الشرعي.

أما الشيء الذي لا يرونه طبيعياً ولا مفهوماً فهو أن يبقى في أميركا -مثلاً- حزب لا يزال يسبّ لنكولن ويعادي الأمة الأميركية كلها لأنها انتخبته وقدّمته على خصمه الذي يراه هذا الحزب أصلح منه، ويستمر على ذلك إلى الآن وقد مات لنكولن ومات خصمه، وولي بعده رؤساء كثيرون وماتوا! أو أن يبقى في المسلمين حزب يعادي الكثرة الكاثرة من سلف هذه الأمة وخلفها، وينتقص جمهرة الأحياء والأموات منها، لأن الخليفة الذي بايعته هذه الأمة بالخلافة سنة خمس وثلاثين للهجرة كان من حقه أن يبايَع بها سنة عشر، ويرى أن تأخير بيعته خمساً وعشرين سنة وتقديم ثلاثة رجال عليه أمر يستحق أن نتنازع نحن الآن عليه، بعد ألف وثلاثمئة وخمسين سنة، وبعدما تبدلت الأرض وتغيّر وجه الدنيا

مع أن هذا الخليفة نفسه قَبِلَ بتقديم الثلاثة عليه، وبايعهم بالخلافة بيده، وأعطاهم طاعته وأولاهم مودّته!

إن الأحزاب تتنازع وتختلف، وقد يَسُبّ بعضها بعضاً ويبغي بعضها على بعض، ويسلك كل منها إلى تقوية مرشَّحه أوعر الطرق، فيمدحه بالباطل ويفتري على خصمه ويصفه بكل ما يشين، ولكن تنقضي المعركة الانتخابية فيعود السلام، ويرجع الجميع إخواناً متصافّين يجمعهم العمل للوطن والسعي لإعلاء شأنه.

ص: 230

فما بالنا نشتغل اليوم بمسألة انتهت من

ثلاثة عشر قرناً؟ شيء عجيب جداً!

* * *

على أن أهل السنة لا يطيلون النزاع في أفضلية أبي بكر أو عليّ ولا يرون لذلك خطراً في الدين، لأنه إن كان الفضل عند الله فالله أعلم به، وهو لا يُسأَل عمّا يفعل، ونحن لا دخل لنا في القضية. وإن كان في الإدارة والسياسة فقد ولّى الرجلان، والحكم الآن للتاريخ وأهله.

ولا طريق للاتفاق بيننا وبين الشيعة إلا بأمور:

1 -

بأن ندع الكلام في تفضيل بعض الصحابة على بعض، لأن ذلك ليس من أركان الإيمان ولا من أسس الدين، وليس له في حياتنا نتيجة عملية.

2 -

وأن نُجِلّ الصحابة جميعاً ونُكْبرهم كلهم ولا نخوض فيما كان بينهم من حروب، فتلك دماء طهّر الله سيوفَنا منها -كما قال الإمام مالك- فلنطهّر ألسنتَنا عن الخوض فيها.

3 -

وأن نرجع جميعاً إلى أصول الدين: إلى الكتاب معتمدين في تفسيره على المأثور (كالذي نقله الطبري في تفسيره) أولاً، ثم على المعقول الموافق للعربية ولأسباب النزول. وإلى السنّة الصحيحة وما بُني عليها من فقه وفُرِّع من فروع، وأن نترك كتب الخلاف التي تؤرث الأحقاد وتثير السخائم.

* * *

ص: 231

هذا هو الطريق الذي نراه، وأن يتعاون الشيعة والسنة على منع كل ما يصدع الشمل ويفرق الجمع ويلقي الخُلْف بين جماعة المسلمين، كهذا الكتاب الذي كتبت هذه الكلمة تعليقاً عليه.

وهو كتاب أُهدي إلى «الرسالة» للاطلاع والنقد، اسمه «تحت راية الحق في الرد على الجزء الأول من فجر الإسلام» ، مكتوب على غلافه: لمؤلفه البحاثة المحقق الشيخ عبد الله السبيتي. مطبوع في طهران طبعاً سقيماً، أسلوبه ضعيف كثير الأغلاط، له مقدمة بقلم صاحب السماحة العلامة الكبير حجة الإسلام الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي. ولست أريد تتبع كل ما فيه، ولكني أمثّل عليه بهذا الذي أنقله منه بحروفه، ولم أتعمد اختيار أشده، وإنما أخذت ما وقع تحت نظري منه:

قال في صفحة (15): إن تاريخ سقيفة بني ساعدة يملي علينا درساً كاملاً يوضّح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار، وأنها لم تَصفُ نفوسهم إلى حد وصل الدين (كذا) إلى أعماق قلوبهم. والصحاح تحدّثنا عن قول عمر «إن النبي يهجر» ، ذلك حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إيتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فكل ذلك يشرف بالباحث على القطع بأن الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم ولم يفهموا الإسلام كما يريد الإسلام.

وقال في صفحة (154): وحسبه أن يرى كعب الأحبار اليهودي الدسّاس إلى جانب عثمان، وهو مستشاره. وقال (50): معاوية رأس النفاق، معاوية المستهتر. وقال (85): معاوية رأس القاسطين. وقال (79): ورُبّ رجال أقعدهم بغض أمير المؤمنين

ص: 232

عن القيام بواجب الشهادة فأصابتهم دعوته، كأنس بن مالك. وقال (98): أبو هريرة يحدّث بالترهات ويختلق الخرافات. وقال (130): حديث المنافقين كابن هند (أي معاوية) وابن النابغة (أي عمرو بن العاص) وابن الحكم وابن شعبة وأمثالهم، ولا بحديث الكذّابين الدجالين المخرفين كأبي هريرة. وقال (40): الشيخان (أي البخاري ومسلم) عُنيا بأمور لا وزن لها ولا قيمة، ولسنا نعلم لو كان النجاح في هذه الحرب (الخندق) لغير علي، أكان يهمله الشيخان؟ فاتضح لك أن تلك الأقلام (الكلام كله على البخاري ومسلم) التي تسوّد تلك الصفحات كانت تمشي وراء الميول والأهواء والتبصيص حول التيجان. وقال (93): على أن مسلماً في صحيحه زاد في اختصارها (خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم جرياً على مقتضيات السياسة التي تخرس الناطق وتصم السميع، فحذف شطرها المختص بعلي عليه السلام كما لا يخفى، وهو مما يدلك على أن السياسة لا دين لها وأنها تعمي البصر والبصيرة. وقال (96): كرّر البخاري هذه السخافة في مواضع عديدة من كتابه

وقد أخرج البخاري من الغرائب والعجائب والمناكير ما يليق بعقول مخرّفي البربر وعجائز السودان. وقال (100): تراه (أي البخاري) يخرّج من الأحاديث الموضوعة ما تقرّب الواضعُ به إلى الظالمين الغاشمين تصحيحاً لما كانوا يرتكبونه من القتل والمثلة وسائر الأعمال البربرية. وقال (146): إن الشيعة لا تعوّل على تلك الأسانيد (أي أسانيد أهل السنة) بل لا تعتبرها ولا تعرج في مقام الاستدلال عليها، فلا تبالي بها وافقت مذهبها أو خالفته. وقال فيها: إن لدى الشيعة أحاديث أخرجوها من طرقهم المعتبَرة عندهم ودوّنوها في كتب لهم مخصوصة، وهي كافية وافية لفروع

ص: 233

الدين وأصوله عليها مدار علمهم وعملهم، وهي لا سواها الحجة عندهم. فما أغناهم بها عن حديث غيرهم، صحّ حديث الغير أم لم يصح. وقال (162): والتجسيم معروف عن الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولقد رأينا من قبل أن ابن تيمية وابن القيم رأيهما ذلك أيضاً. وقال (163): والتجسيم رأي محمد بن عبد الوهاب وعليه اليوم الوهابية جميعاً، لا يتحاشون في ذلك، وقد نقله الشهرستاني عن أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصفهاني (أي الظاهري) ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان وجماعة من أئمة أهل السنة. وقال (64): ومتى كانت الشيعة تعتبر تفسير الطبري وتعتمد عليه؟ وقال (86): ومتى كان ابن خلدون وغيره من علماء السنة، اللهم إلا القليل، لا يحمل حقداً ولا يتحامل عندما يقف مؤرخاً للشيعة، ومتى كان المؤرخ منهم لا يرتكب زوراً وبهتاناً عند سنوح كل فرصة؟ وقال فيها: الاعتماد على ابن خلدون وأمثاله مثل من يريد أن يبحث عن الشريعة الإسلامية وصحة نبوّة النبي فيعتمد على كتب النصارى قبل سبعة قرون

إلخ.

* * *

ومؤلف الكتاب، البحاثة المحقق، لا يسوق هذا على أنه رأي له، بل على أنه معتقَد الشيعة وأنه المعتمَد عندهم. وأنا أصدّقه في ذلك ما لم أرَ علماء الشيعة يكذّبونه فيه وينكرونه عليه، وأقول: إذا كان إخواننا الشيعة يعتقدون أن المهاجرين والأنصار لم تَصْفُ نفوسهم لفهم الدين ولم يصل إلى أعماق قلوبهم، ونحن نراهم أئمة الهدى ووَرَثة الرسول، وإذا كانوا يسبّون أكثر الصحابة ونحن نجدهم خلاصة الإنسانية ولباب البشر، وإذا كانوا لا يقبلون

ص: 234

أسنادنا ولا يحتجون بحديثنا، ونحن نبني على هذه الأَسناد ديننا ونقيم على هذه الأحاديث شرعنا، وإذا كانوا يرون الصحيحين مملوءين بالموضوعات والسخافات لا يليقان إلا بمخرّفي البربر وعجائز السودان، ونحن نراهما أصحّ الكتب عندنا بعد كتاب ربنا، ولا يعتبرون تفسير الطبري وهو عمدة تفاسيرنا، وإذا كانوا يطعنون على أئمتنا ويَصِمونهم بالتجسيم وفساد المعتقد، وإذا كان المؤلف قد صرّح في الصفحات (15) و (64) و (132) بأنه لم يقل كل ما عنده ولم يجهر بكل ما يعتقده "لئلا يقوده البحث إلى نتائج غير صالحة قد لا تلتئم مع العصر الذي يُطلب فيه الوفاق"، وإذا كان عنده، أي عند الشيعة، أكثر من هذا الذي قاله، فكيف يا علماء الشيعة، وكيف يا أعضاء دار التقريب، وكيف يا محمد تقي قمّي، يكون الوفاق ويتم التقارب؟!

أوَليس من التناقض أن يأتي من إيران محمد تقي قُمّي ليعمل على التقريب بين المذاهب، فينزل في أفخم فندق في القاهرة ويفتح داراً ينفق عليها وعلى موظفيها وزوّارها أضخم النفقات، في الوقت الذي يُطبع فيه في طهران هذا الكتاب؟ وهل وجدتم في مصر أو الشام أو العراق كتاباً لسنّي يسب فيه أهل البيت الأطهار أو يتعرض فيه لسيدنا عليّ وذريته الطيبة؟ فلماذا إذن افتتحتم دار التقريب في مصر التي تحب عترة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبرك بقبور الحسين وزينب ونفيسة (1)، ولم تفتحوها في طهران، حيث طبع هذا الكتاب الذي لم يترك مؤلفه أحداً من سلف هذه الأمة وخلفها حتى أصابه برشاش من أدبه السامي؟

(1) والتبرك بالقبور لا يجوز.

ص: 235

ألم يكفِنا هذا الاختلاف أربعة عشر قرناً؟ أما آن لنا أن نصطلح ونتفق، ونجرّد المسألة من ثوبها الديني لتعود مسألة سياسية وقضية حزبية انتخابية، لا أكثر ولا أقل، ويرجع إخواننا الشيعة إلى حظيرة الجماعة، فيترضّوا عن الصحابة كلهم كما نترضّى نحن عن آل البيت جميعاً، ويُجِلّوا أبا بكر وعمر كما نُجل نحن عليّاً؟

ما قول علماء الشيعة الأفاضل، وما قول أعضاء دار التقريب؟ (1)

* * *

(1) نشر علي الطنطاوي رحمه الله هذه المقالة في مجلة «الرسالة» في عددها الصادر بتاريخ 5/ 5/1947 (14 جمادى الآخرة 1366)، وكان مقيماً تلك السنة في القاهرة، ثم عاد بعد أسبوع فنشر في مجلة «الفتح» مقالة بعنوان «كيف قابلت هذا القُمّي» ، وفيها وصف لمناظرة قصيرة مع القمي الذي افتتح «دار التقريب» في القاهرة، قال في أولها:

"لمّا نشرت مقالتي «إلى علماء الشيعة» في «الرسالة» اهتم لها محمد تقي قمي، ودعا الأستاذ الزيات ودعاني إلى زيارة «دار التقريب» ، فذهبنا إليها وذهب معنا الأستاذ سعيد الأفغاني. حتى إذا وقفت بنا السيارة أمامها رأينا مغنى (فيلا) أنيقاً ساطع الأضواء بارع الحديقة، على بابه لوحة من نحاس فيها عنوانه، فلم نقرأ ما فيها ولكن قرأناها هي عنواناً، وقديماً قالوا:«يُقرَأ الكتاب من عنوانه» . وصعدنا الدرج، فاستقبلَنا شابان مَشَيا أمامنا إلى باب البهو، ثم استقبلنا شاب آخر إلى باب الغرفة، فشاهدنا فيها هذا القمي ولقينا عنده جماعة امتلأت=

ص: 236

= بهم الغرفة، ورأينا أثاثاً يدلّ على ترف. وكان على المنضدة أمامنا طبق فيه «بسكويت» فاخر، ولكنا أعجلناه عن دعوتنا إليه وشغلناه -بالمناظرة- عن نفسه وعنه.

وبدأ الحديث بهذه المجاملات السخيفة التي تبدأ بمثلها الأحاديث

ثم تكلمنا عن الاجتهاد والتقليد فانتقص -غيرَ مصرِّح- أهل السنة بسدّ باب الاجتهاد وامتدح جماعته بفتحه، فقلت له: ومَن سدَّ الباب؟ ومن قال لك إن الاجتهاد انقطع في عصر من العصور؟ إنها كانت تنزل نوازل لم يُنَصّ على مثلها، فكان العالِم يُستفتى فيها فيُفتي مجتهداً على قواعد إمامه وأصوله. وسأله صديقنا الأفغاني عن حقيقة الاجتهاد عندهم وماذا يصنع هؤلاء المجتهدون اليوم؟ فقال بأنهم يفتون في كل مسألة غيرَ مقيَّدين بنقل من عالم أو إمام، فقلت: حتى الأئمة الاثني عشر؟ فراوغ في الجواب وقال بأن الأئمة لا يخالفون الرسول، فقلت: إن هذا ليس بجواب".

إلى أن قال: "ثم وصل الحديث إلى دار التقريب هذه، وما غايتها وما منهجها، وكيف يكون التقريب؟ فأعطانا قانون الدار ومقدمته، فقلت له: قد قرأت هذه المقدمة في دار الرسالة فلم أفهم منها شيئاً، وقرأت خلاصتها على الأستاذ الزيات فلم يفهم منها شيئاً، وقرأها صديقنا الأفغاني بعد ذلك فلم يفهم منها شيئاً، وليس لها ميزة إلا هذه المقدرة العجيبة من كاتبها وهذه العبقرية النادرة التي استطاع بها أن يكتب عشر صفحات كلاماً، لكل فقرة منه معنى وليس له في مجموعه دلالة على الغرض ولا صلة بالموضوع! أما القانون فليس فيه شيء عملي إلا إدخال الفقه الشيعي إلى الأزهر".

إلى أن قال: "قلت: لندع رواة الحديث ولنأخذ أول من نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة، فماذا تقولون في الصحابة؟ فتملّص من الجواب، فلما أحرجته صرّح بأن الشيعة يطعنون بأكثر الصحابة=

ص: 237

= ولا يقبلون أحاديثهم. قلت: ونحن نراهم عدولاً ونراهم أئمة الهدى، فكيف يكون التقارب؟ قال سعيد الأفغاني: أنا رجل مشتغل بالحساب، يكون التقارب بأن نحصي الصحابة الذين يسبّهم الشيعة، ثم نقسمهم قسمين متساويين فنسبّ نحن قسماً ويسبّون هم قسماً! فقال أحد الحاضرين (وهو شيخ من أهل السنة): المهم التقارب في المودة والصداقة و

قلت: يا شيخنا، هل تُوادُّ من يسب أباك؟ قال: لا. قلت: سألتك بالله، أيهما أحب إليك وسبُّه أشد عليك، أبوك أم أبو بكر؟ قال: أبو بكر. قلت: فهذا وسائر الشيعة يسبّون أبا بكر وعمر ويتقربون إلى الله بترديد لعنهما، ثم إنه يعتقد أنك كافر. قال القمّي: لا. قلت: بلى؛ إن في دار الكتب الظاهرية بدمشق رسالة مطبوعة لطلاب مدارس الشيعة في جبل عامل حدثني عنها الأستاذ عز الدين التنوخي مرتَّبة على شكل سؤال وجواب، فيها سؤال: على كم بُني الإسلام؟ الجواب: على ست، على الخمس المعروفة، وعلى الاعتقاد بالإمامة. سؤال: وما الإمامة؟ الجواب: أن تعتقد أن علياً وصي الرسول وخليفته وأن الشيخين ظلماه حقه، وأن لعنة الله على الظالمين. سؤال: وما حكم منكر الإمامة؟ الجواب: حكمه أنه كافر وأنه في النار خالد مخلَّد فيها.

وسكت القُمّي، فسأله الأفغاني: هل أنت جادّ بالسعي للتقريب؟ قال القمي: نعم. قال الأفغاني: فابدأ بإغلاق هذه الدار، لأنها أثارت هذه المناظرات بين الشيعة وأهل السنة وأيقظت الفتنة النائمة".

والمقالة طويلة لا يتسع المقام هنا لنقلها كاملة، وإنما نقلت منها ما أتممت به الموضوع، فمن شاء رجع إلى مجلد «الفتح» في عامها السابع عشر (1366هـ) فقرأها كاملة هناك (مجاهد).

ص: 238