الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ردّ على أدعياء البعثية
كتبت سنة 1958
لقد بلغ الإسلام بلاداً تعجبون أنتم الآن إذا سمعتم بأنه بلغها، وأقام فيها دولاً وأنشأ فيها حضارات وترك فيها آثاراً، وأكثر القراء لا يعرفون شيئاً عنها لأننا أمة جهلت تاريخها.
ثم بُلينا فوق الجهل بما هو شرٌّ من الجهل، بشباب أغرار ويدّعون الحكمة والعقل، جُهّال بتاريخنا ويَلُون تدريسه في المدارس والجامعات، يُلقون جهلهم على أنه علم، ويواجهون به طلاباً لا معرفة لهم ولا دفاع لديهم، لا يواجهون به العلماء في النوادي ولا القرّاء في الصحف، ثم يضطرون الطلاب إلى حفظه والامتحان فيه وأخذ الشهادة عليه، ثم يخرج الطلاب مدرّسين، فينظرون فإذا ليس في أيديهم إلا هذا الجهل المركَّب تركيب حصاة المثانة، لا تتحلل ولا تذوب! فيحملونه إلى تلاميذهم، وتتزايد حلقات السلسلة حتى تكون قيداً للحقائق تمنعها أن تنطلق في الناس، وتحبسها في بطون الكتب وصدور العلماء، وتذيع هذه الأكاذيب الصبيانية على أنها هي الحقائق التاريخية!
من هذه الأكاذيب التي تعيدها ببغاوات المعلمين وترددها أسطوانات الصحفيين، زعمهم أن هذه الحضارة التي نسميها
-على المجاز- «عربية» لم يُنشئها الإسلام، ولكن أنشأتها العبقرية الكامنة في هذه الأمة، وأن هذه العبقرية هي التي صنعت محمداً صلى الله عليه وسلم في أول التاريخ، وستصنع مثله في آخره، وأن للعرب حضارات قديمة عظيمة كحضارتهم بعد الإسلام
…
وأمثال هذا الهَذَر.
وما ندري (ولا هم يدرون) ما هذه الحضارات، ومن الرجل الذي أخرجته أمة العرب بعبقريتها فكان مثل محمد صلى الله عليه وسلم. ولعلهم يريدون بذلك هذا الدَّعِيّ العَيِيّ الغبيّ الخواجة فلان، الذي ليس فيه من العربية إلا أن اسمه في «القاموس» في باب القاف فصل العين، والذي لا يكون مثله إماماً إلا لأمة من أمثالهم، كالجُرَذ لا يكون إلا إمام قوم من الفئران! (1)
(1) هو ميشيل عفلق. وفي الحلقة 112 من الذكريات (4/ 186 - 189) قصة الاحتفال بذكرى المولد سنة 1938 وأُلقيت فيه خطبة لعفلق، قال: "وكنت يومئذ ألتهب حماسة، فما كان مني إلاّ أن وضعت كفّي على طرف المسرح وقفزت فصرت فوقه، وأخذت بعنق ثوب الخطيب فجذبته ورميت به من فوق المسرح، واستلمت أنا مكبّر الصوت وردَدت عليه وتكلمت عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم الأنبياء
…
واضطربَت الحفلة وهاج الناس، وكثر المتكلّمون، وكانت لها عقابيل. وكنت عنيفاً في ردودي وفي مجادلاتي فشرعت أتكلم عنه (عن عفلق) في الدروس وأمام الطلاّب، وقلت لهم الكلمة التي انتشرت حتّى كادت تسير مثلاً من الأمثال على ألسنة الناس؛ قلت لهم: هذا الذي يدّعي العربية ونصرتها والدفاع عنها ما فيه من العربية إلاّ أن اسمه مكتوب في القاموس المحيط، في باب القاف فصل العين. ورجعوا إلى القاموس وعرفوا معنى الكلمة"! قلت: والمعنى قبيح لا أستطيع نقله هنا، فمن شاء رجع إلى القاموس فقرأه في موضعه (مجاهد).
وإن ناقشتهم في هذه الحضارة التي زعموها للعرب: أين هي؟ وأين كانت مخبوءة طوال أربعة عشر قرناً فلم يبصرها أحد من المؤرخين حتى جاء الخواجة كريستوفر كولومبس القرن العشرين فاكتشفها، وتحققت على يده معجزة «البعث» فبُعِثَت له «حيّة» تسعى؟ قالوا: إنها حضارة حمورابي، وفراعنة مصر، وفينيقيي الشام، وآشوريي بابل، وتبابعة اليمن
…
فإن عجبت وقلت: وما شأن أكثر هؤلاء بالعرب، وقد قال أبو عمرو بن العلاء (وهو أعرف بالعربية وأهلها من الخواجة ميخائيل)، قال: ما عربية هؤلاء بعربيتنا ولا لسانهم بلساننا (1)؟ قالوا: لقد ثبت أنهم ساميون وأن أصلهم من جزيرة العرب، وحقّقت ذلك نظرية المَوجات.
قلنا: أما أنهم ساميون وأنهم خرجوا من الجزيرة، فنعم. ولكن اليهود أيضاً ساميون، فهل اليهود عندكم عرب؟ وإن كانوا عرباً، فلماذا لا تذهبون إلى أميركا وتعلنون هذه الحقيقة، فتحلّوا المشكلة التي عجزت عن حلها هيئة الأمم المتحدة؟ ولا تنسوا أن تأخذوا معكم طلبات انتساب فارغة ليملأها أيزنهاور وتشرشل ومالنكوف، فيصيروا جميعاً من مريدي حضرة الخواجة. أما ابن غوريون فلا حاجة به إليها، لأنكم أقررتم له بأنه عربي قُحّ من أهل الشّيح والقَيْصوم!
ولعلها ما وصلت نتيجة هذا «البعث» إلى تل أبيب إلا لأن
(1) وليس معنى هذا أنهم غير عرب، بل معناه أن العربية هي لسان قريش التي نزل بها القرآن.
مقدماته جاءت من هناك (والله أعلم)، وإلا فما معنى أن يكون كل عربي وكل مسلم وكل منصف في الدنيا حرباً على إسرائيل، ثم يقول هؤلاء -من حيث يشعرون أو لا يشعرون- إن إسرائيل إخواننا وأحبابنا ومنا وإلينا؟!
وإذا كان كل سامي عربياً لأن كل عربي سامي، فلماذا لا يكون كل حيوان إنساناً لأن كل إنسان حيوان؟ ويستوي في هذه الإنسانية «البعثية» الحمارُ وأستاذ التاريخ في كلية الآداب؟
وإذا كان هؤلاء كلهم عرباً لأنهم كانوا في الجزيرة وخرجوا منها، فلماذا لا يكون من الأسرة كل من كان في دارها وخرج منها، ولو كان كلب صاحب الدار، ولو كان ثعباناً خرج من شق الجدار؟
وإذا كان يُحكَم بالفرع على الأصل فيكون أجداد العرب عرباً، ومددنا هذا القياس حتى وصلنا إلى الجد الأكبر، آدم عليه السلام، يكون آدم عربياً. وإذا كان آدم عربياً كان كل أبنائه من العرب، وإذا كانوا كلهم من العرب فهم إذن من القائلين بالقومية العربية، ومن الموصوفين بالبعثية، ومن أتباع الخواجة المحترم!
هذا هو «المنطق البعثي» !
* * *
وما نحن بخصوم العربية، بل نحن أحق بها وأهلها. وهل العربية إلا البيان العربي، والأخلاق العربية، وتكريم ماضي العرب، والعمل على بناء المستقبل العربي؟ وهذا كله فينا؛ فينا البيان، وما عَهِدنا لدعاة هذه العصبية الجاهلية رجلاً واحداً يُعَدّ من أرباب البيان، وليس لهم شاعر مفلق ولا خطيب مصقع ولا كاتب
بليغ ولا راوية محيط! وفينا الأخلاق والغيرة على الأعراض. وفينا علماء التاريخ الواصلون إلى موارده المحقّقون لأخباره، وأولئك لا يعرفون منه إلا ما حفظوه من دسّ المستشرقين. ومن المستشرقين يهود، فمن هنا جاءتهم تلك الفكرة الآثمة التي تجعل الساميين كلهم عرباً، ليكون اليهود من العرب، فلا يبقى معنى لحربهم وقتالهم والحرص على طردهم من فلسطين.
* * *
وأنا أعذر هؤلاء الأساتذة، فهم شباب، ما كنا نأمل ونحن في مثل أسنانهم، ونحن يومئذ أعرَف بالتاريخ منهم اليوم، أن يكون الواحد منا مدرّساً في الصف الأول الثانوي.
شباب رأوا أنفسهم أساتذة في الجامعة (وأستاذيّة الجامعة في بلاد الناس شيء عظيم)، فاغتروا كما اغترّ الجحش الذي زعموا أنه لبس مرة جلدة الأسد فظن نفسه أسداً
…
والقصة معروفة. وانطلقوا يصوّرون للطلاب الماضي لا كما كان، بل كما يتمنى الخواجة ميخائيل ويهود المستشرقين أن يكون قد كان! وأرادوا أن يلفّوا هذا السمّ بغشاء من السكّر وأن يجدوا لهذه الخيالات سنداً من النقل، فنظروا نظرة عَجْلى في كتب التاريخ العربي، وذيّلوا كتبهم بأرقام صفحاتها ليدلّوا على أنهم أخذوا منها. يحسبون أنه يكفي أن يعرف المرء كيف يقرأ ما كتب الطبري ليصير -بقدرة الله- مؤرِّخاً، لا يدرون أن هذه الكتب هي مصادر التاريخ لا التاريخ، هي المواد الأولية، ولا بد من تنقيتها أولاً وجمع النقيّ منها، ثم إدخاله المصنع.
إن علمنا كله يقوم على الرواية، والرواية (ومنها رواية الأخبار التاريخية) تقوم على معرفة الرجال. وقد انفردنا نحن دون الأمم كلها بأن كان عندنا علم خاص بمعرفة الرجال. والطبري (وغير الطبري) فيه الروايات الصحيحة المنقولة عن الثقات الضابطين، والروايات المتهافتة المروية عن قوم لم يكونوا من أهل الضبط وليسوا أهلاً للثقة. ثم إن الروايات التاريخية هي رواية عامية (إن صحّ التعبير)، أما الرواية العلمية الثابتة فهي رواية المحدِّثين، لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رُوي على طريقة المحدثين. وهذا أيضاً له درجات ومراتب، من المتواتر الذي لا يرتقي الشك إليه، والمشهور والعزيز والصحيح والحسن والضعيف. والصحيح درجات، لاختلاف المصححين واختلاف شرائطهم في التصحيح.
فلا بد -إذن- ليكون الرجل مؤرخاً من أن يكون عارفاً بعلوم الرواية والإسناد، عارفاً بالرجال، عارفاً بالعربية ليفهم ظواهر الكلام وبواطنه وإشاراته ومعاريضه. فإذا كان كذلك استحيا من نفسه وتجرد عن العصبية والهوى وأراد ببحثه الحقَّ ومرضاةَ الله، وإن لم يكن كذلك لم يكن إلا جاهلاً بالتاريخ أو دجّالاً، ولو كان أستاذ الجامعة وكان من أصحاب الشهادات العالية.
* * *