الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الإسلام من العربية
نشرت سنة 1967
أحب أن أعود اليوم إلى الكلام على العربية والإسلام: ما هو موقف الإسلام من القومية والعربية؟ هل يوجب علينا الإسلام أن نتنكر لدعوة القومية، وأن نعلن الحرب عليها ونناوئ القائلين بها؟
وقبل الجواب أسأل سؤالاً آخر يتوقف عليه الجواب على السؤال الأول: ما هي القومية؟
الذي أفهمه أنا أن للقومية دعائم ثلاثاً: اللغة، والتاريخ، والعادات. وهذه الثلاث هي الروابط التي تربط أبناء القومية، لا أعني العربية وحدها بل كل قومية في الدنيا.
فاللغة هنا هي العربية، وهي لغة القرآن، لا يختلف اثنان من العرب بأن القرآن هو أبلغ نص فيها وأسماه، وأنه عماد هذه اللغة، وأنه هو الذي حفظ لها كيانها وأقام قواعدها، أي نحوها وصرفها، وأنه من أجل إثبات إعجازه نشأت علوم البلاغة فيها، وأن العربي اليوم بفضل القرآن يفهم أشعار الجاهلية التي قيلت من خمسة عشر قرناً، مع أن الإنكليزي اليوم لا يستطيع أن يفهم
أشعار شعراء الإنكليز قبل خمسة قرون والفرنسي اليوم لا يستطيع أن يفهم أشعار شعراء الفرنسيين قبل خمسة قرون؛ تبدلت قواعد الإنكليزية والفرنسية في هذه القرون الخمسة وبقيت قواعد اللغة العربية كما كانت منذ أنزل الله القرآن، والسبب في بقائها هو القرآن.
فإذا كانت العربية هي الدعامة الكبرى في بناء القومية العربية، فالإسلام يدعو إلى حفظها وإتقانها. ونحن -دعاةَ الإسلام- لا نزال أعلمَ بالعربية وأعرف بعلومها، ولا نزال نحن المرجع فيها، ولم يظهر إلى الآن من دعاة القومية من يُعَدّ مرجعاً في اللغة وعلومها، بل إن جلّهم (إن لم نقل كلهم) يلحن في عشرة أسطر يتلوها أو عشر جُمَل يلقيها، فكيف يحمل لواء الدعوة إلى القومية من لا يعرف لغة أهلها؟
والدعامة الثانية (وهي التاريخ): نحن، لا هم، حرّاسها وحُماتها. إن التاريخ العربي هو التاريخ الإسلامي، تاريخ انتشار هذه الدعوة، تاريخ هذه الفتوح، تاريخ الحضارة التي أقامها الإسلام
…
وهذا التاريخ لا يعرفه إلا من عرف علم الرجال وميّز بين الروايات والأسانيد، ولا يعرف هذا إلا المشتغلون بالحديث وعلومه، وأعني بذلك رجال الدعوة الإسلامية.
وقد يحمل القوميون الشهادات الجامعية في الاختصاص بالتاريخ ويكونون هم مدرّسيه في الجامعات بحكم هذه الشهادات، ولكن بضاعتهم كلَّها هي ما تلقّوه عن المستشرقين وما قرؤوه في كتبهم التي لا يخلو كتاب منها من الدس ومن الجهل.
فالتاريخ العربي (أو الإسلامي)، وهو الدعامة الثانية من دعائم القومية، نحن علماؤه ونحن لا نزال المرجع فيه.
والدعامة الثالثة هي العادات العربية، من الكرم والشجاعة والغيرة على الأعراض وصدق المواعيد وحفظ الجوار، وأمثال ذلك، وهذه كلها نحن أربابها ونحن المتَّصفون بها، لأن ديننا يأمرنا بها ولأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إنما بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق.
فنحن إذن لا نهدم دعائم القومية الثلاث: اللغة والتاريخ والعادات، بل نحن نبنيها ونحميها، ولا نعارض الداعين إلى بنائها وحفظها. إنما نعارض الذين يريدون أن يجعلوا من القومية ديناً يستبدلونه بدين الإسلام، وأن يجعلوا من أخوّة العروبة بديلاً من أخوّة الإيمان، وأن يفرقوا الأمة الواحدة، أمة محمد، فيجعلوها أمماً ويقطّعوا روابط الأخوّة بينها، وأن يعيدوا لنا عهد الجاهلية وعصبيتها بعد أن بعث الله فينا نبياً وأنزل فينا كتاباً، وأنار لنا الطريق الذي كان مظلماً، فرآه أجدادنا فسلكوه فأوصلهم إلى مجد الدنيا ونعيم الآخرة.
هذا الذي ننكره أشد الإنكار ونأباه أشد الإباء، أما الحفاظ على لغة العرب وتاريخ العرب وسلائق العرب، فهذه كلها نحن أحق بها ونحن أهلها.
* * *
وعجبي والله ممّن يعتزي إلى العربية ويعتز بها: كيف لا يتمسك بالإسلام ويعض عليه بالنواجذ، ويراه له أول المفاخر
إذا عُقدت الخناصر؟ وعجبي ممّن يدعو بدعوة الإسلام، ثم يرى كأن من شرط صحة الدعوة أن يسب العرب ويذم العربية، وكأن العربية والإسلام ضدان لا يجتمعان ولا يوجد أحدهما إلا بفَقد الآخر!
مع أن الله، والله أعلم حيث يضع رسالته، اختار لخاتمة الرسالات رجلاً من العرب، وأنزل عليه الكتاب بلسان العرب، وجعل حمل الرسالة ونشرها للعرب؛ هم الذين تلقوها وهم الذين نقلوها، وهم الذين جعلوا بذورها في الأرض جماجم شهدائهم وماءها الذي سُقِيَت به دماء أبطالهم، فأنبتت هذه البذور حضارة خيّرة ماجدة تفيّأ أهلُ الأرض كلهم ظلالَها وطعموا من ثمراتها.
ولكن الإسلام لم يكن بالعرب، بل العرب كانوا بالإسلام؛ الإسلام هو الذي جاء إلى هذا المعدن الخام الكامن في نفوسهم، الذي لا يدري به الناس ولا يدرون به هم أنفسهم، فاستخرجه وصفّاه وصنع منه هذه الروائع التي عَزَّت عن الشبيه واستعصت على التقليد. لقد وُلد العرب في التاريخ يوم ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يصدّق فليتصور كيف يكون تاريخ العرب لولا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وماذا كان يبقى لهم لولا الحضارة التي أقامها أتباع محمد من العرب؟ إنه لن يبقى لهم إلا السقاية والرفادة والمعلَّقات السبع، وقصر غمدان في اليمن والخورنق في الحيرة
…
وهذا كل شيء!
أما حضارة دمشق وبغداد والقاهرة فهذه كلها إنما صنعها الإسلام، وهؤلاء القوّاد الأمجاد الذين ربحوا للعرب عشرة آلاف معركة، الذي أخرجهم وحقق لهم هذه الانتصارات هو الإسلام.
وهؤلاء العلماء وهؤلاء الفلاسفة الذين كانوا أساتذة الدنيا، وكانت كتبهم هي الغذاء العقلي لأدمغة طلاب أوربا في جامعاتها إلى ما قبل أربعة قرون فقط
…
هذا كله أثر من آثار الإسلام.
إن العرب مَدينون بوجودهم الحضاري وبمنزلتهم في التاريخ للإسلام.
فالعربية والإسلام أخَوان لا ضدان ولا نقيضان. إن بينهما ما يسمى عند أهل المنطق «عموماً وخصوصاً من وجه» ؛ إنهما دائرتان متداخلتان، دائرة صغيرة هي العربية وكبيرة هي الإسلام، يكون منهما ثلاثة أقسام: عربي مسلم، وهذا ليس فيه كلام، فنحن عرب ونحن مسلمون، ونحن نعتز بقرآننا العربي ونعتز بعربيتنا المسلمة. ومسلم غير عربي، وهو أخونا، نحن منه وهو منا، دينه ديننا وكتابه كتابنا وقبلته قبلتنا، لا فرق بينه وبيننا ولا فضل لنا عليه ولا له علينا.
وفيهما عربي غير مسلم. إن كان في ذمتنا وكان ساكناً معنا كان له ما لنا وعليه ما علينا، ولكن لا نقدمه على ذاك الذي هو أخونا، ولا نجعل رابطة الدم واللسان كرابطة الدين، ولا نجعل من يشرك بالله أو يجعل له ولداً أو يجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كمن يقول معنا «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» .
هذا هو ديننا، لا نستطيع أن نكتم حقائقه أو نبدل أركانه، بل نعلنه على رؤوس الأشهاد ومن ذُرَى المآذن، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
* * *