المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌كلمة في الاشتراكية

‌كلمة في الاشتراكية

نشرت سنة 1966

ليس القصد من هذه الكلمة الإحاطة بالموضوع ولا دراسته دراسة تخصص وتعمق، بل القصد تعريف الجمهور بها تعريفاً مجملاً يقفه على حقيقتها ويكشف له خفاياها، في حدود الإيجاز الذي تتسع له المجلة والتبسيط (1) الذي تحتمله الجماهير.

وقد غدت «الاشتراكية» اليوم الخطرَ الأكبر على الإسلام، والمشكلةَ الشاغلة لرجل الدعوة الإسلامية. ولا بد لمن ينصب نفسه مدافعاً عن الإسلام في وجه الهجمات الإلحادية، ولمن يردّ على مذهب من المذاهب المخالفة، من أن يفهم هذا المذهب فهماً صحيحاً. ولا يكفي أن يتعرف إليه من إشارات الصحف وردود الخصوم، بل لا بد له من أن يقرأ كتب أهله ويطّلع على حقيقته عند أصحابه.

والإمام الغزالي لمّا أراد أن يردّ على الفلاسفة درس مذاهبهم وقرأ كتبهم حتى أحاط بأقوالهم ووقف على حقيقة حالهم، وصار

(1) التبسيط هو التوسيع، ولكنا أردنا باستعمالها هنا بالمعنى المشهور إفهام القراء.

ص: 269

الأستاذ الأكبر للفلسفة في أكبر جامعات الأرض يومئذ، المدرسة النظامية، وألف كتاب «مقاصد الفلاسفة» فكان أحسن معبِّر عنها وأصحّ مرجع فيها، ثم رد عليها في كتاب «تهافت الفلاسفة» ، فكان هذا الكتاب ضربة لها قاضية عليها، لم تقم لها بعده قائمة في المشرق.

ولست أريد من كل من يرد على «الاشتراكية» -مثلاً- أن ينقطع إليها حتى يصير أستاذاً فيها، بل أريد أن يفهمها ليعرف ما هي حقيقة الشُّبَه التي يرد عليها. وإذا كان الإمام أحمد بن حنبل وكثير من العلماء قد كرهوا شرح أقوام الخصوم ولو للردّ عليها (لئلا يكون في ذلك نشر لها) فلقد ارتضوا جميعاً شرحها إذا عَمّ أمرها وطَمّ شرها، كما هي الحال في مسألة الاشتراكية اليوم.

لذلك أشرح أولاً ما هي الاشتراكية، ثم أبيّن حكم الإسلام فيها.

* * *

كلمة «الاشتراكية» ليس لها معنى علمي واضح محدَّد لأنها تُطلَق على ألوان مختلفة من المذاهب اليسارية، مما اعتاد المؤلفون أن يسمّوه «الاشتراكية الخيالية» إلى الماركسية أو الشيوعية التي يسمونها «الاشتراكية العلمية» ، وهذه أيضاً على درجات، فهي في الصين الشعبية مثلاً أشدّ منها في روسيا السوفييتية.

أما «الاشتراكية الخيالية» فهي ما جاء في مجموعة من الكتب صدرت في أوربا وأميركا في هذه القرون الثلاثة الأخيرة، تخيّل

ص: 270

أصحابها مجتمعاً أفضل من المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، أقاموه على الأسس الاقتصادية التي رأوا أنه يمكن أن يرتفع عليها هذا الصرح المثالي. أذكر منهم -على سبيل المثال- توماس مور، مؤلف كتاب «طوبيا» الذي ظهر في إنكلترا في الفترة التي اتجه فيها اقتصادها من الزراعة وحدها إلى التجارة الواسعة. وكان من الأسس التي وضعها في كتابه (لمجتمعه الذي تخيّله) أن تكون ملكية الأرض عامة، وأن يوزَّع نتاجها بالعدل، وأن يراح العاملون فيها فلا يكلَّفوا العمل أكثر من ست ساعات في اليوم، وأن يعالَج المرضى بالمجّان، وأن يُلزَم الأطفال جميعاً بالتعليم.

ثم جاء جيمس هارنغتون فألف في بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي كتاباً اسمه «جمهورية أوشيانا» ، نحا فيه نحو مور في تعميم ملكية الأرض، وأقام لمجتمعه المتخيَّل حكومة جمهورية دستورية السلطات فيها (التشريعية والتنفيذية والقضائية) منفصلٌ بعضُها عن بعض، قال بذلك قبل أن يقول به مونتسكيو في فرنسا بزمن طويل.

ثم جاء سان سيمون الفرنسي فدعا إلى الاشتراكية في الإنتاج، وأن يعمل كلٌّ حسب قدرته ويأخذ قدر حاجته، وكان ممّا دعا إليه إلغاء الإرث. وحاولوا تطبيق أقواله على المجتمع، فكان نصيبها الفشل.

وجاء بعده شارل فورييه، وكان أبرز ما دعا إليه التعاون بين العمال وتأليف الجمعيات التعاونية. وأساس مذهب التعاون -اقتصادياً- حذف الوسيط بين المنتِج والمستهلك ورَدّ ربحه على

ص: 271

المستهلكين أنفسهم. وقد بدأت «التعاونيات» في مصر من أكثر من خمس وثلاثين سنة، وكان من المختصين بشؤون التعاون صديقنا العالم المسلم الدكتور الدّرديري رحمه الله، الذي أمضى أكثر عمره في العمل لجمعية الشبان المسلمين.

وفي أول القرن التاسع عشر ظهر روبرت أوين، وكان أهم ما جاء به أنه درس مشكلات العمل الآلي، وبيّن أن استمراره يعطل الأيدي العاملة فتنتشر البطالة، ثم يكون الكساد لزيادة الإنتاج عن حاجة الأسواق. ولكن ما حذّر منه لم يظهر في أيامه، لما كان فيها من فتح أسواق جديدة عن طريق الاستعمار وما اصطلحوا على تسميته بالإمبريالزم (1).

وربما أُلحق بهؤلاء آخرون اشتركوا معهم في تصور المجتمع المثالي، منهم من كان من قبل كأفلاطون في كتاب «الجمهورية» والفارابي في «المدينة الفاضلة» ، ومنهم من جاء من بعد كويلز (2) وألدوس هكسلي الذي تصوّر في كتابه «العالَم الطريف» (الذي تُرجم إلى العربية) عالَمَ المستقبل تصوراً بالغ الغرابة بعيداً عن الإمكان، لا يقول بإمكانه عاقل.

* * *

(1) أي الاستعمار، والمعنى الحرفي لكلمة «إمبريال» هو «إمبراطوري» .

(2)

هـ ج ويلز، مؤلف رواية «حرب العوالم» المشهورة وعدد غيرها من روايات الخيال العلمي. وقد ألف في موضوع «المدينة الفاضلة» عدداً من الروايات والكتب غير الروائية (مجاهد).

ص: 272

وقد دُعي هذا كله «الاشتراكية الخيالية» لأن أصحاب هذه الكتب قدّموا للناس صورة خيالية للمجتمع المنشود، ولكن لم يبيّنوا الطريق إليه ولم يرسموا المناهج لتحقيقه. ودُعيت اشتراكية كارل ماركس (أي الماركسية)«الاشتراكية العلمية» ، وهي المقصودة الآن بكلمة «الاشتراكية» التي تسمعونها من الأفواه ومن الإذاعات وتقرؤون عنها في الصحف والمجلات.

فمن هو ماركس؟ وما الماركسية؟

كارل ماركس يهودي ألماني، ولد سنة 1818 ودرس في جامعة بون ونال شهادة العالمية (الدكتوراة) سنة 1841. وكان المذهب المادي في الفلسفة هو الذي يسيطر -تلك الأيام- على عقول الشبان المتعلمين وطلبة الجامعات في ألمانيا، وكان زعيم هذا المذهب هيغل. وقد أقبل ماركس على هذه الفلسفة وآمن بها، وولّدت في نفسه أفكاراً ثورية هدّامة جعلت الجامعة ترفض قبوله للتدريس فيها، فاحترف الصحافة يتخذ منها بوقاً لدعوته، فطورد حتى اضطر إلى التنقل بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، ثم استقر في إنكلترا. وكان أشهر كتبه كتاب «رأس المال» و «الميثاق الشيوعي» (المانيفِسْتو) الذي شاركه زميله فردريك أنْغلز إصداره سنة 1848.

وسأحاول تلخيص ما ذهب إليه كارل ماركس وتقريبه لجمهور القراء.

رأى ماركس أن الناس على عهده طبقتان: كثرة تَجِدّ وتكدح ولا تنال إلا القليل، وقلة تستمتع بالكثير من ثمرات هذا الكد.

ص: 273

وكان ماركس يرى (كما رأى بعض من كانوا من قبله) أن الأرض للعموم، لا يجوز أن يتملكها الأفراد، وأن رأس المال يجري عليه ما يجري على الأرض.

ولمّا كانت وسائل الإنتاج ثلاثاً، وهي «الأرض» و «رأس المال» و «العمل» ، وكان كل من الأرض (1) ورأس المال مما لا يجوز عنده أن تشمله الملكية الفردية، فلم يبقَ إلا العمل. فبالعمل وحده -على رأي ماركس- تُحدَّد قِيَم المنتجات.

ولما كان العامل هو الذي يقدم العمل ولا يأخذ من قيمة ما عمله إلا الأقل، وكان فائض القيمة يأخذه رب العمل فلا يستطيع أن ينفقه كله مهما أترف نفسه وأهله، وتبقى منه بقية يرثها أولاده من بعده فيقوون بها على البقاء وعلى الاستمرار في هذا الظلم

فلم يكن عنده بُدٌّ من ثورة تعيد الحق -في زعمه- إلى نصابه وتؤدي إلى القضاء على هذه الطبقة التي تأخذ فائض القيمة (طبقة البرجوازيين) فلا تبقى إلا طبقة الكادحين (طبقة البروليتاريا).

ولما كانت الحكومات في أيامه تناصر هؤلاء «البرجوازيين» وتحمي الوضع القائم، وكان الدين يدعو إلى الصبر وإلى الأمل بحياة أخرى، فقد رأى وجوب إسقاط هذه الحكومات وصرف

(1) ذكر صديقنا العلامة الأستاذ المودودي في مقالته «نظام الاقتصاد الإسلامي» ، في الجزء الماضي من هذه المجلة، أن مالك الأرض إن أهمل أرضه ثلاث سنوات انتُزعت منه أو صارت بحكم الأرض المَوات، وقال إن هذا هو حكم القانون الإسلامي، فأرجو أن يتفضل ويذكر لنا: هل ورد في هذا دليل أو قال به أحد من الفقهاء؟

ص: 274

الناس عن الدين، لأنه يخدّر العمال فلا يجعلهم يحسّون بآلامهم، فهو في زعمه «أفيون الشعوب» !

وجعل لهذه الثورة أساساً فلسفياً هو ما يسمى «الديالكتيك» . والديالكتيك كلمة يونانية معناها المناظرة أو الجدل (1). وأصل ما يدعى «الديالكتيك» للفيلسوف هيغل، وخلاصته أن الأفكار والمبادئ تصطرع وتتصادم، فكلما قامت فكرة ظهرت مع هذه الفكرة بذور فكرة أخرى مضادة لها، لا تلبث أن تنبت ويكبر نبتها فتقضي عليها وتحل محلها. ومن هذا التدافع المستمر (الذي يشبه تدافع موجات البحر وتعاقبها) تكون «حركة التاريخ» .

وقد أخذ ذلك ماركس، ولكنه جعل الأساس الوضع الاقتصادي لا الأفكار المجردة، فهو عنده مبعث هذه الحركة التي تُنشئ الأفكار وتُظهر الأشخاص الذين يحملونها.

وهذا التطور أو التنازع (الذي شبّهوه بالجدال أو الديالكتيك) لا بد أن يؤدي إلى النتيجة التي لا بد منها في زعمهم، وهي محو الطبقة المستغلّة وبقاء الطبقة الكادحة، طبقة «البروليتاريا» ، وحدها. وهذا معنى الكلمة التي تتردد في هذه الأيام على الألسنة والأقلام، كلمة «حتميّة التاريخ» .

وهذه «الحركة التاريخية» هي التي بدؤوا يدعونها «المَدّ الثوري» . ومقتضى هذه النظرية عند هيغل وعند ماركس (على

(1) والعامة عندنا يستعملون كلمة مشتقة من هذه المادة هي «ديالوج» ، فيقولون:«مونولوج» ، أي الأغنية الفردية، و «ديالوج» ، أي الأغنية الثنائية أو الحوار الغنائي.

ص: 275

اختلافهما في تفاصيلها) أن الذي يوجّه سير التاريخ ويحرك العالم ويوجد كل شيء ليس الإله المعبود، بل هو عامل بشري وقوانين مادية تخضع لها حركة التاريخ. وهما ينكران وجود الإله ولا يعترفان بأي عامل ديني أو روحي، بل لقد جاء على ألسنة زعماء الشيوعية ما يفيد تأليه التاريخ!

هذه هي الناحية الخطيرة في الماركسية. وفيها شيء آخر لا يكاد يقل عنها خطراً، هو «النسبية» أو «المرحلية» . فالقانون والحرية والمساواة والعدل

كل ذلك يكون له في كل عصر (أو في كل مرحلة من مراحل الطريق إلى الثورة) معنى خاص.

فهم ينادون بالحرية والعدل والمساواة، ولكنهم يفسرون هذه الكلمات في كل مرحلة بالمعنى الذي يناسب هذه المرحلة، حتى إن «الحرية» لَيكون معناها في بعض المراحل الاستعبادَ والتقييد، ويكون معنى العدل الظلمَ، ويكون معنى المساواة التفريقَ والتمييز.

وبذلك تسقط هذه المبادئ والمُثُل وتنهار معها أسس المجتمع البشري!

والمجتمع عند كارل ماركس لا يقوم على أخوّة بين طبقات الشعب، بل على «الصراع الطَّبَقي» الدائم، حتى يُقضى على «الطبقة البرجوازية» (أي على خواص الناس) ولا يبقى إلا العامة (البروليتاريا)، والعمل على بلوغ هذه الغاية هو ما يسمى في عرف الماركسية ومَن ينطق باسمها بـ «الثورة» .

فكلمة «الثورة» التي تسمعونها تردَّد دائماً في هذه الأيام هذا

ص: 276

معناها. ويجوز في هذه الثورة سلوك كل طريق يؤدي إلى القضاء على الطبقة البرجوازية (طبقة الخواص والأغنياء ورجال الدين)، ولا تتقيد هذه الثورة بقيود العدل ولا الحق ولا القانون، بل هي لا تكاد تحدد لها معنى ثابتاً يحقق وجودها.

وحين تنجح الثورة تنفرد طبقة الكادحين (أي البروليتاريا) بالحكم وتحكم حكماً مطلقاً (ديكتاتورياً)، حتى يتم القضاء على الطبقات الأخرى ويخلو الجو لها. وعندئذ لا تبقى حاجة للدولة ويكون المجتمع الشيوعي المنشود، وهو مجتمع خالٍ من الطبقات، تعمّه العدالة ويسود فيه النظام (1).

* * *

(1) لعل من غرائب المصادفات (وما في الدنيا مصادفة إلا بقَدَر من الله) أنني انتهيت -في الوقت الذي وصلت فيه إلى هذا الموضع من الكتاب- من قراءة رواية اسمها «بجعات برّية» ، وهي رواية تاريخية طويلة تبلغ ثلاثة أمثال هذا الكتاب طولاً، وتسرد فيها مؤلفتها الصينية يونغ تشانغ قصة عائلتها في الصين الشيوعية؛ فهي ليست رواية خيالية كعامة الروايات بل هي ملحمة تاريخية واقعية؛ فإن يكن أيّ كتاب أميناً في وصف الحياة في ظل الشيوعية فهي هذه الرواية بلا جدال، لا سيما وأنها تصف التطبيق الأمثل المنشود للشيوعية في بلد كبير وخلال مدة طويلة تمتد لثلاثة عقود.

لقد افتُتن بالدعاية الشيوعية سُذّج كُثُر في عالمنا الإسلامي وذهب بعضهم إلى التخلي عن دينهم في سبيلها، وإني لأتمنى أن يقرأ هؤلاء هذه الرواية، بل أن يقرأها كل واحد من الناس كافة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ليروا مبلغ القهر والظلم والعذاب الذي عاشه=

ص: 277

ويبدو من هذا التلخيص الموجَز أن دعوة التوفيق بين الإسلام والاشتراكية بحجة أن في الإسلام اشتراكية دعوة باطلة. لأن الاشتراكية (والمقصود بها الماركسية) ليست مجرد توزيع الأراضي، ولا تأميم المعامل، ولا إسعاف العمال، ولا معونة الفلاحين

هذه كلها فروع لها، أما الأصل فهو هذه الفلسفة المادية (الديالكتيك) القائمة على إنكار الدين، بل على إنكار كل ما هو روحي وردّ كل شيء إلى «المادة» ، واتخاذ التاريخ إلهاً، و «حتمية التاريخ» عقيدة، وعلى الشك بجميع المُثُل العليا والعبث بتفسير معانيها، وعلى ثورة طاغية تنسف المجتمع وتجعل الأسافل فيه أعالي والأعالي أسافل.

إنها تقوم على «صراع الطبقات» واستبداد العوام بالخواص ثم العمل على إبادتهم وقطع دابرهم، وهي بهذا كله تناقض الإسلام مناقضة صريحة؛ فالإسلام مبني على الإيمان وعلى التوحيد وهذه مبنية على الإلحاد والجحود، والإسلام يدعو إلى الأخوّة والمحبة والعدل وهذه تدعو إلى الحقد والبغضاء والصراع، وتجيز الظلم إذا كان وسيلة لحرب من تسميهم «البرجوازيين» ، والإسلام يُقرّ الملكية الفردية (وإن كان يقيدها بالقيود التي سيأتي بيانها) ويقر التوارث وهذه تأبى ذلك كله.

= مئات الملايين من الناس في سبيل تحقيق حلم مجنون. ثم نراهم في النهاية يتأملون شعارات ماو الثورية التي تقول: «وطننا الاشتراكي جنة» ويتساءلون: "إذا كانت هذه هي الجنة فما هو الجحيم؟ "

نعم، اقرؤوها يا أيها المؤمنون بالاشتراكية والشيوعية، لتكفروا بهذه الأباطيل كفراً لا إيمان بعده إلا بالله، الخالق العظيم (مجاهد).

ص: 278

ولا شك أن في هذه المذاهب أموراً فرعية ربما وافقت في الجملة أموراً مثلها في الإسلام، ولكن هذا التوافق في الجزئيات لا يسوّغ لنا أن نقول «اشتراكية الإسلام» ، بدليل أن التوافق بين القرآن والتوراة الموجودة الآن في أيدي اليهود أكثر، وقصص الأنبياء فيها تكاد تكون واحدة، مع اختلاف الأسلوب. فهل يحق لنا -بناء على هذا- أن نقول:«يهودية الإسلام» ؟!

ولست أعرّض بأخي المؤمن المجاهد الشيخ مصطفى السباعي رحمة الله على روحه، فلقد ناقشته في حياته وكان بيني وبينه أخذ ورَدّ، وأشهد ما كان قصده إلا الخير وأنه أراد أن يجلب بذلك الاشتراكيةَ وأهلَها إلى الإسلام

لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وربما أراد الرجل الخير فاتُّخذ عمله حجة للشر (1).

(1) في ربيع عام 1959 ألقى الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله محاضرة في جامعة دمشق عنوانها «اشتراكية الإسلام» ، ثم وسّع مادة هذه المحاضرة وأصدرها في نهاية العام في كتاب حمل العنوانَ ذاته، وبلغ عدد صفحاته 175 صفحة، وفي السنة التالية نقّح الكتاب وزاد فيه وأعاد نشره في 420 صفحة.

وأثارت المحاضرة (وأثار الكتاب من بعدها) نقاشاً طويلاً وجدلاً مع عدد من العلماء، لعل من أبرزهم شيخ حماة محمد الحامد وقاضي دمشق علي الطنطاوي. وقد ردّ علي الطنطاوي على الكتاب رداً مقتضباً في أول الأمر، فنشر في بعض الصحف كلمة صغيرة قال فيها: "قرأت الكلمة الطيبة التي كتبها الأخ الأستاذ سعيد رمضان البوطي وأشار فيها إلى كتاب «اشتراكية الإسلام» للأخ الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي. وهو صديق كريم، ولكن أرسطو كان=

ص: 279

فالرجل مؤمن مخلص مريد للإصلاح، ولكن الطريق الذي مشى فيه طريق وعر متقطع، وإن ظنه طريقاً سهلاً موصلاً.

= يقول: «أفلاطون صديقي والحق صديقي، فإذا اختلفا فأنا مع الحق» . وكتاب «اشتراكية الإسلام» فيه بحث عميق وفيه إحاطة وشمول، وهو كتاب جليل، ولكن فيه أشياء كثيرة إذا لم أصرّح بأنها ليست صحيحة فأنا أصرّح بأنها تخالف المذاهب الأربعة التي عليها المسلمون اليوم. وقد حضرتُ الأستاذَ لمّا ألقاها محاضَرةً في الجامعة -على ندرة ما أحضر من المحاضرات- واضطررت أن أقاطعه تسع مرات لأبيّن له بكلمة سريعة أن الحكم الفقهي الذي يسوقه يحتاج -على الأقل- إلى نظر (وكان مما استوقفته فيه يومئذ قوله بأن قانون الإصلاح الزراعي له مُستنَد شرعي). ودين الأستاذ عزيز عليه بمقدار ما هو عزيز عليّ، وكل عالم في الدنيا يخطئ والعصمةُ للأنبياء وحدهم، ولا يضيره ولا يُغضبه إن شاء الله أن أطلب تأليف لجنة من فقهاء المذاهب الأربعة للنظر في الكتاب وبيان ما ينبغي تعديله فيه؛ فلا يجوز أن يبقى على ما هو عليه ويُتَّخَذ حجة لمن يريد أن يأتينا بدين جديد غير دين الإسلام في مصر وفي الشام. وأنا أعرف الاشتراكية وأعرف الإسلام، ولكني لا أعرف شيئاً اسمه اشتراكية الإسلام، والسلام".

والإشارة في آخر الكلمة واضحة إلى حكم عبد الناصر، فقد ألقى السباعي محاضرته وعقّب عليها جدي بهذا التعقيب في أيام الوحدة بين مصر وسوريا، وكان عبد الناصر يسعى إلى تطبيق الاشتراكية في الإقليم الشمالي (سوريا) كما طبقها من قبل في الإقليم الجنوبي (مصر)، ومن ثمراتها ذلك القانون الذي سموه «قانون الإصلاح الزراعي» والذي كان من نتائجه بوار الزراعة، وقانون «التأميم» وكان من نتائجه انهيار الصناعة، وانظر خبر ذلك كله في الحلقة 160 من ذكريات علي الطنطاوي (وهي في الجزء السادس). =

ص: 280

وكلامي هنا في ردّ الفكرة، لا في نقد الشيخ الذي كان وجوده ربحاً للدعوة وكان فَقده خساراً عليها، والذي ترك من

= ثم عاد جدي رحمه الله فنشر في «الأيام» مقالة أوسع يضيق المقام هنا عن نشرها كاملة، وإنما أجتزئ بما جاء في آخرها. قال: "أما قولي للأخ السباعي أني أعرف الاشتراكية وأعرف الإسلام، ولكني لا أعرف شيئاً اسمه اشتراكية الإسلام، فتفصيله: أن الإسلام جمع الخير كله، وكل مذهب من هذه المذاهب فيه جانب من الخير وجانب من الشر. وإذا جاز أن نقول إن في الإسلام اشتراكية لمجرد أن الخير الذي تدعو إليه الاشتراكية موجود في الإسلام جاز على هذا القياس أن نقول «يهودية الإسلام» لأن المقدار المشترَك بين التوراة والقرآن أكبر من المقدار المشترَك بين الاشتراكية والإسلام!

وهذا أيضاً كلام موجز له عندي شروح وحواش إذا أحبّ أخي عدت فسردتها. أما ما قلته له من أن في كتابه أشياء كثيرة تخالف -على الأقل- المذاهب الأربعة فصحيح، ولست أنا وحدي الذي لاحظه بل لاحظه عدد من العلماء. وقد كتبت إلى سماحة المفتي مقترحِاً تأليف لجنة للنظر فيه.

وبعد، فلماذا لا تكون يا أخي الشيخ مصطفى أرحبَ صدراً للنقد، ولماذا لا تتقبل كلمة الحق؟ إنها يا أخي مسألة دين، ولأن تكون مخطئاً فتصحح خطأك (ومن هو الذي لا يخطئ؟) خير لك من الإصرار على الخطأ وتحمُّل تبعات افتتان الشبّان به ولقاء الله عليه. هذا واللهِ كلامُ مُحِبٍّ لك، وهذا واللهِ ما أريده لنفسي لو كنت مكانك. على أننا إن اختلفنا في مسائل علمية فإننا لا نزال صفّاً واحداً ولا نزال إخوة متصافِين، ولا يمنعنا هذا من جهاد الملحدين والمفسدين وتنبيه الغافلين وتعليم الجاهلين. ولأخي مصطفى السباعي تحياتي وسلامي وصداقتي الدائمة". =

ص: 281

الآثار ما يكون له منه الثواب الدائم والنفع الباقي، رحمه الله وجزاه على نيته خير الجزاء.

وللكلام بقية تقرؤونها في الجزء القادم إن شاء الله (1).

* * *

= ولم تنتهِ هذه المساجلات إلى شيء، بل بقي الشيخ مصطفى مُصرّاً على موقفه وعلى كتابه، اسماً ومحتوى. أما أنا فأحسب أن هذا الموضوع كان من سقطات السباعي غفر الله له؛ فقد استفاد منه أعداء الإسلام، واستغلته حكومة جمال عبد الناصر استغلالاً سيّئاً لترويج المذهب الاشتراكي الذي ذهبت إليه، إلا أنني أرجو للشيخ الأجر على اجتهاده، ولا أظن إلا أنه أراد فيما ذهب إليه الخير والصلاح لدينه ودعوته، رحمه الله.

وحتى الذين قبلوا الكتاب نفسه ولم يتلقّوه بالنقد ساءهم عنوانُه، ولعل خير مَن عبّر عن هذا الرأي الأستاذ عبد الله الطنطاوي في كتابه «مصطفى السباعي، الداعية الرائد والعالم المجاهد» ، فقد علّق على تسمية الكتاب بقوله:"لقد اجتهد الأستاذ الكبير، ونرجو أن ينال أجر ما اجتهد، وما نظنه -نحن محبّيه إلى درجة العشق- إلا قد جانبه الصواب فيما اجتهد في التسمية، وفي دفاعه الحار عن هذا المسمّى الذي نكره"(مجاهد).

(1)

نشر جدي هذه المقالة في العدد الأخير من أعداد السنة الثالثة من مجلة «رابطة العالم الإسلامي» الذي صدر في ذي الحجة 1385، ثم لم يعد إليه بأي تكملة في أي من الأعداد اللاحقة، بل إنه لم ينشر في هذه المجلة أي مقالة في سنتها الرابعة، ثم عاد للكتابة فيها في السنة الخامسة (1387)، لكنه لم يكمل الموضوع الذي وعد هنا بإكماله قط، عليه رحمة الله (مجاهد).

ص: 282