الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدرسة الدينية
نشرت سنة 1937
دفعني إلى التفكير في هذا الموضوع الذي أكتبه اليوم خبر صغير قرأته كما قرأه الناس كلهم، ولكني قرأته بإعجاب وفخر. هذا الخبر الصغير الذي يصف في تواضع واختصار منقبة عظيمة ومكرمة قصّر عنها الفحول من الرجال ذوي الوجاهة والغنى، وقدرت عليها هذه المرأة التي تبرعت بنفقات الكلية الإسلامية. ولقد جمعت هذا المال الكثير بعملها وكدّها، لم ينتهِ إليها كما تنتهي الأموال إلى الوارثين لينفقوها في أسواق الرذيلة والعار.
على أني لن أقف مقالي على تمجيد هذه المرأة وإكبار عملها، فهي امرأة ماجدة وعملها عمل كبير، والعالم الإسلامي الذي قرأ الخبر في الجرائد -كما قرأته- مجّدَها وأكبر عملها من غير أن يحفزه إلى ذلك كاتب ضعيف مثلي. ولكني أحب أن أقصر مقالي على المدارس الإسلامية الدينية، وأن أهبط من سماء الخيال والأدب إلى أرض الحقيقة والواقع. والواقع أن المال اللازم لإنشاء هذه المدرسة في حلب قد توفر (أو توفر أكثره) ولم يبقَ إلا التفكير في صرفه.
وأنا أعلم أن الذين يقومون على صرفه لا يحتاجون إلى
رأيي ومشورتي، ولكني لا أجد بدّاً من أن أقول كلمتي هذه لعلها تنفع أحداً. ولست أدّعي أني أعلّم أو أنصح، ولكنها تجارب لي أحببت أن أكتبها (1).
* * *
من هذه التجارب ما يتعلق ببرامج التعليم، ومنها ما يتصل بنظام المدرسة، ومنها ما يدور على أصول التدريس والمدرّسين.
أما برامج التعليم في المدرسة الدينية، فقد أصبح من المُجمَع عليه وجوب اشتمالها على العلوم الإسلامية والعربية وعلى ثقافة عامة واسعة تحيط بمجمل نواحي المعارف الإنسانية، لأنه أصبح من المفهوم أن الإسلام دين وعلم وقانون وفن، وأنه صالح لكل زمان ومكان، فلا يستقيم في الفكر أن تكون عقول علمائه الذين يعيشون اليوم مخالفة لعقول الناس وفي معزل عن حقائق الكون التي توصّل العقل البشري إلى معرفتها. وقد باد ذلك الرأي الذي يرى علوم الطبيعة والرياضة منافية للدين، ومات أصحابه بعد أن هبطوا بالأمة من يفاعها وبلغوا بها الحضيض الأوهد، وأكسبوها -بما ارتضوا لها من الجهل بعلوم الدنيا- هذا الاستعمار وهذه البلايا
…
فلن نطيل الوقوف عند هذا، ولكننا نشير إلى ضرورة تدريس العلوم الإسلامية الخالصة -كالفقه والتوحيد- على شكل يفهمه أبناء هذا العصر ويلائم أذواقهم، وأن يُختار لتدريسها
(1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الفتح» في صفر سنة 1357، وكان علي الطنطاوي يومئذ مدرّساً في الكلية الشرعية في بيروت (مجاهد).
جماعة قد انطلقت عقولهم من قيود اللفظ والوقوف عند تفهّم العبارة وإعادتها بأسلوب آخر (قد يكون أرقى من أسلوب الكتاب وقد ينحطّ عنه)، وأن يُختار للتلاميذ المبتدئين كتب سهلة مكتوبة بأسلوب مفهوم، وأن يُبتعَد عن هذه الشروح وهذه الحواشي فلا تدرَّس إلا في الصفوف العالية حينما تقوى مَلَكة العلوم الإسلامية عند التلميذ، لأن الابتداء بتقرير هذه الكتب للتلاميذ الذين درسوا في مدراس مدنية دراسة بعيدة عن الدين يُنتج نتيجة سيئة جداً، هي تنفير الطلاب من كتبنا وعلومنا.
ولست أذهب في هذا إلى الحط من قيمة هذه الكتب القديمة، فإني أَعْرَف الناس بقيمتها وقيمة أصحابها الذين ألّفوها على طريقةٍ لا نشك بصلاحيتها للعصر الذي أُلِّفت فيه. ولكني أذهب إلى أن المراد من الدرس فهم مادة العلم، وعلم النحو مثلاً يُفهَم من غير أن نحفّظ التلاميذ المبتدئين هذه المنظومة العجيبة التي تُعرَف بـ «الألفية» ، ونكسر بها أدمغتهم ونبغّض بها النحوَ إليهم أشد التبغيض، وإلى أن هذه الكتب الحديثة المبوَّبة المرتبة تغني التلاميذ المبتدئين عن «القَطْر» (1) و «ابن عقيل» ، وليس تدريس هذين الكتابين من الدين حتى نتمسك بهما ونحرص عليهما، ولكن الوصول إلى الغاية من أقرب الطرق هو الذي يُعَدّ من حقائق الدين.
وأذهب إلى أن تدريس الفقه للمبتدئين لا يقتضي شرح هذه الافتراضات الغريبة التي توجد في كتب الفقه ويولع بها بعض الفقهاء
…
وإلى جانب هذه الإفاضة في فرض الفروض نجد في
(1)«قَطر الندى وبلّ الصدى» لابن هشام، و «ابن عقيل» شرح لألفية ابن مالك (مجاهد).
كتب الفقه نقصاً كبيراً في المسائل التي جَدّت ولم يكن يقع أمثالها في عصور الفقهاء المتقدمين، والتي شغل المعاصرين من علمائنا عن بحثها واستنباط أحكامها اشتغالُهم بعبارة الكتاب وتحليل غامضها.
وأنا أذهب إلى أن تدريس التوحيد مثلاً يقتضي الابتعاد عن كتب الكلام المحشوة بحكاية أقوال المخالفين والرد عليها، فيحفظ التلاميذ شُبَه أقوام بادوا ونِحَل انقرضت قبل أن يعرفوا حقيقة التوحيد على قوّته وبساطته وجلاله، مستشهدين بآيات الله في كتابه وفي خلقه.
* * *
أما النظام المدرسي فيكاد يكون مفقوداً اليوم في أكثر مدارسنا الدينية، لأن مرجع أكثرها إلى أفراد يديرونها ويشرفون عليها. وكل مدرسة أو شركة أو جمعية تتبع رأي واحد وهواه لا حظَّ لها إلا الموت والخيبة، لأن الفرد -مهما كان حسن النية- يخطئ ويَهِم، ولذلك شرع الله الشورى.
ولذلك وجب على مؤسّسي المدرسة الدينية أن يجعلوا مرجعها «جمعية» تضم أهل الرأي والاختصاص لا أهل العبادة والصلاح فقط، لأن من المسلَّم به أن التجّار مثلاً لا يستطيعون أن يديروا مدرسة ويضعوا برامجها، ولو كانوا صالحين عاملين وكان لهم فضل في إنشاء هذه المدرسة. وليجدَّد أعضاء الجمعية بالانتخاب، ولا يكونوا أعضاء خالدين يحتكرون المشروع ويسدّون سبيل العمل فيه في وجوه الناس، فإن ذلك يُفسد عملهم
ويخرج به عن غايته الغرّاء ومقاصده الخيرية، ويجعله شركة احتكار ربحها المجد والشهرة والجاه.
وليكن نظام المدرسة موافقاً لطبائع الطلاب وفطرتهم، ضامناً لغايات التربية، عاملاً على إنماء مواهب التلاميذ وملكاتهم، بعيداً عن الفوضى بعده عن العسكرية الآلية، فلا يجعل التلاميذ متمرّدين يركب كلٌّ منهم رأسَه ولا يخضع إلا لنفسه، ولا يجعلهم آلات صَمّاء لا تحسّ ولا تفكر ولا تشعر بكرامة. وأن يراعى في وضع نظام العقوبات روح الطالب وعزّته، وأن تُحرَّم العقوبات التي تُذِلّ نفوس الطلاب، لأن تربية عزة النفس والكرامة أول واجب على من ينشئ مدرسة دينية تخرّج علماء شرعيين، وحسبنا ما نجد اليوم من ضعف علمائنا (أعني بعضهم) وهوان نفوسهم عليهم!
أما اختيار المدرّسين فهو بيت القصيد وعقدة القصة؛ إذ إن من شروط المدرّس في المدارس الدينية أن يكون دَيّناً عالماً معلّماً مربّياً. ولا أعني بالدين أن يدع المعلم صفه ليستلم محرابه وأن يترك التعليم ليشتغل بالذكر، ولكن أعني بالدين أن يرعى المعلم حق الله وحق المدرسة عليه ويعرف قيمة الواجب، فلا يغرس في نفوس الطلاب فكرة ضارة ولا خُلُقاً سيئاً ولا عقيدة باطلة، وألاّ يضيع لحظة من الدرس في غير فائدة. وأعني بالعالِم العالم بالمادة التي يدرّسها، لأن المدرس إذا لم يكن متيناً في درسه لم يُفِد ولم يُحترَم. وأعني بالمعلم من كان قادراً على إفهام الطلاب، مطّلعاً على أصول التدريس، مستعداً للمناقشة والإقناع. وليس كل من فهم الكتاب المقرَّر أو حفظه وأعاده يُعَدّ معلماً، بل إني لأعرف علماء كثيرين لا يحسنون التعليم. أما المربي فهو
الذي اطّلع على نظريات التربية ودخائل النفس البشرية، وفهم طبائع التلاميذ وقوَّم أخلاقهم، وضرب لهم من نفسه مثلاً سامياً وأراهم منه صورة كاملة.
* * *
بقي أصول التدريس. كيف ندرّس في مدارسنا الدينية؟
كنت منذ أعوام مدرّساً في مدرسة طارق بن زياد في دمشق على سفح قاسيون، وكان في الصف الذي يقابلني حصة اللغة الفرنسية، فدخل الصفَّ مفتّشُ الفرنسية
…
وهو رجل فرنسي أحمق كان في بلده معلماً أولياً، فعُيِّن في بلادنا مدير دار المعلمين العالية ومفتش اللغة الفرنسية، ولما صار كذلك أصبح من حقه أن يأخذ شهادة الدكتوراة، فأخذها صَدَقة من وزارة المستعمرات! فما راعنا ونحن في دروسنا إلا سعادة المفتش يأخذ علبة الأوساخ وهي ممتلئة فيرفعها فوق رأسه، برغم أنها كبيرة وأنها مصنوعة من الخشب الغليظ، ثم يفلتها فتهوي ويكون لها ضجة هائلة، فيضطرب المعلم ويفزع التلاميذ وفيهم صبية صغار، فيضحك الكبار ويبكي الصغار، ويبتدر الجبناء البابَ منهزمين ويقفز الجُرَآء صائحين مشاغبين، وتمتلئ غرفة الدرس بالأوساخ، وتزلزل الأرض زلزالها فيتعطل كل درس في المدرسة، ويخرج الطلاب والمدرسون من صفوفهم.
ولما هدأت الدنيا بعد زلزالها سألنا: ما الخبر؟ فقالوا: إن سعادته سمع المدرّس يشرح للتلاميذ معنى فعل «tomber» (ومعناه السقوط)، فأحب أن ينبّه المعلم إلى وجوب شرحه بالعمل لا بالقول، فألقى عليه الأوساخ من فوق رأسه
…
على
أصول التدريس الحديث!
وكان معنا مرة معلم لغة فرنسية على المذهب الحديث الذي يعنى بشرح اللغة عملياً، فإذا كان في الدرس اسم قلم أرَيْتَ التلاميذ القلم بيدك، وإن كان فيه اسم قط جئت لهم بقط، وإن كان حمار أدخلت إلى الصف حماراً
…
وكان عند هذا المعلم درس فيه ذكر الديك، فماذا يصنع؟ يأتي بالديك طبعاً. فاشتراه وصحب حمّالاً يحمله إلى المدرسة، ووضعه على منصة المدرس ليشرح للطلاب معناه كلمة «ديك» . ولكن الديك لم يكن مهذباً ولم ينتبه لشروح المعلم، بل وثب على رؤوس التلاميذ، فقام التلاميذ من كل صوب ليقبضوا عليه، فدخل تحت المقاعد، فقلبوا المقاعد، فخرج من الشبّاك، فلحقوه، وقامت قيامة المدرسة!
هذا ما شهدتُ من أصول التدريس الحديث!
أما القديم فأشهده دائماً في كثير من المدارس الدينية: يأتي المدرّس (الشيخ) إلى الصف متأخراً على الغالب لأن ساعته تأخرت أو توقفت، أو لأن صديقاً له زاره، أو لأن رجلاً ثقيلاً استوقفه في الطريق فاستفتاه في أمر
…
أو يأتي بعد غياب أيام كان فيها مريضاً أو متوهّماً أنه مريض، أو كان مدعوَّاً إلى وليمة أو حفلة زفاف في إحدى القرى، أو كان يستقبل ضيوفاً أو يودع مسافرين
…
فيجلس على كرسيه والتلاميذ بين قائم وقاعد ونائم، فيمضي دقائق قد تطول وقد تقصر في الاعتذار عن تأخره أو غيابه، ويخوض في حديث أو حديثين على الهامش، ثم يبدأ الدرس فيقرأ التلميذ (المُعيد) باباً من أبواب الكتاب والمعلّم
ساكت، والتلاميذ مشغولون بقراءة كتاب آخر أو بحديث خافت أو بالنوم. فإذا فرغ المعيد من قراءته بدأ الشيخ فتنحنح وعدّل جلسته، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ودعا لمشايخه ووالديه وللحاضرين ووالديهم وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات
…
مقدمة معروفة لا تتبدّل ولا تتغير، ثم أعاد قراءة الباب بصوت أخفض ولهجة أسرع، فإذا انتهى لم يكن باقياً في الساعة إلا أقلها، فشرح ما قرأ شرحاً سريعاً (أو بالعبارة الصادقة: أعاد خلاصة ما قرأ من حفظه)، فلا يكاد يمضي في شرحه حتى يؤذّن الجرس بانتهاء الدرس. فإذا كان الشيخ مشغولاً خرج، وإن كان مستريحاً تابع شرحه وترك المدرّس الآخر ينتظر. وإذا أخطأ أحد التلاميذ فانتبه إلى الدرس أو عرض له إشكال أو اعتراض فسأل فالويل له، لأنه يعترض على الشيخ المؤلف رحمه الله ويحقّر السلف، ويبدأ الشيخ بمحاضرة طويلة موضوعها «جيل اليوم ووقاحتهم» ، تحرّم على الطالب أن يعود إلى سؤال أو انتباه!
فعلى أي الطريقتين تسير المدرسة الدينية الجديدة؟ لا على هذه ولا تلك، ولكن على النهج السويّ الذي يجمع مزايا الأصول الحديثة ومحاسن الطريقة القديمة، والذي يجعل الغاية الأولى من الدرس إفهام الطلاب مادة العلم لا عبارة الكتاب.
هذه نتيجة تجارب متواضعة أسوقها ليطّلع عليها القائمون على إنشاء المدرسة الإسلامية في دمشق وفي حلب، وفي غيرهما من بلاد العالم الإسلامي.
* * *