المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاختلاط في الجامعات - فصول في الدعوة والإصلاح

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌التقدمية والرجعية

- ‌الإسلام والحياة

- ‌أساس الدعوة إلى الإسلام

- ‌أين الخلل

- ‌حقائق مؤلمة

- ‌بلا عنوان

- ‌دعوهم وما يقولون

- ‌تعليق مختصر على خبر

- ‌اتفاق الدعاة

- ‌الدِّين ثقيل والجزاء عظيم

- ‌وصية وإنذار

- ‌مشكلة

- ‌عرّفوهم بالإسلام يصيروا مسلمين

- ‌الأحاديث الدينية في الإذاعة

- ‌منهج الدعوة وواجب الدعاة

- ‌ماذا يصنع الصالحون

- ‌بيان وإنذار

- ‌الدعوة إلى الأصول قبل الفروع

- ‌رسالة بلا عنوان

- ‌خدمة الإسلام

- ‌الطريقة الصحيحة للإصلاح

- ‌حصاد ربع قرنفي حقل الدعوة الإسلامية في الشام

- ‌المدرسة الدينية

- ‌في نقد المناهج الدينية

- ‌كلمة تُرضي اللهوتُغضب بعض البشر

- ‌الاختلاط في الجامعات

- ‌كلمة في الأدب

- ‌حركة طيبة في لبنان

- ‌عدوان فظيع، ودعوة صالحة

- ‌عدوان أفظع

- ‌جاء الحق وزهق الباطل

- ‌الحكم بالقوانين الشرعية

- ‌إلى علماء الشيعة

- ‌إلى أين تمشي مصر

- ‌مات شيخ الأزهر

- ‌نحن وهذه الحضارة

- ‌موقفنا من الحضارة الغربية

- ‌ردّ على أدعياء البعثية

- ‌كلمة في الاشتراكية

- ‌الدعوة إلى الوحدة

- ‌الدعوة القومية والإسلام

- ‌كلمة صغيرة

- ‌موقف الإسلام من العربية

- ‌فضل الإسلام على العربية

- ‌القومية والإسلام

الفصل: ‌الاختلاط في الجامعات

‌الاختلاط في الجامعات

كُتبت سنة 1971 (1)

أشهد أولاً أن «المجتمع» إحدى المجلات القليلة الواعية التي عرفتها في حياتي، كـ «الفتح» لخالي محب الدين الخطيب رحمه الله، و «البصائر» التي كان يحررها صديقي الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، و «البعث الإسلامي» و «الرائد» لإخواننا «النَّدْويين» في لَكْنَو في الهند، وقريب منها أو مثلها «البلاغ» و «الوعي الإسلامي» و «حضارة الإسلام» .

وإني لتصل إليّ أعداد من «المجتمع» ، ولكنها تأتي إليّ بعد صدورها بعشرين يوماً، فأحب أن أعلّق أحياناً على بعض ما

(1) وجدت أصل هذه المقالة بخط جدي رحمه الله، وفي أعلاها بخطه:"الشرط أن تُنشَر كما هي أو تُرَدّ إليّ"، وعلى هامش الورقة بخطه أيضاً:"هذه المقالة يُسمَح لمن شاء من أصحاب المجلات والجرائد أن ينقلها، ولمن أراد من أهل الخير أن يطبعها ويوزعها، على أن ينسبها إلى كاتبها ولا يبدل فيها شيئاً". وقد أرسل صورة من المخطوطة إلى مجلة «المجتمع» الكويتية لتنشر فيها كما يظهر من السياق، لكني لم أستطع أن أحقق إن كانت قد نشرت فيها أو لم تنشر (مجاهد).

ص: 179

أجد فيها ولكني أجد أن وقت التعليق قد فات، وأنه لا يصل إلى المجلة إلا بعد صدورها بشهر أو أكثر، فأدعه.

ولو كنت قريباً منها لأعنتها على جهادها، ولأصليت هؤلاء المنحرفين نار الحق التي تذيب غش نفوسهم وتكشف زيفها وزيغها. وأنا -وإن شخت وولّى شبابي- لا تزال فيّ بحمد الله بقية تسّر الصديق وتكبت العدوّ وتؤيد الحق، كبقية القوة في الأسد العجوز التي تكفي لصدّ وقاحة الثعالب.

ولكن ما قرأته في عدد 28 رمضان 1391 (رقم 86) عن «ندوة الجامعة» وحملة «الرأي العام» هالني وأدهشني، ورأيت من الواجب عليّ أن أكتب فيه، ولو جاء ما كتبت متأخراً عن موعده.

* * *

أنا أعرف أمثال هؤلاء الشباب، وأنا واقف على حقيقة أمرهم؛ إنهم يميلون إلى المرأة ويحبون أن يستمتعوا بجمالها، وكانوا (أو كان أكثرهم) في أوربا أو أميركا يرون اللذات هناك مباحة والمتع معروضة، فلما عادوا حنّوا إلى ما كانوا فيه من الانطلاق وضاقوا بما وجدوا من القيد والحجاب، فهم يألمون ممّن يحرمهم هذه المتعة المشتهاة كما يألم الصبي إذا منعته قطعة الحلوى التي يطلبها.

ولا يدري الصبي أن قطعة الحلوى لا تُنال سرقة ولا خطفاً ولا غصباً، ولكن بالثمن، فإن جاء بثمنها وصل إليها. وهؤلاء

ص: 180

مثله؛ لا يدرون (أو يدرون ويتناسون) أن المتعة بالمرأة إنما تكون بالزواج.

إن عمل المتزوج الزواج الشرعي وعمل الفاحش واحد في حقيقته، فلماذا يقيم المتزوج الحفلات ويطبع البطاقات ويضيء المصابيح ويدعو الناس، ويفرّ الآخر بصاحبته إلى بقعة منعزلة أو غرفة موصدة، أو يتستر بستار الفن والرياضة والروح الجامعية، ليخفي حقيقة مقصده وما يخفي صدره؟

لماذا يكون المتزوج آمناً مطمئناً، ويكون الآخر حذراً خائفاً مترقباً؟ ذلك لأن الأول كمَن يدخل المطعم ونقوده في يده، فيقعد أمام المائدة ويطلب القائمة ويأكل على مهل، والآخر يخطف الطعام ويهرب به والناس يلحقونه، فهو يعدو ويأكل في عَدْوه، فيحرق الطعام حلقه أو يقف في بلعومه!

هذه هي الحقيقة؛ إنهم لا يريدون إلا الاستمتاع ببناتنا مجاناً، ولو كانت في أول الأمر متعة النظر والكلام. يريدون أن يأكلوا الطعام ولا يدفعوا الثمن.

إنهم «لصوص» . لا تستكبروا الكلمة ولا تستنكروها، فإنها من باب تسمية الأشياء بأسمائها، فمَن غضب منها كان كلابس الأسمال الوسخة الممزقة، يغضب على آلة التصوير لأنها لم تخرج صورته لابساً الحلة الجديدة. ثم إني لا أسمّي أحداً بعينه ولا أصف أحداً بذاته، فلماذا الغضب؟

نعم، إنهم لصوص، ولكنهم لصوص من نوع جديد وقح ما سمعنا بمثله قبل اليوم. لصّ سَرّاق، ويعترض طريقك ويصرخ في

ص: 181

وجهك، يقول لك: لماذا تخفي تحفك الثمينة وتسترها عني؟

إني أخفيها -ويلك- وأسترها لئلا تسرقها. إننا نحجب بناتنا لئلا يعتدي هؤلاء اللصوص، لصوص الأعراض، على أعراضهن. أفليس لنا الحق أن نحمي أعراض بناتنا؟

هذا إذا كان هؤلاء الناس يعرفون ما العرض! لقد كتبت من أكثر من أربعين سنة أنبّه على أمر غريب، هو أن كلمة «العِرْض» بمدلولها الذي نفهمه ليس لها كلمة تُترجَم بها، ليس لها ما يقابلها، لا في اللغة الفرنسية فيما أعلم ولا في الإنكليزية وغيرها فيما أسمع. لذلك يرى الأب منهم بنته تخرج مع الشاب الأجنبي شرعاً عنها ويختلي بها، فلا يُسخطه ذلك منها ولا ينكره عليها.

* * *

هؤلاء لا فائدة من الكلام معهم. هل يفيد الكلام مع الذئب وإقناعه أن لا يحاول «الاختلاط» بالغنم؟ لكن الكلام مع البنات وآباء البنات. أليس لهؤلاء البنات آباء؟ فأين آباؤهن؟

يا إخواننا، إن المقام مقام مصارحة ومناصحة لا مقام مداراة ومجاملة، والأمر أخطر من أن يُجامَل فيه. هل يجامل الطبيب مريضه فيقول له:"صحتك جيدة، ما بك شيء"، وميزان الحرارة يشير إلى أن حرارته أربعون، أو يدلّ ميزان الضغط على أن ضغط دمه مئتان؟

فلا تؤاخذوني إن صرّحت وما لمّحت، وأوضحت وما لوّحت.

ص: 182

أيسّر الأبَ العربي المسلم أن تعود إليه بنته يوماً وفي بطنها حمل من غير زواج؟ هذا ما قد يجرّ إليه الاختلاط. أقول «قد» وهي حرف تقريب، ولو شئت لقلت «قد» الأخرى التي يقال في إعرابها إنها حرف تحقيق.

قلت يوماً في رائي (تلفزيون) عمّان عن الاختلاط في الجامعة كلمة سمعها الناس، وصدّق عليها كل من سمعها. قلت: إن من يضع الشابة العَزَبة بجنب الشاب العزب في الفصل، وينتظر ألاّ تنصرف أفكارهما إلا إلى شرح الأستاذ، ويأمن ألاّ يقع بينهما شيء، ولا بعد انتهاء الدوام، كمَن يضع الغاز المشتعل بجنب برميل البنزين المفتوح، وينام آمناً ألاّ يكون انفجار!

هذا هو الحق، فلا نكن كما يُقال عن النعامة: إنها تخفي نظرها عن الصيّاد، تظن أنه لا يراها ما دامت هي لا تراه. لقد ثبت أن هذا افتراء على النعامة وأنها لا تفعله، ولكن كثيراً من بني آدم يفعلونه!

فيا أيها الآباء انتبهوا، واسمعوا وَعُوا. إنهم يقولون: الفن، ويقولون: الرياضة، ويقولون: الروح الجامعية

وما يقصدون -صدّقوني- ما في قرارة نفوسهم إلا هذه الرغبة المجنونة للاستمتاع بجمال بناتكم.

لما كان حكم الششكلي في الشام أحدثوا حدثاً ما سبق له مثيل، مباراة في كرة السلة بين البنات، أقصد الصبايا الكاشفات. فمنعناها أولاً، ثم غُلبنا على أمرنا، والشر قد يغلب الخير. وتتابعت هذه المباريات، وكانت مناظرات بيننا وبين المروّجين لها

ص: 183

من جنود الأستاذ إبليس لعنه الله، فكان مما قاله لي واحد منهم: إنني عدو الرياضة. فقلت له: كذّاب والله، بل أنا أحب الرياضة وأمارسها، وكنت أمارس الأثقال والملاكمة وبعض المصارعة، ولا أزال أتمرن بعض التمرينات للآن. ولكن أنتم الذين تحتجّون بالرياضة لتخفوا سوء نياتكم، وإلا فخبّرني: إذا كان همكم كله أن تنزل الكرة في السلة، فلماذا تكون المقاعد خالية في مباريات الشباب وهم أقدر عليها، فإذا كانت مباريات البنات امتلأت المقاعد كلها والممرات، وركب الناس الجدار وطلعوا على الشجر؟ أجاؤوا ليشهدوا نزول الكرة في السلة، أم جاؤوا ينظرون إلى أفخاذ البنات؟ بلاش كذب وتدجيل، وكفاية قلّة حيا!

* * *

ثم إن العاقبة على البنت، فاسمعن يا بناتي، فهذا الكلام لكنّ، والمؤامرة والله عليكن أنتنّ، وستكنّ أنتنّ وحدكن الضحايا.

تشترك البنت والشاب في الإثم فيكونان فيه سواء، ولكن الناس ينسون فعلته، يقولون: شاب أذنب وتاب! ويقبلون توبته ويسترون حوبته، أما البنت فلا ينسونها لها أبداً، بل تبقى الوصمة دائماً على جبهتها. ويمضي هو خفيفاً كأنه ما صنع شيئاً، ويبقى وزر الجريمة عليها وثقلها على عاتقها أو في بطنها.

إن أمل كل امرأة في الدنيا (حتى ملكة إنكلترا، وممثلات السينما اللواتي يبلغ دخلهن الملايين)، أملها في الزواج، ولا تتزوج إلا النظيفة الطاهرة زواجاً ناجحاً من رجل شريف طاهر.

ص: 184

حتى الفاسق إذا أراد الزواج لم يرضَ الفاسدة (ولو كان هو الذي أفسدها) زوجة له وأماً لأولاده!

لا تقولوا لي هذا غير صحيح، فإني لبثت في القضاء أكثر من ربع قرن، نصفها في محكمة النقض في غرفة الأحوال الشخصية، ومرّ عليّ أكثر من عشرين ألف قضية زوجية حكمت فيها، فأنا أتكلم عن خبرة، فلا يردّ عليّ أحدٌ بلا علم.

لذلك نرى قلة الزواج والكسادَ في البنات ملازماً للفساد. ولا تقولي -يا بنتي- هذا شاب صالح وهذا زميل أو مدرس، فكل شاب في الدنيا يميل إلى الفتاة، وإن كان اليوم تقياً فربما غلبته يوماً غريزته، أو رأى إبليس منه أو منك لحظة ضعف فدفع بكما إلى الهاوية.

إذا قال لك الشاب «صباح الخير» فإنه سيقول بعدها -إذا أنت شجّعته ووصلت حبل الكلام- كلمات الحب والغرام.

ولا تغترّي بحب الرجل، فإن أكثر الرجال يحبون ليستمتعوا ثم يتملصوا ويتخلصوا، والمرأة تحب لتستمر وتُخلص. وهذا من نتائج الوضع الحيوي (البيولوجي) لكل من الذكر والأنثى، الإنسان في ذلك والحيوان سواء، عمله مؤقت وعملها دائم.

تذكّري مقالتي «يا بنتي» ؛ لقد طبعت أكثر من ثلاثين مرة، وفي كل مرة يطبع منها عشرات الآلاف وتوزع مجاناً (1)، وقد

(1) وهي في كتابي «صور وخواطر» ، وقد تُرجمت إلى الإنكليزية في الهند والباكستان وإلى الأردية وإلى الفارسية وإلى التركية.

ص: 185

ضاق بها كثير من الشبان وغضبوا منها، ولكن غضبهم ذهب جفاء والرسالة بقيت في الأرض ولله وحده الحمد.

لقد كتبتها حين كنت في عشر الخمسين من العمر، وأنا اليوم في عشر السبعين، ولكني لا أزال مقتنعاً بكل ما جاء فيها.

* * *

والإسلام لا يحارب الغرائز ولا يقول لنا: «اقتلوها» ، لأن الذي غرزها في النفوس وفطرها عليها هو الله، والذي أنزل الإسلام هو الله. فالإسلام ليس فيه رهبانية، ولكن ليس فيه أيضاً إباحية. إنه لا يقول لنا: قفوا في وجه السيل إذا أقبل! فإننا لا نستطيع أن نقف في وجه السيل، ولكن يقول: أعدّوا له مجرى آمناً يجري فيه، فلا يجرف البيوت ولا يذهب بساكنيها.

والإسلام لا يمنع شيئاً يحتاج إليه الناس ولا يحرّمه إلا أحلّ ما يقوم مقامه ويغني عنه؛ فهو قد حرّم الاتصال الناقص والاتصال الكامل غير المثمر، لأن المقصد من هذه الشهوة بقاء النوع، كما أن المقصد من الجوع بقاء الفرد. أما الاتصال الناقص، وهو النظر إلى جسد المرأة الأجنبية (ولو كانت زميلة أو سكرتيرة، أو خادمة في البيت، أو طالبة في الجامعة، أو موظفة في الحكومة) ولمسه والخلوة بالمرأة وأمثال ذلك فإنه حرام، لأنه يصرف عن المقصود الأول وهو بقاء النوع.

وأوضّح الأمر بمثال. أكثر الأسر تشكو من انصراف أولادها عن الطعام، فإذا حضر الغداء لم يقبلوا عليه ولم يصيبوا حاجتهم

ص: 186

منه، وما يعقب ذلك من سوء صحتهم وهزال أجسادهم. فما السبب فيه؟ السبب أن الولد أكل قبل الغداء بنصف ساعة كفّ شكلاطة، وقبل ذلك قطعة سكّر، وقبله تفاحة، فلا هو شبع بذلك وتغذّى ولا هو استبقى شهيته كاملة للغداء. هذا مثال «الاتصال الناقص» (كما سمّيته).

وقد خطر لي خاطر في حكمة ستر العورة. ذلك أني فكرت: لماذا شرع الله ستر العورة؟ وكل حكم في الشرع له حكمة. فوجدت أن اليد خُلقت للأخذ والعطاء والتحية والمصافحة، فلو قيّد الناس أيديهم لبطلت أعمالهم. والوجه لتعرف به الناس ويعرفوك به، وتراهم ويروك، وتسمعهم وتسمع منهم. أما ما بين السرّة والركبة فلا يصلح إلا لأحد أمرين: قضاء حاجة المرء في المرحاض، وحاجة الأزواج في المخدع. وعمل المرحاض لك وحدك، لا تدعو معك ضيوفاً ولا تُشهد عليه شهوداً، والزوجان في خلوتهما لا يسمحان لأحد بمشاهدتهما، لذلك كانت هذه المنطقة من الجسد منطقة حراماً لأنه لا حاجة لأحد بها، ولأن إظهارها يذكّر بما خُلقت له ويدعو إليه، فيكون ذريعة للوقوع في الفاحشة.

* * *

أما جريدة «الرأي العام» فلم أرها ولم أسمع بها، ولكن أعرف أن الرأي العام لا يكون الحق دائماً معه؛ فالرأي العام في مكة إبّان البعثة كان يقرر أن اللات والعُزّى آلهة تُعبَد، والرأي العام كان يقول يوماً إن الأرض مسطَّحة كالصفحة.

ص: 187

فلا تتخذوا الرأي العام حجة ولا الأكثرية دليلاً قاطعاً، فكثيراً ما يكون الحق مع القلّة. لو كان في المستشفى ثلاثة جراحين مختصين قرروا إجراء عملية عاجلة للمريض، وقررت الأكثرية في المستشفى المؤلفة من ثلاثين من الممرضات والممرضين والخدم والفرّاشين تأجيل العملية، هل نأخذ برأي الكثرة ونقول إنه «الرأي العام» ، أم نأخذ بقول الأطباء الثلاثة؟

ولو قرر ربان الطيّارة ومساعده الهبوط بها لخلل طرأ عليها أو نقص في وقودها، وأجمع الرأي العام للركاب الثمانين على الاستمرار في الطيران، هل نأخذ برأي الثمانين أم بقرار الاثنين؟

كلا، ليس الرأي العام مقياس الحق، ولا حكم الأكثرية، بل حكم الشرع وحكم العقل. والعقل والشرع صنوان لا يفترقان، ما في الشرع قضية قطعية تنافي قضية عقلية قطعية. ولكن يظهر أن بعض من يدّعي الكلام باسم «الرأي العام» يخالف الشرع والعقل معاً.

ومخالف العقل يقال له في اللغة «مجنون» ، فهل تريدون منا أن نناقش مجانين؟

* * *

يا بنتي، أعود فأقول لك: إن المؤامرة والله عليك، وهؤلاء يحفّون بك يتسابقون إليك ويتزاحمون عليك ما دمت شابة جميلة، فإذا كبرت سنك وذوى جمالك نبذوك كما ينبذون قشر برتقالة امتصوا ماءها.

ص: 188

رأيت في أمستردام في هولندا (لما كنت فيها في السنة الماضية) عجوزاً ضئيلة نحيلة ترتجف من الكبر تريد أن تجتاز الشارع، فما وجدت من يأخذ بيدها، حتى أمسك بها وأجازها شاب مسلم كان معي، فخبّرني أن هذه العجوز المهمَلة كانت يوماً من ملكات الجمال اللواتي تلقى على أقدامهن القلوب والأموال. أفهذا خير، أم عجوز تزوجت وخلفت أولاداً وأحفاداً، فهي في عز وكرامة بين أولادها وأحفادها؟

يا بنتي، إن معك جوهرة، إن معك كأساً ثمينة من البلور النادر، وأمامك السوق يشتريها منك أهله بالثمن الغالي، وعلى الطريق لصوص (حرامية) يتزلفون إليك ويخدعونك ليأخذوها منك بلا ثمن، وإذا أُخذَت لا تعود، وإذا كُسرت لا تعوَّض، فتنبّهي!

إن السوق هو الزواج، والحرامية هم دعاة الاختلاط، فلا تمنحي أحداً ذرة من جمالك إلا بعد أن تربطيه من رقبته برباط الزواج.

يا بنتي اسمعي مني، فأنا والله ناصح لك، أنا «صديق المرأة» لا هؤلاء اللصوص.

* * *

ص: 189