الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عدوان أفظع
نشرت سنة 1937
علم القرّاء نبأ ذلك العدوان الفظيع الذي ضَجّت له دمشق وهال كلَّ مسلم وكلَّ عالم فيها، ذلك العدوان على الدين الإسلامي والحقيقةِ والعلم، الذي اهتمت له جمعية العلماء في دمشق وراجعت من أجله الحكومة، وأذاعت بياناً تهدّئ به من حماسة هذا الشعب الأبيّ المسلم الذي يعرف الناسُ كلهم ماذا يفعل إذا غضب، والذي لم تُخِفْه مدافع فرنسا ودباباتها ولم تكسر من وطنيته، فكيف يخيفه هذا الخواجة المسيحي وهؤلاء الأربعون من الخواجات المسلمين، والموقفُ موقف عدوان على الدين، والدينُ أعزّ من الوطنية، وافتراء على الحقيقة، والحقيقةُ أثمن من المادة، ومسّ للعقائد، والعقائدُ فوق كل شيء؟ فسكت الشعب ينتظر على مضض.
وكان يهوّن هذا العدوانَ (ولن يَهون) أن هذا الرجل جاهل بهذه المادة فيجب ألاّ يوكَل إليه تدريسها من الأصل، وكنت أظن أنه سيتنصّل من هذه الأقوال المضحكة الظاهرة البُطلان، فإذا هو يصرّ عليها ويطلب مناظرته، فلا يقبل طالب علم في دمشق أن يتنزّل إلى مناظرته فيها، فيبعث أحد تلاميذه للردّ على مقالتي
الأولى في «الفتح» بمقالة ينشرها في جريدة لبنانية نصرانية (1)، تحمل سموم التعصب الذميم والحقد القاتل على الإسلام وأهله على التعميم، وعلى مصر وكتّابها على التخصيص، وتحاول أن تهدم بهذا الهذيان وهذه الشتائم الدنيئة وهذه الحملات الطائشة البيانَ القرآني لتقيم مكانه بياناً إنجيلياً! وكما أن البيان القرآني يأتي في أسلوبه في الذروة من العلوّ، فإن أساليبهم تجيء في الحضيض الأسفل من الركاكة التي ليس بعدها ركاكة والعيّ الذي ليس بعده عيّ. وقد فشلت دعوة ذلك القسيس اللبناني منذ سنين إلى اتخاذ اللغة العامية لغة أدب وتأليف، فاستبدلوا بها هذه الدعوة إلى أدب المعاني وطرح الألفاظ، وهذه لها موضع آخر تُشرَح فيه ويُكشَف غامضها ويُعلَن خبيئها، وهذا موضع الكلام في مقال هذا الطالب.
* * *
مقال هذا الطالب عدوان أفظع وأشد، لأن أستاذه نصراني شيوعي ولكنه هو -كما يقول في مقالته بصريح عبارته ويقسم على ذلك بالله- "مسلم يعتقد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعتقد بالملائكة والأنبياء والكتب السماوية والحشر والنشر والقضاء والقدر ويصوم ويصلي، وإنما قال ما قال غضبة للحق"
…
فانظروا إلى هذا المسلم المؤمن الصائم المصلي: عمَّ يدافع وماذا يعتقد؟ وانظروا إلى هذه الفوضى في التعليم التي
(1) هي جريدة «المكشوف» . انظر مقالة «حركة طيبة في لبنان» ، وقد مرّت في هذا الكتاب (مجاهد).
تجعل من هذا الصائم المصلي مدافعاً عن الكفر والجهل! وأفيقوا -أيها المسلمون- من نومكم، واعلموا أنه إن كان مثل هذا التلميذ المتدين قد أثمرت في نفسه ضلالاتُ هذا الخواجة وأمثاله، فماذا تصنع بغيره ممّن ليس مصلياً ولا صائماً؟ وانتبهوا إلى أبنائكم، وراقبوا المدارس، فإنه يوشك أن تُخرج المدارسُ من الولد عدوّاً لأبيه، كافراً بدينه، خصماً لقرآنه!
على أني لن أقسو على هذا الطالب ولن أردّ عليه، ولكني أحب أن آخذ من مقاله عبرة أخرى وفائدة جديدة تهمّنا في نهضتنا الجديدة. والأمر جِدّ، ونحن اليوم على مفترق الطرق، قد استيقظنا ولكنّا لا ندري أيَّ طريق نسلك، فلن نضيع الوقت بالردّ على تلاميذ مدفوعين ولا أساتذة جاهلين، ولكنا نختار طريقنا إلى غايتنا.
إن هذا المسلم المؤمن الصائم المصلي يرى أن "تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ القرآن لا يسمّى ديناً" فلا بأس إذن أن يدرّسه نصراني جاهل بالقرآن وعلومه، غريب عن علم الإسناد لا يعرف صحيح الروايات من سقيمها، ولا يعرف مصطلح الحديث ولا يعرف إليه مرجعاً إلا كتاباً صغيراً نشره مستشرق باللغة الفرنسية! على أن المفروض في هذا الطالب أنه أعقل من أن يتورط في هذه الورطة وهو في صف البكالوريا، ولكن الأستاذ -كما علمت- قد دخل الصف يحمل عدد «الفتح» الذي أخزاه الله فيه وفضحه ونكّل به، فتذلّل للطلاب وتَمَسْكن لهم وتظاهر بأنه مظلوم مسكين، والطلابُ -كما قلت في المقالة الأولى- ليس لهم وقوف على الحقيقة الدينية، وهم طيّبو القلب يُخدَعون
وتؤثّر فيهم العاطفة، ويشعرون بالجميل للمعلم الذي يمنحهم الدرجات بلا حساب (كما يفعل هذا المدرّس)، فأشفقوا عليه لمّا سمعوا ذلك منه وخُدعوا كما خُدع ذلك الأرنب بالقط الذاكر التقي الصائم المصلي (في قصة كليلة ودمنة)، فتطوع هذا الطالب المؤمن المسلم المصلي الصائم للدفاع عن القط!
ولكن ماذا يقول في الدفاع؟ لم يجد إلا قاموس الشتائم، فسبّني وشتمني فلم أبالِ بذلك، وإنما باليت واهتممت باعتقاد هذا الطالب بصحة هذا الرأي الباطل ودفاعه عنه، فهو يدافع عن دعوى الخواجة بأن أسلوب القرآن ليس جديداً (وإنما هو أسلوب السَّجْع المعروف عند عرب الجاهلية وبعض كُهّانهم) ويستدل على ذلك بكلمة لطه حسين في كتابه «الأدب الجاهلي» جاء فيها ما نصّه:"إنما كان القرآن جديداً في أسلوبه، جديداً فيما يدعو إليه الناس، جديداً فيما شرع للناس من دين وقانون".
أفرأيت فهم هذا التلميذ؟! أما كان خيراً له أن يهتمّ بدروسه التي سيُمتحَن فيها من أن يورّط نفسه في هذا الخزي وأن يستدلّ على الدعوى بضدّها؟ ثم متى كان طه حسين في «الأدب الجاهلي» حجة في حقائق الإسلام؟ أما كان يجب على هذا الطالب أن يعلم أن هذا الكتاب شَغَل دوائر القضاء ودمَغَته النيابة العمومية بشَرّ أوصاف الخزي، وأُلِّفت في الرد عليه كتب جَمّة قائمة برأسها؟ وأي هزيمة أعظم من التماس الحجة في مثل هذا المرجع الذي ظهر عُواره لكل عالم وأديب؟ هذا وليس في الذي نقله الطالب من كلام طه حجة له أصلاً.
* * *
وبعد، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ومن معاني هذا الحديث أن الله قد يبتلي هذا الدين بالفاجر المُبطل فيقول ما يوقظ المسلمين وينبّههم إلى دفعه، فيتأيّد بذلك الدينُ. ولعل هؤلاء الفجّار (من أمثال الخواجة ميشيل وعصابته ومن يرى رأيه) مصدرُ خير للمسلمين إن شاء الله، وإنّ من المصائب أحياناً ما يفيد، وقد يأخذ الإنسان من الحية أو العقرب ما ينفعه ويتداوى به.
وهذه حادثة من مئات الحوادث: هذا الخواجة المسيحي الذي يدرّس تاريخ القرآن والحديث والفقه، والذي جاء بكل ما رآه القرّاء في المقالة الماضية، يصرّ على أقواله وتبلغ به قلة الحياء إلى دعوة المسلمين إلى مناظرته فيها، ثم هو لا يزال في منصبه! ومن الطلاب المسلمين من انزلقت أرجلهم معه في كل ما يقول، يؤيدونه فيه، واستقر ذلك في نفوسهم حتى دفع هذا الطالبَ المسلم إلى الدفاع عنه! شبّان المسلمين يحالفون المدرّس الجاهل النصراني على آبائهم وإخوانهم، ويتآمرون مع الجريدة المتعصبة على دينهم وأدبهم
…
أفلا تستحق هذه الظاهرة شيئاً من اهتمام القائمين على إدارة الجبهة الإسلامية؟
أكرر القول بأننا لا نحتاج إلى الهدم حاجتَنا إلى البناء، وأن مصدر هذه الظاهرة في الشبان ليس النقص في الإيمان ولا الفطرة السيئة، فهم مولودون على الفطرة النقية والإيمانُ مستقر في أعماق نفوسهم من الصغر، ولكن مصدرها الجهلُ بالدين.
أنا أعتقد أن هذا الطالب الذي ردّ عليّ ودافع عن أمور واضحة البطلان ليس له أقل اتصال بالعلم، وهو لم يكن منافقاً ولا كاذباً، ولكنه كان مقتنعاً بينه وبين نفسه بأن ما قاله هو الحق،
وأنني مخطئ، وأن جميع علماء المسلمين متعصبون رجعيون لا يعرفون البحث العلمي الجديد! وهو معذور -في رأيي- تماماً، لأنه رأى هذا الخواجة لبقاً يدّعي المعرفة ويستطيع أن يتفاهم معه ويتفق معه في التفكير، في حين لا يرى في المشايخ من يستطيع أن يتفاهم معه. ورأى مع هذا المدرّس كتاباً مبوَّباً منظماً فيه كل ضلالاته معروضة بشكل جذّاب عليه طلاء من البحث العلمي، في حين أن كتب الحق التي هي مع علماء المسلمين أُلِّفت لعصر غير هذا العصر ولقرّاء غير هؤلاء القراء، فيُخيَّل إلى النشء الذي لم يألفها أنها ينقصها التبويب والترتيب والبحث العلمي الجديد، فيتركها مثلُ هذا الفتى المسلم ويلجأ إلى كتب أستاذه الخواجة!
فالمسألة إذن أكبر من عزل أستاذ أو إحالته على القضاء؛ إنها مسألة ناشئة المسلمين في كل بلد، مسألة أمة المستقبل تُنَشَّأ على غير الحق ويتولى قيادتَها جماعةٌ من الجاهلين المُبطلين، إذا افتُضح واحد منهم مصادَفةً فإن كثيرين لا يزالون في الخفاء.
فأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية في مصر والشام الدعوةَ إلى تأليف الكتب على الأسلوب الجديد في بيان الإسلام وحقائقه ومزاياه، وإقامة مؤتمر إسلامي عام يحضره مندوبون عن كافة الجمعيات والهيئات لبحث مسألة «التعليم والإسلام» وبيان أقصر الطرق وأقومها إلى الغاية، وانتخاب هيئات تنفيذية لتحقيق مقررات هذا المؤتمر. وبغير ذلك لا تزداد المشكلة إلا تعقيداً، حتى يأتي يوم نخشى أن لا تُحَلّ فيه أبداً لا قدّر الله.
* * *