الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة إلى الوحدة
نشرت سنة 1939
إذا أنت دققت في أحوال هذه الأمم -وهي تستكثر اليوم من أسباب القوة وتتزايد في اتخاذ العُدَد التي تدرأ عنها أخطار البركان الذي يوشك أن ينفجر في كل لحظة (1) - لرأيت أن أقوى عُددها وأمضى أسلحتها اتفاقُ بَنيها على المطمح الذي يطمحون إليه والغاية التي يبتدرونها، وأدركت أنها لن تنفع العدّةُ ولا يُجدي العَددُ أمةً أضاعت هدفها، فهي تهيم على غير هدى.
فما هو المطمح الذي نسعى إليه؟
إن لنا مطمحاً، ما في ذلك شك، ولكن الآراء تختلف على تحديده، في وقت يعمّ فيه البشرَ الرعبُ والفزع، ويتراءى فيه شبح الحرب المروّعة الجارفة، ولا يصحّ فيه اختلاف. فمنّا مَن قَصَر مطمحه على الجامعة الإقليمية الضيقة، ومنا من دعا إلى
(1) نُشرت هذه المقالة في مجلة «الثقافة» في السادس من حزيران (يونيو) سنة 1939، وبعد نشرها باثني عشر أسبوعاً اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا، في اليوم الأول من أيلول (سبتمبر)، وبدأت عندئذ الحرب العالمية الثانية رسمياً (مجاهد).
الجامعة القومية التي تضم كل عربي، ولو تناءت الديار واختلفت الأفكار، ومنا من دعا إلى الجامعة الواسعة الشاملة، الجامعة الإسلامية.
وأنا محاول تمحيص هذه الدعوات وتقويمها والكلام عليها، لا من ناحية إمكان تحقيقها أو استحالتها، بل من جهة صحتها وبطلانها ونفعها وضررها. وليس على من يدعو إلى مبدأ صحيح أن يقوم على تنفيذه، فإن تنفيذه (ما لم يكن مستحيلاً في العقل) ممكن وحاصل بالقوة، ولا يطالَب العالم الأخلاقي الذي يقبّح السرقة ويدعو إلى تطهير المجتمع منها بأن يكون مفتش شرطة، يتعقب اللصوص ليطهر منهم المجتمع بالفعل!
* * *
ولا بد لنا قبل المفاضلة بين هذه الدعوات الثلاث من الاتفاق على معنى «الأمة» ، وتحقيق الأسس التي تبنى عليها الأمم والروابط التي تؤلف بين أجزائها. ولن نتعب في هذا البحث، فقد كُتبت فيه ألوف الصفحات منذ ألقى رينان محاضرته المشهورة سنة 1882 إلى اليوم، وأصبح معروفاً أن الأرض التي تعيش عليها الأمة، واللغة التي تتكلم بها، والدين الذي تدين به ربَّها، والدم الذي يجري في عروقها، واتحاد المشاعر بين أفرادها، ونظرهم إلى الماضي نظرة واحدة تنتج في النفس شعوراً واحداً، واتفاق آمالهم بالمستقبل
…
هذه جميعاً هي التي تصنع الأمة الواحدة.
فإذا وعيت هذا وأدركته، فانظر في هذه الأقاليم العربية: هل تلقى وأنت تقطع هذا الطريق الذي يُقطَع في ساعتين، إذا جاوزت
حدود سوريا وتسلقت شعاب الجبل، هل تلقى اختلافاً جوهرياً في العادات أو في اللغة أو في الحياة الاجتماعية بين دمشق وبيروت، مثل الذي يلقاه المسافر من باريس إلى برلين؟ وتحدّث إلى من شئت من سكان البلدين، وعرّج به على الماضي واذكر له المستقبل، فإنك لا تجد تبايناً ولا اختلافاً يصحّ معه اعتبار أهل كل بلد أمة لهم قومية مستقلة.
فالدعوة إذن إلى قومية سورية أو لبنانية أو مصرية أو عراقية لغو من القول، وتكذيب للعلم، وردّ للواقع.
بقي علينا الكلام في الدعوتين العربية والإسلامية. وليس بينهما خلاف جوهري، فإنه لولا الإسلام ما كان العرب شيئاً ولا كان لهم في التاريخ ذكر، وللبثوا في آخر الأمم حضارة وعلماً، ولولا العرب ما انتشر الإسلام ولا عمّ الشعوب. ثم إن كل مسلم نصف عربيّ لأن المسلمين أمة محمد، ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي، ولأن القرآن كتابهم كتاب عربي مبين. وكل عربي نصف مسلم، لأنه لا يفتخر إذا افتخر بعرب نجد ولا عرب اليمامة، بل يفتخر بعرب دمشق وبغداد والقاهرة، وهم مسلمون عَزّوا بالإسلام. ثم إن هذه الحضارة ليست عربية خالصة وإنما هي حضارة إسلامية ساهم فيها المسلمون كلهم، وكل عظيم في العرب تلميذ لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن الاختلاف بين الدعوتين من ناحية السعة والامتداد؛ فالوحدة العربية مقصورة على أقل من سبعين مليون عربي، بينما تمتد الجامعة الإسلامية إلى ما يقارب أربعمئة مليون. وسأبين قيمة الجامعة الإسلامية العلمية والدينية، ثم أعرض إلى ما يوجَّه إليها من نقد فأجيب عليه.
أما من الناحية العلمية فالمسلمون يؤلفون أمة واحدة، ليس في الدنيا أمة أقوى منها في الروابط المعنوية وفي الإرادة العامة؛ فتاريخها واحد وآمالها واحدة، ثم إن لها من دينها روابط ليست لغيرها. وحسبك بالحج الذي يجتمع فيه أفرادها من سائر آفاق الأرض، فيقوم الصيني إلى جانب الياباني، بجوار الهندي والأفغاني، والعربي والتركي، ومن جاء من روسيا ومن قدم من بلاد الألبان
…
لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، وربهم واحد؛ فأي رجل يستطيع أن يقول بأن هذا الهندي أو هذا الفارسي غريب عنك، وأن طنوس العربي وحاييم العربي أقرب منه إليك؟!
ثم إن من معجزات الإسلام أنه استبق الأيام فأقرّ هذه الرابطة (الروحية المادية معاً) منذ أربعة عشر قرناً، مع أن العالم لم يتجه إلى مثلها إلا في هذه الأيام التي سقطت فيها -في الواقع- المبادئ العنصرية وقامت في مكانها روابط فكرية، كالشيوعية والنازية والديمقراطية
…
فلماذا لعمري تؤلف الشيوعية بين الفرنسي الشيوعي والروسي، على اختلاف الدم واللغة، ولا يؤلف الإسلام، وهو الرابطة المحكمة والعروة الوثقى، بين كافة متّبِعيه؟
أما من الناحية الدينية فإن الإسلام لم يَدَعْ للمسلم الخيار في هذا الباب، بل وضع هذه الوحدة الإسلامية موضع الأسس الكبرى من الدين، فقال الله تعالى:{إنّمَا المُؤْمِنونَ إخْوَة} ، وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، وأعلن في حجة الوداع على رؤوس الملأ أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وتلا قول الله عز وجل:{إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ} ، وقدّم النبي صلى الله عليه وسلم سلمانَ الفارسي وصُهيباً الرومي وبلالاً الحبشي،
وأخّر أبا لهب عمّ رسول الله، وجعل الله سبَّه عبادة:{تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وَتَبّ} ! وصرح صلى الله عليه وسلم بأنه ليس من المسلمين من دعا بدعوة الجاهلية. وما دعوة الجاهلية إلا هذه العصبية القومية التي تُؤْثِر رابطة الدم على جامعة الإيمان.
* * *
أما اعتراضهم على هذه الدعوة فينحصر أهمه في أن البلاد العربية ليست خالصة للمسلمين، وإنما هي مشترَكة بينهم وبين غيرهم، فالدعوة إلى المبدأ الإسلامي فيها استفزاز لهؤلاء وإيذاء لهم.
والجواب على ذلك أن هذه الدعوة من أسس الدين التي لا هوادة فيها، ولا خيار للمسلم في العدول عنها. ثم إن الإسلام حفظ لهؤلاء المواطنين غير المسلمين كل حق هو لهم، وضمن لهم من الحريات ما لا تضمن أكثرَ منه دولةٌ على ظهر الأرض لأمثالهم؛ فأي خوف عليهم من هذه الدعوة؟ ثم إن هؤلاء العرب غير المسلمين لا يتجاوزون مليونين في كافة الأقطار العربية، يقابلهم أكثر من عشرين وثلاثمئة مليون مسلم غير عربي؛ فأي عاقل يعطي ثلاثمئة وعشرين ليأخذ اثنين؟
* * *
ومن نِعَم الله أن مصر والشام لا تقولان إلا بالوحدة الإسلامية، وأن عقلاءهما يعلمون أن هذه الفكرة العربية إنما هي من صنع الإنكليز لمصلحة لهم فيها ظاهرة، وهي فصل الهند عن أقطار الشرق الأدنى. ولكن هذه الفكرة لن تعيش،
والعاقبة للإسلام، والإسلام لا يجتمع مع عصبية الجاهلية في قلب واحد (1).
* * *
(1) نشر جدي رحمه الله هذه المقالة وهو في بغداد. وكانت الدعوة إلى القومية قد اشتدّت وظهر أمرها في وزارة المعارف العراقية يومئذ، فساير قومٌ من المدرّسين الوزارةَ فدعوا بدعوتها، وأبى آخرون لكنهم ستروا معارضتهم، وقلّة جاهروا بنقد الدعوة إلى القومية ودعوا إلى الوحدة الإسلامية. وكان علي الطنطاوي من هؤلاء، فعاقبته الوزارة فنقلته على إثر هذا الموقف إلى كركوك في الشمال. انظر خبر هذا كله في الحلقة 111 من «الذكريات» ، في الجزء الرابع، وستأتي الإشارة إلى هذه الواقعة في مقالة «القومية والإسلام» في هذا الكتاب (ص310)(مجاهد).