الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله فيما سبق "باتفاق المسممين في اسم عام لا يوجب تماثلهما عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره " صريح في نفي هذا فكلامه السابق واللاحق يقرر نفي المماثلة بين المسلمين وإن حصل بينهما اشتراك في الاسم والمعنى العامين.
سمى الله نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده باسماء
…
قوله:
فقد سمى الله نفسه حيا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وسمى بعض عباده حياً! فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} وليس هذا الحي مثل هذا الحي، لأن قوله الحي اسم لله مختص به، وقوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركا بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق، ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص: المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه- سبحانه وتعالى.
وكذلك سمى الله نفسه عليما، حليما، وسمى بعض عباده عليما فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحق، وسمى آخر حليما، فقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال:{إن اللَّهَ يأمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأماناتِ إِلَى أهلهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أن اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أن اللَّهَ كان سَمِيعاً بَصِيراً} . وسمى بعض عباده سميعاً بصيرا فقال: {إنا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير. وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال: {إن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وسمى بعض عباده بالرؤوف
الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم، وسمى نفسه بالملك فقال:{الملك القدوس} وسمى بعض عباده بالملك فقال: {وَكان وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال:{أَفَمَنْ كان مُؤْمِناً كَمَنْ كان فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال:{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيز} وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة.
ش: هذا تمثيل للقاعدة السابقة وهي أن الله سمى نفسه باسم الحي كما في قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} والمخلوق يسمى باسم الحي كما في قوله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ولكن لكل منهما ما أضيف إليه من اسم الحي المتضمن صفة الحياة لا يشركه الآخر فيه.
فالآية الأولى أضيف الاسم فيها إلى الله فلا يشركه مخلوق في ذلك. والآية الثانية أضيف فيها الاسم إلى المخلوق، فلا يشركه الخالق في مدلوله الخاص وحينئذ فالخالق والمخلوق لا يتفقان إلا في الاسم والمعنى المطلق "كالحي ضد الميت " فكل من الخالق والمخلوق يسمى بحي ضد ميت، وفي هذا يكون الاشتراك فقط: وأما الحياة المضافة إلى الله فهي خاصة به حيث أنها كاملة ولم يبقها عدم ولن يطرأ عليها فناء، وحياة المخلوق تخصه فهي ناقصة حيث وهبت له بعد أن كان عدماً، ثم إنه يصير إلى الفناء والزوال وهذا معنى قول المؤلف، وليس الحي كالحي.
وقوله: وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} إلى قوله: ونظائر هذا متعددة: المراد أنه يقال في هذه الأسماء التي سمى الله بها نفسه وسمى بها بعض عباده كالعليم، والحليم، والرؤوف والرحيم، الخ. يقال في هذا مثل ما قيل في تسمية الله حياً وتسمية المخلوق بذلك فيقال: وليس الحليم كالحليم، ولا العليم كالعليم، ولا الرؤوف كالرؤوف، ولا العزيز كالعزيز، ولا الجبار كالجبار، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير لأن ما أضيف إلى الله اسم له سبحانه، مختص به، وما أضيف إلى المخلوق اسم له مختص به، وإنما يشتركان في المعنى العام في حالة التجرد عن الإضافة وقوله:" ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا ًمشتركا بين المسميين" يعني أن المعنى العام الذي يحصل فيه الاشتراك لا وجود له خارج عن الذهن بحيث يكون متشخصا في عين من الأعيان، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركا بين المسميين.
وقوله:" وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق" يعني عندما تضاف الصفة إلى واحد منهما يقيد ذلك يعني المعنى العام المطلق بما يتميز به الخالق من المخلوق، أو المخلوق من الخالق- فصفة الله كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وصفة المخلوق ناقصة وهذا هو المميز بينهما، وقوله:"ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته" يعني أن الباب في هذا باب واحد فبين أسماء الله وأسماء المخلوقات تواطؤ وتوافق في اللفظ والمعنى العام المطلق فعند القطع عن الإضافة والتخصيص يحصل التوافق بينهما، وحينما يحصل التخصيص يمتاز كل منهما بما يناسبه ويليق به، وكذلك خصائص الله التي لا يتصف بها سواه، فإنه لا اشتراك في شيء من ذلك بين الخالق والمخلوق، وكذلك خصائص المخلوق التي لا يتصف بها إلا مخلوق، هذا أيضا لا شركة فيه بين الخالق والمخلوق، وسيَأتِي لذلك أمثلة في مواضعها إنشاء الله تعالى، ومعنى
"أمشاج" أخلاط من عناصر مختلفة. ومعنى "نبتليه" نختبره بالتكاليف، و"الرأفة" معناها شدة الرحمة و"إسحاق وإسماعيل" هما ابنا إبراهيم الخليل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ".
قوله:
وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} {أنزله بعلمه} وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي قوة وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} أي ذا القوة. وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة.
ش: معناه أن الله تعالى وصف صفاته بأوصاف؟ وكذلك وصف صفات المخلوقين، بصفات، فوصف علمه بالشمول والإحاطة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} والسعة والعموم {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ووصف علم المخلوق بالقلة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وعدم السعة {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} كما وصف سبحانه قوته بالشدة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ووصف قوة المخلوق بالضعف {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} فالمعنى أن كون صفة الباري موصوفة بصفة، وصفة المخلوق موصوفة بصفة لا يوجب ذلك تماثلا: بل لكل منهما ما يناسبه! فلا تماثل بين الصفتين كما أنه لا تماثل بين الموصوفين. كما أن أوصاف الله وأوصاف
المخلوق تتفق في الاسم دون أن يقتضي ذلك تماثل.
قوله:
ووصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أن يَسْتَقِيمَ} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال: {إن هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّهُ إن اللَّهَ كان عَلِيماً حَكِيماً} وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ووصف نفسه بالمحبة ووصف نعبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال: {قُلْ إن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه، وكذلك وصف نفسه أنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال:{إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} وليس المقت مثل المقت وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} وقال: {أنهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد، ووصف نفسه بالعمل فقال:{أولَمْ يَرَوْا أنا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيدِينَا أنعَاما فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ووصف عبده بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كانوا يَعْمَلُونَ} وليس العمل كالعمل، ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة فقال:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانبِ الطُّورِ الْأيمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيا} وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} ووصف عباده بالمناداة والمناجاة فقال: {إن الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} وقال: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَان} وليس المناداة والمناجاة كالمناداة والمناجاة. ووصف نفسه بالتكليم في قوله تعالى:
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وقوله: {تِلكَ الرُسلُ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ مِنهُم مَن كَلَّمَ اللََّهُ} ووصف عبده بالتكليم في قوله {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} وليس التكليم كالتكليم. ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأنيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وليس الإنباء كالإنباء. ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبيان} وقال: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وليس التعليم كالتعليم، وهكذا وصف نفسه بالغضب، فقال:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} ووصف عبده بالغضب في قوله: {َلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَان أَسِفاً} وليس الغضب كالغضب، ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} وقوله {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} وليست اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة.
ش: قوله "ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة" إلى قوله "ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته ولا محبته مثل محبته ولا رضاه مثل رضاه" هذا شروع في التمثيل لكون الله سبحانه وصف نفسه بصفات ووصف عباده بصفات، وقوله:"ومعلوم......الخ" لف ونشر مرتب، فبعد أن ذكر الآيات الدالة على صفة المشيئة والإرادة والمحبة والرضا قال: ومعلوم أن صفة الله المضافة إليه ليست مثل الصفة المضافة إلى العبد بل لكل منهما ما يناسبه.
والإرادة لفظ فيه إجمال فيراد بها الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن" وكقول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} وقول نوح عليه السلام {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إن أَرَدْتُ أن أنصَحَ لَكُمْ إن كان اللَّهُ يُرِيدُ أن يُغْوِيَكُمْ} ولا ريب أن الله قد يأمر العباد بما لا يريده بهذا التفسير فإن الإرادة الكونية ليست مستلزمة للأمر، قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه قد أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إنشاء الله وليردن وديعته أو غصبه أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله، ونحو ذلك مما أمره الله به، فإنه إذا لم يفعل المحلوف عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله إن شاء الله فعلم أن الله لم يشأه مع أمره به.
ويراد بها الإرادة الدينية وهي التي بمعنى المحبة والرضا: وهي ملازمة للأمر كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئا لا يريده الله، إذا كان يفعل بعض الفواحش، أي أنه لا يحبه ولا يرضاه بل ينهى عنه ويكرهه. وقوله: وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت"
إلى قوله "ونظائر هذا كثيرة". يعني وهذه الآيات أيضا استشهد بها المؤلف على كون الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصف عبده بصفات، والمكر فعل شيء يراد به ضده، والكيد الاستدراج كما في الآية الكريمة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" إن الله سبحانه وتعالى يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله وعباده" وكيده سبحانه استدراجهم من حيث لا يعلمون، والإملاء لهم حتى يأخذهم على غرة فإذا فعل ذلك أعداء الله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسنا لا قبح فيه، فيعطيهم ويعاقبهم ويستدرجهم من حيث لا يعلمون" ومكره سبحانه بأهل المكر، مقابلة لهم بفعلهم عمل ممدوح لا ذم فيه وجزاء لهم من جنس عملهم، قال تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وهذه التفاسير المتقدمة للمكر والكيد ليست من باب التأويل الذي ينكره أهل السنة والجماعة، بل من باب التفسير فإن جميع الصحابة والتابعين يصفون الله سبحانه وتعالى بأنه شديد القوة، وكذلك شديد المكر، وشديد الأخذ، كما وصف نفسه بذلك في غير آية من كتابه كقوله:{إن أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} وقوله: {وَإن رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} فيعرفون معانيها ولكن لا يكيفونها ولا يشبهونها بصفات المخلوقين. وهذا مجمع عليه بين أهل السنة، وقوله في سبع مواضع، يعني كما في سورة الأعراف {إن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة يونس {أن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة طه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وفي سورة الفرقان {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} وفي سورة السجدة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وفي سورة الحديد {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .