الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيقال لهم: أولا يستحيل مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره.
وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص فإن المتكلم بهذه النصوص أما أن يكون عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين، أولا يعلم ذلك فإن لم يعلم ذلك كان ذلك قدحاً في علمه وإن كان عالما أن الحق فيها فلا يخلو أما أن يكون قادراًَ على التعبير بعباراتهم التي هي تنزيه الله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وأنه لا يعرف الله من لم ينزه اله بها، أو لا يكون قادرا على تلك العبارات فإن لم يكن قادراً على التعبير بذلك، لزم القدح في فصاحته، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، وموافقوه، ومخالفوه، فإن مخالفيه لم يشكو أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ويخلصه من اللبس والإشكال وإن كان قادراً على ذلك ولم يتكلم به، وتكلم دائما بخلافه كان ذلك قدحا في نصحه وقد وصف الله رسله بأنهم أنصح الخلق لأممهم، فمع النصح والبيان والمعرفة التامة، كيف يكون مذهب النفاة، المعطلة، أصحاب التحريف، هو الصواب، وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة باطل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند قول المؤلف إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث، ويقال لهم: ثانيا إنكم بنفيكم هذه الصفات تشبهون الله بالمعدوم، فقد فررتم مما هو تشبيه على زعمكم ولكن وقعتم في شر منه، فإن التشبيه بالمعدوم أفظع من التشبيه بالموجود.
ما يترتب على نفي الجهمية للصفات
…
قوله:
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات، قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع
الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو العلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل، فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى، ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس لهما قابلا، قيل لك: أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان، تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر. وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على الحقائق العقلية، وقد قال تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أيان يُبْعَثُونَ} .
فسمى الجماد ميتا، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم. وقيل لك ثانيا فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدا منهما، فأنت فررت من تشبيه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك. وأيضا فما لا يقبل الوجود والعدم، أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم، كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم وإذا كان ممتنعا في صرائح العقول كان أعظم امتناعا، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد.
ش: يعني إذا قال الغالي: أنا أنفي النفي والإثبات، فلا يلزمني التشبيه بالموجودات والمعدومات، قيل له: فيلزمك حينئذ التشبيه
بالممتنعات، فإن من ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ممتنع الوجود وكما يمتنع وصف الشيء بالعلم والجهل بمسألة معينة، والحياة والموت الحقيقيين والوجود والعدم يمتنع كذلك سلب هذه المتقابلات فإنهما نقيضان يلزم من ثبوت أحدهما ارتفاع الآخر، وإذا قال هذا الغالي: لا يلزم التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، إلا إذا نفيتهما عن محل قابل لهما، قيل له: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الفاقد لصفة البصر أكمل من الجماد، لأنه وإن كان فاقدا للبصر فهو قابل للاتصاف به بخلاف الجماد، فإنه ليس من شأنه الاتصاف بالبصر أو العمى.
فأنت فررت من تشبه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل الاتصاف بالكمال أو النقص. وقيل له ثانيا: بالنسبة لنفي الوجود والعدم – قولك لا يقبل الوجود والعدم – تشبيه لله بأعظم الممتنعات، فإن من ينفي عنه الوجود والعدم ممتنع، ومن ينفي عنه قبول الوجود والعدم أعظم امتناعا منه، وكذلك من يوصف بالوجود والعدم معاً ممتنع أيضا، ومن ينفي عنه قبول الوجود والعدم، أعظم امتناعا منه، فقد فررت من تشبيه الممتنع الأسهل امتناعا، ووقعت في تشبيه بالأشد امتناعا، وهو معنى قول المؤلف، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول كان أعظم امتناعا.
وأما قولك: وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فجوابنا عليه أن نقول: أولا هذا لا يصح بالنسبة للوجود والعدم، فإن التقابل بينها تقابل نقيضين باتفاق العقلاء، فيلزم ثبوت أحدهما انتفاء الآخر.
وثانيا قولك: وما لا يقبل الحياة والموت والعلم والجهل والعمى
والبصر "كالجدار" لا يوصف بذلك، جوابنا على هذه الدعوى أن نقول: هذه الدعوى غير صحيحة ففي لغة العرب وصف الجماد بالحياة والموت ونحو ذلك، وأن لم يكن الجماد على زعمك قابلا قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ} ومن جملة معبوداتهم الأصنام وفيها الجماد. والعرب تقول: "اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان" وسيَأتِي لهذا المبحث مزيد بيان في موضعه، وإنما قولك: أن ما لا يقبل الاتصاف بهذه الأوصاف لا يوصف بها – مجرد اصطلاح – لفظي اصطلحت عليه الفلاسفة المشاؤون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على الحقائق العقلية، فلا يمكن اطراح ما هو مدرك معروف بالعقل واعتبار ما هو اصطلاح لفظي والفلاسفة المشاؤون هم أتباع أرسطو – وهو المقدوني – من أهل مقدونة من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وكان مولده سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين قبل الميلاد، وتوفي سنة ثلاثمائة واثنتين وعشرين قبل الميلاد، عن ثلاث وستين سنة.
وكان يعلم الحكمة وهو ماش تحت الرواق المظلل له من حر الشمس، فسمي تلاميذه- المشائين- فتسمية أتباعه بالمشائين إنما هو أخذ من عادته.
إذ كان يلقي عليهم الدرس وهو يمشي وهم يسيرون حوله، ويسمون أيضا الرواقية نسبة إلى الرواق الذي كان يتمشا في ظله وهو يلقي الدروس، والمتقابلان بالعدم والملكة أمران: أحدهما وجودي، والآخر عدمي، فالوجودي هو الصفة الثبوتية التي تقوم بمن من شأنه الاتصاف بها كالبصر، والعلم، والعدمي هو فقدان تلك الصفة كالعمى والجهل، فإن العمى – عدم البصر – عما شأنه قبول البصر والجهل فقدان العلم عما من شأنه قبول العلم، فالوجودي هو الملكة، والعدمي فقدانها والمتقابلان بالإيجاب والسلب هما أمران يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر فالإيجاب