الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين يجعلون ظاهر النصوص هو التشبيه يغلطون من وجهين
…
قوله:
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل.
ش: الإشارة في قوله: "ذلك" راجعة إلى جعل ظاهر نصوص الصفات هو التشبيه والتمثيل بصفات المخلوقين.
وقوله: "تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ" هذا هو الوجه الأول من الوجهين اللذين يغلطون من جهتها.
وخلاصته أنهم يعتقدون أن مدلول النص باطل فيجب تأويله على خلاف ظاهره وهو في الواقع ليس مدلوله باطلا. وبالتالي فليس النص بحاجة إلى تأويل.
وقوله: "وتارة يردون المعنى الحق" هذا هو الوجه الثاني.
وحاصله أنهم ينفون المدلول الحقيقي للنص لاعتقادهم أنه يدل على تشبيه الله بخلقه، وهو في الواقع إنما يدل على اتصاف الله بصفاته اللائقة به مع نفي مماثلته لخلقه.
قوله:
"فالأول":
كما قالوا في قوله: "عبدي جعت فلم تطعمني" الحديث وفي الأثر الآخر "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
وقوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
ش: هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين".
الحديث والمعنى الفاسد الذي يتوهمون أنه ظاهر النص هو اعتقادهم أن الحديث يدل على أن الله نفسه هو المتصف بالمرض والجوع وسيَأتِي تفسيره.
وأما الحديث الثاني:
فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت والمشهور إنما هو عن ابن عباس، ولهذا قال المؤلف "مع أن هذا إنما يعرف عن ابن عباس" وعبر عنه أيضاً بقوله "وفي الأثر" والمعنى الفاسد الذي يتوهمونه ظاهر النص هو اعتقادهم أنه يدل على أن الحجر هو نفس يمين الله.
وأما الحديث الثالث:
فقد رواه المسلم في صحيحه وأحمد وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، والمعنى الفاسد الذي يتوهمون أنه ظاهر الحديث هو اعتقادهم أنه يدل على أن أصابع الرحمن متصلة بقلوب العباد اتصالا مباشراً وإليه يشير قول المؤلف:"قالو قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق".
قوله:
فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق أما "الواحد" فقوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة الله ولا هو نفس يمينه لأنه قال: "يمين الله في الأرض" وقال: "فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله، وإنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً لأنه محتاج إلى التأويل مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس، وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً "يقول الله عبدي! جعت فلم تطعمني فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين! فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده.
وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه: جوعه، ومرضه: مرضه، مفسراً ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده: فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل. وأما قوله: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها، ولا إنها في جوفه، ولا في قول القائل:"هذا بين يدي" ما يقتضي مباشرته ليديه وإذا قيل: السحاب المسخر بين السماء والأرض لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ونظائر هذا كثيرة.
ش: هذا بيان كون هذه الأحاديث لم تدل إلا على حق فليس
ظاهرها معنى فاسد وليست في حاجة إلى تأويل أما أحد هذه الأحاديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم "الحجر الأسود"الخ.
فمن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال "يمين الله في الأرض" وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق، ثم قال "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن يبين أن الله تعالى كما جعل للناس بيتا يطوفون به جعل لهم ما يستلمونه ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء فإن ذالك تقرب إلى المقبل وإجلال له كما جرت به العادة، فظنهم أن هذا وأمثاله يحتاج إلى تأويل غلط منهم لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال:"هو يمين الله في الأرض" فالقيد بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقية.
وقوله: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحاً لله ولا مقبلا يمينه لأنه المشبه ليس هو المشبه به. وقد أتى بقوله "فكأنما" وهي صريحة في التشبيه وإذا كان اللفظ صريحا في أنه جعل بمنزلة اليمين كان من اعتقد أن ظاهره حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين: وقول المؤلف "لأنه محتاج إلى تأويل" غير واضح فلعل الأصل فكيف يجعل ظاهره كفراً محتاجاً إلى تأويل فالعلة هي كون ظاهره كفراً، والمعلول هو حاجته إلى تأويل: أما على ظاهر هذه العبارة فتكون المسألة بالعكس. فلو كان هذا هو المراد لقال المؤلف فكيف يجعل محتاجاً إلى تأويل لأن ظاهره كفر وباطل والله أعلم.
وأم الحديث الثاني:
فهو كما قال المؤلف في الصحيح مفسراً "عبدي جعت فلم تطعمني قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما عملت أن عبدي فلان جاع! عبدي مرضت فلم تعدني قال رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض! " فهو نص صريح أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، وإنما الذي مرض وجاع هو عبده، وفيه إثبات التمييز بين الرب والعبد.
وقوله: لوجدتني عنده! لفظ ظرف وهو هنا يفيد ما تفيده المعية الخاصة من الإحاطة والرعاية.
ولو كان الرب المريض والجائع لكان إذا عاده وأطعمه يكون قد وجده إياه وقد وجده آكله. وفي قوله في المريض وجدتني عنده، وفي الجائع لوجدت ذلك عندي فرقان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه الطائع لإلهه الذي هو وليه: وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً} فمن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا فإن الله يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم" وقال: "أن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقتع بيد السائل" فإن الله يثبت على إطعام الفاسق والذمي وغيره فالإطعام والقرض فيه هموم لا يختص بشخص دون شخص.
وأما العيادة فإنما تكون لمن يوجد الحق عنده، والعندية التي بمعنى المعية الخاصة، إنما هي لعباد الله الصالحين.
هذه وجهة رأي في التفريق بينها والأشبه كما قال شيخ الإسلام: "إن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض وهو العبد الولي".
أما الحديث الثالث:
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ثم قرأ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية وروى بن جرير بسنده عن شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالت: قلت يا رسول الله وأن القلب ليقلب قال: "نعم ما خلق الله من نبي آدم من بشر إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه فإن شاء أقامه وأن شاء أزاغه_ فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدأنا، ونسأله أن يهب لنا رحمة أنه هو الوهاب" قالت: قلت يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي، قال بلى "قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن" رواه بن خزيمة في كتاب التوحيد كما رواه الإمام أحمد والترمذي مختصراً.
وروى بن جرير بسنده عن أنس قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلنا يا رسول الله_ قد آمنا بك وصدقنا بما جئت به فيخاف علينا؟ قال "نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك وتعالى" وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن أن شاء أقامه وأن شاء أزاغه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" والميزان بيد الرحمن يرفع قوماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة، رواه أحمد وابن ماجد وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن قلوب بني آدم كلها
بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" رواه أحمد ورواه مسلم في صحيحه. ولفظة بين لا تقتضي المخالطة ولا الملاصقة لغة ولا عرفاً. قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وهو لا يلاصق السماء والأرض.
وقوله: "ونظائر هذا كثيرة" يعني كقوله {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} وقوله صلى الله عليه وسلم "بيده الميزان الحديث".
واعلم أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق لا تدل على قول المبطل وهذا ظاهر يعرفه كل واحد من أهل البصيرة. فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق لا على باطل، ولكن قد يؤتي الإنسان من سوء فهمه فيفهم من كلام الله ورسوله معان يجب تنزيه الله سبحانه عنها فحال المبطل مع كلام الله ورسوله كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا
…
وآفته من الفهم السقيم
وكما قال الآخر:
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مراً به الماء الزلالا
ويجب على أهل العلم أن يبينوا نفي ما يظنه الجهال من النقص في صفات الله تعالى وأن يبينوا صون كلام الله ورسوله عن الدلالة على شيء من ذلك فإن القرآن بيان وهدى وشفاء وأن ضل به من ضل فإنه من جهة تفريطه كما قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاخَسَاراً} وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَأنهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} .
وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع ما يعلم بالعقل أيضاً أن الله