الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في دخول وقت العشاء بمغيب الشفق
وامتداده إلى نصف الليل على الصحيح
ويدخل وقت العشاء - كما تقدم - بغياب الشفق الأحمر، ويمتد - في أصح الأقوال - إلى نصف الليل، هذا هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة، وليس مع من قال بامتداده إلى طلوع الفجر - ولو للضرورة - دليل يصلح للتمسك به، فضلا عن رجحانه.
وتقدم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وفيه: «فإذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل»
قال ابن رجب: "في آخر وقت العشاء الآخرة، وفيه أقوال:
أحدها: ربع الليل: حكاه ابن المنذر عن النخعي، ونقله ابن منصور، عن إسحاق.
والقول الثاني: إلى ثلث الليل: روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة وعمر ابن عبد العزيز، وهو المشهور عن مالك، وأحد قولي الشافعي، بل هو أشهرهما، ورواية عن أحمد، وقول أبي ثور وغيره.
والقول الثالث: إلى نصف الليل: وروي عن عمر بن الخطاب أيضا، وهو قول الثوري والحسن بن حي وابن المبارك وأبي حنفية، والشافعي في قوله الآخر، وأحمد في الرواية الأخرى، وإسحاق، وحكي عن أبي ثور - أيضا.
وتبويب البخاري هاهنا يدل عليه.
وحمل ابن سريج من أصحاب الشافعي قوليه في هذا المسألة على أنه أراد أن أول ابتدائها ثلث الليل، وآخر انتهائها نصفه، وبذلك جمع بين الأحاديث الواردة في ذلك، ولم يوافق على ما قاله في هذا.
والقول الرابع: ينتهي وقت العشاء إلى طلوع الفجر: رواه ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، قال: إفراط صلاة العشاء طلوع الفجر، وهو قول داود، ورواه ابن وهب، عن مالك، إلا أن أصحابه حملوه على حال أهل الأعذار؛ فإن قول من قال: آخر وقتها ثلث الليل أو نصفه، إنما أراد وقت الاختيار، وقالوا: يبقى وقت الضرورة ممتدا إلى طلوع الفجر، فلو استيقظ نائم، أو أفاق مغمى عليه، أو طهرت حائض، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر بعد نصف الليل لزمهم صلاة العشاء، وفي لزوم صلاة المغرب لهم قولان مشهوران للعلماء.
وقد روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن المرأة إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، وحكي مثله عن الفقهاء السبعة، وهو قول أحمد.
وقال الحسن وقتادة وحماد والثوري وأبو حنيفة ومالك: يلزمهم العشاء دون المغرب.
وللشافعي قولان، أصحهما: لزوم الصلاتين.
واختلفوا في تأخير العشاء اختيارا إلى بعد نصف الليل: فكرهه الأكثرون، منهم: مالك وأبو حنيفة.
ولأصحابنا وجهان في كراهته وتحريمه.
وقال عامة أصحاب الشافعي: هو وقت جواز.
واستدل من لم يحرمه بما في صحيح مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني المغيرة بن حكيم، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها أخبرته، عن عائشة رضي الله عنه قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، ونام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال:«إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي» .
وهذا إن كان محفوظا دل على استحباب التأخير إلى النصف الثاني، ولا قائل بذلك، ولا يعرف له شاهد.
وإنما يتعلق بهذا من يقول: يمتد وقت العشاء المختار إلى طلوع الفجر، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول داود وغيره، إلا أنهم لا يقولون باستحباب التأخير إلى النصف الثاني، هذا مما لا يعرف به قائل، والأحاديث كلها تدل على
خلاف ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله:«الوقت ما بين هذين» .
ومثل حديث بريدة رضي الله عنه الذي فيه أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت العشاء، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرة العشاء لما غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال:«ما بين هذين وقت» . وقد خرجه مسلم، وخرج نحوه من حديث أبي موسى.
وخرج أيضا من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» .
وهذا كله يدل على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد: أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة.
وذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن الوقت بالكلية يخرج بنصف الليل أو ثلثه ويبقى قضاء.
وقد قال الشافعي: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتة.
وحمله عامة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصة. والله أعلم" (1) ا. هـ.
(1) فتح الباري لابن رجب (4/ 403).
وقال في الشرح الممتع ما نصه: "والدليل على أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى» . قالوا: فهذا دليل على أن أوقات الصلاة متصلة، وإذا كان كذلك فآخر وقت العشاء الآخرة وقت طلوع الفجر
ولكن هذا ليس فيه دليل؛ لأن قوله: «إنما التفريط على من أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى» ، يعني: فيما وقتاهما متصل، ولهذا لا يدخل فيه صلاة الفجر مع صلاة الظهر بالإجماع، فإن صلاة الفجر لا يمتد وقتها إلى صلاة الظهر بالإجماع. وإذا لم يكن في هذا الحديث دليل؛ فالواجب الرجوع إلى الأدلة الأخرى، والأدلة الأخرى ليس فيها دليل يدل على أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، بل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث جبريل، يدلان على أن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل.
وهذا الذي دلت عليه السنة، هو الذي دل عليه ظاهر القرآن؛ لأن الله عز وجل قال في القرآن:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، أي: من دلوك الشمس، لكن أتى باللام للدلالة على أن دخول الوقت علة في الوجوب، أي: سبب، ولهذا قال الفقهاء: الوقت سبب لوجوب الصلاة، وشرط لصحتها. والدليل على أن اللام بمعنى (من): الغاية (إلى)، والغاية يكون لها ابتداء، كأنه قال: من دلوك الشمس إلى غسق الليل، لكن أتى