الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14-
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ
..................................................................................................
خلقه الله، فإن الجنة والأنبياء والملائكة ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم وعلى ما يفضي إليه1.
قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله تعالى أو يدعو غيره " قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون".اهـ.
"قلت " فبين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة وهو دعاء المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث، وقد نهى تعالى عن دعاء غيره الأخص والأعم في كتابه، كما يأتي بيانه، فكل ما قصد به غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله كدعوة الأموات والغائبين فهو من الشرك الذي لا يغفره الله، والأدلة على ذلك من القرآن والسنة أكثر من أن تحصر.
وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 ففي هذه الآية النهي عن أن يدعى أحد من دونه تعالى، وأخبر تعالى أن غيره لا يضر ولا ينفع. قوله:{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3 والظلم في هذه الآية هو الشرك كما قال تعالى عن لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 4 وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
1 قال الأستاذ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى -: "لا بد أن يريد بالألم الحسي والمعنوي ، ولو قال الضرر لكان أعم ، ولعله تفسير للشر في الحديث ، لا للشر المطلق". وقال الراغب: "الشر الذي يرغب عنه كل الناس والخير ضده ، وقسمهما إلى مطلق ومقيد ، ويرد عليه (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) ، وأطلق في القرآن على العمل وعلى المكان وعلى الكفار ، وعلى الصم البكم الذين لا يعقلون الشيء ، وهو أعم الألفاظ" اهـ.
2 سورة يونس آية: 106.
3 سورة يونس آية: 106.
4 سورة لقمان آية: 13.
فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} 1 الآية {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 2، وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3 الآيتان، وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 4.
..................................................................................................
بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ} هذا في حق المستغيث، أخبر الله تعالى أنه هو الذي يتفضل على من سأله ولا يقدر أحد أن يمنعه شيئا من فضل الله عليه فهو المعطي والمانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وفي هذا المعنى ما في حديث ابن عباس.
وفيه: " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "5 فمن تدبر هذه الآية وما في معناها علم أن ما وقع فيه الأكثر من دعوة غير الله هو الظلم العظيم، والشرك الذي لا يغفر، وأنهم قد أثبتوا ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في الإلهية، ونفوا ما أثبتته من الإخلاص كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 6 والدين هو طاعة الله فيما أمر به وشرعه ونهى عنه وحرمه، وأعظم ما أمر به التوحيد والإخلاص، وأن لا يقصد العبد بشيء من عمله سوى الله تعالى الذي خلقه لعبادته، وأرسل بذلك رسله، وأنزل به كتبه {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 7، وأعظم ما نهى عنه الشرك به في ربوبيته وإلهيته. قوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 8.
فهذه الآية تبين وتوضح ما تقرر في الآية قبلها، فأخبر تعالى أنه لا أضل ممن يدعو أحدا من دونه كائنا من كان، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لما طلب منه من ميت أو غائب أو ممن لا يقدر على الاستجابة مطلقا من طاغوت ووثن، فليس لمن دعا غير الله إلا الخيبة والخسران، ثم قال تعالى:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 9 كما قال في آية يونس: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} 10 إلى قوله: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 11. ثم قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 12 فلا يحصل للمشرك يوم القيامة إلا نقيض قصده، فيتبرأ منه ومن عبادته، وينكر ذلك عليه أشد الإنكار، وقد صار المدعو
1 سورة آية: 106-107.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 سورة الأحقاف آية: 5 – 6.
4 سورة النمل آية: 62.
5 تقدم تخريجه ص (53) رقم (2) .
6 سورة الزمر آية: 2-3.
7 سورة النساء آية: 165.
8 سورة الأحقاف آية: 5-6.
9 سورة الأحقاف آية: 5.
10 سورة يونس آية: 28.
11 سورة يونس آية: 29.
12 سورة الأحقاف آية: 6.
وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل "1.
..................................................................................................
للداعي عدوا، ثم أخبر تعالى أن ذلك الدعاء عبادة بقوله:{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 فدلت أيضا على أن دعاء غير الله عبادة له، وأن الداعي له في غاية الضلال، وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما طم وعم حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولا عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله تعالى، وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان.
لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان كما جرى للأمم مع الأنبياء والمرسلين لما دعوهم إلى توحيد الله، جرى لهم من شدة العداوة ما ذكره الله تعالى كما قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 3 ويشبه هذه الآية في المعنى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4 أخبر الله تعالى أن ذلك الدعاء شرك بالله وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فتدبر هذه الآيات وما في معناها كقوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5 {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 6 وهو في القرآن أكثر من أن يستقصى.
قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 7، وهذا مما أقر به مشركو العرب وغيرهم في جاهليتهم كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 8 أخبر تعالى أنهم يخلصون الدعاء له إذا وقعوا في شدة. قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 9 يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم؟ وقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} يقول تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجح الله عليكم يسيرا فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
1 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 159 ، وقال الطبراني: ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث " أقول: وابن لهيعة خلط بعد احتراق كتبه". وأخرجه أحمد في "المسند" 5/ 317 ولفظه عنده: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقام لي ، إنما يقام لله تبارك وتعالى" ، وفي سنده أيضا ابن لهيعة وراو لم يسم ، وانظر (مجمع الزوائد)(8/ 40) .
2 سورة الأحقاف آية: 6.
3 سورة الذاريات آية: 52-53.
4 سورة فاطر آية: 13-14.
5 سورة الجن آية: 18.
6 سورة الجن آية: 20.
7 سورة النمل آية: 62.
8 سورة العنكبوت آية: 65.
9 سورة النمل آية: 60.
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 1.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
"وروى الطبراني " هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قوله:"فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق " الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم منه "قلت ": فلعله أراد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يترك المنافقين يفعل بهم ما يستحقونه ولكنه لم يفعل مخافة أن يفتتن بعض المؤمنين من قبيلة المنافق، وفي السنة ما يدل على ذلك كما فعل مع ابن أبي وغيره. وقيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلي الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته الاستغاثة بمن لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يستجيب من الأموات والغائبين والطواغيت والشياطين والأصنام وغير ذلك، وقد وقع من هذا الشرك العظيم ما عمت به البلوى كما تقدم ذكره حتى إنهم أشركوهم مع الله في ربوبيته وتدبير أمر خلقه، كما أشركوهم معه في إلهيته وعبوديته، والوسائل لها حكم الغايات في النهي عنها والله أعلم.
1 سورة يونس آية: 106.