الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان:" فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 1 أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوله.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله" " على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
1 البخاري: الصلاة (425)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .
3-
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
..................................................................................................
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
أي ولا عذاب، وتحقيقه تصفيته وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والإصرار على الذنوب، فمن كان كذلك فقد حقق توحيده، وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه كما قال تعالى في يوسف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} 1 وفي قراءة:
1 سورة يوسف آية: 24.
" المخلصين " وهم في صدر الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله عليه السلام:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض، أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. حنيفا: أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كقوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 3، وقال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: في الآية يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه، ولهذا قال:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر، فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله، كما تقدم في الباب قبل هذا.
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. والأمة: هو الإمام الذي يقتدى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال:{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6، وقال مجاهد:" كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار "
"قلت ": وكلا القولين حق فقد كان الخليل عليه السلام – كذلك، وقول مجاهد- والله أعلم- لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 7 الآيات، وقوله:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 8 فهذا- والله أعلم- كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره وبذلك جاء الحديث9.
1 سورة الأنعام آية: 78-79.
2 سورة الأنعام آية: 79.
3 سورة النساء آية: 125.
4 سورة لقمان آية: 22.
5 سورة النحل آية: 120.
6 سورة النحل آية: 120.
7 سورة مريم آية: 41-42.
8 سورة الصافات آية: 83-84.
9 البخاري رقم (2217) في كتاب البيوع: باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه ، وفي كتب أخرى ، ومسلم رقم (2371) في الفضائل: باب من فضائل ايراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، وأبو داود رقم (2212) ، والترمذي رقم (3165) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
..................................................................................................
وقوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته، وكسر الأصنام وصبر على ما أصابه في ذات الله، وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه كما قال تعالى:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 وأنت تجد أكثر من يقول لا إله إلا الله، ويدعي الإسلام، يفعل الشرك بالله في عبادته بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم ويخافهم ويرجوهم، وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة، ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه، وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته، فالله المستعان.
وقوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: أي من إحسانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون وجلون من مكره بهم كما قال الحسن البصري: " المؤمن من جمع إحسانا وشفقا. والمنافق من جمع إساءة وأمنا " {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} 3 أي يؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية لقوله تعالى عن مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 4 أي أيقنت أن ما كان فهو من قدر الله وقضائه وما شرعه الله، وإن كان أمرا فهو ما يحبه الله ويرضاه وإن كان نهيا فهو ما يكرهه الله ويأباه، وإن كان خبرا فهو حق كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 5 أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لا يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له.. انتهى.
"قلت": فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد ومعرفته على الحقيقة ومحبته وقبوله والدعوة إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 6 وتضمنت هذه الآية كمال التوحيد وتحقيقه وبالله التوفيق.
1 سورة المؤمنون آية: 57-59.
2 سورة البقرة آية: 131.
3 سورة المؤمنون آية: 58.
4 سورة التحريم آية: 12.
5 سورة المؤمنون آية: 59.
6 سورة الرعد آية: 36.
عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " 1 قال: قد أحسن
..................................................................................................
قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن " هو الحارثي من تابعي التابعين عن الشعبي.
قال: "كنت عند سعيد بن جبير " هو الوالبي مولاهم الفقيه عن ابن عباس وخلق، قال اللالكائي: ثقة إمام حجة. قتله الحجاج بن يوسف فما أمهله الله بعده. قوله: "فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " يعني كوكبا رجم به تلك الليلة، يقال البارحة لليلة الماضية إذا زالت الشمس، وأما قبل الزوال فيقال: الليلة. قوله "فقلت: أنا " أي أنا رأيته "ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة " قال ذلك حذرا من الشرك لئلا يظن الحاضرون أنه قام من الليل للعبادة فيكون قد ادعى لنفسه ما لم يفعله، فما أشد حذر التابعين ومن قبلهم من الشرك دقيقه وجليله، والحذر من أن يحمد بما لم يفعله. فما أعز من سلم من الشرك كما سيأتي.
قوله: "ولكن حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: " حدثنا عن بريدة ابن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "2.
هذا الحديث قد روي مرفوعا، والشعبي اسمه عامر بن شراحيل الحميري الشعبي الإمام، روى عن عمر وعلي وابن مسعود ولم يسمع منهم. وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق. قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء توفي سنة ثلاث ومائة. وبريدة هو ابن الحصيب ابن عبد الله بن الحارثي الأسلمي، أسلم قبل بدر وعمل على اليمن في أيام النبي صلي الله عليه وسلم صحابي مشهور.
قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة " 3 هذا- والله أعلم- في أول الأمر ثم رخص في الرقى إذا كانت بحق، والله اعلم.
قوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ".
فيه حسن الأدب مع العلم وأهله، وأن من فعل شيئا سئل عن مستنده في فعله هل كان مقتديا أم لا، ومن لم يكن معه حجة شرعية فلا عذر له بما فعله. ولهذا ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد ليس من أهل العلم فتفطن لهذا.
1 مسلم: الإيمان (220) ، وأحمد (1/271) .
2 مسلم: الإيمان (220) ، وأحمد (1/271) .
3 مسلم: الإيمان (220) ، وأحمد (1/271) .
من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم،
..................................................................................................
قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس " هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم النبيى حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلي الله عليه وسلم فقال:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " 1 وصار آية في العلم والفهم وكثرة ما روى من الأحاديث على أنه من صغار الصحابة لكن طلب الحديث من كبار الصحابة فحفظ الأكثر مما كان عندهم رضي الله عنهم أجمعين.
قوله: "أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: عرضت علي الأمم ".
قلت: فالله أعلم متى عرضت، وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم. فمن نجا بالإيمان بالله وما بعث به أنبياءه ورسله من دينه الذي شرعه لهم، وهو عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، والأخذ بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه كما قال تعالى عن قوم نوح:{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 2 فعبادته وتوحيده وطاعته بامتثال ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه وطاعة رسوله. هذا هو الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع فعلا وتركا، وأن يقدم طاعة رسوله على ما يحبه ويهواه.
قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط " الرهط: العشره فما دون "والنبي ومعه الرجل والرجلان " أي أتباعه "والنبي وليس معه أحد " أي يبعث في قومه، فلا يتبعه منهم أحد. كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 3، وفيه دليل على أن الناجي من الأمم هم القليل، والأكثر غلبت عليهم الطباع البشرية، فعصوا الرسل فهلكوا كما قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 4 وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
1 رواه بهذا اللفظ أحمد 1/ 266 و 314 و328 و 335 ، وكذلك الطبراني وانظر "مجمع الزوائد" (9/ 276 ورواه البخاري رقم (143) في الوضوء: باب وضع الماء عند الخلاء ، بلفظ:"اللهم فقه في الدين"، ومسلم رقم (2477) في فضائل الصحابة: باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، دون قوله " في الدين " والبخاري رقم (75 و 3756 و 7270) بلفظ " اللهم علمه الكتاب " ، والبخاري رقم (3756) بلفظ (اللهم علمه الحكمة) .
2 سورة آية: 2-3.
3 سورة الحجر آية: 10-11.
4 سورة الأنعام آية: 116.
فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا
..................................................................................................
لَفَاسِقِينَ} 1وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} 2 وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والناجون - وإن كانوا أقل القليل - فهم السواد الأعظم، فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا. فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة، وقد اغتر بهم كثيرون، حتى بعض من يدعي العلم اعتقدوا في دينهم ما يعتقده الجهال الضلال، ولم يلتفتوا إلى ما قاله الله ورسوله.
قوله: " إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه "فيه فضيلة أتباع موسى من بني إسرائيل ممن آمن منهم بالرسل والكتب التي أنزلها الله، التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وغيرها. وكانت بنو إسرائيل قبل التفرق كثيرين وفيهم الأنبياء، ثم بعد ذلك حدث ما حدث من اليهود، وهذا الحديث يدل على أن التابع لموسى عليه السلام كثيرون جدا. وقد قال تعالى:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 3 أي في زمانهم وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر بالله خلقا لا يحصون، كحزب جالوت وبختنصر وأمثالهم، ففضل الله بني إسرائيل بالإيمان، فصاروا أفضل أهل زمانهم، وحدث فيهم ما ذكر الله في سورة البقرة وغيرها من معصيتهم لأنبيائهم واختلافهم في دينهم، وقد ذكره الله تعالى محتجا به على اليهود الذين كفروا بمحمد صلي الله عليه وسلم، فتدبر ما ذكره الله تعالى من أحوالهم بعد الاختلاف. قوله:"ثم نظرت فإذا سواد عظيم ". وفي رواية "قد سد الأفق "، "فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ". فيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلي الله عليه وسلم، وقد كثروا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم فملئوا القرى والأمصار والقفاز وكثر فيهم العلم، واجتمعت لهم الفنون في العلوم النافعة، فما زالت في هذه الأمة على السنة في القرون الثلاثة المفضلة. وقد قلوا في آخر الزمان، قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مسائله: وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، فالكمية الكثرة والعدد والكيفية فضيلتهم في صفاتهم، كما في هذا الحديث بقوله:"ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ".
قوله: "ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك " أي: الحاضرون في
1 سورة الأعراف آية: 102.
2 سورة الروم آية: 42.
3 سورة الجاثية آية: 16.
رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال بعضهم: فلعلهم الذي ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن. فقال: ادع الله أن
..................................................................................................
ذكرهم هذا الحديث، وفيه أيضا فضل الصحابة رضي الله عنهم في مذاكرتهم العلم وحرصهم على فهم ما حدثهم به نبيهم صلي الله عليه وسلم حرصا على العمل به. وفيه جواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل لأنهم قالوا ما قالوا باجتهادهم، ولم ينكر صلي الله عليه وسلم ذلك عليهم، لكن المجتهد إذا لم يكن معه دليل، لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه، بل يقال: لعل الحكم كذا وكذا كقول الصحابة رضي الله عنهم في هذا الحديث.
قوله: " فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون "أي لا يطلبون الرقية من أحد ولا يكتوون إذا كان فيهم ما يستشفي بالكي منه، ولا يتطيرون والطيرة شرك فتركوا الشرك رأسا ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها وتركوا الكي، وإن كان يراد للشفاء. والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله وتفويضهم أمورهم إليه. وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبره وقضاه فلا يرغبون إلا إلى ربهم، ولا يرهبون إلا منه ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم، فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم، قال تعالى عن يعقوب عليه السلام:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} 1.
قوله: "فقام عكاشة بن محصن " صحابي مشهور شهد بدرا والمشاهد كلها مع النبي صلي الله عليه وسلم وهو من بني أسد بن خزيمة قتله طليحة بن خويلد شهيدا، وكان قد سار مع خالد بن الوليد لقتال أهل الردة فقاتل بني أسد لردتهم عن الإسلام، وكان فيهم طليعة وقد ادعى النبوة وصدقوه، فأكرم الله عكاشة على يده لما كان كافرا ثم بعد ذلك هداه الله إلى الإسلام، وجاهد الفرس مع سعد بن أبي وقاص، وصار له في الفرس وقائع معروفة في السير، وكان ممن استشهد في قتالهم في وقعة الحيرة المشهورة.
قوله: "فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم " فيه أن شفاعة الحي لمن سأله الدعاء إنما كانت بدعائه، وبعد الموت قد تعذر ذلك بأمور لا تخفى على من له بصيرة. فمن سأل ميتا أو غائبا فقد سأل ما لا يقدر عليه. وكل من سأل أحدا ما لا يقدر عليه إلا الله فقد
1 سورة يوسف آية: 86.
يجعلني منهم. قال: " أنت منهم"، ثم قام رجل فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: " سبقك بها عكاشة "1.
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
جعله ندا لله كما كان المشركون كذلك، وقال تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2 أنه ربكم وخالقكم ومن قبلكم، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فلا ترغبوا عنه إلى غيره بل أخلصوا له العبادة بجميع أنواعها فيما تطلبونه من قليل أو كثير.
قوله: "أنت منهم " لما كان يعلمه صلي الله عليه وسلم من إيمانه وفضله وجهاده كما في الحديث " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "3.
قوله: " ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة "والظاهر أنه أراد صلوات اللة وسلامه عليه سد الذريعة، لئلا يتتابع الناس بسؤال ذلك فيسأله من ليس أهلا له. وذلك منه صلي الله عليه وسلم تعريض كما لا يخفى.
1 البخاري رقم (3410) في الأنبياء: باب وفاة موسى ، ورقم (5705) في الطب: باب من اكتوى أو كوى ، ورقم (5752) باب من لم يرق ، ورقم (6472) في الرقاق: باب (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ، ورقم (6541) باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب ، ومسلم رقم (220) في الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب ، والترمذي رقم (2448) في صفة القيامة: باب رقم (17) وأحمد في " المسند" 1/ 271 ، والدارمي رقم (2810) في الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي بغير حساب. انظر ما قال الحافظ في "الفتح" 11/06-409.
2 سورة البقرة آية: 22.
3 البخاري رقم (3007) في الجهاد: باب الجاسوس وفي كتب أخرى ، ومسلم رقم (2494) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم ، والترمذي رقم (3202) ، وأحمد 1/ 80 من حديث علي رضي الله عنه.