الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
39-
باب " الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم
"
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
.....................................................................................................
قوله: "باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1 " الآية.
قال العماد ابن كثير: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ها هنا، وكل من عبد شيئا دون الله بأي نوع كان من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحا كانت عبادة العابد له واقعة على الشيطان الذي أمره بعبادته وزينها له كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 3 والآية بعدها، وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه كالطواغيت، أو كان شجرا أو حجرا أو قبرا كاللات والعزى ومناة وغير ذلك، مما كان يتخذه المشركون لهم أصناما على صور الصالحين والملائكة أو غير ذلك فهي من الطاغوت الذي أمر الله عباده أن يكفروا بعبادته ويتبرءوا منه، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنا من كان، فالتوحيد هو الكفر بكل ما عبد من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} الآية4، فلم يستثن من كل معبود إلا الذي فطره سبحانه وتعالى، هذا معنى لا إله إلا الله كما تقدم في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} 4 إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5، وكذلك من خالف حكم الله ورسوله بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله أو مع الجهل بذلك، أو طلب ذلك أن يتبع عليه أو أطاعه فيما لا يعلم أنه حق إذا كان المطيع له لا يبالي أكان أمره حقا أم لا، فهو طاغوت بلا ريب كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة سبأ آية: 40-41.
3 سورة يونس آية: 28-29.
4 سورة الممتحنة آية: 4.
5 سورة الممتحنة آية: 4.
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 2. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 3 الآية.
.....................................................................................................................
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن قد نفى ما نفته لا إله إلا الله.
قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} أي بعيدا عن الهدى ففي هذه الآية أربعه أمور:
"الأول " أنه من إرادة الشيطان. "الثاني " أنه ضلال. "الثالث " تأكيده بالمصدر "الرابع " وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله ما أعظم القرآن وما أنفعه لمن تدبره، وما أبلغه وما أدله على أنه كلام رب العالمين أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 4، فإن المنافق يكره الحق وأهله ويهوى ما يخالفه من الباطل، وهذه حال أهل النفاق. قال العلامة ابن القيم: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين - "قلت ": فما أكثرهم لا كثرهم الله - قال: و"يصدون" لازم وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره "صدودا" فما أكثر من اتصف بهذا الوصف خصوصا من يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطئ كثيرا ممن ينتسب إلى مذهب من مذاهب الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده فيما يخالف الدليل، فصار المتبع للرسول صلي الله عليه وسلم من أولئك غريبا، وقد عمت البلوى بهذا.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض، وفي الآية التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى.
قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 5 قال أبو بكر بن عياش في الآية:
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة البقرة آية: 11.
3 سورة الأعراف آية: 56.
4 سورة النساء آية: 61.
5 سورة الأعراف آية: 56.
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 1 الآية.
.....................................................................................................................
إن الله بعث محمدا صلي الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلي الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض. قال ابن القيم:"قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك، والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع ومتبع غير رسول الله صلي الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل فتنة في العالم وبلاء وشر وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله". انتهى. وبما ذكرنا يتبين مطابقة الآية للترجمة.
قوله: "وقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية " قال ابن كثير: ينكر تعالى من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير والنهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار، من السياسات المأخوذة عن جنكيزخان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسه من شرائع شتى وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، وصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير.
قوله: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ استفهام إنكار أي لا حكم أحسن من حكمه، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكما لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده القادر على كل شيء الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
1 سورة المائدة آية: 50.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "1. قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح.
...........................................................................................................
قوله: "عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناده صحيح " هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في "كتاب الحجة على تارك المحجة " بإسناد صحيح كما قال المصنف عن النووي، ورواه الطبراني وأبو بكر ابن عاصم والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحاح الأخبار. وشاهده في القرآن قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3، وقوله:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 4 ونحو هذه الآيات.
قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" الهوى بالقصر أي ما تهواه وتحبه نفسه، فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق الذي يوجب لصاحبه الجنة والنجاة من النار، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب فيطلق عليه مؤمن بقيد، لنقص إيمانه بالمعصية كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين
1 تعقبه الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" ص 338 – 339 فقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه:
منها: أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة، وخرج له البخاري، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن لصلابته في السنة وتشدده في الرد على أهل الأهواء، وكانوا ينسبونه إلى أنه يتهم ويشبه عليه في بعض الأحاديث، فلما كثر عثورهم على مناكيره حكموا عليه بالضعف. - ونقل كلام الأئمة، ثم قال -:
ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، فيروي عنه الثقفي عن هشام، وروي عنه عن الثقفي، حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام، أو غيره، وعلى هذه الرواية يكون الشيخ الثقفي غير معروف عنه. وروي عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره، فعلى هذه الرواية فالثقفي رواه عن شيخ مجهول، وشيخه رواه عن غير معين، فتزداد الجهالة في إسناده.
2 سورة النساء آية: 65.
3 سورة الأحزاب آية: 36.
4 سورة القصص آية: 50.
يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "1 فيكون مسلما ومعه مطلق الإيمان
1 البخاري رقم (2475) في المظالم: باب النهي بغير إذن صاحبه ، رقم (5578) في الأشربة ، في فاتحته ، رقم (6772) في الحدود: باب الزنا وشرب الخمر ، ورقم (0 681) في المحاربين: باب إثم الزناة ، ومسلم رقم (57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية ، وأبو داود رقم (4689) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه ، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن ، والنسائي 8/64 في السارق: باب تعظيم السرقة ، وأحمد في " المسند" 2/243 و 317 و 376 و 386 و 479 ، وابن ماجه رقم (3936) في الفتن: باب النهي عن النهبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. انظر " جامع الأصول " رقم (1927) و (9369) و (9370) . قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في " شرحه على صحيح مسلم 2/41 – 42:"هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان ، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره ، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة ، وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره ، من قال: "لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" ، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا إلى آخره ، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته ، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان ، إن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا ، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة ، وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه ، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما ، وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا ، وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحربمه ، وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المومنين ، ويستحق اسم الذم فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق ، وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن معناه ينزع منه نور الإيمان ، وفيه حديث مرفوع ، وقال المهلب: ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى ، وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وأنا لا نعلم معناها ، وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم ، وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها، وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة، والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا والله أعلم".
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة; فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد - لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة -، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ.....} 1 الآية ".
........................................................................
الذي لا يصح إسلامه إلا به، وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر، وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة لا يطلقون عليه الإيمان، ويقولون بتخليده في النار وكلا الطائفتين ابتدع في الدين وترك ما دل عليه الكتاب والسنة. وقد قال تعالى:{ِإنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 فقيد مغفرة ما دون الشرك بالمشيئة، وتواترت الأحاديث بما يحقق ما ذهب إليه أهل السنة، فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير "3.
قوله: "وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود " إلخ. في قصة عمر وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلي الله عليه وسلم والأذى
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة النساء آية: 48.
3 قطعة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المطول في الشقاعة رواه البخاري رقم (44) في الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه ، و (4476) و (6565) و (7410) و (7440) و (7509) و (7510) و (7516)، ومسلم رقم (193) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة منها ، وابن ماجه رقم (4312) ، وأحمد في " المسند3/ 116 و 244.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلي الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلي الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} 1.
الثالثة: تفسير آية الأعراف {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 2.
الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 3.
الخامسة: ما قاله الشعبي في نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم.
......................................................................................................
له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده، وحل به قتله وقصة قتله مذكورة في كتب الأحاديث4 والسير وغيرها.
1 سورة البقرة آية: 11.
2 سورة الأعراف آية: 56.
3 سورة المائدة آية: 50.
4 البخاري رقم (2510) و (3031 و 3032) و (4037) في المغازي باب قتل كعب بن الأشرف ومسلم رقم (1801)، في الجهاد: باب قتل كعب بن الأشرت طاغوت اليهود ، وأبو داود رقم (2768) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.