الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
40 -
باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1 الآية.
.....................................................................................................................
قوله "باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 2 الآية " سبب نزول الآية معلوم، وهو أن قريشا جحدوا اسم الرحمن عنادا. قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 فالرحمن اسمه وصفته، فالرحمة وصفه القائم به، فإذا كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه الذي دل على كماله تعالى فجحدوا معناه كجحود لفظه، فإن الجهمية يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة، فلهذا كفرهم كثير من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
…
بل حكاه قبله الطبراني
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم من أهل الكلام على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسول الله صلي الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل فاسد أصلوه من عند أنفسهم، ولم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولا، وعطلوا ثانيا، وشبهوا ثالثا بكل ناقص أو معدوم، فتركوا ما دل عليه صريح الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4.
وقد صنف أئمة السنة لما حدثت بدعة الجهمية مصنفات كثيرة في الرد عليهم كالإمام أحمد وابنه عبد الله والخلال وأبي بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأبي عثمان الصابوني وخلق من أئمة السنة لا يمكن حصرهم، وكذلك من بعدهم كأبي محمد موفق الدين وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن في طبقتهم كالعماد ابن كثير والحافظ ابن الهادي وابن رجب والذهبي وغيرهم من أهل السنة والجماعة، وكتبهم مشهورة موجودة بين أهل السنة والجماعة، فلله الحمد على ظهور الحق ونشره والدعوة إليه والمحافظة عليه.
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة الرعد آية: 30.
3 سورة الإسراء آية: 110.
4 سورة الشورى آية: 11.
وفي "صحيح البخاري" قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ "1.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه
.....................................................................................................................
قوله: "قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ "" وهذا، - والله أعلم -، قاله حين كثر القصاص في خلافته وصاروا يذكرون أحاديث ليست من الأحاديث المعروفة، ولهذا كثر الوضع بهذا السبب، وغير المعروف يحتمل أن يكون فيه ما يصح وفيه ما لا يصح؛ فإذا سمعه من لم يعرفه أنكره وربما كان حقا فلا ينبغي التحديث إلا بما صح وثبت واشتهر عند المحدثين والفقهاء، وما ليس كذلك فلا ينبغي أن يحدث به لاحتمال أن يكون غير صحيح، وقد " كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى عن القصص؛ لما فيه من التساهل في النقل ويقول لا يقص إلا أمير أو مأمور ".
قوله: "وروى عبد الرزاق " هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرا، ومعمر بفتح الميمين وسكون العين أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني من أصحاب محمد بن شهاب الزهري ويروي عنه كثيرا.
قوله: "عن ابن طاوس " هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية. وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن أبيه " هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون الإمام العالم، قيل: اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي. "قلت " وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: من خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم
1 1/225 تعليقا في العلم: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
رأى رجلا انتفض - لما سمع حديثا عن النبي صلي الله عليه وسلم في الصفات، استنكارا لذلك - فقال:" ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" "1 انتهى.
.....................................................................................................
من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء، قال: إنه لينبغي ذلك، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي، قال: قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن البصري، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: ويلك ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال: قلت: يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط ".
قوله: "ما فرق هؤلاء " يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضرون مجلسه، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن حصل منهم فرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين للمعنى، ولا يتم الإيمان إلا بقبول اللفظ بمعناه الذي دل عليه ظاهرا، فإن لم يقبل معناه أو رده أو شك فيه لم يكن مؤمنا به فيكون هلاكا. وقد ظهر من البدع في زمن ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان، قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر، ثم بعد ذلك أظهر الجعد ابن درهم بدعة الجهمية فقتل، قتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد.
قال الذهبي: حدثنا وكيع عن إسرائيل بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال:"أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها" أخرجه عبد الله في الرد على الجهمية، والواقع من أهل البدع
1 اسناده صحيح.
ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر: "الرحمن " أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1.
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمَّد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه هلكة.
......................................................................................................
وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس، وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم2 وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 3 الآية " روى ابن جرير عن ابن عباس قال: " كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ساجدا يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ".
1 سورة الرعد آية: 30.
2 قال الأستاذ محمد رشيد رضا – رحمه الله: "لا يعني فهم اللغة العربية؛ فإن الصحابة – رضي الله عنهم – لم يستذكروا شيئا من ذلك، ولم يروا أنهم في حاجة لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل اللغة، عرفوا آيات التنزيل فحالت عندهم دون حمل النصوص على التشبيه، فلم يشبهوا ولم يعطلوا، ولم يبتغوا الفتنة فيتأولوا".
3 سورة الرعد آية: 30.