الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17-
باب الشفاعة
وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 1.
..................................................................................................
قوله: "باب الشفاعة " الشفاعة نوعان: "النوع الأول " شفاعة منفية في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2، وقال:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقال:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4، ونحو هذه الآيات كقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 5. يخبر تعالى أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله، أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع هذه الشفاعة، وأخبر أنها شرك بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 7 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 8. فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعا يزعم أنه يقربه إلى الله وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته؛ لأنه جعل لله شريكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه، كما يحب الله تعالى أو أعظم.
"النوع الثاني " الشفاعة التي أثبتها القرآن، وهي خالصة لأهل الإخلاص وقيدها تعالى بأمرين:
"الأمر الأول " إذنه للشافع أن يشفع، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 9. وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب، فإذا رحمه تعالى أذن للشافع أن يشفع له.
"الأمر الثاني " رضاه عمن أذن للشافع أن يشفع فيه، كما قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 10، فالإذن بالشفاعة له بعد الرضا كما في هذه الآية، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
قوله: "وأنذر " الإنذار هو الإعلام بأسباب المخالفة والتحذير منها. قوله: "به " أي القرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وهم أهل الإخلاص الذين لم يتخذوا لهم شفيعا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد
1 سورة الأنعام آية: 51.
2 سورة البقرة آية: 254.
3 سورة المدثر آية: 48.
4 سورة البقرة آية: 48.
5 سورة يونس آية: 18.
6 سورة يونس آية: 18.
7 سورة الزمر آية: 3.
8 سورة الزمر آية: 3.
9 سورة البقرة آية: 255.
10 سورة الأنبياء آية: 28.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1.
..................................................................................................
سواه فيما يرجون نفعه ويخافون ضره. قال الفضيل بن عياض: " ليس كل خلقه عاتب إنما عاتب الذين يعقلون ".
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2، قال الزجاج: موضع ليس نصب على الحال كأنه قال متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه يخافون.
قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، وتركوا التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه.
قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 3 دلت الآية أن الشفاعة له سبحانه، لأنها لا تقع إلا لأهل التوحيد بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في الآية السابقة. وقال تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} 4 الآية، فلا شفاعة إلا لمن هي له سبحانه؛ ولا تقع إلا ممن أذن له فيها، فتدبر هذه الآيات العظيمة في اتخاذ الشفعاء5.
وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 6 يبطل التعلق على غيره سبحانه؛ لأنه الذي انفرد بملك كل شيء فليس لأحد في ملكه مثقال ذرة دونه سبحانه وبحمده، والإسلام هو أن تسلم قلبك وجوارحك لله بالإخلاص، كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم:" فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: "الإسلام" قال: وما
1 سورة الزمر آية: 44.
2 سورة الأنعام آية: 51.
3 سورة الزمر آية: 44.
4 سورة يونس آية: 3.
5 الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة ، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. النوع الأول: الشفاعة الأولى ، وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين -. النوع الثاني والثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة ، وفي أقوام آخرين قد أمر به الى النار ألا يدخلوها. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. النوع الخامس: الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب. النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. النوع السابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة. النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها. اهـ ملخصا " شرح العقيدة الطحاوية " بتحقيقنا ص 223- 231 طبعة دار البيان بدمشق.
6 سورة البقرة آية: 107.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 3 الآيتين.
..................................................................................................
الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة "4، والآيات في بيان الإخلاص كثيرة، وهو أن لا يلتفت القلب ولا الوجه في جميع الأعمال كلها إلا لله وحده، كما قال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5، فأمره تعالى بإخلاص الدعاء له وحده، وأخبر أنه الدين الذي تصح معه الأعمال وتقبل. قال شيخ الإسلام:"الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه".
قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 6 تقدم معنى هذه الآية.
قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، فإذا كان هذا في حق الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 7، فظهر من هذه الآيات المحكمات ما يبين حقيقة الشفاعة المثبتة في القرآن التي هي ملك لله لا يملكها غيره، وقيد حصولها بقيدين كما في هذه الآية وغيرها، كما تقدم قريبا إذنه للشافع أن يشفع، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} ، ورضاه عمن أراد رحمته ممن أذنب من الموحدين، فاختصت الشفاعة بأهل الإخلاص خاصة، وأن اتخاذ الشفعاء من دين المشركين قد أنكره الله عليهم فيما تقدم من الآيات.
قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} الآيتين. قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون "
…
إلخ.
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة النجم آية: 26.
3 سورة سبأ آية: 22.
4 رواه أحمد 5 / 3 وإسناده حسن.
5 سورة غافر آية: 14.
6 سورة البقرة آية: 255.
7 سورة آية: 26-29.
وقال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع "2.
وقال له أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "3 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه وهو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2 هو جزء من حديث الشفاعة العظمى الطويل الذي رواه البخاري رقم (3340) في أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) ورقم (3361) باب قوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)، ورقم (4712) في تفسير سورة بني إسرائيل: باب قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا)، ومسلم (194) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، والترمذي رقم (2436) في صفة القيامة: باب ما جاء في الشفاعة ، وأحمد في "المسند" 2/ 436 و540 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 البخاري رقم (99) في العلم: باب عظة الإمام النساء ، ورقم (6570) في الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب ، وأحمد في " المسند" 2/ 373.