المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب - كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ باب " حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌ باب الخوف من الشرك

- ‌ باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌ باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌ باب من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌ باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌ باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌ باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌ باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ باب "في التوحيد وغربة الدين

- ‌ باب "في بيان الحجة علي إبطال الشرك

- ‌ باب الشفاعة

- ‌ باب " في أن الأعمال بالخواتيم، ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر

- ‌ باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌ باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌ باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌ باب ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌ باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌ باب ما جاء في السحر

- ‌ باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌ باب ما جاء في النشرة

- ‌ باب ما جاء في التطير

- ‌ باب ما جاء في التنجيم

- ‌ باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌ باب "من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر

- ‌ باب "اليقين يضعف ويقوى

- ‌ باب "التوكل من شروط الإيمان

- ‌ باب "في الوعيد من أمن مكر الله

- ‌ باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

- ‌ باب ما جاء في الرياء

- ‌ باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌ باب " الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم

- ‌ باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

- ‌ باب "معرفة النعمة وإنكارها

- ‌ باب "الحلف بغير الله شرك

- ‌ باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌ باب قول ما شاء الله وشئت

- ‌ باب من سب الدهر فقد آذى الله

- ‌ باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌ باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌ باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلي الله عليه وسلم فهو كافر

- ‌ باب "التحدث بنعمة الله تعالى وذم جحدها

- ‌ باب " تحريم كل اسم معبد لغير الله

- ‌ باب "دعاء الله بأسمائه الحسنى وترك من عارض من الجاهلين الملحدين

- ‌ باب لا يقال السلام على الله

- ‌ باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌ باب لا يقول: عبدي وأمتي

- ‌ باب لا يرد من سأل بالله

- ‌ باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب ما جاء في "لو

- ‌ باب النهي عن سب الريح

- ‌ باب "لا يظن بالله ظن السوء إلا المنافقون والمشركون

- ‌ باب ما جاء في منكري القدر

- ‌ باب ما جاء في المصورين

- ‌ باب ما جاء في كثرة الحلف

- ‌ باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلي الله عليه وسلم

- ‌ باب ما جاء في الإقسام على الله

- ‌ باب لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌ باب ما جاء في حماية النبي صلي الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

- ‌ باب ما جاء في قول الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

الفصل: ‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقول:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1

الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم عند موته.

الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا.

الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.

الخامسة عثرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.

السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.

السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.

الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.

التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.

العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.

الحادية والعشرون: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.

الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.

الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.

الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.

1 سورة النساء آية: 36.

ص: 11

2-

‌ باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 الآية.

..................................................................................................

"باب فضل التوحيد " الباب هو المدخل إلى الشيء. قوله: "وما يكفر من الذنوب". "ما " مصدرية أي وتكفيره الذنوب. ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي والذي يكفره من الذنوب، والمراد بالتوحيد توحيد العبادة، وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة. كالدعاء والذبح والنذر ونحوه، كما قال تعالى:

1 سورة الأنعام آية: 82.

ص: 11

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " أخرجاه1.

ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "2.

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3، وقال تعالى:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4.

..................................................................................................

وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5. واللبس الخلط. والمراد بالظلم هنا الشرك الأكبر؛ لما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره مرفوعا: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "6.

1 البخاري رقم (3435) في الأنبياء: باب قول الله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} ، ومسلم رقم (28) في الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، والترمذي رقم (2640) في الإيمان: باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، وأحمد في "المسند" 5 / 314.

2 البخاري رقم (425) في الصلاة: باب المساجد في البيوت ، ورقم (1186) و (5401) و (6423) و (6938)، ومسلم في الإيمان: رقم (33) و (263) في المساجد: باب الرخصة في التخلف عن الجماعة ، وأحمد في " المسند" 4 / 44 و5 /449.

3 سورة غافر آية: 14.

4 سورة غافر آية: 65.

5 سورة الأنعام آية: 82.

6 البخاري رقم (32) في الإيمان: باب ظلم دون ظلم ، ورقم (3360) في الأنبباء: باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} ورقم (3428 و 3429) باب: قول الله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} ورقم (4629) في التفسير سورة الأنعام: باب (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ورقم (4776) وفي تفسير سورة لقمان: باب " لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " ورقم (6918) في استتابة المرتدين: باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة ، ورقم (6937) : باب ما جاء في المتأولين ، ومسلم رقم (124) في الإيمان: باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعد ، والترمذي رقم (3069) في التفسير: باب ومن سورة الأنعام ، وأحمد في " المسند" 1 / 424 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 12

أراد أن من لم يجتنب الشرك لم يحصل له أمن ولا اهتداء بالكلية. وأما من سلم منه فيحصل له من الأمن والاهتداء بحسب مقامه في الإسلام والإيمان. فلا يحصل الأمن التام والاهتداء التام إلا لمن لم يلق الله بكبيرة مصرا عليها. وأما إن كان للموحد ذنوب لم يتب منها حصل له من الأمن والاهتداء بحسب توحيده. وفاته منه بقدر معصيته، كما قال:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1.

فالظالم لنفسه هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنبه ونجاه بتوحيده من الخلود في النار.

وأما المقتصد فهو الذي عمل بما أوجب الله عليه، وترك ما حرم عليه فقط، وهذه حال الأبرار.

وأما السابق فهو الذي حصل له كمال الإيمان باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا.

فهذان لهم الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، فالكل للكل والحصة للحصة، لأن كمال الإيمان يمنع صاحبه من المعاصي وعقوباتها، فلم يلق ربه بذنب يعاقب به، كما قال تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} 2. وهذا الذي ذكرته في معنى هذه الآية هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، وابن القيم رحمه الله في معناها، وهو الذي دل عليه القرآن، وهو قول أهل السنة والجماعة، خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم.

قوله: "من شهد" لا ريب أن الشهادة لا تكون شهادة إلا إذا كانت عن علم ويقين وصدق، وأما مع الجهل والشك فلا تعتبر ولا تنفع، فيكون الشاهد والحالة هذه كاذبا لجهله بمعنى الذي شهد به، وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك:"لا إله"، وأثبتت الإلهية لله وحده بقولك:"إلا الله". قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.

فكم ضل بسبب الجهل بمعناها من ضل وهم الأكثرون، فقلبوا حقيقة المعنى فأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجن وغير ذلك. واتخذوا ذلك دينا وشبهوا وزخرفوا واتخذوا التوحيد بدعة.

1 سورة فاطر آية: 32.

2 سورة النساء آية: 147.

3 سورة آل عمران آية: 18.

ص: 13

وأنكروه على من دعاهم إليه، فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم1 فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من القبور والمشاهد والطواغيت ونحوها، فأولئك عرفوا هذا المعنى وأنكروه، وهؤلاء جهلوا هذا المعنى وأنكروه، فلهذا تجده يقول لا إله إلا الله، وهو يدعو مع الله غيره.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا.

وقال الوزير أبو المظفر - رحمه الله تعالى - في "الإفصاح" قوله: شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 3. قال: واسم الله مرتفع بعد إلا من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت وعلى الإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله كنت ممن كفر بالطاغوت، وآمن بالله.

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.

وقال البقاعي: "لا إله إلا الله"، أي انتفى نفيا عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم قال: وهذا العلم هو من أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما

1 قال الأستاذ محمد رشيد - رحمه الله تعالى -: سبب ذلك أن عرب الجاهلية هم أهل لغة القرآن الفصحاء فلا يجهلون شيئا من معنى التوحيد الذي قرره. وأما هؤلاء الذين فشا فيهم شرك العبادة فليسوا من أهل ملكة هذه اللغة ، وإنما يدينون بالاصطلاحات التي تلقاها بعضهم من بعض من كلامية وعامية ، وإذا كان مثل الفخر الرازي من أكبر أئمة متكلميهم وأصوليهم أخطأ في فهم معنى الإله في تفسير:" قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " ، فما الظن بمن دونه من علمائهم ، دع عامهم ودهماءهم؟ هل يستغرب منهم الجهل بأن من دعا ميتا أو صالحا حيا فيما لا يدعى فيه إلا الله ، أو طاف بقبره ونذر له يكون عابدا له ، ومتخذا له إلها اهـ.

2 سورة الصافات آية: 35-36.

3 سورة محمد آية: 19.

ص: 14

يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.

"قلت ": وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته "لا إله إلا الله" من الشرك، وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 1.

قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح.

قوله: في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس، وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده، وقد استحكمت فيها الغربة، ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله، فليراجع لمسيس الحاجة إليه.

قوله في الحديث: "وحده لا شريك له " تأكيد لمعنى لا إله إلا الله الذي دلت عليه ووضعت له من باب اللف والنشر المقدم والمؤخر، وهو بيان لمعنى هذه الكلمة؛ لأنها دلت بجملتها على التوحيد، فلا إله تنفي الشرك في العبادة قليله وكثيره، وبينه بقوله:"لا شريك له" في إلهيته وهي العبادة.

وقوله: "وحده " هو معنى "إلا الله" فهو الإله الحق وحده دون كل ما سواه من أهل السماوات والأرض، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات ومتواتر الأحاديث، فتدبر هذا البيان يطلعك على بطلان قول من يقول بجواز دعوة غير الله، والله تعالى يقول لنبيه:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2 وغيرها من الآيات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

فقوله: " وحده" تأكيد للإثبات.

وقوله: " لا شريك له " تأكيد للنفي.

وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله " أي وشهد أن محمدا عبده ورسوله، أي بصدق ويقين، وذلك يقتضي اتباعه وتعظيم أمره ونهيه ولزوم سنته صلي الله عليه وسلم، وأن لا تعارض بقول أحد؛ لأنه غيره صلي الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ، والنبي صلي الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى وأمرنا بطاعته والتأسي به، والوعيد على ترك طاعته بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

1 سورة الزمر آية: 2.

2 سورة الشعراء آية: 213.

ص: 15

أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1 الآية. وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

وقد وقع في التفريط في المتابعة وتركها وتقديم أقوال من يجوز عليهم الخطأ على قوله صلي الله عليه وسلم لا سيما من العلماء كما لا يخفى.

قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله " فيه بيان الحق الذي يجب اعتقاده كما في الآيات المحكمات، وما فيه من الرد على كفار النصارى وهم ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إن عيسى هو الله. وطائفة قالوا: ابن الله. وطائفة قالوا: ثالث ثلاثة: يعنون عيسى وأمه، فبين تعالى في كتابه الحق وأبطل الباطل فقال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 3 والآيات بعدها.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} في مواضع من المائدة 4.

وأخبر تعالى عما قاله المسيح عليه السلام وهو في المهد فقال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً. وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً. ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 5.

فبين تعالى الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن خرج عنه هلك، وقال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 6 فبين تعالى الصراط المستقيم بيانا شافيا ووافيا وأقام حججه على توحيده فأحق الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون.

قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي قوله: كن، فخلقه بكن فكان، ففيه إثبات صفة

1 سورة الأحزاب آية: 36.

2 سورة النور آية: 63.

3 سورة النساء آية: 171.

4 آية: 17، 72.

5 سورة مريم آية: 27-36.

6 سورة آل عمران آية: 59-60.

ص: 16

الكلام لله تعالى خلافا للجهمية أيضا.

قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم عليه السلام، وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1 الآيات. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى.

وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت. وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريح: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها. انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق يقول كن فكان كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 2، فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه، وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} ، فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى عليه السلام بل المخلوقات كذلك كلها كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 3 أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته، وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله فإنهم كانوا هم والنصارى في طرفي نقيض، فنسبوه إلى أنه ولد بغي قاتلهم الله فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها.

فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم عليه السلام أعظم الغلو والكفر والضلال، واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء، وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا، نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وبين تعالى الحق والصدق ورفع قدر المسيح عليه السلام، وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب والشورى، وأمر نبيه صلي الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4 فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي صلي الله عليه وسلم أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قوله: "وأن الجنة حق" أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، وما فيها من القصور والثمار والفواكه والنعيم المقيم والنظر إلى وجه الله الكريم، كما قال تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 5، وقال:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6.

"والنار حق" أعدها الله تعالى لمن كفر به وأشرك في إلهيته وربوبيته، وألحد في أسمائه وصفاته. ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل، فإن الله تعالى بين

1 سورة الأعراف آية: 172 - 174.

2 سورة الحجر آية: 29.

3 سورة الجاثية آية: 13.

4 سورة الأحقاف آية: 35.

5 سورة هود آية: 108.

6 سورة السجدة آية: 17.

ص: 17

الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم، وذكر أنها دار المتقين، وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك.

قوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" جواب من الشرطية أي من شهد أن لا إله إلا الله إلى آخره أدخله الله الجنة، أي بإخلاصه وصدقه والإيمان برسوله وما أرسل به، وخالف النصارى واليهود في الغلو والجفاء في حق عيسى، وعلم يقينا أنه عبد الله ورسوله، وآمن بالجنة والنار، فمن كان كذلك أدخله الله الجنة، وإن كان مقصرا وله ذنوب فهذه الحسنة العظيمة ترجح بجميع السيئات، فتدبر هذا الحديث فإنه عظيم والله أعلم.

قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم وهذا حديث طويل اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"، وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر، فإن من لم يكن مخلصا فهو مشرك، ومن لم يكن صادقا فهو منافق، والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى، وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قال الخليل عليه السلام:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 1. وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} 2، وقال الخليل عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 والحنيف هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ معه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4 فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق وهو معنى الآية ونحوها إجماعا، فهذا هو الذي ينفعه قول: "لا إله إلا الله "، ولهذا قال تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 5، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر، كما ترى عليه أكثر الخلق فهؤلاء وإن قالوها، فقد تلبسوا بما يناقضها فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا، والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع الشك.

ومما قيدت به في الحديث قوله صلي الله عليه وسلم: " غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله صدقا من قلبه خالصا من قلبه، وكذلك من قالها غير صادق في قوله، فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص، ولما دلت عليه هذه الكلمة

1 سورة البقرة آية: 128.

2 سورة النمل آية: 44.

3 سورة الأنعام آية: 79.

4 سورة لقمان آية: 22.

5 سورة البقرة آية: 256.

ص: 18

وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان، والحاكم وصححه 1.

مطابقة، فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة، ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله لا إله إلا الله، كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون لا إله إلا الله وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله، وقد قال الخليل عليه السلام لأبيه وقومه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 2. وهي لا إله إلا الله، وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه، وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما تقدم تقريره، وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك، ونفي ما أثبتته من الإخلاص.

فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة، وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى، فيصرفه عن اتباع الحق، وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم.

قوله: لا إله إلا الله ف "لا" نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثنى، وخبرها محذوف تقديره لا إله إلا الله. قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3 فإلهيته تعالى هي الحق، وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة، كما في هذه الآية ونظائرها فهذه كلمة عظيمة هي العروة الوثقى، وكلمة التقوى وكلمة الإخلاص، وهي التي قامت بها السماوات والأرض، وشرعت لتكميلها السنة

1 رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (834) و (1141)، وقال الحافظ في " الفتح " 11 / 208: أخرجه النسائي بسند صحيح ، وصححه ابن حبان رقم (2324) ، والبغوي في " شرح السنة" 5 / 54 و 55 من حديث دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة ، ومع ذلك فقد صححه الحاكم 1 / 528 ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 82: رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا ، وفيهم ضعف.

2 سورة آية: 26-27.

3 سورة الحج آية: 62.

ص: 19

والفرض ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها ظهر الفرق بين المطيع والعاصي من العباد. فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا، وقبولا ومحبة وانقيادا، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، وفي الحديث الصحيح:" أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير "1. وفي حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: " يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟. فيقول: لا يا رب فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي وحسنه2.

قوله: " لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري "أي كل من في السماوات والأرض. وقوله "غيري" استثنى ممن في السماوات نفسه لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس كما قال تعالى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 3 علو القهر وعلو القدرة وعلو الذات، فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله، كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 5 في سبعة مواضع من كتابه كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 6. وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 7 وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 8، وقال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 9، وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة وألحد في أسمائه وصفاته، ومعنى هذه الكلمة نفي الإلهية عن كل شيء

1 رواه مالك في " الموطأ " 1 / 214 - 215 في القرآن: باب ما جاء في الدعاء ، من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز وهو مرسل صحيح الإسناد ، والترمذي رقم (3579) في الدعوات: باب في دعاء يوم عرفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وفي سنده عند الترمذي: محمد ابن أبي حميد ابراهيم الأنصاري الزرقي أبو ابراهيم المدني ، لقبه حماد وهو ضعيف كما قال الحافظ في "التقريب". فالحديث ثابت بمجموع شواهده كما قال الألباني في "الأحاديث الصحيحة". رقم (1503) .

2 الترمذي رقم (2641) في الإيمان: باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، وأحمد في "المسند" 2/ 213 ، وابن ماجه رقم (4300) في الزهد: باب ما يرجى من رحمة الله عز وجل يوم القيامة ، وإسناده صحيح ، وصححه ابن حبان رقم (2524)"موارد"، والحاكم 1 / 6 و 529. انظر " الأحاديث الصحيحة " رقم (135) .

3 سورة البقرة آية: 255.

4 سورة طه آية: 5.

5 سورة الفرقان آية: 59.

6 سورة فاطر آية: 10.

7 سورة النحل آية: 50.

8 سورة المعارج آية: 4.

9 سورة آل عمران آية: 55.

ص: 20

سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى، وفيه النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة، وقد ذكر سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود، "فمنهم " من يقولها جاهلا بما وضعت له وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه والصدق والإخلاص وغيرها كعدم القبول ممن دعا إليها علما وعملا، وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا، ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. "ومنهم " من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة منها قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} 1 إلى قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2.

وأما أهل الايمان الخلص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه، وقد ذكرهم تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم، والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار كما قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3، وقال:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4 فهؤلاء ومن اتبعهم بإحسان هم أهل لا إله إلا الله وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة، فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته، وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا وترك ما يكرهه خشية ورجاء، واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وإرادتهم وما هم عليه من التفاوت البعيد تبين له خطأ المغرورين كما في الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني "5.

1 سورة التوبة آية: 24.

2 سورة التوبة آية: 24.

3 سورة التوبة آية: 71.

4 سورة التوبة آية: 100.

5 الترمذي رقم (2461) في صفة القيامة: باب رقم (26) وحسنه ، وأحمد في "المسند" 4 / 124 ، وابن ماجه رقم (4260) في الزهد: باب ذكر الموت والاستعداد له من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، وصححه الحاكم 1 / 57 ، وفي سنده. أبو بكر ابن أبي مريم الغساني وهو ضعيف ، وقال الذهبي: لا والله أبو بكر واه ، فالحديث ضعيف كما قال الألباني في " ضعيف الجامع" رقم (4310) .

ص: 21

وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم; لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة "1.

فيه مسائل:

الأولى: سعة فضل الله.

الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.

الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.

الرابعة: تفسير الآية " 82 " التي في سورة الأنعام.

الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.

السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده، تبين لك معنى قول:" لا إله إلا الله" وتبين لك خطأ المغرورين.

السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.

قوله: وللترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة "2.

في هذا الحديث ما بين معنى "لا إله إلا الله" التي رجحت بجميع المخلوقات، وجميع السيئات وأن ذلك هو ترك الشرك قليله وكثيره، وذلك يقتضي كمال التوحيد، فلا يسلم من الشرك إلا من حقق توحيده وأتى بما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الكلمة العظيمة كما قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 3.

1 الترمذي (3534) في الدعوات: باب غفران الذنوب مهما عظمت من حديث أنس وحسنه ، ورواه الدارمي (2791) ، وأحمد في " المسند" 5 / 172 من حديث أبي ذر ، والطبراني من حديث ابن عباس ، وهو حديث حسن كما قال الألباني في " الأحاديث الصحيحة" رقم (127) .

2 الترمذي: الدعوات (3540) .

3 سورة الشعراء آية: 88-89.

ص: 22