الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى)
وَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مَا هُوَ صِدْقٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَهُوَ خَبَرُ الرَّسُولِ عليه السلام وَذَلِكَ هُوَ الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ، وَقِسْمٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ صِدْقِهِ وَهُوَ مَا مَرَّ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ عَارَضَ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ وَقْفَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَسْقُطُ بِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ الْخَبَرُ الْمَطْعُونُ الَّذِي رَدَّهُ السَّلَفُ وَأَنْكَرُوهُ وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَحِقَهُ الطَّعْنُ وَالنَّكِيرُ مِنْ رَاوِي الْحَدِيثِ وَنَوْعٌ آخَرُ مَا لَحِقَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الرَّاوِي.
وَهَذَا
(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي)
وَهَذَا النَّوْعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مَا أَنْكَرَهُ صَرِيحًا، وَالثَّانِي أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ أَوْ بَعْدَ مَا بَلَغَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ،
ــ
[كشف الأسرار]
كَمَا سَمِعَهَا.
وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ النَّبِيَّ عليه السلام مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ؛ لِأَنَّا لَمْ نُجَوِّزْ النَّقْلَ فِي الْجَوَامِعِ وَلَا فِيمَا لَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ إنَّمَا جَوَّزْنَاهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَالِمًا بِأَوْضَاعِ الْكَلَامِ أَوْ فِيمَا لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ جَامِعًا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ عَادَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَفِي تَفْصِيلِ الرُّخْصَةِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا تَمَسُّك لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَمَا سَمِعَ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى نَقْلِ الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّ الشَّاهِدَ أَوْ الْمُتَرْجِمَ إذَا أَدَّى الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ يُقَالُ إنَّهُ أَدَّى كَمَا سَمِعَ وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّأْدِيَةَ حَسَبَ مَا سَمِعَ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِرُجُوعِ الضَّمَائِرِ إلَى الْمُقَابَلَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام دَعَا لِمَنْ حَفِظَ اللَّفْظَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ لَا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى]
(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى) قُسِّمَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ بَابِ بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْخَبَرِ وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَاهُ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ رَاجِعًا إلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الْقُوَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى إذْ الْمُتَوَاتِرُ وَالْمَشْهُورُ وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُوَّةَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا صُورِيٌّ.
قَوْلُهُ (وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ عَارَضَ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ وَقْفَهُ) أَيْ عَارَضَ كَوْنَهُ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ غَيْرَ حُجَّةٍ وَيَمْنَعُهُ عَنْ إيجَابِ الْعَمَلِ وَيَجِبُ فِيهِ التَّوَقُّفُ مِثْلُ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَنَحْوِهِ
[بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي]
(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ رَاوِيهِ)
النَّكِيرُ اسْمٌ لِلْإِنْكَارِ أَيْ يَلْحَقُهُ إنْكَارٌ مِنْ قِبَلِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَيُسَمَّى رَاوِيًا بِاعْتِبَارِ نَقْلِهِ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَوْ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْ قِبَلِ عَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَقْلِ السَّامِعِ عَنْهُ، وَفِي الصِّحَاحِ النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغَيُّرُ الْمُنْكَرِ فَكَأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ بِالطَّعْنِ وَالتَّكْذِيبِ يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ الَّذِي ارْتَكَبَهُ الرَّاوِي عَلَى زَعْمِهِ قَوْلُهُ (أَمَّا إذَا أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ) ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَمَّا إنْ أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ إنْكَارَ جَاحِدٍ مُكَذِّبٍ بِأَنْ قَالَ مَا رَوَيْتُ لَك هَذَا الْحَدِيثَ قَطُّ أَوْ كَذَبْت عَلَيَّ أَوْ أَنْكَرَهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ بِأَنْ قَالَ لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْت لَك هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَذِبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَدْحِ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمَا لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِهَا فَلَا يُتْرَكُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ كَبَيِّنَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلَا وَلَمْ تَسْقُطْ عَدَالَتُهُمَا وَفَائِدَتُهُ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْضَ مَا احْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ مِنْ تَأْوِيلٍ أَوْ تَخْصِيصٍ، وَالرَّابِعُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ. أَمَّا إذَا أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لَا يَسْقُطُ وَهُوَ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي بِقَضِيَّةٍ وَهُوَ لَا يَذْكُرُهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله لَا تُقْبَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ تُقْبَلُ.
أَمَّا مَنْ قَبِلَهُ فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ حَيْثُ قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَذْكُرْ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَحْمِيلِ الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ بِإِنْكَارِهِمْ، وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ كُنَّا فِي إبِلٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ» فَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ فَتَكْذِيبُ الرَّاوِي - وَعَلَيْهِ مَدَارُهُ - أَوْلَى، وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام ذَكَرَهُ فَعَمِلَ بِذِكْرِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ فَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى
ــ
[كشف الأسرار]
تَظْهَرُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْخَبَرِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ إذَا جَحَدَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَكَذَّبَ بِالْحَدِيثِ سَقَطَ الْحَدِيثُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَأَقُولُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَسْقُطَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ.
وَإِنْ قَالَ مَا رَوَيْتُهُ أَصْلًا فَيُعَارِضُهُ قَوْلُ الرَّاوِي إنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رَوَاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الرَّاوِي بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ يَسْقُطُ بِهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَالشَّيْخَيْنِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُنْكِرْ، وَمَا قِيلَ إنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عُلَمَائِنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ رَاوِي الْأَصْلِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زَوْجَ الْمُعْتَدَّةِ لَوْ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِخْبَارَ فَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهَا حَتَّى يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله لَا يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ إلَّا فِي حَقِّهَا حَتَّى حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ لَهُ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا لِاتِّصَالِ الْخَبَرِ بِهَا وَإِسْنَادِهِ إلَيْهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يُضِفْ الْخَبَرَ إلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَبْلَهُ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام رَدَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ حَدِيثَهُ حَتَّى عَمِلَ بِقَوْلِ النَّاسِ أَوْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ بَعْدَ الرَّدِّ لَمَا عَمِلَ بِهِ عليه السلام هَكَذَا ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ اسْمُ ذِي الْيَدَيْنِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ نَضْلَةَ وَقِيلَ اسْمُهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ ذُو الشِّمَالَيْنِ الَّذِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ وَاسْمُ ذُو الْيَدَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ لَقَبُهُ الْخِرْبَاقُ، وَبِأَنَّ حَالَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلَةٌ فَإِنَّ حَالَ الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ وَحَالَ الْمُنْكِرِ يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ وَالْغَفْلَةَ إذْ النِّسْيَانُ قَدْ يَرْوِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَنْسَى بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَا يَتَذَكَّرُهُ أَصْلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلٌ ثِقَةٌ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَبْطُلُ مَا تَرَجَّحَ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ الرَّاوِي بِعَدَالَتِهِ بِنِسْيَانِ الْآخَرِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَجُنُونِهِ فَحَلَّ لِلرَّاوِي الرِّوَايَةُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ إذَا أَنْكَرَ لَا يَحِلُّ لِلْفَرْعِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّحْمِيلِ فَإِذَا أَنْكَرَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّحْمِيلُ وَبَقِيَ الْعِلْمُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمَاعِ دُونَ التَّحْمِيلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْخَطَأِ، وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ بِأَنْ سَمِعَ غَيْرَهُ فَنَسِيَهُ وَهُمَا فِي الِاحْتِمَالِ عَلَى
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَمْ يَحْمِلْهُ الْمُحَدِّثُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِسَمَاعِهِ حَلَّ لِلسَّامِعِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَإِذَا أَنْكَرَهَا وَالْمُدَّعِي مُصَدَّقٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بَقِيَ السَّمَاعُ فَحَلَّ لَهُ الرِّوَايَةُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ - أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنَّا فِي إبِلٍ يَعْنِي إبِلَ الصَّدَقَةِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ أَيْ تَمَرَّغْت فَصَلَّيْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «إنَّمَا يَكْفِيَك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَك وَذِرَاعَيْك» فَلَمْ يَرْفَعْ عُمَرُ رضي الله عنه رَأْسَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَتَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ شُهُودٌ الْحَادِثَةَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ مَا رَوَاهُ وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِأَنَّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ يُرَدُّ الْحَدِيثُ بِأَنْ كَانَ الْخَبَرُ غَرِيبًا فِي حَادِثَةٍ مَشْهُورَةٍ فَبِتَكْذِيبِ الرَّاوِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ أَدَلُّ عَلَى الْوَهْنِ مِنْ تَكْذِيبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَكْذِيبٌ صَرِيحًا وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ رَاجِحٌ عَلَى الدَّلَالَةِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً وَمَعْمُولًا بِهِ بِالِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَبِإِنْكَارِ الرَّاوِي يَنْقَطِعُ الِاتِّصَالُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ أَوْ يَصِيرُ هُوَ مُنَاقِضًا بِإِنْكَارِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَثْبُتُ الرِّوَايَةُ وَبِدُونِ الرِّوَايَةِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ بِالتَّذْكِيرِ كَانَ مُغَفَّلًا وَرِوَايَةُ الْمُغَفَّلِ لَا تُقْبَلُ، وَبِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَحِلُّ لِلرَّاوِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ لِتَحَقُّقِ الِانْقِطَاعِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِتَكْذِيبِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ الشَّفْعَ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ يُعْمَلُ بِعِلْمِهِ لَا بِإِخْبَارِ أَحَدٍ.
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِمَا لَكَانَ هَذَا تَقْلِيدًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَذَكَّرْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْغَيْرِ تَقْلِيدًا وَتَقْلِيدُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ تَذَكَّرَ غَفْلَتَهُ عَنْ حَالِهِ لِشَغْلِ.
قَلْبٍ اعْتَرَضَ فَيُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَبَرِ إنَّ رَاوِيَ الْأَصْلِ يَنْظُرُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى غَلَبَةِ نِسْيَانٍ أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فِي مَحْفُوظَاتِهِ قَبْلَ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ وَقَلَّمَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ شَيْئًا ضَبَطَهُ نِسْيَانًا لَا يَتَذَكَّرُ بِالتَّذْكِيرِ وَالْأُمُورُ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ لَا عَلَى النَّوَادِرِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ قَوْلُهُ (وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ النِّسْيَانُ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ يَعْنِي كَمَا يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْفَرْعِ وَغَلَطُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ حَدِيثًا فَيَحْفَظُهُ وَلَا يَحْفَظُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاحْتِمَالِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَحَدُهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَعْلَمُ بِسَمَاعِهِ عَنْ أَمْرِ يَقِينٍ يَعْلَمُ بِتَرْكِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ سَبَبِ يَقِينٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا، لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا كَانَ إنْكَارُ الْأَصْلِ إنْكَارَ جُحُودٍ وَالْخُصُومُ قَدْ سَلَّمُوا فِيهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ إنْكَارُهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ جَازِمٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي فَلَا يَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِي الْفَرْعِ مِثْلُ الِاحْتِمَالِ
السَّوَاءِ وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ أَنَّ سُهَيْلًا سُئِلَ عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا نِكَاحُهَا بَاطِلٌ» رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَلَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ مَسَائِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ حَكَاهَا عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي الْأَصْلِ بَلْ الِاحْتِمَالُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فَوَجَبَ قَبُولُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَاوِيَ الْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَالْأَصْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَارَضَا فَلَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنِّي رَوَيْتُهُ أَوْ الْأَغْلَبُ أَنِّي مَا رَوَيْته أَوْ الْأَمْرَانِ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَا يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَقْبُولًا فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِكَوْنِ الْفَرْعِ جَازِمًا، وَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ غَيْرَ جَازِمٍ بَلْ يَقُولُ أَظُنُّ أَنِّي سَمِعْته مِنْكَ فَإِنْ جَزَمَ الْأَصْلُ أَبَى مَا رَوَيْته لَك تَعَيَّنَ الرَّدُّ، وَإِنْ قَالَ أَظُنُّ أَنِّي مَا رَوَيْته لَك تَعَارَضَا وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ فَالْأَشْبَهُ قَبُولُهُ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ تَعَارَضَا، وَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الرَّاجِحُ قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ قَالَ لَقِيت سُهَيْلًا فَسَأَلْته عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي، فَأَصْحَابُنَا لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ لِانْقِطَاعِهِ بِإِنْكَارِ سُهَيْلٍ وَتَمَسَّك بِهِ بَعْضُ مَنْ قَبِلَ هَذَا النَّوْعَ فَقَالَ لَمَّا قَالَ سُهَيْلٌ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَشَاعَ وَذَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ بَعْدَ النِّسْيَانِ حَدَّثَنِي الْفَرْعُ عَنِّي وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا جَوَازَهُ.
1 -
قَوْلُهُ (وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ) رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِنَذْرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» الْحَدِيثَ. فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ كَذَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُلَيَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَلَمَّا رَدَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي يَقْضِيه وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وِفَاقِ قَوْلِهِمَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ لِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَرَدَ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا» .
وَقَوْلُهُ عليه السلام «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ» وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَنَحْوُهَا إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عِنْدَهُمَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا لِمُعَارَضَتِهَا بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهُمَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ فَأَجَازَ النِّكَاحَ.
وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ
وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ لَمْ يَكُنْ جَرْحًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ مِمَّا هُوَ خِلَافٌ بِيَقِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْحٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهِ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ لَمْ يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ
ــ
[كشف الأسرار]
الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْآثَارِ وَالْمَبْسُوطِ، وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنْ خَطِّ الشَّيْخِ الْإِمَامِ سَيْفِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْبَاخَرْزِيِّ رحمه الله أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ صَاحِبِ الْمَنَاكِيرِ ضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، ثُمَّ السُّؤَالُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْهِ بِنَفْسِهِ يُقَالُ سَأَلْتُهُ الرَّغِيفَ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْسَارِ يَتَعَدَّى إلَى الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِعَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] ، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163] فَعَرَفْت بِهَذَا أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ فِي قَوْلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهَا وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا وَجْهَ لَهُ بَلْ الصَّوَابُ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ إنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْأَحَادِيثِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ كِتَابًا فَصَنَّفَ مُحَمَّدٌ كِتَابَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَسْنَدَهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَاسِطَةِ أَبُو يُوسُفَ رحمهم الله فَلَمَّا عُرِضَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ اسْتَحْسَنَهُ.
وَقَالَ حَفِظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَّا مَسَائِلَ خَطَّأَهُ فِي رِوَايَتِهَا عَنْهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا قَالَ بَلْ حَفِظْتُهَا وَنَسِيَ هُوَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو يُوسُفَ شَهَادَةَ مُحَمَّدٍ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إخْبَارِهِ عَنْهُ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْ أَصَرَّ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَسْقُطُ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ هِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَالِاخْتِلَافُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ وَجَمِيعُهَا مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ رحمه الله.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ) عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَوْ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ، أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الرِّوَايَةِ، أَوْ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا بِيَقِينٍ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ الْخَبَرِ بِوَجْهٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُهُ وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ الْخِلَافَ بِالْحَدِيثِ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ مُعْتَقِدِينَ إبَاحَتَهَا فَلَمَّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَوْ الْفَتْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَذَلِكَ خِلَافُ يَقِينٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْ الْخِلَافَ جَرْحٌ فِيهِ أَيْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ خِلَافَهُ إنْ كَانَ حَقًّا بِأَنْ خَالَفَ لِلْوُقُوفِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ أَوْ مَا هُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ سَاقِطُ الْعَمَلِ وَالِاعْتِبَارِ.
وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا بِأَنْ خَالَفَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدْ سَقَطَتْ بِهِ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَكَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُغَفَّلًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا صَارَ فَاسِقًا بِالْخِلَافِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ مَا رُوِيَ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ الرِّوَايَةِ، قُلْنَا قَدْ بَلَغَ الْحَدِيثُ إلَيْنَا
- رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَهُوَ بَاطِلٌ» ثُمَّ إنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ غَائِبٌ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ سَقَطَ بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ
ــ
[كشف الأسرار]
بَعْدَمَا ثَبَتَ فِسْقُهُ وَلَا بُدَّ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا رَوَاهُ فِي الْحِلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ فَإِذَا لَمْ يُحْتَرَزْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ كَانَا ثَابِتَيْنِ قَطْعًا فَلَا يُظْهِرُ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ عَدَمَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ أَيْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَمِلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهِ وَالرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ بِيَقِينٍ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْخِلَافُ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ إلَيْهِ كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ قَوْلُهُ.
(وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ) أَيْ الْحَدِيثِ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُنْذِرَ بْنَ زُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ كَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ غَضِبَ، وَقَالَ أَمِثْلِي يُصْنَعُ بِهِ هَذَا وَيُفْتَاتُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ ثُمَّ قَالَتْ لِلْمُنْذِرِ لَتُمَلِّكَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهَا فَقَالَ الْمُنْذِرُ إنَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا كُنْت أَرُدُّ أَمْرًا قَضَيْتِيهِ فَقَرَّتْ حَفْصَةُ عِنْدَهُ فَلَمَّا رَأَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ تَزْوِيجَهَا بِنْتَ أَخِيهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَائِزٌ وَرَأَتْ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَجَازَتْ فِيهِ التَّمْلِيكَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَثُبُوتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ تَرَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ مَا رَوَتْ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِ الْآثَارِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ فَلَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ جَوَّزَتْ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْعَقَدَ بِعِبَارَةِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ مِنْ النِّسَاءِ فَلَأَنْ يَنْعَقِدَ بِعِبَارَتِهَا أَوْلَى فَيَكُونُ فِيهِ عَمَلٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْ، أَوْ يُقَالُ لَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ اعْتَقَدَتْ جَوَازَ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ مَلَكَ النِّكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ (وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ) رَوَى جَابِرٌ عَنْ «سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَحِينَ رَكَعَ وَحِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ فَسَأَلَهُ جَابِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ ذَلِكَ» ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُجَاهِدٌ صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَعَمَلُهُ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ فَلَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرَ طَاوُسٌ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُ مَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ طَاوُسٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَمَا عَلِمَ بِهِ وَفَعَلَ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ وَيُنْفَى عَنْهُمْ الْوَهْمُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ أَكْبَرُ
وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ فَرُدَّ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْجَرْحُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْكَلَامِ لُغَةً لَا يَبْطُلُ بِتَأْوِيلِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَحَمْلُهُ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ افْتِرَاقَ الْأَقْوَالِ وَهُوَ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالِاشْتِرَاكُ لُغَةً لَا يَسْقُطُ بِتَأْوِيلِهِ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يُتْرَكُ عُمُومُ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ وَتَخْصِيصِهِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ حَرَامٌ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ــ
[كشف الأسرار]
الرِّوَايَاتِ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ) أَيْ مُحْتَمَلَاتِ الْحَدِيثِ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَعَمِلَ بِخُصُوصِهِ دُونَ عُمُومِهِ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ بِمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فَعَمِلَ بِأَحَدِ وُجُوهِهِ فَذَلِكَ رَدٌّ مِنْهُ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْجَرْحُ فِي الْحَدِيثِ بِهَذَا أَيْ بِعَمَلِ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ وَتَعْيِينِهِ، ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْحَدِيثُ وَبِتَأْوِيلِهِ لَا يَتَغَيَّرُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَاحْتِمَالُهُ لِلْمَعَانِي لُغَةً وَتَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ اجْتِهَادُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ فِيهِ فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ وَجْهٌ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَذَلِكَ أَيْ الْحَدِيثُ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّفَرُّقُ عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ بِعْتُ وَالْمُشْتَرِي إذَا قَالَ اشْتَرَيْتُ فَقَدْ تَفَرَّقَا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَانْقَطَعَ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِيَارِ إبْطَالِ كَلَامِهِ بِالرُّجُوعِ وَإِبْطَالِ كَلَامِ صَاحِبِهِ بِالرَّدِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله، وَيَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ بِعْتُ عَبْدِي بِكَذَا فَلِلْمُخَاطَبِ أَنْ يَقْبَلَ مَا لَمْ يُفَارِقْ صَاحِبَهُ فَإِذَا افْتَرَقَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَالثَّانِي ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بَدَنًا فَإِذَا تَفَرَّقَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَيُسَمَّى ذَلِكَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ رَاوِيهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، وَلِهَذَا كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا وَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ يَمْشِي ثُمَّ يَرْجِعُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي احْتِمَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا لَفْظًا فَلَا يَبْطُلُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِتَأْوِيلِهِ وَكَانَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بِمَا اتَّضَحَ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» أَيْ دِينَ الْحَقِّ فَكَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَقَدْ خَصَّهُ الرَّاوِي بِالرِّجَالِ عَلَى مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، فَلَمْ يَعْمَلْ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِتَخْصِيصِهِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يُوَافِقُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَنَا فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَأَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ لَا لِتَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا خَصَصْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم بِالرِّجَالِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهَا لَا لِتَخْصِيصِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَرَامٌ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِهِ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ بِالِامْتِنَاعِ هُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يُوجِبُهُ الْحَدِيثُ وَلَا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ كَانَ هَذَا امْتِنَاعًا عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ كَانَ هَذَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي التَّحْقِيقِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ