الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّتَيْنِ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] فَثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ
ــ
[كشف الأسرار]
حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسْخُ بِهِ كَالنُّصُوصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَالنَّسْخُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ حَيْثُ جَازَ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ الَّتِي هِيَ نَسْخٌ فَبِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ الْآرَاءِ فِي شَيْءٍ وَلَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ نِهَايَةِ وَقْتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الشَّيْءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوَانِ النَّسْخِ حَالَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنْ لَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَفِي حَالِ حَيَاتِهِ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فَرْضًا، وَإِذَا وُجِدَ الْبَيَانُ مِنْهُ فَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ قَطْعًا هُوَ الْبَيَانُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ.
، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بَعْدَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّسْخَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا الدَّلِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله ذَكَرَ فِي آخِرِ بَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ نَسْخَ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ جَائِزٌ فَيَكُونُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا مَحْمُولًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ وَالْفَرْقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُمَا وَلَوْ وُجِدَ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِمَا لَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَصٍّ آخَرَ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ لِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ تَتَبَدَّلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَيَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ آخَرُ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا لِشَيْءٍ أَوْ مَنْسُوخًا بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا بِهِمَا أَيْضًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ حُدُوثِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَكَذَا لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا مَنْسُوخًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إنْ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إذْ الْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ بَاطِلًا.
وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ حَرَّمَ الْعَمَلَ بِهِ مِنْ بَعْدِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَجَدِّدٍ وَقَعَ لِأَجْلِهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ لِدَلِيلٍ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه السلام وَلِعَدَمِ جَوَازِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْكُلِّ لِاسْتِلْزَامِهِ إجْمَاعَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَكَذَا لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْقِيَاسِ وَلَا مَنْسُوخًا بِهِ لِمَا مَرَّ وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِقِصَّةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْمَفْهُومِ حُجَّةً قَطْعًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إخْوَةٌ فَلَا يَكُونُ لِأُمِّهِ السُّدُسُ بَلْ الثُّلُثُ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لَفْظَ الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَخَوَيْنِ قَطْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ النَّسْخُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا أَيْضًا لِإِمْكَانِ تَقْدِيرِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْحَجْبِ إذْ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْحَجْبِ خَطَأً وَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّصَّ لَا الْإِجْمَاعَ وَكَذَا تَمَسُّكُهُمْ بِسُقُوطِ نَصِيبِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ مُوجِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
[النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]
[نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]
قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ) هُمَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا نَسْخُ الْكِتَابِ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَافَقَ الْكِتَابَ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ» وَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْقُرْآنُ بِهِ أَوْ سُنَنِهِ كَمَا نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَوْلَى
ــ
[كشف الأسرار]
بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَالْقَلَانِسِيُّ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كَانَ جَائِزًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفِرايِينِي.
وَالثَّانِيَةُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ فِيهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ وَلَوَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ كَذَا ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْقَوَاطِعِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ عَقْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِأَنَّ الْمَنْسُوخَ مَا كَانَ مَنْسُوخًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ عليه السلام وَالْخَبَرُ يَصِيرُ مُتَوَاتِرًا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ إذْ لَوْ جَازَ بِهِ النَّسْخُ لَصَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِنَسْخِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى نَسْخِهِ.
وَرُبَّمَا بَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ عليه السلام فَقَالُوا لَمَّا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ لَمْ نَأْمَنْ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ صَادِرَةً عَنْ الِاجْتِهَادِ فَيَقَعُ حِينَئِذٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
قَالُوا: وَلِهَذَا أَخَّرْنَا التَّخْصِيصَ بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تُنْسَخُ إلَّا بِآيَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا آخُذُ مِنْك دِرْهَمًا إلَّا آتِيك بِخَيْرٍ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِدِرْهَمٍ خَيْرٍ مِنْ الدِّرْهَمِ الْمَأْخُوذِ وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلًا لَهُ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُعْجِزٌ وَالسُّنَّةُ كَلَامُ الرَّسُولِ عليه السلام وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهَا.
وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ نَأْتِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْخَيْرِ أَوْ الْمِثْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَالنَّاسِخُ قُرْآنٌ لَا سُنَّةٌ وَيُؤَكِّدُهُ سِيَاقُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْآتِيَ بِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالُوا: لَمَّا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ فِي النَّسْخِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِعَدَمِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ لِفَوَاتِ الشَّرْطَيْنِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَيْ الْإِتْيَانُ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْ السُّنَّتَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ النَّسْخِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا أَيْ
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فِي الْآيَةِ فَرْضُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَسُّكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ فِي نَسْخِ الْآيَةِ لَا فِي مُطْلَقِ النَّسْخِ إذْ لَمْ يَقُلْ مَا نَنْسَخْ مِنْ شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا التَّمَسُّكَ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا غَيْرُ.
1 -
وَاسْتَدَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] .
أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ عليه السلام لَيْسَ إلَيْهِ وِلَايَةُ التَّبْدِيلِ وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ لَا مُبَدِّلٌ لَهُ وَالتَّبْدِيلُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ وَتَبْدِيلَ الْحُكْمِ فَيَنْتَفِي الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ الْحُكْمِ كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ اللَّفْظِ وَبِقَوْلِهِ عليه السلام «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» أَمَرَ بِالرَّدِّ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَلَا بُدَّ لِلنَّسْخِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] جَعَلَ قَوْلَ الرَّسُولِ عليه السلام بَيَانًا لِلْمُنَزَّلِ فَلَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِهِ لَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا بَيَانًا لِانْعِدَامِهَا وَبِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَالسُّنَّةُ شَيْءٌ فَيَكُونُ الْكِتَابُ بَيَانًا لِحُكْمِهِ لَا رَافِعًا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهَا إنْ كَانَ مُوَافِقًا وَمُبَيِّنًا لِلْغَلَطِ فِيهَا إنْ كَانَ مُخَالِفًا ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ لَهُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ دَلِيلًا يَشْمَلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذَا أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ عليه السلام عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْكِتَابُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ يَقُولُ الطَّاعِنُ هُوَ أَوَّلُ قَائِلٍ وَأَوَّلُ عَامِلٍ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ إلَيْهِ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ نُسِخَتْ سُنَّةٌ بِالْكِتَابِ يَقُولُ الطَّاعِنُ قَدْ كَذَّبَهُ رَبُّهُ فِيمَا قَالَ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنْ الْمُخَالَفَةِ يَعْنِي جَعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَمُؤَيِّدًا لَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ رَافِعًا وَمُبْطِلًا لِصَاحِبِهِ سَدًّا لِبَابِ الطَّعْنِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَصُونٌ عَمَّا يُوهِمُ الطَّعْنَ.
وَلَا يُقَالُ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَدْرَجَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ كَيْفَ نَعْتَمِدُ قَوْلَهُ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الطَّعْنِ بِقَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] فَلَا يَكُونُ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ تَعْرِيضُهُ لِلطَّعْنِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.
1 -
قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ رحمه الله فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ كَانَتْ فَرْضًا بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عليه السلام «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي قُوَّةِ الْمُتَوَاتِرِ إذْ الْمُتَوَاتِرُ نَوْعَانِ مُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَمُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورُ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي النَّاسَ عَنْ رِوَايَتِهِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ ظَهَرَ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِلَا تَنَازُعٍ فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمِثْلِ خَبَرِ الْمَسِيحِ لِشُهْرَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَرَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ نَسْخًا لِلْقَيْدِ كَمَا يَكُونُ الْقَيْدُ نَسْخًا لِلْإِطْلَاقِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ كَمَا نُسِخَتْ الْقِبْلَةُ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ إلَى الْكَعْبَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
يُقَالَ: إنَّمَا ثَبَتَ النَّسْخُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إيجَابَ حَقٍّ آخَرَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَثُبُوتَ حَقٍّ بِطَرِيقٍ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ حَقٍّ آخَرَ لِطَرِيقٍ آخَرَ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ وَبِدُونِ الْمُنَافَاةِ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ نَاسِخَهُ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إذْ مَا مِنْ حُكْمٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّ نَاسِخَهُ نَزَلَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ.
وَإِلَى الِامْتِنَاعِ تَعْيِينُ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ أَبَدًا إذْ مَا مِنْ نَاسِخٍ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ يَكُونُ النَّاسِخُ غَيْرَهُ وَمَا مِنْ مَنْسُوخٍ حُكْمُهُ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ إسْنَادُ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِانْعِقَادِهِ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ صَالِحًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ هُوَ الْمُثْبَتُ وَمَا وُجِدَ صَالِحًا لِنَسْخِ الْحُكْمِ هُوَ النَّاسِخُ، وَإِنْ احْتَمَلَ إضَافَةَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخِ إلَى غَيْرِ مَا ظَهَرَ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ قَالَ الشَّيْخُ: رحمه الله وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ ثُبُوتِ النَّسْخِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] .
وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْحَدِيثِ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ تَرْتِيبُ الْمِيرَاثِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَفْرُوضَةِ ثُمَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ النَّافِلَةِ بِأَنْ قَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَمِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُمْ بِهَا لِلْأَجَانِبِ فَلَمَّا رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ النَّافِلَةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ نَسْخٌ لِتَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَا يُقَالُ الْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ عَيْنَ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى نَسْخِهَا فَيَتَحَقَّقُ النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ بَعْدَمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ كَانَتْ النَّكِرَةُ غَيْرَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ رَأَيْت الرَّجُلُ ثُمَّ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا يَكُونُ الْمَذْكُورُ آخِرًا غَيْرَ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَلَئِنْ سُلِّمَ فَذَلِكَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَانِعُ هَاهُنَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ وَمُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ هَذَا النَّصُّ فَلَوْ صُرِفَتْ الْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ إلَى الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ نُسِخَتْ الْمَعْهُودَةُ بِلَا خِلَافٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَأَخُّرِ الْمِيرَاثِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي أَيْ الْوَجْهُ الثَّانِي لِبَيَانِ فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ أَيْ إثْبَاتُ حُكْمٍ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ حُكْمٍ كَانَ قَبْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْمُسَالَمَةِ بِالْمُقَابَلَةِ وَنَسْخِ إبَاحَةِ الْخَمْرِ بِحُرْمَتِهَا.
وَالثَّانِي نَسْخٌ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنَّ تَحَوُّلَ الْحُكْمِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ وَلَكِنْ حُوِّلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ
وَهَذَا النَّسْخُ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ الْإِيصَاءَ فِي الْأَقْرَبِينَ إلَى الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ثُمَّ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ بَيَانَ ذَلِكَ الْحَقِّ وَقَصَرَهُ عَلَى حُدُودٍ لَازِمَةٍ تَعَيَّنَ بِهَا ذَلِكَ الْحَقُّ بِعَيْنِهِ فَتَحَوَّلَ مِنْ جِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] أَيْ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْكُمْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ إذْ عَجَزْتُمْ عَنْ مَقَادِيرِهِ الْإِيصَاءَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أَيْ بِهَذَا الْفَرْضِ نُسِخَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَانْتَهَى وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَ بِإِثْبَاتِ الرَّجْمِ بِالسُّنَّةِ إلَّا أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] مُجْمَلٌ فَسَرَّتْهُ السُّنَّةُ
ــ
[كشف الأسرار]
وَكَنَسْخِ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى الشَّاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَهَذَا النَّسْخُ أَيْ نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي.
وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ كَوْنِهِ نَسْخًا بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ الْإِيصَاءَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إلَى الْعِبَادِ بِشَرْطِ أَنْ يُرَاعُوا الْحُدُودَ وَبَيَّنُوا حِصَّةَ كُلِّ قَرِيبٍ بِحَسَبِ قَرَابَتِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُوصِي لَا يُحْسِنُ التَّدْبِيرَ فِي مِقْدَارِ مَا يُوصِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجَهْلِهِ وَرُبَّمَا كَانَ يَقْصِدُ إلَى الْمُضَارَّةِ فِي ذَلِكَ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ بَيَانَ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ بِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ فِيهِ الْحِكْمَةَ الْبَالِغَةَ وَقَصَرَهُ عَلَى حُدُودٍ لَازِمَةٍ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهَا نَحْوُ السُّدُسِ وَالثُّلُثِ وَالثُّمُنِ وَغَيْرِهَا تَغَيَّرَ بِهَا الْحَقُّ أَيْ تَحَوَّلَ مِنْ جِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَى الْمِيرَاثِ وَقَوْلُهُ فَتَحَوَّلَ تَفْسِيرُ التَّغْيِيرِ وَإِلَى هَذَا أَيْ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَسْخٌ بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] حَيْثُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِيصَاءِ أَيْ الْإِيصَاءُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْكُمْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ إذْ عَجَزْتُمْ عَنْ مَقَادِيرِهِ لِجَهْلِكُمْ.
وَبِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] أَيْ لَا تَعْلَمُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ بَيْنَكُمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ وَلَمْ يَكِلْهَا إلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا بِالْحِكْمَةِ حَكِيمًا فِي الْقِسْمَةِ وَلَمَّا بَيَّنَ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ انْتَهَى حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَقْوَى الطُّرُقِ كَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمُبَاشَرَةِ الْمُوَكِّلِ الْإِعْتَاقَ بِنَفْسِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، فَإِنَّ الْفَاءَ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَارَنِي فَأَكْرَمْتُهُ يَعْنِي انْتِفَاءَ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِتَبَيُّنِ حَقِّ الْقَرِيبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَقُّهُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَمْ تَبْقَ الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِهَذَا الْفَرْضِ أَيْ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ نُسِخَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ انْتِهَاءُ حُكْمِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَأَمَّا انْتِفَاءُ حُكْمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى فَقَدْ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَحِلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الدَّيْنِ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ انْتِفَاءُ الْجَوَازِ كَالْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا انْتَسَخَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ لِضَرُورَةِ نَفْيِ أَصْلِ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ) يَعْنِي فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِأَنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ فِي حَقِّ الزَّوَانِي الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» إذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمْكِنُ إضَافَةُ إيجَابِ الرَّجْمِ وَنَسْخُ الْإِمْسَاكِ إلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا نُسَلِّمُ نَسْخَهُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ نَاسِخَةً بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْآحَادِ بَلْ النَّسْخُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 11] الْآيَةَ هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِيمَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى مَا غَرِمَ فِيهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ مَعُونَةً لَهُ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِعَانَةَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] أَيْ غَنِمْتُمْ
ــ
[كشف الأسرار]
لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْت عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَكَانَ هَذَا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ تِلَاوَةُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَقِيلَ نُسِخَ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِآيَةِ الْجَلْدِ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ ثُمَّ خُصَّتْ الثَّيِّبُ بِحَدِيثِ الرَّجْمِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ نَاسِخًا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا مُجْمَلٌ فَسَرَّتْهُ السُّنَّةُ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَذَلِكَ بِطَرِيقِ تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ لَا بِطَرِيقِ النَّسْخِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ كَانَ مُوَقَّتًا بِمَا هُوَ مُجْمَلٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] ، فَإِنَّ أَوْ هَذِهِ بِمَعْنَى إلَى أَنْ ثُمَّ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْمُجْمَلَ بِقَوْلِهِ «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» الْحَدِيثَ، وَتَفْسِيرُ الْمُجْمَلِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ فَانْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِهَذَا الْبَيَانِ كَانْتِهَاءِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إيتَاءُ الزَّوْجِ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ إذْ لَا يُتْلَى نَاسِخُهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ} [الممتحنة: 11] الْآيَةَ فِيمَنْ أَيْ فِي شَأْنِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى زَوْجُهَا بَدَلًا مِنْ مَالٍ أَيْ فِي إعْطَاءِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا غَرِمَ فِيهَا مِنْ الصَّدَاقِ مَعُونَةً لَهُ فِي دَفْعِ الْخُسْرَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ كُلِّ مَالٍ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَاقَبْتُمْ أَصَبْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ أَوْ أَصَبْتُمْ عُقْبَى مِنْهُمْ أَيْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَكُمْ حَتَّى غَنِمْتُمْ
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قِيلَ هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ آيَةُ الْقِتَالِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ وَقِيلَ نَاسِخُهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ وَذُكِرَ فِي الْمَطْلَعِ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] أَدَّى الْمُؤْمِنُونَ مُهُورَ الْمُهَاجِرَاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُؤَدُّوا شَيْئًا مِنْ مُهُورِ الْمُرْتَدَّاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ خَرَجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذِهِ عَقَبَتُكُمْ قَدْ أَتَتْكُمْ فَنَزَلَتْ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ سَبَقَكُمْ وَانْفَلَتَ مِنْكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ أَيْ أَحَدٌ مِنْهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ مِنْ الْعُقْبَةِ وَهِيَ النَّوْبَةُ شَبَّهَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ تَارَةً وَأُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى بِأَمْرٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ أَيْ يَتَنَاوَبُونَ كَمَا يُتَعَاقَبُ فِي الرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ وَمَعْنَاهُ فَجَاءَتْ عَقَبَتُكُمْ مِنْ أَدَائِكُمْ فَآتُوا مَنْ فَاتَتْهُ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً مِثْلَ مَهْرِهَا مِنْ مَهْرِ مُهَاجِرَةٍ جَاءَتْكُمْ وَلَا تُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ لِيَكُونَ قِصَاصًا.
قَالُوا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ الِامْتِحَانِ وَرَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ
وَمِنْ الْحُجَّةِ الدَّالَّةِ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إنْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ فَقَدْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ نُسِخَ بِالْكِتَابِ، وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَتِنَا وَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ إلَّا بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ عليه السلام «وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِهِ قَالَ أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنِّي ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ فَقَالَ عليه السلام لَوْ نُسِخَتْ لَأَخْبَرْتُكُمْ» وَإِنَّمَا ظَنَّ النَّسْخَ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ «مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ» فَكَانَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى رَدِّ نِسَائِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]
ــ
[كشف الأسرار]
وَتَعْرِيضِ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ كُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ.
(وَمِنْ الْحُجَّةِ) كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَ يَتَوَجَّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ سِتَّةَ عَشْرَ شَهْرًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله إنْ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْنِي كَانَ بِمَكَّةَ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ فَقَدْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَيَكُونُ دَلِيلَ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرًا قَدْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِهِ وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
قُلْنَا عِنْدَك شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا بِطَرِيقِ أَنَّهَا تَصِيرُ شَرِيعَةً لَنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام قَوْلًا أَوْ عَمَلًا فَلَا يَخْرُجُ بِهَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مَعَ أَنَّ نَاسِخَ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا قَدْ ثَبَتَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ بَعْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمَّا صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ انْتَسَخَتْ السُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ انْتَسَخَتْ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَتِنَا بِلَا خِلَافٍ وَمَا ثَبَتَتْ هِيَ إلَّا بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ عليه السلام وَتَبْلِيغُهُ قَدْ يَكُونُ بِالْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ وَغَيْرِ الْمَتْلُوِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ.
وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ فِي حَقِّنَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِهِ وَهَذَا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ النَّسْخَ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبَ الْوَحْيِ وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَيْهِ ظَنَّهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فِعْلَهُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ بِغَيْرِ الْكِتَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ نَسْخِ التِّلَاوَةِ ثَبَتَ جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التِّلَاوَةِ وَالْعَمَلَ بِحُكْمِ الْمُتَوَكِّلِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ رحمه الله هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةٍ أُخْرَى قُبَيْلَ هَذَا الزَّمَانِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ بِالْحَدِيثِ وَلَعَلَّهُ ظَنَّ النَّسْخَ بِالْإِنْسَاءِ.
وَكَانَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] أَيْ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ سِوَى هَؤُلَاءِ اللَّاتِي اخْتَرْنَك مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ إخْبَارُ النَّبِيِّ عليه السلام إيَّاهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ وَأَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَنَاسِخُهُ لَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِغَيْرِهِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَهَذَا لَا يَقْوَى؛ لِأَنَّ هَذَا الْحِلَّ لَمْ يَثْبُتْ يَعْنِي حِلَّ مَا زَادَ عَلَى التِّسْعِ بَعْدَمَا حَرُمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى التِّسْعِ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ
وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَجَائِزٌ لِلرَّسُولِ بَيَانُ حُكْمِ الْكِتَابِ فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا وَجَائِزٌ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ عَلَى السُّنَّةِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ يَصْلُحُ نَاسِخًا وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَحْيٌ مُطْلَقٌ يُوجِبُ مَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ، فَإِذَا بَقِيَ النَّظْمُ مِنْ الْكِتَابِ وَانْتَسَخَ الْحُكْمُ مِنْهُ بِالسُّنَّةِ كَانَ الْمَنْسُوخُ مِثْلَ النَّاسِخِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بَلْ فِي ذَلِكَ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[كشف الأسرار]
فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْبِيدِ إذْ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ تَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ جَزَاءً لِحُسْنِ عَمَلِهِنَّ وَهُوَ اخْتِيَارُهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَمُصَابَرَتُهُنَّ عَلَى الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ ذَلِكَ بِالنَّسْخِ مَعَ بَقَائِهِنَّ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا نَسْخَهُ فَذَلِكَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] عَلَى مَا قِيلَ لَا بِالسُّنَّةِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِجَاجُ «وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ رَدُّوهُ وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمَّا خُتِمَ كِتَابُ الصُّلْحِ جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ وَقِيلَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اُرْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي كَمَا هُوَ الشَّرْطُ وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَهَذَا السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ.
قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ) وَهُوَ مُعْتَمَدُ الْجُمْهُورِ أَنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ مِنْهُ مَنْعٌ سَمْعًا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ أَمَّا بَيَانُ عَدَمِ امْتِنَاعِهِ عَقْلًا فَلِأَنَّ النَّسْخَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ بَقَائِهِ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُبَيِّنَهَا بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ وَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ بِعِبَارَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ بِعِبَارَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسْخَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مُدَّتِهِ لِعِلْمِهِ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا لَوْ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ عليه السلام بِنَفْسِهِ وَكَمَا لَوْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّةَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عليه السلام أَيْ الثَّابِتَ بِعِبَارَتِهِ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْا مِنْ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَائِزٌ.
وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إلَّا أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ وَنَسْخُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِذَاتِهِ وَلِهَذَا فَرْضُ خِطَابِ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ أَوْ بِجَعْلِ السُّنَّةِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ لِمَا لَزِمَ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا فَإِذًا لَوْ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ إذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ عليه السلام أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نُسِخَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْلُوَ قُرْآنًا أَيُقْبَلُ خَبَرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ لَا يُقْبَلُ فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ الدِّينِ، وَإِنْ قَالَ يُقْبَلُ فَقَدْ تَرَكَ مَذْهَبَهُ إذْ هُوَ تَفْسِيرُ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْكِتَابَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا قَالُوا: إنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ بِالنَّصِّ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى السُّنَّةِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا لَهَا لِكَوْنِهِ
وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ السُّنَّةَ
ــ
[كشف الأسرار]
خَيْرًا مِنْهَا كَمَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لِكَوْنِهِ مَثَلًا لَهُ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ الْكِتَابِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَإِيجَابِ الْعِلْمِ كَمَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ فَيَصِحُّ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا.
(فَإِنْ قِيلَ) قَوْلُهُ: فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ أَنَّ أُبَيًّا ظَنَّ نَسْخَ النَّظْمِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هَاهُنَا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَيْ لَمْ يَقَعْ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ نَسْخُ الْحُكْمِ بِهَا وَفِيمَا سَبَقَ بَيَانُ الْجَوَازِ أَيْ ظَنُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِدُونِ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ تَقُومُ السُّنَّةُ مَقَامَهُ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ فَقَطْ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَقَوْلُهُ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَدْرَجَةٌ إلَى الطَّعْنِ فَقَالَ لَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ أَيْ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَامْتَنَعَ بِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ النَّسْخُ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ: إنَّهُ يُنَاقِضُ فِي كَلَامِهِ وَيَنْقُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامًا مُتَنَاقِضًا فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] قَالُوا: إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ثُمَّ لَمْ يَنْدَفِعْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بِهَذَا الطَّعْنِ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلطَّعْنِ مَجَالٌ بَلْ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَعَكْسِهِ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عليه السلام وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ بَيَانَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ فِي الْأَصْلِ إلَيْهِ لِيُبَيِّنَهُ بِعِبَارَتِهِ وَجَعَلَ لِعِبَارَتِهِ مِنْ الدَّرَجَةِ مَا يُثْبِتُ بِهِ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِهِ انْتِسَاخُهُ.
وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِثْلَ كَلَامِهِ وَتَوَلَّى بَيَانَ مُدَّتِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا تَوَلَّى بَيَانَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِكَلَامِهِ قَوْلُهُ (وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] فَقَالَ ظَهَرَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَمَا زَعَمُوا بَلْ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِذْنُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَإِنَّهُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُقِرُّ الْخَطَأَ فَكَانَ اجْتِهَادُهُ مَعَ التَّقَرُّرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يُنْسَخَ حُكْمُ الْقُرْآنِ بَلْ بِوَحْيٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَهُوَ النَّاسِخُ بِاعْتِبَارٍ وَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِاعْتِبَارٍ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامَانِ أَحَدُهُمَا قُرْآنٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بِالْعِبَارَاتِ فَرُبَّمَا دَلَّ عَلَى كَلَامِهِ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ يَأْمُرُ بِتِلَاوَتِهِ وَيُسَمَّى قُرْآنًا وَرُبَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَيُسَمَّى سُنَّةً وَالْكُلُّ مَسْمُوعٌ مِنْ الرَّسُولِ عليه السلام وَالنَّاسِخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْكِتَابِ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا أَشْكَلَ تَارِيخُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّحَّةِ بِحَيْثُ يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ فِي الْكِتَابِ فَرْضِيَّةَ اتِّبَاعِهِ مُطْلَقًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرْضِيَّةُ اتِّبَاعِهِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ ظَاهِرًا وَلَئِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ الْآحَادِ لَا الْمَسْمُوعِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ أَوْ الثَّابِتِ عَنْهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِي اللَّفْظِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ.
قَوْلُهُ عليه السلام إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ وَلَمْ يَقُلْ: إذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطْعًا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَا يُوقَفَ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصًّا عِنْدَ التَّعَارُضِ وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ أَيْ مَعَ مَعْنَاهُ أَوْ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بَلْ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِعْجَازِ وَفِي كَوْنِهِ قُرْآنًا فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ أَيْ فَكَالْخَيْرِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ لَا إلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي النَّظْمِ فَكَانَ الْمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالثَّوَابِ وَنَحْوِهَا لَا بِلَفْظَةٍ خَيْرٍ مِنْ لَفْظِهَا أَوْ مِثْلِهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْمِثْلِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ السُّنَّةِ النَّاسِخَةِ خَيْرًا أَوْ مِثْلًا لِحُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ وَالْمُجَانَسَةُ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَنْ لَقِيَنِي بِحَمْدٍ وَثَنَاءٍ لَقِيتُهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ يُرَادُ بِهِ الْمِنْحَةُ وَالْعَطَاءُ لَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْآيَةِ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْإِتْيَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ فَلَوْ كَانَ الْخَيْرُ أَوْ الْمِثْلُ هُوَ النَّاسِخَ لَتَرَتَّبَ نَسْخُ الْآيَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ دَوْرٌ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ غَايَةَ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ نَاسِخًا بَلْ شَيْئًا آخَرَ مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يُفِيدُ لَوْ كَانَ مُدَّعَى الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُدَّعَاهُ أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْسُوخِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْمَنْسُوخِ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ خَارِجٌ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ عَلَى وِفَاقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ مِثْلُ الْكِتَابِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ وَهُوَ الْحُكْمُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يُنْسَخُ بِالْكِتَابِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ السُّنَّةِ بَيَانًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِتُبَيِّنَ لِتُبَلِّغَ إذْ حَمْلُ الْبَيَانِ عَلَى التَّبْلِيغِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَيَانِ الْمُرَادِ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ فِيمَا أُنْزِلَ؛ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ عَامٌّ فِيهِ بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُرَادِ لِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِهِ كَالْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ لِتُبَيِّنَ الْعَامَّ وَالْمُجْمَلَ وَالْمُطْلَقَ وَالْمَنْسُوخَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ.