الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) :
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الشَّرْطُ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ لَكِنَّا نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً لَا فَصْلَ فِيهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو الْإِجْمَاعَ كَرَامَةً لَهُ لَا لِمَعْنًى يُعْقَلُ فَوَجَبَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْبِلَادِ، وَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ وَالْعِبْرَةُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِمَا سَيُذْكَرُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا إلَى سَمَاعٍ قَاطِعٍ فَإِنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ فِيهِمْ فَلَا يَشِذُّ عَنْهُمْ مَدَارِكُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ؛ إذْ لَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْمَعَ غَيْرُهُمْ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ أَوْ فِي الْمَدِينَةِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا قَبْلَ نَقْلِهِ فَالْحُجَّةُ فِي الْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ.
[بَابُ شُرُوطِ الْإِجْمَاعِ]
الِانْقِرَاضُ الِانْقِطَاعُ وَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ أَيْ أَهْلِهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِ جَمِيعِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِهِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَلَا لِصَيْرُورَتِهِ حُجَّةً، وَهُوَ أَصَحُّ مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي إنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا لَا يُشْتَرَطُ الِانْقِرَاضُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِنَصِّ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ يُشْتَرَطُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا، وَإِلَّا فَلَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: إنَّهَا جَوَازُ الرُّجُوعِ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ لَا دُخُولُ مَنْ سَيَحْدُثُ فِي إجْمَاعِهِمْ وَاعْتِبَارُ مُوَافَقَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَجْمَعُوا وَانْقَرَضُوا مُصِرِّينَ عَلَى مَا قَالُوا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ خَالَفَهُمْ الْمُجْتَهِدُ اللَّاحِقُ فِي زَمَانِهِمْ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخَالِفُ عَارِفًا لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا لِوُقُوعِ الْخِلَافِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إذْ اتِّفَاقُهُمْ لَيْسَ إجْمَاعًا بَعْدُ بَلْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ فَإِذَا انْقَرَضُوا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْخِلَافُ مُعْتَبَرًا وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ إذْ ذَاكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ.
وَذَهَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا جَوَازُ الرُّجُوعِ وَإِدْخَالُ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي إجْمَاعِهِمْ أَيْضًا وَاعْتِبَارُ مُوَافَقَتِهِمْ لَا إدْخَالُ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَلَّا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ أَصْلًا.
احْتَجَّ مَنْ شَرَطَ الِانْقِرَاضَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِنَاءً عَلَى وَصْفِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَثْبُتُ الِاجْتِمَاعُ إلَّا بِاسْتِقْرَارِ الْآرَاءِ وَاسْتِقْرَارُهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ يَكُونُ النَّاسُ فِي حَالِ تَأَمُّلٍ وَتَفَحُّصٍ، وَكَانَ رُجُوعُ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ مُحْتَمَلًا وَمَعَ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِقْرَارُ فَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ نَهَى التَّسْوِيَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا يَفْضُلُ مَنْ كَانَ لَهُ فَضِيلَةٌ مِنْ سَبْقِ الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَقِدَمِ الْعَهْدِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه خَالَفَهُ فِيهِ وَفَضَّلَ فِي الْقِسْمَةِ بِالسَّبْقِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ إنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَالَفَهُ مِنْ بَعْدُ، حَتَّى قَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ بِأَنَّك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك
فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ إلَّا بِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى إلَّا بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَسَعْهُ الْخِلَافُ وَصَارَ يَقِينًا كَرَامَةً وَفِي الِابْتِدَاءِ كَانَ خِلَافُهُ مَانِعًا عِنْدَنَا.
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِدُونِ الِانْقِرَاضِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ. لَكِنَّا نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا إذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ وَلَمْ يَنْقَرِضْ أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ بَعْدَ الِانْقِرَاضِ، فَلَا يَصِحُّ الزِّيَادَةُ أَيْ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ شَيْءٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو الْإِجْمَاعَ أَيْ لَا يُجَاوِزُهُ كَرَامَةً أَيْ كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا لِمَعْنًى يُعْقَلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَوْ كَانَ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْحَقِّ عَنْهُمْ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأُمَّةُ حِينَ اتَّفَقَتْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَقَوْلُهُمْ الِاسْتِقْرَارُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ حَالَ تَأَمُّلٍ وَتَفَحُّصٍ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا مَضَتْ مُدَّةُ التَّأَمُّلِ وَقَطَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُهُ بِلَا حَاجَةٍ فَيَكُونُ فَاسِدًا.
وَكَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فِي زَمَانِهِ وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ طَوْعًا كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ أَيْ بُلْغَةُ الْعَيْشِ وَهُمْ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَمْ يُرْوَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ مُنْعَقِدًا، فَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إلَيْهِ عَمِلَ بِرَأْيِهِ فِي حَالِ إمَامَتِهِ وَكَذَا مُخَالَفَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَانِ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا أَيْضًا. وَقَوْلُ عُبَيْدَةَ: رَأْيُك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعَ عُمَرَ جَمَاعَةً لَا أَنَّ مَعَهُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُنْضَمًّا إلَى قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنهما لِأَنَّهُ كَانَ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْأَكْثَرِ عَلَى قَوْلِ الْأَقَلِّ وَعَلِيٌّ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ بَلْ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ.
قَوْلُهُ (فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ بِالْفَاءِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْبَعْضِ عَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ لَا يَبْقَى إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِوَصْفِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِذَا رَجَعَ الْبَعْضُ لَمْ يَبْقَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الْكَرَامَةِ وَلَا يَبْقَى حُجَّةً بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِرَاضِ لِبَقَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ الرُّجُوعِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لَكِنْ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ بَلْ خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا خِلَافُ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ وَأَوْلَى بِالْحُجَّةِ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» .
وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام جَعَلَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةً فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَصْلُحُ لِلِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ مُخَالِفًا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ دَلِيلُ الْإِصَابَةِ فَلَا يَصْلُحُ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عليه السلام وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ
ــ
[كشف الأسرار]
احْتِمَالِ الرُّجُوعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ الِانْقِرَاضُ؛ لِأَنَّ بِاتِّفَاقِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ اتِّفَاقُهُمْ دَلِيلًا قَطْعِيًّا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ مُخَالَفَةً لِلدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَمُبَيِّنًا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الْخَطَأِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ؛ فَإِنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ كَانَ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ بِيَقِينٍ فَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِاحْتِمَالِ الصَّوَابِ فَظَهَرَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ مُخَالِفٌ لِلْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حَالَةِ الْبَقَاءِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ وَخِلَافُهُ رَاجِعٌ إلَى الْبَعْضِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَمَا أَجَابَ عَنْهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، يَعْنِي مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِهِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْجَمِيعِ بَعْدَمَا أَجَبْنَا عَنْهُ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَيَجُوزُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الدَّرَجِ وَالِاسْتِطْرَادِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَمَّا آلَ إلَى أَنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ فِي الِابْتِدَاءِ مَانِعٌ ذَكَرَ الْخِلَافَ الَّذِي فِيهِ، وَقَالَ هَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَيْضًا.
، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ بَلْ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْأَقَلُّ قَدْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ مَنَعَ خِلَافُهُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنْ سَوَّغَتْ الِاجْتِهَادَ لِلْمُخَالِفِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَانَ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ أَوْ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْأَبِ وَخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَخِلَافِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي أَنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ رحمه الله. وَقِيلَ يَكُونُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً وَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ خِلَافَ الْأَقَلِّ بِقَوْلِهِ عليه السلام «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ بِقَوْلِهِ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ وَبِقَوْلِهِ عليه السلام «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» كَانَ لَفْظُ الْأُمَّةِ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ وَإِنْ شَذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ اثْنَانِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ، وَيُرَادُ أَكْثَرُهُمْ. وَيُقَالُ: رَأَيْت بَقَرَةً سَوْدَاءَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ وَبِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ اعْتَمَدَتْ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَلِيٌّ وَسُلَيْمَانُ رضي الله عنهم وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِمْ وَبِأَنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَذَا فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً لَمَا جَازَ لَهُمْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا.
وَمُتَمَسَّكُ الْجُمْهُورِ مَا أَشَارَ
وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ عليه السلام «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» هُوَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّهُمْ مَنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقًا.
ــ
[كشف الأسرار]
إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عُرِفَ حُجَّةً بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَهَذِهِ النُّصُوصُ بِحَقِيقَتِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مُخَالِفًا لَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ.
وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ أَيْ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ أَيْ بِاتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِإِجْمَاعِهِمْ دَلِيلُ إصَابَةِ الْحَقِّ يَعْنِي ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ فِي عَصْرٍ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَمَا لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ إذَا أَخْبَرُوا بِخَبَرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ أَيْ عَدَمُ اعْتِبَارِ مُخَالَفَتِهِمْ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِدُونِ رَأْيِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيمَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَجَبَ رِعَايَةُ جَمِيعِ أَوْصَافِ النَّصِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا كَمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي الْعَوْلِ وَفِي اشْتِرَاطِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ لِحَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَمِثْلُ مُخَالَفَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ كَخِلَافِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْكُلَّ اخْتِلَافًا لَا إجْمَاعًا، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى خِلَافِ الْوَاحِدِ الْجَمِيعَ وَالْأَقَلِّ الْأَكْثَرَ وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ إجْمَاعًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لَأَحَالَتْ الْعَادَةُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَفَرَّدَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَشْيَاءَ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ الْإِجْمَاعَ مَعَ خِلَافِهِمْ مِثْلُ خِلَافِ حُذَيْفَةَ فِي وَقْتِ السُّحُورِ وَخِلَافِ أَبِي طَلْحَةَ فِي أَكْلِ الْبَرَدِ فِي حَالِ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِبَا الْفَضْلِ قُلْنَا: إنَّمَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَخِلَافِ حُذَيْفَةَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وَكَذَا خِلَافُ أَبِي طَلْحَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِمْسَاكُ مَعَ أَكْلِ الْبَرَدِ، وَكَذَا خِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّبَا مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» ، وَلِهَذَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَمَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَا لِأَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ.
قَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ عليه السلام) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْخَصْمِ فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ جَمِيعُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ وَكُلُّهُمْ تَفْسِيرًا وَتَأْكِيدًا لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِمَّنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقَةٌ أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ وَبِدَعٌ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُمْ أُمَّةُ دَعْوَةٍ لَا أُمَّةُ مُتَابَعَةٍ.
وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْكُلُّ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا دُونَ الْكُلِّ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ مُتَابَعَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مُتَابَعَةُ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ، ثُمَّ خَالَفَ الْبَعْضُ بِشُبْهَةٍ اعْتَرَضَتْ لَهُمْ
وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي السَّلَفِ، فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَأَنَّ إجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ وَفِيمَا لَمْ يَسْبِقْ الْخِلَافُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَانْعِقَادِهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ يُقَالُ: شَذَّ الْبَعِيرُ وَنَدَّ إذَا تَوَحَّشَ بَعْدَمَا كَانَ أَهْلِيًّا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ إذْ الْمُخَاطَبُ لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفٌ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حُجَّةً.
قُلْنَا: يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ مُخَالِفٌ شَاذٌّ لِيَكُونَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْمُخَالِفِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ نَقُولُ: يَكُونُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ الْأَوَّلِ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَنْعِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ خِطَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِمُوجِبِهِ كَالنُّصُوصِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَفْظَةُ الْأَمَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُلِّ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا إذَا شَذَّ عَنْ الْأُمَّةِ وَاحِدٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْبَاقِي لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا إمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَلْمَانَ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالْبَيْعَةِ مِنْ الْأَكْثَرِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلَاءِ إلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ وَتَأَكَّدَتْ الْإِمَامَةُ إذْ ذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ وَاعْتِبَارُهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّوَاتُرِ فَافْتَرَقَا
قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ) إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ بِأَنْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقِّيَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْثِ عَنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَقِّيَّةَ شَيْءٍ مِنْ طَرَفَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَذَلِكَ هَلْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الَّذِي بَعْدَهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ؟ وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ وَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ السَّابِقُ بِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَمْنَعُ مِنْ الِانْعِقَادِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لَا يَمْنَعُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا إلَى آخِرِهِ إلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ ذَلِكَ أَيْ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ
فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَاطِلٌ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله جَعَلَ الِاخْتِلَافَ الْأَوَّلَ مَانِعًا مِنْ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا يُنْقَضُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ أَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، وَهُوَ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ وَجْهٍ وَلَا يَصْلُحُ مِنْ وَجْهٍ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ مُتَحَقِّقًا بَيْنَهُمْ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَنْعَقِدُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ (فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه كَيْفَ تَبِيعُونَهُنَّ، وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ. وَجَوَّزَهُ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ وَالْآنَ رَأَيْت بَيْعَهُنَّ، وَقَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ التَّابِعُونَ أَجْمَعُوا قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِجِوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ يَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَى خِلَافِهِ فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ قَدْ ارْتَفَعَ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تَبْقَ اجْتِهَادِيَّةً.
وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الِاخْتِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ. هَذَا أَيْ هَذَا الْجَوَابُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْتَفِعْ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ وَأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ حَيْثُ صَحَّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُنْقَضْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا يَعْنِي لَا يَدُلُّ هَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْمَاعَ الَّذِي تَقَدَّمَهُ خِلَافٌ إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ أَيْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ هُوَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ أَيْ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ إجْمَاعًا هُوَ إجْمَاعٌ فِيهِ شُبْهَةٌ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَا يُضَلَّلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ أَيْ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَكَانَ هَذَا قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي فِي فَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يَصِيرُ لَازِمًا وَمُجْمَعًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَضَى قَاضٍ آخَرُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى خِلَافِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بِأَنْ اُسْتُقْضِيَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَقُضِيَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ اُسْتُقْضِيَتْ امْرَأَةٌ فَقُضِيَتْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَرُفِعَ إلَى آخَرَ فَأَبْطَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لَمَّا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لَا فِي أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَيَنْفُذُ كَذَا هَاهُنَا.
وَذُكِرَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فِي الْقَضَاءِ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَاتٌ وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَفِي قَضَاءِ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَمْضَى ذَلِكَ الْقَضَاءَ نَفَذَ وَإِنْ أَبْطَلَ بَطَلَ وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَقَاوِيلِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ)
أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ اُعْتُبِرَ بِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ.
وَدَلِيلُهُ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ، وَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَتَّةٌ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: إنَّهَا رَجْعِيَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ دَلِيلَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً هُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ بِالْكَرَامَةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ نُسِخَ كَنَصٍّ يُتْرَكُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْخِلَافَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُرْتَفِعًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ وَجَعَلَ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ عَنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَبْطُلْ قَوْلُهُ بِهِ إذْ لَوْ بَطَلَ لَمْ يَبْقَ الْمَذَاهِبُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَصَارَ قَوْلُ الْبَاقِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَاتَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إجْمَاعًا لِكَوْنِهِمْ كُلَّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا الْكَلَامَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ أَيْ خِلَافَ الْمُخَالِفِ اُعْتُبِرَ لِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِذَاتِ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بِالدَّلِيلِ وَدَلِيلُ الْمُخَالِفِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَانَ كَبَقَاءِ نَفْسِهِ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْ يَلْزَمُ مِنْ تَصْحِيحِهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ الْمُجْمِعُونَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ خَطَأٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ فِيهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ إذْ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ هُوَ الضَّلَالُ وَأَحَدٌ لَا يَظُنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ضَلَّ فِي إنْكَارِهِ الْعَوْلَ وَفِي تَوْرِيثِهِ الْأُمَّ ثُلُثَ كُلِّ الْمَالِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَإِنْ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا بِابْنِ مَسْعُودٍ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِهِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله) لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا جَمِيعًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْأَصْلِ فَأَسْنَدَهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ: إنَّهَا أَيْ الطَّلْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهَذَا اللَّفْظِ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَةِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَاتِ بَوَائِنُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِتَابَةِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا إلَّا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَصِحُّ وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَوَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ يُوجِبُ الْحَدَّ بِالِاتِّفَاقِ إذَا قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يُوجَبْ الْحَدُّ هَاهُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي عَرَفْنَا بِهَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ إجْمَاعٍ سَبَقَهُ وَبَيْنَ إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فَصَرْفُهَا إلَى إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ تَقْيِيدٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ فَكَانَ بَاطِلًا.
، أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ قَوْلٍ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، فَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي عَصْرِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. يُبَيِّنُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَحَدِهِمَا لَسَقَطَ الِاخْتِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرُ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ
وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حُجَّةً لِفَقْدِ الْإِجْمَاعِ فَإِذَا حَدَثَ الْإِجْمَاعُ انْقَطَعَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ وَذَلِكَ كَالصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفُوا بِالرَّأْيِ فَلَمَّا عَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام فَرَدَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَمْ يَنْسُبْ صَاحِبَهُ إلَى الضَّلَالِ وَكَصَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ بَعْدَ نُزُولِ النَّصِّ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ رحمه الله الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ اجْتِمَاعُ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً كَرَامَةً تَثْبُتُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فَلَا تَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ..
ــ
[كشف الأسرار]
فِي إجْمَاعِ التَّابِعِينَ مِثْلُ الْحُجَّةِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا سَقَطَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ سَقَطَ بِإِجْمَاعِ الْبَاقِينَ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ حُجَّةً لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَاتُ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ خِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَعْلِيلٍ، وَهُوَ يُعَارِضُ إجْمَاعَ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى امْتِنَاعِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ دَلِيلًا عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطَأً إذْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إجْمَاعَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَمَا أَنْ نَسُوغَهُمْ بِالْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ الْقَاطِعِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ تَقْدِيرُ الِاشْتِرَاطِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ لَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ ثَانٍ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعٍ أَوَّلٍ وَلَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ وَاحِدٌ الْإِجْمَاعَ وَيُقَدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الثَّانِي أَوْ بِعَدَمِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
قُلْنَا: فِيهِ إبْطَالُ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَازُ هَاهُنَا وَلَوْ سُلِّمَ فَالْإِجْمَاعُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ خِلَافُهُمْ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْخَصْمِ أَنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْ هُوَ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُ نُسِخَ أَيْ لَمْ يَبْقَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَنَصٍّ يَنْزِلُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْرُجُ الْقِيَاسُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام خَرَجَ الْأَحْكَامُ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ الَّذِي تَوَقَّفَ النَّسْخُ عَلَيْهِ بِوَفَاتِهِ بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا بَلْ كَانَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَظْهَرُ خَطَأً أَبَدًا بَلْ يَتَقَرَّرُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَتَزُولُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْبُطْلَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ شُبْهَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ عليه السلام لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعِيَّةُ النَّسْخِ بِالْوَحْيِ وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا كَانَتْ، فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَيَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِإِجْمَاعِ أَوْ بِاجْتِهَادِ أَهْلَ عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى خِلَافِهِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادٍ نُسِخَ لَهُمْ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي النُّصُوصِ وَلَا يُقَالُ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ بِآرَائِهِمْ بَلْ نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ تَبَدُّلَ الْمَصْلَحَةِ وَمُدَّةَ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ كَانَ حُجَّةً يَوْمَئِذٍ) إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلِأَنَّ التَّضْلِيلَ هُوَ الْخَطَأُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَلَا بَلْ هُوَ خَطَأٌ مَعْذُورٌ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ