المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ بَيَانِ قِسْمِ) (الِانْقِطَاعِ)وَهُوَ نَوْعَانِ

- ‌ مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ

- ‌ إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ

- ‌[الإنقطاع الظَّاهِرُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] [

- ‌ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ

- ‌ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ

- ‌[الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ]

- ‌ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ

- ‌[الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ]

- ‌ خَبَرُ الْمَسْتُورِ

- ‌[الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ]

- ‌ خَبَرِ الْفَاسِقِ

- ‌[خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ]

- ‌[خَبَر صَاحِبُ الْهَوَى]

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ)

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَبَرُ]

- ‌ بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ)

- ‌بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى)

- ‌(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي)

- ‌(بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ)

- ‌‌‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ

- ‌[كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[تعارض الْجُرْح وَالتَّعْدِيل]

- ‌(بَابُ الْبَيَانِ)

- ‌[أَوْجُه الْبَيَانُ]

- ‌[بَيَانُ التَّقْرِير]

- ‌ بَيَانُ التَّفْسِيرِ

- ‌[تَخْصِيصِ الْعَامِّ]

- ‌(بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ)

- ‌[أَنْوَاع بَيَانِ التَّغْيِيرِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ}

- ‌[أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[تَفْسِيرِ النَّسْخِ]

- ‌النَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ)

- ‌[أَقْسَام مَالَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ شُرُوطِ النَّسْخ]

- ‌{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ}

- ‌[النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]

- ‌نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ

- ‌(بَابُ تَفْصِيلِ) (الْمَنْسُوخِ)

- ‌[أَنْوَاعٌ الْمَنْسُوخُ]

- ‌[الْفُرْق بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ]

- ‌(بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ)

- ‌[أَقْسَام أَفْعَالِ النَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ)فِي حَقِّ النَّبِيِّ

- ‌[أَنْوَاع الوحى]

- ‌[جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا)

- ‌ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ

- ‌[بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ]

- ‌[تَقْلِيد التَّابِعِينَ]

- ‌(بَابُ الْإِجْمَاعِ)

- ‌[أَرْكَان الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع]

- ‌بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) :

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه]

- ‌[إنْكَار الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ]

- ‌(بَابُ الْقِيَاسِ)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ]

- ‌[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

- ‌(فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ)

- ‌بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ) :

- ‌[بَابُ رُكْنُ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَا يصلح دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّة]

- ‌[بَابُ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ]

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ

- ‌بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) :

- ‌[جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ]

الفصل: ‌(باب شرائع من قبلنا)

وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ شَرِيعَةً لَهُ وَهَذَا.

(بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا)

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَلْزَمُنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ بِمَنْزِلَةِ شَرَائِعِنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ أَوْ قَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا عليه السلام

ــ

[كشف الأسرار]

الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَنَظَرٍ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَانْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ كَلِمَاتِهِمْ فَلَا نُعِيدُهُ.

قَوْلُهُ (وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ) ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ إلَى مَبْعَثِ النَّبِيِّ عليه السلام وَصَارَتْ شَرِيعَةً لَهُ لِمَا سَنُبَيِّنُ كَانَتْ مِنْ سُنَنِهِ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهَا شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام وَذِكْرُ الضَّمَائِرِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَاخِرِ مَعَ كَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى الشَّرَائِعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِكَوْنِ الشَّرَائِعِ مُضَافَةً إلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَنْ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا.

[بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]

أَيْ بَابُ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذَا فَهُوَ مَعْنَى إيرَادِ الْفَاءِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عليه السلام بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَأْمُرَهُ بِاتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ اتِّبَاعِهَا وَلَيْسَ فِي دِينٍ اسْتِبْعَادٌ وَلَا اسْتِنْكَارٌ وَإِنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ قَدْ تَتَّفِقُ وَقَدْ تَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَيَجُوزُ عَكْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الشَّرَائِعُ وَتَتَّفِقُ.

وَلَا يُقَالُ: إذَا جَاءَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لِبِعْثَتِهِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِهِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي بَعْضِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمٍ وَالثَّانِي إلَى غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْأَوَّلِ قَدْ انْدَرَسَتْ فَلَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ فِي الْأُولَى بِدَعٌ فَيُزِيلُهَا الثَّانِيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عليه السلام هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ نُوحٍ وَقِيلَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ وَقِيلَ بِشَرْعِ مُوسَى وَقِيلَ بِشَرْعِ عِيسَى وَقِيلَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمَا وَمَحَلُّ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ.

وَالثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام بَعْدَ الْبَعْثِ وَأُمَّتَهُ هَلْ كَانُوا مُتَعَبَّدِينَ بِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي عُقِدَ الْبَابُ لِبَيَانِهَا فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَأَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ ثَبَتَتْ لِنَبِيٍّ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَسْخُهَا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَةَ كُلِّ نَبِيٍّ يَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَوْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَجَدَّدُ لِلثَّانِي شَرِيعَةٌ أُخْرَى إلَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَالِانْتِسَاخَ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ بِبَيَانِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِمَا نُقِلَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ انْتِسَاخُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مِنْهَا بِنَقْلِ أَهْلِ

ص: 212

احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تبارك وتعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَالْهُدَى اسْمٌ يَقَعُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقِيقَتُهُ دِينًا لِلَّهِ تبارك وتعالى وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ مَرْضِيٌّ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَقَالَ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فَصَارَ الْأَصْلُ هُوَ الْمُوَافَقَةَ وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْكِتَابِ أَوْ بِرِوَايَةِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ بِبَيَانٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ.

وَذَهَبَ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ رحمهم الله إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ بِبَيَانٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ، فَأَمَّا مَا عُلِمَ بِنَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ بِفَهْمِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكُتُبَ فَلَا يُعْتَبَرُ نَقْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا فَهْمُ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكُتُبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَنْقُولَ أَوْ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ أَوْ بِقَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا احْتَجَّ الْأَوَّلُ أَيْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِالنُّصُوصِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90] يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ أَيْ فَاخْتَصَّ هَدْيَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَا تَقْتَدِ إلَّا بِهِمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ جَاعِلًا الْهَاءَ كِنَايَةً عَنْ الْمَصْدَرِ أَيْ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، أَمَرَ النَّبِيَّ عليه السلام بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِلْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ يَقَعُ بِالْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ شَرْعِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ شَامِلٌ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالْإِيمَانِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] .

وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وَالنَّبِيُّ عليه السلام مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِهَا وَقَوْلُهُ جل جلاله {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وَالدِّينُ اسْمٌ لِمَا يُدَانُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي كَانَتْ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَكَذَا شَرِيعَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهَا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ شَرِيعَةً لِرَسُولٍ فَقَدْ ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ وَكَوْنُهُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَبُعِثَ الرَّسُولُ لِبَيَانِ مَا هُوَ مَرَضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل فَمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ.

وَإِذَا بَقِيَ مَرْضِيًّا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ الثَّانِي وَكَانَ بَعْثُ الثَّانِي مُؤَيِّدًا لَهَا وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ؛ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إلَى دِينٍ اللَّهِ عز وجل وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [المائدة: 48] أَيْ الْقُرْآنَ {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا وَشَاهِدًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرَائِعِ الرُّسُلِ عليهم السلام الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا ظَهَرَ تَغْيِيرُ حُكْمٍ بِدَلِيلِ النَّسْخِ.

وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ مَا يُنْسَبُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الشَّارِعُ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ قَالَ اللَّهُ

ص: 213

أَلَا تَرَى أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَكَمَا كَانَ هَارُونُ لِمُوسَى عليهما السلام فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا فَصَارَ الِاخْتِصَاصُ فِي شَرَائِعِهِمْ أَصْلًا إلَّا بِدَلِيلٍ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ وَكَانَ وَارِثًا لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى

ــ

[كشف الأسرار]

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] أَضَافَ الشَّرْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ الدُّعَاءُ إلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْلِيغُهَا إلَى عِبَادِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الِانْتِسَاخُ فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَبَدَّلَتْ بِتَبَدُّلِ الزَّمَانِ فَيَنْتَهِي الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي فَأَمَّا مَعَ بَقَائِهَا شَرِيعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعَ قِيَامِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِانْتِهَائِهَا بِوَفَاةِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ الْآتِي بِهَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِاخْتِصَاصِ كُلِّ شَرِيعَةٍ بِنَبِيِّهَا وَانْتِهَائِهَا بِوَفَاتِهِ أَوْ بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أَيْ جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ شِرْعَةً بِبَعْثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ شَرِيعَةً وَهِيَ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ وَمِنْهَاجًا طَرِيقًا وَاضِحًا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَبِيٍّ دَاعِيًا إلَى شَرِيعَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أُمَّةٍ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةٍ جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ؛ لِأَنَّ بَعْثَ الرَّسُولِ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ مَا بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ شَرِيعَةَ رَسُولٍ مُنْتَهِيَةً بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ وَلَمْ يَأْتِ الثَّانِي بِشَرْعٍ مُسْتَأْنِفٍ لَمْ يَكُنْ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْبَيَانِ عِنْدَ بَعْثِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِهِ فَائِدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُرْسِلُ رَسُولًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ هُوَ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَيْ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ أَيْ قَدْ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَكَانٍ حِينَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ مَكَان آخَرَ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ مِثْلُ شُعَيْبٍ وَمُوسَى عليهما السلام، فَإِنَّ شَرِيعَةَ شُعَيْبٍ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَشَرِيعَةَ مُوسَى عليهما السلام كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ تَبَعًا لِلْآخَرِ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ الْخُصُوصُ.

وَكَانَ التَّبَعُ دَاعِيًا إلَى شَرَائِعِ الْأَصْلِ كَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ، فَإِنَّ لُوطًا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ كَانَ تَبَعًا لِإِبْرَاهِيمَ عليهما السلام وَدَاعِيًّا إلَى شَرِيعَتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عز وجل فِي قَوْلِهِ {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وَكَذَلِكَ هَارُونُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى عليهما السلام فِي الشَّرِيعَةِ وَرِدْءًا لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل فِي قَوْلِهِ إخْبَارًا عَنْ مُوسَى عليه السلام {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34]{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29]{هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَعْنِي كَمَا احْتَمَلَتْ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الزَّمَانِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ نَبِيِّنَا عليهم السلام أَكْثَرَهُمْ إنَّمَا بُعِثُوا إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَرَسُولُنَا عليه السلام هُوَ الْمَبْعُوثُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً عَلَى مَا قَالَ «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي بُعِثْت إلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلِي يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ» الْحَدِيثَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ مَنْ يَكُونُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ عَلَى أَهْلِ مَكَان دُونَ أَهْلِ مَكَان آخَرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى أَهْلِ زَمَانٍ دُونَ أَهْلِ زَمَانٍ آخَرَ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْعَ يَكُونُ مُنْتَهِيًا بِبَعْثِ نَبِيٍّ آخَرَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ النَّبِيَّيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانَيْنِ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى شَرِيعَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانَيْنِ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ آخِرًا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ

ص: 214

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]«وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِ عُمَرَ رضي الله عنه صَحِيفَةً فَقَالَ مَا هِيَ فَقَالَ التَّوْرَاةُ فَقَالَ أَتُهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَة لَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا وَمَعْرُوفٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَمَلُ بِمَا وَجَدَهُ صَحِيحًا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْكُتُبِ غَيْرَ مُحَرَّفٍ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ وَحْيٌ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ

ــ

[كشف الأسرار]

وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَتُنَا مُطْلَقًا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى النَّبِيِّينَ بِالتَّصْدِيقِ فِي قَوْلِهِ عز وجل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} [آل عمران: 81] مِنْ أَبْيَنِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُمَّةِ مَنْ بُعِثَ آخِرًا فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَلِهَذَا ظَهَرَ شَرَفُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَكَانَ الْكُلُّ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَمِمَّنْ تَأَخَّرَ فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ لَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ يُطِيعُهُ الرَّأْسُ وَيَتْبَعُهُ الرِّجْلُ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَبَّدًا بِشَرِيعَةِ مَنْ سَلَفَ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ الرَّسُولِ كَوَاحِدٍ مِنْ أُمَّةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَهَذَا غَضٌّ مِنْ دَرَجَتِهِ وَحَطٌّ مِنْ رُتْبَتِهِ وَاعْتِقَادٌ أَنَّهُ تَبَعٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ تَقَدَّمَهُ وَلَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ بَلْ فِيهِ التَّنْفِيرُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَابِعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَتْبُوعًا وَمَدْعُوًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاعِيًا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام كَانُوا قَبْلَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ أَصْلًا فِي شَرَائِعِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ تَقَدُّمُهُمْ فِي الزَّمَانِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السُّنَّةَ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَلَا يَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ أَصْلًا فَالْأَنْبِيَاءُ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ مُؤَسَّسُونَ بِقَاعِدَتِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِطْرَةِ الْخَلْقِ إدْرَاكُهُمْ سَعَادَةَ الْقُرْبِ مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْرِيفِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام فَكَانَتْ النُّبُوَّةُ مَقْصُودَةً بِالْإِيجَابِ وَالْمَقْصُودُ كَمَالُهَا لَا أَوَّلُهَا، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللَّهِ جل جلاله بِالتَّدْرِيجِ فَتَمَهَّدَ أَصْلُ النُّبُوَّةِ بِآدَمَ وَلَمْ يَزَلْ تَنْمُو وَتَكْمُلُ حَتَّى بَلَغَتْ الْكَمَالَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ تَمْهِيدُ أَوَائِلِهَا وَسِيلَةً إلَى الْكَمَالِ كَتَأْسِيسِ الْبِنَاءِ، وَتَمْهِيدُ أُصُولِ الْحِيطَانِ وَسِيلَةً إلَى كَمَالِ صُورَةِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ غَرَضُ الْمُهَنْدِسِينَ وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَمَالِ نُقْصَانٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لَهُ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ عَلَى مَا قَالَ بِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] وَغَرَضُ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ اتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ فَكَانَ الْكُلُّ تَابِعًا لَهُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِيسَى عليه السلام حِينَ يَنْزِلُ إلَى الدُّنْيَا يَدْعُو النَّاسَ إلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام لَا إلَى شَرِيعَةِ نَفْسِهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمَشْهُورَةُ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَاتِلُ الدَّجَّالَ وَالْقِتَالُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ ثُمَّ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَكَانَ وَارِثًا لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ مُسْتَدِلًّا بِإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] أَشَارَ إلَى أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا إنَّمَا تَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا لَا أَنَّهَا بَقِيَتْ شَرَائِعَ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَمُضَافًا إلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ مِثْلُ إيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِيجَابِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَنَحْوِهَا وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مِثْلُ الْعَفْوِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمُسِيءِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَ بَيَانَهُمَا كِتَابُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكِتَابُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَقِيلَ: مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ فِي ثَلَاثَةٍ: إعْطَاءُ مَنْ يَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ يَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ حَكِيمُ الْعَجَمِ مَوْدُودُ بْنُ آدَمَ النَّسَائِيّ إنَّك سَمَّيْت

ص: 215

إلَّا أَنَّ التَّحْرِيفَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ ظَاهِرًا وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ وَالْعَدَاوَةُ وَالتَّلْبِيسُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِمْ فَشَرَطْنَا فِي هَذَا أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الدِّينِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ الْأَقْوَالِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَالَ {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجْرِي هَذَا، وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي تَصْحِيحِ الْمُهَايَأَةِ وَالْقِسْمَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] .

وَقَالَ {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فَاحْتَجَّ بِهَذَا النَّصِّ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ نَظِيرُهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا يَقَعُ بِهِ خَتْمُ بَابِ السُّنَّةِ.

ــ

[كشف الأسرار]

نِدَاد ذَرْ بخشش، وَإِنَّك بايت بِرَنْدِ سِرّ بخشش، وَإِنَّك زَهِرَتْ دهد بِدُودِهِ فَتِدْ، وَإِنَّك أزتوبر دند وبيوند تاشوي درجهان وَصَلِّ وَفِرَاق دفترى أَزّ مَكَارِم أَخْلَاق ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا كَانَ أَصْلًا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:«وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَةَ صَارُوا بِبَعْثِ نَبِيِّنَا بِمَنْزِلَةِ أُمَّتِهِ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً وَأَنَّ شَرَائِعَهُمْ قَدْ انْتَهَتْ بِشَرِيعَتِهِ وَصَارَتْ مِيرَاثًا لَهُ وَالتَّهَوُّكُ التَّحَيُّرُ وَالتَّحَوُّكُ أَيْضًا مِثْلُ التَّهَوُّرِ وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ لِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَرَوِيَّةٍ فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَكَانَ وَارِثًا يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ وَارِثٌ لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ صَارَ الْأَصْلُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُوَافَقَةَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْإِرْثِ وَمَعْرُوفٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام أَيْ مِنْ شَأْنِهِ الْعَمَلُ بِمَا وَجَدَهُ صَحِيحًا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْكُتُبِ غَيْرَ مُحَرَّفٍ كَرَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَنَصَّهُ بِقَوْلِهِ أَنَا أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ سُنَّةٍ أَمَاتُوهَا عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَارَ شَرِيعَةً لَهُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ فِي شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لِإِيجَابِ الرَّجْمِ الْإِسْلَامُ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ حُكْمُ النَّسْخِ عِنْدَنَا فَبِبَيَانِ هَذَا أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْأُلْفَةِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْأَصْلُ.

وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ التَّحْرِيفَ أَيْ التَّغْيِيرَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ الثَّالِثِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ بِمَعْنَى لَكِنْ وَبَيَانٌ لِلْمُخْتَارِ مِنْ الْأَقْوَالِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أَيْ اتَّبِعُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 95] يَتَّصِلَانِ بِقَوْلِهِ فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ وَقَدْ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا مِلَّةً لَهُ لِلْحَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَثَبَتَ أَنَّهَا مِلَّتُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ فَبَقِيَتْ حَقًّا كَذَلِكَ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ عليه السلام كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ مُضَافًا إلَى الْوَارِثِ لِلْحَالِ وَهُوَ عَيْنُ مَا كَانَ لِلْمَيِّتِ لَا مِلْكٌ آخَرُ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمَالِكِ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام كَذَا فِي التَّقْوِيمِ ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِي تَصْحِيحِ الْمُهَايَأَةِ وَالْقِسْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَقَوْلِهِ {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا احْتَجَّ بِهِ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِهِ بَقَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا عليه السلام، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَحْكَامَ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَا شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَهُ ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِسْمَةَ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ وَنَبِّئْهُمْ دَلِيلُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ وَقَوْلَهُ عز وجل إخْبَارًا {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ رحمه الله ذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدًا اسْتَدَلَّ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ عَلَى جَوَازِ الْقِسْمَةِ أَيْ قِسْمَةِ الشُّرْبِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ لِلْمُتَهَيِّئِ لِلشَّيْءِ كَأَنَّ الْمُتَهَايِئَيْنِ لَمَّا تَوَاضَعَا عَلَى أَمْرٍ رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ

ص: 216