المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ بَيَانِ قِسْمِ) (الِانْقِطَاعِ)وَهُوَ نَوْعَانِ

- ‌ مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ

- ‌ إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ

- ‌[الإنقطاع الظَّاهِرُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] [

- ‌ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ

- ‌ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ

- ‌[الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ]

- ‌ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ

- ‌[الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ]

- ‌ خَبَرُ الْمَسْتُورِ

- ‌[الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ]

- ‌ خَبَرِ الْفَاسِقِ

- ‌[خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ]

- ‌[خَبَر صَاحِبُ الْهَوَى]

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ)

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَبَرُ]

- ‌ بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ)

- ‌بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى)

- ‌(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي)

- ‌(بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ)

- ‌‌‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ

- ‌[كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[تعارض الْجُرْح وَالتَّعْدِيل]

- ‌(بَابُ الْبَيَانِ)

- ‌[أَوْجُه الْبَيَانُ]

- ‌[بَيَانُ التَّقْرِير]

- ‌ بَيَانُ التَّفْسِيرِ

- ‌[تَخْصِيصِ الْعَامِّ]

- ‌(بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ)

- ‌[أَنْوَاع بَيَانِ التَّغْيِيرِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ}

- ‌[أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[تَفْسِيرِ النَّسْخِ]

- ‌النَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ)

- ‌[أَقْسَام مَالَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ شُرُوطِ النَّسْخ]

- ‌{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ}

- ‌[النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]

- ‌نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ

- ‌(بَابُ تَفْصِيلِ) (الْمَنْسُوخِ)

- ‌[أَنْوَاعٌ الْمَنْسُوخُ]

- ‌[الْفُرْق بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ]

- ‌(بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ)

- ‌[أَقْسَام أَفْعَالِ النَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ)فِي حَقِّ النَّبِيِّ

- ‌[أَنْوَاع الوحى]

- ‌[جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا)

- ‌ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ

- ‌[بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ]

- ‌[تَقْلِيد التَّابِعِينَ]

- ‌(بَابُ الْإِجْمَاعِ)

- ‌[أَرْكَان الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع]

- ‌بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) :

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه]

- ‌[إنْكَار الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ]

- ‌(بَابُ الْقِيَاسِ)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ]

- ‌[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

- ‌(فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ)

- ‌بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ) :

- ‌[بَابُ رُكْنُ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَا يصلح دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّة]

- ‌[بَابُ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ]

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ

- ‌بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) :

- ‌[جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ]

الفصل: ‌[ثبوت القياس وأنواعه]

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ بِالرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِك أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا حُجَّةٌ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرِهِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا دَلِيلَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ أَصْلًا وَالْقِيَاسُ قِسْمٌ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا عَمَلَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ إلَّا فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَيْهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ.

ــ

[كشف الأسرار]

بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ صَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ قَصْدًا وَصَارَ هُوَ بِنَفْسِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ضِمْنًا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَمَا حُكِمَ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَكَمَا لَوْ قَضَى بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ تَصِيرُ الْعَامَّةُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِمْ قَصْدًا وَنَفْسُهُ مُقْتَضَيًا عَلَيْهَا ضِمْنًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْعَامَّةِ فِي وُجُوبِ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ الْقِيَاسُ بِشَرَائِطِهِ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِلْزَامِ يَتَبَيَّنُ بِالْعَجْزِ عَنْ الدَّفْعِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا شَمْسُ الدِّينِ الْكَرْدَرِيُّ رحمه الله مِثَالًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَقَالَ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ وَالشَّاهِدُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلشَّهَادَةِ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَشَهَادَتُهُ دَلَالَةُ وَصْفَيْ النَّجَاسَةِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الِانْتِقَاضِ وَعَدَالَةُ الْوَصْفَيْنِ ظُهُورُ أَثَرِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ بِالِاتِّفَاقِ كَوُجُوبِ غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ إذَا تَعَدَّتْ عَنْ الْمَخْرَجِ وَانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْخَارِجِ مِنْ السُّرَّةِ وَالطَّالِبُ هُوَ الْقَائِسُ وَالْمَطْلُوبُ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ وَالْحَكَمُ الْقَلْبُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْبَدَنُ أَوْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ نَفْسُهُ أَوْ الْخَصْمُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِانْتِقَاضِ إلَّا أَنَّ دَلِيلًا آخَرَ يَمْنَعُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ احْتَجَمَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَأَمْثَالُهُ.

[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

قَوْلُهُ (هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام أَيْ جَمِيعِهِمْ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مِثْلِ حُكْمِ النَّصِّ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّعْدِيَةِ الْإِظْهَارُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ فَالْعَقْلِيُّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ.

وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ رَدُّ غَائِبٍ إلَى شَاهِدٍ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ وَطَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سِوَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْإِمَامِيَّةِ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْخَوَارِجِ إلَّا النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَيْضًا سِوَى الْحَنَابِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً فِي الْفُرُوعِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا يُوجَدُ حُكْمُهَا فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيهَا لِوُجُودِهَا فِي الْكِتَابِ.

وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي جَوَازِ التَّعْدِيَةِ عَقْلًا وَفِي وُقُوعِهِ شَرْعًا، فَعِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا، وَقَالَتْ الشِّيعَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ سِوَى النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَإِبْرَاهِيمَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَهُمْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَغَيْرِهِمْ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيّ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ مَثَلًا تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ فَمَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِكُمْ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ فِي صُورَةٍ وَإِنَّهَا مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَقِيسُوهَا عَلَيْهَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِحَالَةٌ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ بَلْ مَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بَاطِلًا وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ بِتَعَبُّدٍ بِهِ قَطْعِيٌّ سِوَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ ظَنِّيٌّ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ إلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْعَقْلُ يُوجِبُ

ص: 270

وَاحْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وَمَنْ جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً لَمْ يَجْعَلْ الْكِتَابَ كَافِيًا.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ عليه السلام «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

ــ

[كشف الأسرار]

التَّعَبُّدَ بِالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِتَنَاهِيهَا وَعَدَمِ تَنَاهِي الْأَحْكَامِ فَقَضَى الْعَقْلُ بِوُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ تَحَرُّزًا عَنْ خُلُوِّ الْوَقَائِعِ عَنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْعَقْلِ ذَهَبَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا دَلِيلَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ أَصْلًا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَأَنْكَرَ جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي فُرُوعِهِ عَقْلًا، وَهُمْ الْإِمَامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ.

وَقَوْلُهُ الْقِيَاسُ قِسْمٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَنَفَى الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ عَقْلًا، وَهُمْ بَقِيَّةُ الشِّيعَةِ وَالنَّظَّامُ وَمُتَابِعُوهُ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَهُ سَمْعًا كَدَاوُد وَمُتَابِعِيهِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا كَانَ دَلِيلًا ضَرُورِيًّا عِنْدَ هَذَا الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِصْحَابِ وَتَرَجُّحِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ بَلْ يَكُونُ سَاقِطًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا؛ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا فِي مَأْخَذِ الِامْتِنَاعِ الْعَقْلِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَعِنْدَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ الِامْتِنَاعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الْأَضْعَفِ الضَّرُورِيِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى الْأَصْلِيِّ مِمَّا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ ظَنِّيٌّ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا لَوْ وُجِدَ هُنَاكَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ.

قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ) إلَى آخِرِهِ تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِآيَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أَيْ مَا تَرَكْنَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِمَّا بِكُمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ، وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ لِلتَّعْمِيمِ كَمَا يُقَالُ مَا تَرَكَ فُلَانٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا جَمَعَهُ وَقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ بَيَانَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا فِي الْكِتَابِ إمَّا فِي نَصِّهِ أَوْ إشَارَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ هَاهُنَا فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِجَاجِ بِعَدَمِ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَصِيرُ عَلَى هَذَا بَيَانُ كُلِّ الْأَحْكَامِ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ كَمَا قِيلَ (ش) :

جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ

تَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ

فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً لَمْ يَجْعَلْ الْكِتَابَ كَافِيًا فِي الْإِبَانَةِ وَالتِّبْيَانِ وَتَعَلَّقُوا بِالْأَخْبَارِ أَيْضًا مِثْلِ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى حَدَثَ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَأَفْتَوْا بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» السَّبَايَا جَمْعُ سَبِيَّةٍ بِمَعْنَى مَسْبِيَّةٍ وَأَرَادَ بِهَا الْجَوَارِيَ أَيْ اتَّخَذُوا الْجَوَارِيَ سَرِيَّاتٍ فَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا لَيْسُوا بِنُجَبَاءَ إذْ النَّجَابَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأُمَّهَاتِ فَصَدَرَ مِنْهُمْ مَا يُفْضِي إلَى الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «تَعْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بُرْهَةً بِكِتَابِ اللَّهِ وَبُرْهَةً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَبُرْهَةً بِالرَّأْيِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَلُّوا» وَمِثْلِ مَا رَوَى

ص: 271

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ أَمَّا الدَّلِيلُ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِمَا هُوَ شُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ مَعَ كَمَالِ قُدْرَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَلِأَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ وَمِنْهَا مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ

ــ

[كشف الأسرار]

عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَضَرُّهَا عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» وَمِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَالْفَتْوَى بِالرَّأْيِ فَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ أَعْيَتْهُمْ السُّنَّةُ أَيْ لَمْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إيَّاكُمْ وَأَرَأَيْت وَأَرَأَيْت؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي أَرَأَيْت وَأَرَأَيْت وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ عَمِلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا حَدَّثُوك عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَحَدِّثْهُ وَمَا أَخْبَرُوا عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحَشِّ، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا إنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ.

1 -

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ مِنْ الْمَعْقُولِ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَمَّا الدَّلِيلُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ صَرِيحًا وَلَا إشَارَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً بَلْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ بِالرَّأْيِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْ احْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ، وَلِهَذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي عِلَّةِ نَصٍّ وَاحِدٍ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا فَيُؤَثِّرُ تَمَكُّنُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي انْتِفَاءِ الْيَقِينِ وَلَا يَخْرُجُ الْخَبَرُ بِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ كَالنَّصِّ الْمُؤَوَّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً بِالشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيهِ بِتَأْوِيلِنَا وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إثْبَاتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ.

أَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَهُوَ أَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَقَبُولُ الدِّينِ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْعُبُودِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الطَّاعَةِ إلَّا بِكَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الطَّاعَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَلَا لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَقُبْحِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ إجْمَالًا لَا كَحُسْنِ شُكْرٍ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الْكُفْرِ بِهِ بَلْ طَرِيقُ الطَّاعَةِ هُوَ الِابْتِلَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ

ص: 272

وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ وَدَرْكُ الْكَعْبَةِ وَتَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ فَأَصْلُهُ مَعْرِفَةُ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ حَقُّ الْعِبَادِ فَبُنِيَ عَلَى وُسْعِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورَ النِّسَاءِ وَأُمُورَ الْحَرْبِ تُعْقَلُ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقِبْلَةُ وَكَانَ يَقِينًا بِأَصْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

ــ

[كشف الأسرار]

مَا لَا يُدْرَكُ أَلْبَتَّةَ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَوْ مِنْ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الشَّرَائِعُ مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ أَيْ الْقِيَاسَ الظَّاهِرَ وَالدَّلِيلَ الظَّاهِرَ الَّذِي عُرِفَ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُخَالِفُ دَلِيلَ الْعَقْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَا بِوَجْهٍ وَذَلِكَ مِثْلُ بَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا وَبَقَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ السَّلَامِ فِي الْقَعْدَةِ سَاهِيًا وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ مَعَ سَلَسِ الْبَوْلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ بِالرَّأْيِ عَمَلًا بِالْجَهَالَةِ لَا بِالْعِلْمِ فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِيهِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ تَعَلَّقَ النَّظَّامُ فَقَالَ: مَدَارُ الشَّرْعِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي الْأَحْكَامِ كَإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ بَلْ أَنْجَسُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى سَارِقِ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ.

وَكَإِيجَابِ الْجَلْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا دُونَ النِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا بِهِمَا مَعَ أَنَّ الزِّنَا دُونَ الْقَتْلِ وَكَإِثْبَاتِ الْإِحْصَانِ بِالْحُرَّةِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَعَدَمِ إثْبَاتِهِ بِمِائَةٍ مِنْ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَكَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَإِبَاحَتِهِ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ، وَكَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ الْحَسْنَاءِ وَتَحْرِيمِهِ إلَى شَعْرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي تَهْيِيجِ الشَّهْوَةِ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ تَهَيُّجُهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الشَّعْرِ. وَعَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَخَطَأً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمُظَاهِرِ وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الرَّقَبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحْلَلَ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ الشَّارِعِ لِكَوْنِهِ وَارِدًا عَلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي أَحْكَامِهَا وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي أَحْكَامِهَا.

1 -

قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ) جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الرَّأْيَ مَعَ احْتِمَالِهِ لِلْخَطَأِ وَالْغَلَطِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُرُوبِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ.

وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي دَرْكِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْبُعْدِ عَنْهَا وَعِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَكَذَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ إيجَابِ ضَمَانِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُنْتَقَضُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطَاعُ بِالرَّأْيِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَالُوا: مَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ عَلَيْنَا.

أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى اسْتِحَالَةُ إثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهُ يَلِيقُ بِحَالِهِمْ الْعَجْزُ وَالِاشْتِبَاهُ فِيمَا يَعُودُ إلَى مَصَالِحِهِمْ الْعَاجِلَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُسْعُ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ الْوُصُولُ إلَى مَقَاصِدِهِمْ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرَّأْيِ، أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ لَأَنْ يَقَعَ تَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ رَاجِعٌ إلَيْهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الِانْتِصَافِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا.

وَكَذَا أَمْرُ الْحُرُوبِ فَإِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهِ ضُرًّا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجُرُّونَ نَفْعًا إلَيْهَا فَيَكُونُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ أَيْ دَرْكُهَا فَأَصْلُهُ بِمَعْرِفَةِ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَقَالِيمِ، وَذَلِكَ أَيْ عِرْفَانُ

ص: 273

وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مَوَاضِعَ الْقِيَاسِ مُمْكِنٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَعَمِلْنَا بِالِاجْتِهَادِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْقُرُونِ فِي الْمَثُلَاتِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُعْقَلُ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى أَمْرِ الْحَرْبِ يُحْمَلُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ عليه السلام وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَأَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَإِنَّمَا نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهُ تَبَرُّكًا وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَقَالِيمِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَى مَعْرِفَتِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لِلتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ فَبُنِيَ عِرْفَانُهَا عَلَى وُسْعِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي دَرْكِ الْقِبْلَةِ لِاضْطِرَارِهِمْ وَعَجْزِهِمْ بِخِلَافِ حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمَا فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ التَّنْصِيصَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا امْتِنَاعَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَأَحْكَامِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ دُونَ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّنْصِيصُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالِاعْتِبَارَاتِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الرَّأْيُ

، وَأَمَّا الثَّانِي أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُدْرَكُ بِالْعُقُولِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ؛ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهِ فِي الصِّفَاتِ وَكَذَا مَهْرُ الْمَرْأَةِ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَرْبِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ التَّلَفِ أَوْ قَهْرُ الْخَصْمِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ مِثْلُ التَّوَقِّي عَنْ السُّمِّ وَعَنْ الْوُقُوعِ عَلَى السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتْلِفٌ.

وَكَذَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ مَحْسُوسَةٌ فِي حَقِّ مَنْ عَايَنَهَا وَبَعْدَ الْبُعْدِ مِنْهَا قَدْ يَصِيرُ كَالْمَحْسُوسَةِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِهَا فَكَانَ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى الْعَمَلِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يُطَابِقُ وُرُودَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْحِسِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ عليه السلام وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ رَأْيًا مُسْتَعْمَلًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُطَابِقُ وُرُودَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةٌ فِي أَصْلِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ بِأَنَّ أَصْلَهَا لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ صَارَ مُلْحَقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَمْ يَكُنْ طَاعَةً بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ تَقْدِيرًا، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قُلْنَا وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِ الطَّاعَةِ بَلْ هِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمَا قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهَا الرَّأْيُ.

وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا أَيْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ عَنْ الْقِيَاسِ احْتَاجَ عَنْ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ قَالُوا: وَفِي الْحَجْرِ عَنْ الْقِيَاسِ أَمْرَانِ أَنَّ بِهِمَا قِوَامُ الدِّينِ وَنَجَاةُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّا مَتَى حَجَرْنَا عَنْ الْقِيَاسِ لَزِمَنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ وَالتَّبَحُّرُ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ، وَفِي مُحَافَظَةِ النُّصُوصِ إظْهَارُ قَالَبِ الشَّرِيعَةِ كَمَا شُرِعَتْ، وَفِي التَّبَحُّرِ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ إثْبَاتُ حَيَاةِ الْقَالَبِ فَتَمُوتُ الْبِدَعُ بِظُهُورِ الْقَالِبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ ظُهُورِهِ يَتَبَيَّنُ الزَّيْغُ الَّذِي هُوَ بِدْعَةٌ عَنْ الْحَقِّ وَيَسْقُطُ الْهَوَى بِحَيَاةِ الْقَالِبِ لِأَنَّ الْقَالِبَ لَا يَحْيَى إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا غَائِرَةٌ جُمَّةٌ لَنْ تَنْزِفَ بِالرَّأْيِ، وَإِنْ فَنِيَتْ الْأَعْمَارُ فِيهَا فَلَا يَفْضُلُ الرَّأْيُ لِلْهَوَى فَيَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ بِمَوْتِ الْبِدَعِ وَيَسْتَقِيمُ الْعَمَلُ بِسُقُوطِ الْهَوَى وَفِيهَا الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ

ص: 274

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالِاعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَالْعِبْرَةُ الْبَيَانُ

ــ

[كشف الأسرار]

جَوَابًا آخَرَ لَهُمْ عَنْ وُرُودِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ مُمْكِنٌ فِي مَوَاضِعِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ أَيْ الْأَصْلُ دَلِيلٌ دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ شَرْعًا فِي قَوْلِهِ عز وجل {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَمَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى مَا دُونَهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ لِمَوْضِعِ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الضَّمَانُ أَوْ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا يَجِبُ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ ثَبَتَ قَطْعًا، وَكَذَا لَيْسَ فِي الْحَرْبِ وَالْقَتْلِ أَصْلٌ نَسْتَصْحِبُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ نَعْمَلُ بِهِ جَوَّزْنَا الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا لِلضَّرُورَةِ.

، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عَمَّنْ مَضَى مِنْ الْقُرُونِ وَإِعْمَالَ الرَّأْيِ بِالتَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَثُلَاتِ أَيْ الْعُقُوبَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الدِّينِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرَّأْيَ مُعْتَبَرٌ فِي الدِّينِ وَأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، فَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا - أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.

ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ لُحُوقَ الْمَثُلَاثِ وَالْكَرَامَاتِ أَمْرٌ يُعْقَلُ أَيْ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ هَلَاكُ مِثْلِهِ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِحِسِّ الْعَيْنِ فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِهِ بِسَبَبِهِ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يُتْلِفُهُ مِمَّا وُقِفَ عَلَى تَلَفِ مِثْلِهِ بِتَنَاوُلِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله الْمَقْصُودُ مِنْ إعْمَالِ الرَّأْيِ فِي أَحْوَالِهِمْ الِامْتِنَاعُ مِمَّا كَانَ مُهْلِكًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى لَا يَهْلَكُوا وَمُبَاشَرَةُ مَا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى يَنَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ الَّذِي يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَرْءُ سَبَبَ إبْقَاءِ نَفْسِهِ وَإِتْيَانِ الْإِنَاثِ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ بِطَرِيقِهِ لِيَكْتَسِبَ بِهِ سَبَبَ إبْقَاءِ النَّسْلِ، ثُمَّ طَرِيقُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ الْخَبَرُ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، ثُمَّ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ يُدْرَكُ الْمَقْصُودُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الْوُقُوفُ عَلَى مَعَانِي اللُّغَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بَاقٍ الْيَوْمَ بَيْنَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ أَيْ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ مِثْلُ الْمَثُلَاتِ وَالْكَرَامَاتِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَعَلَى أَمْرِ الْحُرُوبِ يُحْمَلُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمُشَاوَرَةِ لِلرَّسُولِ عليه السلام بِقَوْلِهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَمُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ عَلَى أَمْرِ الْحُرُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ يُشَاوِرُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْقَلْ أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ قَطُّ فِي حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا فِي مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ عليه السلام «إذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَإِذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ» .

قَوْلُهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] أَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ بِرَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ كَذَا حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ النَّظَائِرُ عِبْرَةً وَيُقَالُ: اعْتَبَرْت هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الثَّوْبِ أَيْ سَوَّيْته بِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّهُ حَذْوُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ بِهَذَا النَّصِّ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ التَّبْيِينُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] تُبَيِّنُونَ وَالتَّبْيِينُ الَّذِي يَكُونُ مُضَافًا

ص: 275

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أَيْ تُبَيِّنُونَ وَالْقِيَاسُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِبَارُ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ دُونَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ سَبَبُ هَلَاكِ قَوْمٍ أَوْ نَجَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدِي هَهُنَا إذَا ذُكِرَتْ الْعِلَّةُ نَصًّا مِثْلُ «قَوْلِ النَّبِيِّ فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ» وَالْجَوَابُ مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] وَيَعْقِلُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ

ــ

[كشف الأسرار]

إلَيْنَا هُوَ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْحُكْمُ فِي نَظِيرِهِ، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَكَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَالْقِيَاسُ مِثْلُهُ رَاجِعًا إلَى الِاعْتِبَارِ أَوْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لِأَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْ الْقِيَاسُ مِثْلُ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ أَوْ الْقِيَاسُ مِثْلُ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَبَيَانٌ لِحُكْمِهِ أَيْضًا بِالرَّدِّ إلَى النَّظِيرِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُتَنَاوِلًا.

وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الِانْتِقَالُ وَالْمُجَاوَزَةُ عَنْ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُبُورِ يُقَالُ عَبَرْت النَّهْرَ أَيْ جَاوَزْته وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ وَالْمَعْبَرُ السَّفِينَةُ أَوْ الْقَنْطَرَةُ الَّتِي يُعْبَرُ بِهَا وَالْعَبْرَةُ الدَّمْعَةُ الَّتِي عَبَرَتْ مِنْ الْجَفْنِ وَعَبَرَ الرُّؤْيَا وَعَبَّرَهَا جَاوَزَهَا إلَى مَا يُلَازِمُهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِي الِانْتِقَالِ وَالْمُجَاوَزَةِ إلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ عُبُورٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى حُكْمِ الْفَرْعِ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَقِيقَةَ الِاعْتِبَارِ هِيَ الِانْتِقَالُ وَالْمُجَاوَزَةُ بَلْ حَقِيقَةُ الِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ لِتَبَادُرِهِ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَلِصِحَّةِ نَفْيِ الِاعْتِبَارِ عَنْ الْقَائِسِ الَّذِي لَا يَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا يَتَّعِظُ بِأَنْ يُقَالَ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ وَلِتَرَتُّبِهِ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى قَوْلِهِ {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْسُنُ تَرَتُّبُهُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِاتِّعَاظَ دُونَ الْقِيَاسِ لِرَكَاكَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَقِيسُوا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ عَلَى مَا كَانَتْ عَنْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْفَرْعِ إلَّا مِنْ النَّصِّ كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ كَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَإِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْرِ بِالْمُتَنَافِيَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إمْكَانَ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ خَصَّ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ وَالْأَقْيِسَةَ الْمُتَعَارِضَةَ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً أَوْ صَارَ ظَنِّيًّا وَمَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَيْهِ قُلْنَا: حَقِيقَةُ الِاعْتِبَارِ هِيَ الْمُجَاوَزَةُ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْغَيْرِ كَمَا ذَكَرْنَا لَا الِاتِّعَاظُ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: اعْتَبَرَ فُلَانٌ فَاتَّعَظَ فَيُجْعَلُ الِاتِّعَاظُ مَعْلُولَ الِاعْتِبَارِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاتِّعَاظ لَمَا صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ إذْ تَرَتُّبُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ وَالِانْتِقَالِ فِي الِاتِّعَاظِ مُتَحَقِّقٌ وَأَنَّ الْمُتَّعِظَ بِغَيْرِهِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الْعِلْمِ بِحَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَى الْعِلْمِ بِحَالِ نَفْسِهِ.

فَأَمَّا تَبَادُرُ الْفَهْمِ إلَى الِاتِّعَاظِ دُونَ غَيْرِهِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ كَمَا يُفْهَمُ الِاتِّعَاظُ فَيُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ فَأَمَّا صِحَّةُ نَفْيِهِ عَنْ الْقَائِسِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَّعِظٍ فَبِالنَّظَرِ إلَى إخْلَالِهِ بِأَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلُ مِنْ الِاعْتِبَارِ الْآخِرَةُ فَإِذَا أَخَلَّ بِهِ قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ مَجَازًا كَمَا قِيلَ لِمَنْ لَا يَتَدَبَّرُ فِي الْآيَاتِ أَعْمَى وَأَصَمُّ لَا بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ قَائِسًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ.

وَأَمَّا رَكَاكَةُ مَا لَوْ قِيلَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَقِيسُوا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ فَمُسَلَّمَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ خُصُوصِ هَذَا الْقِيَاسِ وَبَيْنَ تَخْرِيبِ الْبُيُوتِ وَلَكِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ أَحَدَ جُزْئِيَّاتِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِرَكِيكٍ. مِثَالُهُ لَوْ سُئِلَ وَاحِدٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِمَا لَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ كَانَ بَاطِلًا لَكِنْ لَوْ أَجَابَ بِمَا يَتَنَاوَلُهَا وَغَيْرَهَا كَانَ حَسَنًا

ص: 276

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَهُوَ إفْنَاءٌ وَإِمَاتَةٌ فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ حَيَاةٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فَيَبْقَى حَيًّا وَيَسْلَمُ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ عَنْهُ فَيَبْقَى حَيًّا فَيَصِيرُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ بَقَاءً عَلَيْهِمَا.

وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا صَارَ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَصَارُوا كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَسْلَمُ لَهُمْ حَيَاةٌ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ فَيَسْلَمُ بِهِ حَيَاةُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَالْعَشَائِرِ فَصَارُوا أَحْيَاءً مَعْنًى وَهَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ

ــ

[كشف الأسرار]

كَمَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ جَامَعَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنْ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَقَوْلُهُمْ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ لَا يُسَمَّى اعْتِبَارًا وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الْآيَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلَهَا لَصَارَ مَعْنَاهَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَحْكُمُوا بِهَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا ضَرَبَ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى ذَنْبٍ، ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ اعْتَبِرْ بِهِ فُهِمَ مِنْهُ التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ لَا الْمَنْعُ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُمْ قَدْ خُصَّ مِنْهُ كَذَا فَلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعِيَّةِ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لِيَثْبُتَ التَّخْصِيصُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاعْتِبَارِ بِدُونِهَا لَا مَا وُجِدَ فِيهِ نَصٌّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ النَّظِيرِ لَهُ فَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي رَدِّهِ إلَى النَّظِيرِ وَلَا الْأَقْيِسَةَ الْمُتَعَارِضَةَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا لِتَسَاقُطِهَا بِالتَّعَارُضِ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَخْصِيصُهَا مِنْهُ فَبَقِيَ النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ مُوجِبًا لِلْيَقِينِ كَمَا كَانَ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَارَ ظَنِّيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَأَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُوهُ أَصْلًا وَالْجَوَابُ مَا نُبَيِّنُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ إلَى آخِرِهِ.

1 -

قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَالْقِصَاصُ إفْنَاءٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ فِي هَذَا النَّصِّ وَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ شَرْعِهِ فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ لِلْقَتْلِ لَمَّا تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَصَدَّهُ أَيْ مَنَعَهُ ذَلِكَ التَّأَمُّلُ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْقَتْلُ فَسَلِمَ هُوَ مِنْ الْقَوَدِ وَسَلِمَ صَاحِبُهُ مِنْ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ أَيْ شَرْعُ الْقِصَاصِ يَعْنِي مَشْرُوعِيَّتُهُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ الْقَاصِدِ الْقَتْلَ وَالْمَقْصُودِ قَتْلُهُ بَقَاءً عَلَيْهَا أَيْ بَقَاءَهُمَا عَلَى الْحَيَاةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا أَيْ بَقَاءَ حَيَاتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَلَوْ قِيلَ إبْقَاءً لَكَانَ أَحْسَنَ وَإِبْقَاءُ الْحَيَاةِ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ يُسَمَّى إحْيَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .

وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْخِطَابُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ أَيْ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ الْقَاتِلَ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُمْ مُسْتَعِينًا فِي ذَلِكَ بِأَمْثَالِهِ مِنْ السُّفَهَاءِ إزَالَةً لِلْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ عَنْهُ انْدَفَعَ شَرُّهُ عَنْهُ وَعَنْ عَشِيرَتِهِ فَصَارَ أَيْ الِاسْتِيفَاءُ إحْيَاءً لَهُمْ مَعْنًى وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا قُتِلَ مُحِيَ أَثَرُ الْقَتْلِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ فَيَبْقَى غَيْرَ مُعَذَّبٍ بِهِ فَيَكُونُ إحْيَاءً لَهُ بِدَفْعِ سَبَبِ الْعَذَابِ عَنْهُ.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَتَلَةِ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ الْحَيَاةِ إمَّا لِلتَّعْظِيمِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ وَبِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَتَفُورُ الْفِتْنَةُ وَيَقَعُ التَّقَاتُلُ بَيْنَهُمْ فَبِشَرْعِ الْقِصَاصِ انْقَطَعَتْ الْفِتْنَةُ وَانْقَطَعَ التَّقَاتُلُ فَكَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ بِارْتِدَاعِ الْقَاطِعِ عَنْ الْقَتْلِ تَحْصُلُ حَيَاةٌ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فَوَجَبَ التَّنْكِيرُ وَامْتَنَعَ التَّعْرِيفُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ كَانَتْ مِنْ الْأَصْلِ بِالْقِصَاصِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ

ص: 277

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَكْثَرُ مَنْ أَنْ يُحْصَى مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ: بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.

قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ» وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ

ــ

[كشف الأسرار]

كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ تَنْكِيرُ الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ؛ فَإِنَّ الْحِرْصَ لِمَا يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِالْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذْ الْحِرْصُ لَا يَكُونُ عَلَى الْحَيَاةِ الْمَاضِيَةِ وَالرَّاهِبَةِ حَسُنَ التَّنْكِيرُ.

وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ الْحَاصِلَةَ بِالِارْتِدَاعِ عَنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَدُوٌّ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ حَتَّى يَمْنَعَهُ خَوْفُ الْقِصَاصِ عَنْهُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْحَيَاةُ بِالِارْتِدَاعِ بَلْ يَكُونُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَلَمَّا دَخَلَ الْخُصُوصُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَجَبَ تَنْكِيرُ لَفْظِ الْحَيَاةِ كَمَا وَجَبَ تَنْكِيرُ لَفْظِ الشِّفَاءِ فِي قَوْلِهِ عز وجل {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ شِفَاءً لِلْجَمِيعِ لِيَصِحَّ التَّعْرِيفُ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ أَيْ كَوْنُ الْقِصَاصِ حَيَاةً لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانٍ النُّصُوصِ أَمْرٌ سَائِغٌ فِي الشَّرْعِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ لِاسْتِخْرَاجِ مَعْنَى النَّصِّ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا.

قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وَفِيهِ هَلَاكٌ حِسًّا وَإِنَّمَا الْحَيَاةُ فِي الِاعْتِبَارِ عَنْ قَتْلٍ فَقُتِلَ لِيَنْزَجِرَ عَنْ الْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَلَا يُقْتَلُ جَزَاءً وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الرَّأْيِ، فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ: أَنَا لَا أُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ لِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى إذْ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً وَاسْتِعَارَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ.

1 -

قَوْلُهُ (وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى) وَاحْتَجَّ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مِثْلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي؛ ضَرَبَ عَلَى صَدْرِهِ.

وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، بَلْ مَدَحَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَأَمَرَ بِهِ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك، وَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ فَقَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي فَقَالَ: عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قِيلَ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ مُعَاذٍ؛ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُرْسَلٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَخَبَرٌ غَرِيبٌ فِيمَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُنْعَقِدًا عَلَى سُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ، فَقَالَ هَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ لَيْسَ بِمُرْسَلٍ وَلَا غَرِيبٍ؛ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ أَسْنَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: هَذَا حَدِيثٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ فِيهِ طَعْنًا وَإِنْكَارًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُهُ مُرْسَلًا بَلْ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ إسْنَادِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» «وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كَافَّةً وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ أَبَدًا كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ فِي إثْبَاتِ

ص: 278

وَقَدْ رَوَيْنَا مَا هُوَ قِيَاسٌ بِنَفْسِهِ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام

ــ

[كشف الأسرار]

الْقِيَاسِ وَنُفَاتُهُ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِتَأْوِيلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إذْ الِاجْتِهَادُ لَيْسَ نَفْسَ الْقِيَاسِ لَا غَيْرَ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِفْرَاغِ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ أَوْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ أَوْ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَوْ مُومَأٌ إلَيْهَا أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إكْمَالِ الدِّينِ وَاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إذْ ذَاكَ فَأَمَّا بَعْدَ إكْمَالِ الدِّينِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَلَا لِارْتِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، إذْ الْإِكْمَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَمِيعِ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الِاجْتِهَادِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ النَّصِّ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ جَلِيًّا كَانَ أَوْ خَفِيًّا فَتَخْصِيصُهُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُمْتَنِعٌ.

وَكَذَا لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا حَاجَةَ فِي مَعْرِفَتِهَا إلَى الِاجْتِهَادِ وَلَا عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا سَكَتَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَجْتَهِدُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَافٍ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَافِيًا بِمَعْرِفَةِ عُشْرِ عَشِيرِ الْأَحْكَامِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَسْكُتَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَسْكُتْ عِنْدَ قَوْلِهِ أَقْضِي بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِكْمَالِ؛ فَإِنَّ الْإِكْمَالَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِبَيَانِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِوَاسِطَةٍ وَالْقِيَاسُ مِنْ الْوَسَائِطِ، ثُمَّ أَتَمَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام أَجَازَ قِيَاسَ غَيْرِهِ.

وَقَدْ رَوَيْنَا فِي بَابِ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ قِيَاسٌ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْخَثْعَمِيَّةِ وَحَدِيثِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَغَيْرِهِمَا فَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَفَعَلَهُ جَمِيعًا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ وَكَلِمَةُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِرِوَايَتِنَا وَأَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقِيَاسٍ وَفِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَثْرَةٌ كَقَوْلِهِ عليه السلام «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» حَكَمَ بِتَحْرِيمِ ثَمَنِهَا قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا «وَقَوْلِهِ عليه السلام لِأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلَّا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ» تَنْبِيهًا عَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. «وَقَوْلِهِ عليه السلام حِينَ سُئِلَ عَنْ جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ فَقِيلَ نَعَمْ فَقَالَ فَلَا إذَنْ» «وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقْرِبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» «وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» .

«وَقَوْلِهِ عليه السلام الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» «وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» «وَقَوْلِهِ عليه السلام فِي الصَّيْدِ فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا يُؤْكَلُ لَعَلَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفِ لَفْظُهَا الْمُتَّحِدِ مَعْنَاهَا فَنُزِّلَ جُمْلَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا.

فَإِنْ قِيلَ: لَا تَمَسُّكَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ فَإِنَّ فِيهَا بَيَانَ تَعْلِيلِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانَ جَوَازِ الْقِيَاسِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ جَوَازُ إلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ

ص: 279

وَعَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام فِي هَذَا الْبَابِ وَمُنَاظَرَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ مُمَيِّزٍ.

ــ

[كشف الأسرار]

لَمْ يُعْتَقْ جَمِيعُ عَبِيدِهِ السُّودِ.

وَكَذَا لَوْ تَمَلَّكَ بِمُؤَثِّرٍ بِأَنْ قَالَ: أَعْتَقْت غَانِمًا لِحُسْنِ خُلُقِهِ لَمْ يَلْزَمْ عِتْقُ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْهُ قُلْنَا بَلْ التَّمَسُّكُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّعْلِيلِ بَيَانُ كَوْنِ الْعِلَّةِ بَاعِثَةً عَلَى الْحُكْمِ وَمُؤَثِّرَةً فِيهِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهَا فِي الْعِلَّةِ لَأَدَّى إلَى تَخَلُّفِ الْأَثَرِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَخَلَا ذِكْرُهُ عَنْ الْفَائِدَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ لِحُسْنِ خُلُقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ التَّعْلِيلِ فِي الْعِتْقِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ أَحْكَامَ الْأَمْلَاكِ حُصُولًا وَزَوَالًا بِالْأَلْفَاظِ دُونَ الْإِرَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْت أَوْ طَلَّقْت غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، وَلَوْ نَوَى عِتْقًا أَوْ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَأَمَّا أَحْكَامُ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى رِضَا الشَّارِعِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ قَرِينَةٍ وَدَلَالَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظًا.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَحَدًا لَوْ بَاعَ مَالَ التَّاجِرِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِضِعْفِ ثَمَنِهِ وَظَهَرَ أَثَرُ الْفَرَحِ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ الْبَيْعُ إلَّا بِتَلَفُّظِهِ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ جَرَى بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلٌ فَسَكَتَ دَلَّ سُكُوتُهُ عَلَى رِضَاهُ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ.

قَوْلُهُ (وَعَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ) إشَارَةٌ إلَى مُتَمَسَّكٍ آخَرَ عَوَّلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم عَمِلُوا بِالْقِيَاسِ وَشَاعَ وَذَاعَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَإِنْكَارٍ مِثْلُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَمِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَغَيْرِهَا بِالرَّأْيِ وَاحْتِجَاجِهِمْ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَمِثْلُ مُشَاوَرَتِهِمْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ تَكَلَّمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ إلَى أَنْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ وَالرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ: أَلَا تَرْضَوْنَ لِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ بِمَنْ رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ لِأَمْرِ دِينِكُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى رَأْيِهِ وَأَمْرُ الْخِلَافَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ.

وَكَذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه جَعَلَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةِ نَفَرٍ فَاتَّفَقُوا بِالرَّأْيِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْأَمْرَ فِي التَّعْيِينِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَمَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْهَا فَعُرِضَ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَعُرِضَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه هَذَا الشَّرْطُ فَرَضِيَ بِهِ فَقَلَّدَهُ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَمَلًا بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَحْسَنُوا سِيرَةَ الْعُمَرَيْنِ وَشَاوَرُوا فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَحَدُّهُ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ قَاسَ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ فَأَخَذُوا بِرَأْيِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمَّا وَرَّثَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا لَقَدْ وَرَّثْت امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ لَمْ يَرِثْهَا وَتَرَكْت امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَرِثَهَا فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي.

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي. وَلَمَّا سَمِعَ فِي الْجَنِينِ الْحَدِيثَ قَالَ: كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا

وَقَضَى عُثْمَانُ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ بِالرَّأْيِ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ رَأَيْت الْآنَ أَنْ أُرِقَّهُنَّ، وَقَالَ

ص: 280

فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل وَنَابَذَ الْإِسْلَامَ.

ــ

[كشف الأسرار]

ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِك وَرَاجِعْ الْحَقَّ إذَا عَلِمْته؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآثَارِ بِحَيْثُ لَا تُحْصَى كَثْرَةً فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَنْ غَيْرِهِمْ إنْكَارٌ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْت وَلَوْ جَعَلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِرَأْيِهِ لَجَعَلَ ذَلِكَ لِرَسُولِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ بَعْضِهَا قُلْنَا: قَدْ اشْتَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ الْإِنْكَارُ عَنْهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بِحَيْثُ لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ فَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ الْإِنْكَارِ إنْ ثَبَتَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ أَوْ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا تَعَبَّدْنَا اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ بِالْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادُ وَالْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالسُّكُوتُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ كَمِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَتَعَيُّنِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ كَمَا عُرِفَ سَخَاوَةُ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ وَمَا نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِأَعْيَانِهَا مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا بِنَقِيضِهَا فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمِثْلِهَا.

وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ طَرْحُ جَمِيعِهَا وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاوَرَاتِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا.

فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا عَدَمَ الْإِنْكَارِ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ السَّكُوتَيَّ لَيْسَ بِقَاطِعٍ وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمِثْلِهِ فِيهَا قُلْنَا: هُوَ إجْمَاعٌ قَاطِعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَآثَرَ الْمُظَفَّرُ السَّمْعَانِيُّ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْفِقْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ شَرَعُوا فِي الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا مِنْهُمْ وَاَلَّذِينَ سَكَتُوا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَقْدَحُ سُكُوتُهُمْ فِي قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ.

1 -

قَوْلُهُ (فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) حَكَى الْجَاحِظُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخُضْ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبْلٍ وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ

ص: 281

وَمَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ النَّاسُ سَوَاءٌ فِي تَكْلِيفِ الِاعْتِبَارِ

ــ

[كشف الأسرار]

أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَهَؤُلَاءِ سَلَاطِينُ وَمَعَهُمْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ انْقَادَتْ لَهُمْ الْعَوَامُّ وَجَازَ لِلنَّافِينَ السُّكُوتُ عَلَى التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ إنْكَارَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ.

، وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَزِمُوا الْعَمَلَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا مَا كُفُوًا عَنْ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لَارْتَفَعَ بَيْنَهُمْ الْخِلَافُ وَالتَّهَارُجُ وَلَمْ يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ لَكِنْ لَمَّا عَدَلُوا عَمَّا كُلِّفُوا وَتَحَبَّرُوا وَتَأَمَّرُوا وَتَكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ جَعَلُوا لِلْخِلَافِ طَرِيقًا وَتَوَرَّطُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَبِمِثْلِهِ طَعَنَتْ الرَّافِضَةُ فِيهِمْ أَيْضًا فَزَعَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ تَأَمَّرُوا وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْعَالِمِ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَحْكَامِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَتَوَرَّطُوا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْخِلَافِ، فَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله مَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَدْحَ رَسُولِهِ إيَّاهُمْ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ يَدُلَّانِ عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ وَارْتِفَاعِ قَدْرِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ الْعَاقِلُ الْقَدْحَ فِيهِمْ بِقَوْلِ مُبْتَدَعٍ، مِثْلِ النَّظَّامِ وَبِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَنَابَذَ الْإِسْلَامَ أَيْ أَظْهَرَ عَدَاوَتَهُ وَمُحَارَبَتَهُ لِأَنَّ الدِّينَ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ قِبَلِهِمْ فَمَتَى طُعِنَ فِيهِمْ لَمْ يَثْبُتْ بِنَقْلِهِمْ شَيْءٌ فَكَانَ الطَّعْنُ فِيهِمْ عَائِدًا إلَى الْإِسْلَامِ فِي التَّحْقِيقِ.

1 -

قَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ) إلَى آخِرِهِ زَعَمَ مَنْ عَجَزَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ عَنْ إنْكَارِ اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الرَّأْيَ فِي الْأَحْكَامِ وَتَحَرَّزَ عَنْ الطَّعْنِ فِيهِمْ فِرَارًا مِنْ الشُّنْعَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ إمَّا بِمُشَاهَدَتِهِمْ الرَّسُولَ وَأَحْوَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ رِعَايَةُ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ وَعَدَمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ أَوْ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَخْصُوصًا بِأَنَّ قَوْلَهُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا تَكْرِيمًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِ النَّصِّ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لِصُلْحٍ بَيْنَ الْأَنْصَارِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَك فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ» ، وَقَدْ كَانَتْ سُنَّةُ الْإِمَامَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مَعْلُومَةً بِالنَّصِّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ بِالرَّأْيِ.

«وَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ هَذَا مَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عُمَرَ: لَوْ عَرَفْنَاك رَسُولًا مَا حَارَبْنَاك اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَلِيًّا رضي الله عنه أَنْ يَمْحُوَ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ فَأَبَى حَتَّى مَحَاهُ الرَّسُولُ عليه السلام بِنَفْسِهِ» وَمَا كَانَ هَذَا الْإِبَاءُ عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَاشْتَغَلَ مُعَاذٌ حِينَ سُبِقَ بِنَقْضِ الصَّلَاةِ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ وَكَانَ هَذَا عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ وَفِي نَظَائِرِهَا كَثْرَةٌ وَكَذَلِكَ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ مِنْ الْمَقَادِيرِ نَحْوُ حَدِّ الشُّرْبِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ثَبَتَ بِآرَائِنَا فَيَثْبُتُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله مَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ أَيْ تَفَرُّدَهُمْ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلِاعْتِبَارِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ خَاصَّةً

ص: 282

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِيمَا أَصَابَ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْمَثُلَاتِ بِأَسْبَابٍ نُقِلَتْ عَنْهُمْ لِنَكُفَّ عَنْهَا احْتِرَازًا عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِهَا لَهَا سَائِغٌ وَالْقِيَاسُ نَظِيرُهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ أَحْكَامًا بِمَعَانِي أَشَارَ إلَيْهَا كَمَا أَنْزَلَ مَثُلَاتٍ بِأَسْبَابٍ قَصَّهَا وَدَعَانَا إلَى التَّأَمُّلِ ثُمَّ الِاعْتِبَارِ

ــ

[كشف الأسرار]

دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَانَ ادِّعَاءُ كَوْنِهِمْ مَخْصُوصِينَ بِالْعَمَلِ بِهِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: وَمَنْ لَا يَرَى إثْبَاتَ شَيْءٍ بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ كَيْفَ يَرَى إثْبَاتَ أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا دَعْوَى الْخُصُوصِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْوَحْيِ وَمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَكَذَا دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ أَنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِ النَّصِّ بِتَرْكِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا بِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِخِلَافِ النَّصِّ فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ لِفَهْمِهِمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّ ذَلِكَ تَرَخُّصٌ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، فَفِي حَدِيثِ الْإِمَامَةِ عَلَى الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّ إشَارَةَ النَّبِيِّ عليه السلام بِأَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّرَخُّصِ وَالْإِكْرَامِ لَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَأَخَّرَ تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ جل جلاله «لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ فِي التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ قَبْلَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام مُرَاعَاةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَعْهُودِ وَالتَّأَخُّرُ إلَى الْحُضُورِ كَانَ رُخْصَةً.

وَكَذَلِكَ عَلِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَحْوِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِلْزَامِ فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا تَتْمِيمَ الصُّلْحِ فَرَأَى إظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَزِيمَةً، ثُمَّ الرَّغْبَةُ فِي الصُّلْحِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِلْإِمَامِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ فِي أَنْ يُظْهِرَ الْإِمَامُ الْمُسَامَحَةَ وَالْمُسَاهَلَةَ فِيمَا يَطْلُبُونَ وَيُظْهِرَ الْمُسْلِمُونَ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَدُوُّ أَنَّهُمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصُّلْحِ لِضَعْفِهِمْ فَلِهَذَا أَبَى عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ عَرَفَ مُعَاذٌ رضي الله عنه أَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْفَائِتِ لِلْمَسْبُوقِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ أَيْسَرَ وَإِنَّ الْعَزِيمَةَ مُتَابَعَةُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَاغْتِنَامُ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ فَاشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ ذَلِكَ أَوَّلًا تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ لَا مُخَالَفَةً لِلنَّصِّ، وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى الرَّأْيِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ)، فَكَذَا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الِاعْتِبَارَ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ كَالِاعْتِبَارِ بِالْمَثُلَاتِ دُونَ الرَّأْيِ فَقَالَ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ فَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَاهُ فَيُلْحَقُ بِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِدْلَالٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ دَلِيلًا مَعْقُولًا لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ لَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَصِيغَتِهِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ إلَى آخِرِهِ هُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْكُفْرُ أَيْ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ الْكُفْرُ لِيَكُفَّ عَنْهَا أَيْ يَمْتَنِعَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مِثْلِ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْجَزَاءِ يَعْنِي وُجُوبُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ بَلْ لِنَعْتَبِرَ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ عَمَّا أَسْبَقَ جَوَابُهُ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ بِالْغَيْرِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ حُكْمٍ هُوَ هَلَاكٌ فِي مَحَلٍّ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ كُفْرٌ وَبَيْنَ

ص: 283

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] فَالْإِخْرَاجُ مِنْ الدِّيَارِ عُقُوبَةٌ بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَالْكُفْرُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَيْهِ

ــ

[كشف الأسرار]

حُكْمٍ هُوَ تَحْلِيلٌ أَوْ تَحْرِيمٌ فِي مَحَلٍّ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ قَدْرٌ وَجِنْسٌ فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ دَلَالَةً وَاللَّامُ فِي لِيَكُفَّ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ أَيْ كَمَا أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي أَحْوَالِ مَنْ قَبْلَنَا وَاجِبٌ لِنَعْتَبِرَ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ، التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ أَيْ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِهَا أَيْ غَيْرِ أَلْفَاظِهَا الدَّالَّةِ عَلَيْهَا بِالْوَضْعِ لَهَا أَيْ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي سَائِغٌ أَيْ جَائِزٌ كَالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى الشُّجَاعِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْمَوْصُوفُ بِالشَّجَاعَةِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ الْأَسَدُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَشْهُورَةِ لِذَلِكَ الْهَيْكَلِ سَائِغٌ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا التَّأَمُّلُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِتَعْرِفَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَتَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ يَكُونُ جَائِزًا أَيْضًا وَلَوْ قِيلَ: وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَتِهَا لِغَيْرِ مَوْضُوعَاتِهَا سَائِغٌ لَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي مَعْنَى الثَّابِتِ بِإِشَارَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ التَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى اللِّسَانِ الثَّابِتِ بِوَضْعِ وَاضِعِ اللُّغَةِ، ثُمَّ التَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ حَتَّى نَجْعَلَ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعَارًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِطَرِيقِهِ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ مِنْ عَمَلِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ النَّصِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُلِمَ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْمُؤَثِّرَ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا لَا يُعْرَفُ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ إلَّا مِنْ الْعَرَبِ فَكَانَ الْبَابَانِ وَاحِدًا غَيْرَ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّمَاعِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَفِي الْآخَرِ مِنْ الْعَرَبِ.

وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَيْضًا إنَّا أَحْيَيْنَا بِالْقِيَاسِ الْحُجَجَ حَتَّى عَمَّتْ بِالتَّعْلِيلِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا فِي غَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ لُغَةً كَمَا أَحْيَا هُوَ - وَنَحْنُ مَعَهُ - حَقَائِقَ النُّصُوصِ بِالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فَأَمْكَنَنَا الْعَمَلُ بِهَا فِي غَيْرِ مَا وَضَعَهَا وَاضِعُ اللُّغَةِ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اقْتِرَاحًا عَلَى اللِّسَانِ وَلَا وَضْعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَالْقِيَاسُ نَظِيرُهُ أَيْ نَظِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِبَارِ الْوَاجِبِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ، وَدَعَانَا إلَى التَّأَمُّلِ ثُمَّ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَتَوَقَّفُ عَلَى سَابِقَةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ الدُّعَاءُ إلَى الِاعْتِبَارِ دُعَاءً إلَى التَّأَمُّلِ.

1 -

قَوْلُهُ (وَبَيَانُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ التَّأَمُّلِ الْمُؤَدِّي إلَى الِاعْتِبَارِ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي النَّصِّ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] يَعْنِي يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إلَى مَكَّةَ فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ غِيلَةً وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ عليه السلام بِالْكَتَائِبِ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَاسْتُمْهِلُوا عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَدَسَّ الْمُنَافِقُونَ إلَيْهِمْ لَا تَخْرُجُوا مِنْ الْحِصْنِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ لَا نَخْذُلُكُمْ وَإِنْ خَرَجْتُمْ لَنَجْرُجَنَّ مَعَكُمْ فَلَمَّا آيَسُوا مِنْ نَصْرِهِمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ إلَّا الْجَلَاءَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ بِأَذْرَعَاتٍ وَأَرِيحَا إلَّا أَهْلُ

ص: 284

وَأَوَّلُ الْحَشْرِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْرَارِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ. وقَوْله تَعَالَى {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إصَابَةَ النُّصْرَةِ جَزَاءُ التَّوَكُّلِ وَقَطْعُ الْحِيَلِ وَأَنَّ الْمَقْتَ وَالْخِذْلَانَ جَزَاءُ النَّظَرِ إلَى الْقُوَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِالشَّوْكَةِ إلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ مَعَانِي النَّصِّ ثُمَّ دَعَانَا إلَى الِاعْتِبَارِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلُ أَبِي الْحَقِيقِ وَآلُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؛ فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِخَيْبَرَ وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ بِالْحِيرَةِ.

وَاللَّامُ فِي " لِأَوَّلِ الْحَشْرِ " مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخْرَجَ وَهِيَ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي وَفِي جِئْته لِوَقْتِ كَذَا وَالْمَعْنَى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ مَعْنَى أَوَّلِ الْحَشْرِ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ إلَى الشَّامِ وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ قَطُّ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى الشَّامِ، أَوْ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ وَالْحَشْرُ الثَّانِي إجْلَاءُ عُمَرَ إيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إلَى الشَّامِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ: الْحَشْرُ الثَّانِي حَشْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَحْشَرَ يَكُونُ بِالشَّامِّ {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ وَوَثَاقَةِ حُصُونِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ أَوْ عَذَابُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لَمْ يَظُنُّوا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَهُمْ وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] بِقَتْلِ رَئِيسِهِمْ غِرَّةً عَلَى يَدِ أَخِيهِ وَالرُّعْبُ الْخَوْفُ الَّذِي يُرْعِبُ الصَّدْرَ أَيْ يَمْلَؤُهُ وَقَذْفُهُ إثْبَاتُهُ وَرَكْزُهُ، " يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ " التَّخْرِيبُ الْإِخْرَابُ وَالْإِفْسَادُ بِالنَّقْضِ وَالْهَدْمِ، وَقِيلَ: التَّخْرِيبُ الْهَدْمُ وَالْإِخْرَابُ تَرْكُهُ لَا سَاكِنَ فِيهِ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ كَانُوا يُخْرِبُونَ بَوَاطِنَهَا وَالْمُسْلِمُونَ ظَوَاهِرَهَا لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ وَأَنْ لَا يَبْقَى لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ وَلَا مِنْهُمْ دَيَّارٌ وَاَلَّذِي دَعَاهُمْ إلَى التَّخْرِيبِ حَاجَتُهُمْ إلَى الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ لِيَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْأَزِقَّةِ وَأَنْ لَا يَتَحَسَّرُوا بَعْدَ جَلَائِهِمْ عَلَى بَقَائِهَا مَسَاكِنَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَنْقُلُوا مَعَهُمْ مَا كَانَ فِي أَبْنِيَتِهِمْ مِنْ الْخَشَبِ وَالسَّاجِ الْمَلِيحِ.

وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَدَاعِيهِمْ إزَالَةُ مُتَحَصَّنِهِمْ وَمُتَمَنَّعِهِمْ وَأَنْ يَتَّسِعَ لَهُمْ مَجَالُ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى تَخْرِيبِهِمْ لَهَا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَضُوهُمْ لِذَلِكَ وَكَانُوا السَّبَبَ فِيهِ فَكَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ وَكَلَّفُوهُمْ إيَّاهُمْ " فَاعْتَبِرُوا " فَاتَّعِظُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ يَا ذَوِي الْعُقُولِ وَلَا تَفْعَلُوا فِعْلَ بَنِي النَّضِيرِ فَيَنْزِلَ بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ.

وَبَيَّنَ الشَّيْخُ طَرِيقَ الْمُتَأَمِّلِ فِيهَا لِلِاعْتِبَارِ فَقَالَ فَالْإِخْرَاجُ مِنْ الدِّيَارِ عُقُوبَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ عَدِيلُ الْقَتْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] وَلِكَوْنِهِ مِثْلَ الْقَتْلِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ اخْتَارَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْقَتْلَ عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْكُفْرُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِخْرَاجِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْقَتْلِ فَيَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْإِخْرَاجِ أَيْضًا وَأَوَّلُ الْحَشْرِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْرَارِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى ثَانٍ بَعْدَهُ، وَهُوَ إجْلَاءُ عُمَرَ كَمَا بَيَّنَّا وَإِصَابَةُ النُّصْرَةِ جَزَاءُ التَّوَكُّلِ وَقَطْعِ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَظُنُّوا خُرُوجَهُمْ رَأَوْا أَنْفُسَهُمْ عَاجِزِينَ عَنْ إخْرَاجِهِمْ وَحِيَلُهُمْ مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فَجُوزُوا بِالنُّصْرَةِ وَالنَّجَاحِ وَإِنَّ الْمَقْتَ أَيْ السَّخَطَ وَالْبُغْضَ يُقَالُ: مَقَتَهُ أَيْ أَبْغَضَهُ، وَالْخِذْلَانَ أَيْ تَرْكَ الْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ جَزَاءُ النَّظَرِ إلَى الْقُوَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِالشَّوْكَةِ أَيْ شِدَّةِ الْبَأْسِ وَحِدَّةِ السِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا إلَى قُوَّتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ اللَّهِ جُوزُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ دَعَانَا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ " فَاعْتَبِرُوا " إلَى الِاعْتِبَارِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ أَيْ لِنَعْمَلَ بِمَا وَضَحَ لَنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَنَقِيسُ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ فَنَحْتَرِزُ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلُوا تَوَقِّيًا عَنْ مِثْلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْ كَمَا وَجَبَ لَنَا

ص: 285

وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ كَلِمَةُ إلْصَاقٍ فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ مِثْلِ قَوْلِك: بِسْمِ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا سَوَاءً بِالسَّوَاءِ وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَالْحِنْطَةُ اسْمُ عَلَمٍ لِمَكِيلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ حَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ أَيْ بِيعُوا بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ يَكُونُ وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْأَمْرِ إلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ.

وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْقَدْرُ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَثَبَتَ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ وَالْفَضْلُ اسْمٌ لِكُلِّ زِيَادَةٍ، وَقَوْلُهُ رِبًا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ هِيَ حَرَامٌ

ــ

[كشف الأسرار]

التَّأَمُّلُ فِي مَعْنَى هَذَا النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ يَجِبُ التَّأَمُّلُ فِي سَائِرِ النُّصُوصِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ بِإِشَارَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِيُعْمَلَ بِهَا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.

1 -

قَوْلُهُ (وَبَيَانُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ التَّأَمُّلِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِإِشَارَةِ الشَّارِعِ يَتَحَقَّقُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» الْحَدِيثَ، رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ بِدَلَالَةِ كَلِمَةِ الْبَاءِ؛ فَإِنَّهَا يَقْتَضِي فِعْلًا يَلْتَصِقُ بِوَاسِطَتِهَا بِمَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَيُضْمَرُ فِعْلٌ يُنَاسِبُهَا فَكَانَ مَعْنَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَمَعْنَى رِوَايَةِ النَّصْبِ وَهِيَ مُخْتَارَةُ الشَّيْخِ هَاهُنَا بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مِثْلُ قَوْلِك بِسْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى فِعْلًا أُضْمِرَ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْمُضْمَرَ مَا ذَكَرْنَا هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَالْحِنْطَةُ اسْمُ عَلَمٍ لِمَكِيلٍ أَيْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ غَيْرُ مَعْنَوِيٍّ لِنَوْعٍ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُكَالَ وَلَمْ يُرِدْ تَحَقُّقَ الْكَيْلِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلْ أَصْلًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا، وَقَدْ قُوبِلَ هَذَا الْمُسَمَّى بِجِنْسِهِ بِقَوْلِهِ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ.

وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ حَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَيَكُونُ حَالًا عَنْ الْمَفْعُولِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوط لِأَنَّهَا صِفَاتٌ وَالصِّفَاتُ مُقَيِّدَةٌ كَالشُّرُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ رَاكِبَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ رَكِبْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ يَكُونُ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ: إذَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ فَبِيعُوا فِي حَالَةِ الْمُسَاوَاةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا اخْتَارَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ النَّصْبِ الْمُقْتَضِيَةَ لِإِضْمَارِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إيجَابِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَشْرُوطًا بِشَرَائِطَ يُفْتَرَضُ مُرَاعَاتُهَا عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَاتِهِ فَرْضًا كَالنِّكَاحِ لَمَّا شُرِعَ بِشَرْطِ الشُّهُودِ يُفْتَرَضُ إحْضَارُ الشُّهُودِ لِانْعِقَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ وَاجِبًا وَكَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ يُفْتَرَضُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِهَا مِنْ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا وَاجِبَةً.

وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ أَيْ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ وَذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَوَزْنًا بِوَزْنٍ؛ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ قَدْرًا لَا وَصْفًا وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَثَبَتَ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَيْ ثَبَتَ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَهُوَ إضْمَارُ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ وَكَوْنُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ مُرَادًا مِنْهُ الْمِثْلُ بِإِشَارَةِ صِيغَةِ الْكَلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَاهَا، وَالْفَضْلُ اسْمٌ لِكُلِّ زِيَادَةٍ أَيْ زِيَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ بِأَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَدَلَيْنِ كَزِيَادَةِ قَفِيزٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَزِيَادَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً.

وَقَوْلُهُ رِبًا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] لَا لِكُلِّ زِيَادَةٍ؛ فَإِنَّ الرِّبْحَ فِي التِّجَارَةِ وَالنَّمَاءَ فِي

ص: 286

وَهُوَ فَضْلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ لِيَكُونَ فَضْلًا عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الْقَدْرُ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ

ــ

[كشف الأسرار]

الزِّرَاعَةِ زِيَادَةٌ وَلَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى رِبًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَهُوَ أَيْ الْفَضْلُ الَّذِي هُوَ رِبَا فَضْلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ مُعَاوَضَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ ظُلْمًا وَاشْتِرَاطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَشَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَعَ الْعَبْدِ ثَوْبًا أَوْ يَعْمَلَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعٍ عَمَلًا؛ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِخُلُوِّ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمَلُّكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِأَنْ يَقُولَ مَلَّكْتُك هَذَا الْعَرَضَ بِهِبَةٍ بِلَا مَالٍ يَحِلُّ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمَّا كَانَ عَقْدَ تَبَرُّعٍ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ مَا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ الْخُلُوِّ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ لَا يَكُونُ رِبْحًا وَلَيْسَ الرِّبْحُ بِحَرَامٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْأَسْوَاقَ مَا وُضِعَتْ إلَّا لِلِاسْتِرْبَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ وَثَوْبٍ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ جَائِزٌ وَالْفَضْلُ فِيهِ مُتَحَقِّقٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا فِي عَقْدِ الْمَرِيضِ وَبَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ.

قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ اشْتِرَاطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مُغَيِّرًا لِمُقْتَضَاهُ لَكِنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ تَظْهَرُ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ جُعِلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مُتَقَوِّمًا بِعَشْرَةٍ لِرَغْبَتِهِ فِي شِرَائِهِ بِعَشْرَةٍ وَلَهَا أَثَرٌ فِي إثْبَاتِ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ؛ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الْأَسْعَارِ بِرَغَائِبِ النَّاسِ وَلَعَلَّ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةً وَمَصْلَحَةً تُسَاوَى بِعَشَرَةٍ فَكَانَ فِي حَقِّهِ مُتَقَوِّمًا بِعَشْرَةٍ وَرَبِحَ الْآخَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ لِأَنَّ فِي السُّوقِ قِيمَتَهَا عَشَرَةٌ وَكَذَا لَوْ بَاعَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِدِرْهَمٍ يُجْعَلُ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِتَرَاجُعِ رَغْبَتِهِمَا فِيهِ فَلَمْ يَخْلُ فَضْلٌ عَنْ الْعِوَضِ وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَهْلِ السُّوقِ يُسَاوَى بِعَشْرَةٍ ظَهَرَ الرِّبْحُ عِنْدَ الْبَيْعِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ وَرَجَعَتْ الْمَالِيَّةُ إلَى الذَّاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي مَالِيَّةٌ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَكَذَا فِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْيَتِيمِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَا فِي خَالِصِ مِلْكِهِمْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رَغْبَتِهِمْ لِتَأْدِيَتِهَا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ أَيْضًا.

وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ أَيْ الْقَدْرِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْكَيْلُ لَا مُطْلَقُ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ مُسَاوَاةً بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَضْلِ لِيُمْكِنَ تَحْقِيقُ فَضْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَا يُقَالُ لِفُلَانٍ فَضْلٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْعِلْمِ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ مُسَاوَاةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ فِيهِ وَهَاهُنَا ذُكِرَتْ الْمُمَاثَلَةُ، ثُمَّ ذُكِرَ الْفَضْلُ بَعْدَهَا.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام كَيْلًا بِكَيْلٍ وَبِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَى هَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ يَكُونُ فَضْلًا عَلَى الْكَيْلِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ كَمَا لَوْ قِيلَ: زَيْدٌ فَقِيهٌ وَعَمْرٌو فَقِيهٌ إلَّا أَنَّ زَيْدًا أَفْضَلُ مِنْهُ يَنْصَرِفُ قَوْلُهُ أَفْضَلُ إلَى صِفَةِ الْفِقْهِ الْمَذْكُورَةِ لَا إلَى صِفَةٍ لَمْ تُذْكَرْ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَدَلَيْنِ لَوْ تَمَاثَلَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ

ص: 287

وَصَارَ حُكْمُ النَّصِّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَدْرِ ثُمَّ الْحُرْمَةَ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ حُكْمِ الْأَمْرِ هَذَا حُكْمُ هَذَا النَّصِّ عَرَفْنَاهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَةِ النَّصِّ فَوَجَبَ عَلَيْنَا التَّأَمُّلُ فِيمَا هُوَ دَاعٍ إلَى هَذَا الْحُكْمِ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِهَذَا النَّصِّ، وَهُوَ إيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِجِنْسِهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا الدَّاعِيَ إلَى هَذَا الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَلَنْ تَكُونَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً إلَّا بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ الْمُحْدَثِ مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ؛ فَإِنَّمَا تَقُومُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِمَا فَالْقَدْرُ عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الْمِعْيَارِ بِمَنْزِلَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَصَارَ بِهِ يَحْصُلُ الْمُمَاثَلَةُ صُورَةً وَالْجِنْسُ عِبَارَةٌ عَنْ مُشَاكَلَةِ الْمَعَانِي فَتَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ مَعْنًى

ــ

[كشف الأسرار]

وَالْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ مَوْجُودٌ حَرُمَ وَلَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ.

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ اشْتِرَاطُ الْكَيْلِ فِي الْفَضْلِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ هُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْكَيْلِ لَا مُطْلَقُ الْمُمَاثَلَةِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَى مِلْكِ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَكُونُ حَرَامًا مَا لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا لِأَنَّ السَّابِقَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ.

وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَدْرُ أَيْ الْكَيْلُ وَالْفَضْلُ مَعْهُودٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ قَدْرًا أَيْ كَيْلًا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ أَدْنَى مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَةِ نِصْفُ صَاعٍ وَذَلِكَ مُدَّانِ حَتَّى لَوْ بَاعَ مُدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ بِثَلَاثَةِ أَمْنَاءٍ مِنْهَا لَا يَجُوزُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنَّ الْوَاحِدَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزٍ مِنْهَا وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْكَيْلَ.

قَوْلُهُ (فَصَارَ حُكْمُ النَّصِّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَدْرِ) يَعْنِي ثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فِي الْقَدْرِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ، ثُمَّ الْحُرْمَةُ أَيْ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مَا يَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ كَيْلًا فَلَمْ يَكُنْ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْكَيْلُ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْفَضْلُ الْحَرَامُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ مَا تُبْتَنَى الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَوَاتُ التَّسْوِيَةِ مَعَ إمْكَانِ رِعَايَتِهَا فَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةَ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِجِنْسِهَا أَيْ عِنْدَ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بَيْعِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ بِجِنْسِهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا الدَّاعِيَ إلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ قَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ الْحَرَامِ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ عَلَّلْنَا فَقُلْنَا: إنَّمَا وَجَبَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةُ الْمَالِيَّةِ وَكَوْنُهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ التَّسْوِيَةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ؛ فَإِنَّ الْبَدَلَيْنِ لَمَّا تَسَاوَيَا كَانَ الزَّائِدُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ ظُلْمًا.

وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الذَّاتِ وَالْجِنْسَ فِي الْمَعْنَى وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَوَيَا صُورَةً وَمَعْنًى اسْتَوَيَا قَطْعًا فَصَارَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ مُضَافًا إلَى كَوْنِهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَكَوْنُهَا أَمْثَالًا ثَابِتٌ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَيُضَافُ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ إلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَصَارَتْ حُرْمَةُ الْفَضْلِ مُضَافَةً إلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ فَإِيجَابُ التَّسْوِيَةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِلْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ فَالْكَيْلُ وَنَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلْكَيْلِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْحِلِّ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَعَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الْمُتَفَاضِلَيْنِ كَالنِّكَاحِ جُعِلَ عَلَمًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَلِلْحُرْمَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَعْنِي فِيمَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ؛ فَإِنَّ ذِرَاعًا مِنْ الثَّوْبِ يُمَاثِلُ ذِرَاعًا مِنْ اللُّبَدِ صُورَةً كَمَا أَنَّ ذِرَاعًا مِنْ الثَّوْبِ يُمَاثِلُ ذِرَاعًا آخَرَ مِنْ الثَّوْبِ

ص: 288

وَسَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ.

وَبِالْإِجْمَاعِ فِيمَنْ بَاعَ قَفِيزًا جَيِّدًا بِقَفِيزٍ رَدِيءٍ وَزِيَادَةِ فَلْسٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلِمَا عُرِفَ أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِهَلَاكِهِ فَمَنْفَعَتُهُ فِي ذَاتِهِ وَلَمَّا صَارَتْ أَمْثَالًا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لِلْجَوْدَةِ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً

ــ

[كشف الأسرار]

صُورَةً وَمَعْنًى.

قَوْلُهُ (وَسَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَثْبُتُ حَقِيقَةً بِمَا ذَكَرْتُمْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَبْقَى تَفَاوُتٌ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْوَصْفِ بَعْدَ اسْتِوَائِهِمَا قَدْرًا وَجِنْسًا؛ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَزْدَادُ بِالْجَوْدَةِ وَتَنْتَقِصُ بِالرَّدَاءَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ كَمَا فِي الْعَبِيدِ وَالثِّيَابِ فَقَالَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ بَقِيَتْ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةٌ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا وَلَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ سَوَاءٌ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ» وَالْعَيْنُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ التِّبْرِ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا سَوَاءً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ نَصًّا عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ.

وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِدَلَالَتِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ وَزِيَادَةِ فَلْسٍ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ إذْ لَوْ بَقِيَتْ الْجَوْدَةُ مُتَقَوِّمَةً لَأَمْكَنَ جَعْلُ الْفَلْسِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، إذْ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ صَحِيحٌ إذَا كَانَتْ مَعَ الْأَصْلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَكَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَلِمَا عُرِفَ وَهُوَ الْوَجْهُ الْمَعْقُولُ أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِهَلَاكِهِ فَمَنْفَعَتُهُ فِي ذَاتِهِ لَا فِي أَوْصَافِهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِأَوْصَافِهِ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ وَالتَّقْوِيمُ لِلْأَشْيَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْأَوْصَافِ نَفْسِهَا مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ فَهَدَرٌ وَتَبْقَى الْعِبْرَةُ لِلْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا فَتَكُونُ أَوْصَافُهَا مُعْتَبَرَةً وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِهِ رَدِيئًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ تَبَرُّعًا حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَتْ الْجَوْدَةُ سَاقِطَةً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ لَجَازَ الْبَيْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُجْعَلْ تَبَرُّعًا فِي الثَّانِيَةِ كَمَا لَوْ بَاعُوا فُلُوسًا جَيِّدَةً رَائِجَةً بِفُلُوسٍ رَدِيئَةٍ رَائِجَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ مَعَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تَسْقُطُ قِيمَتُهَا إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْأَصْلِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ، وَقَدْ حُجِرَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَنْظَرِ وَالْمُقَابَلَةُ بِالْجِنْسِ طَرِيقٌ لِإِسْقَاطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ وَلَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ فَأَمَّا الْعَاقِلُ الْبَالِغُ فَمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَصَحَّ مِنْهُ التَّصَرُّفُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ جَمِيعًا، وَلِهَذَا نَقُولُ: إذَا اسْتَهْلَكَ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً يَضْمَنُ مِثْلَهَا جَيِّدَةً؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ إنَّمَا تَسْقُطُ إذَا قُوبِلَ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِمُقَابَلَتِهِ بِالرَّدِيءِ حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ أَيْضًا.

1 -

قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَارَتْ) أَيْ الْأَمْوَالُ الْمَذْكُورَةُ أَمْثَالًا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ شَرْطًا أَيْ لِصَيْرُورَتِهَا أَمْثَالًا يَعْنِي لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ كَيْلًا بِكَيْلٍ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ الْحَرَامِ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا بِسُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِطَرِيقِ الشَّرْطِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ لَا عِلَّةً يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْ سُقُوطَ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِأَنَّ سُقُوطَ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا وَالْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ إذْ الْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ أَثَرًا لِلْعَدَمِ وَنَتِيجَةً لَهُ فَلَا يَصْلُحُ التَّمَاثُلُ الَّذِي هُوَ وُجُودِيٌّ أَثَرًا لِعَدَمِ

ص: 289

صَارَتْ الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةً بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَصَارَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ فَضْلًا عَلَى هَذَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِوَاسِطَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَصَارَ شَرْطَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخَمْرِ فَفَسَدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهَذَا أَيْضًا مَعْقُولٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدُ إلَّا الِاعْتِبَارُ، وَهُوَ أَنَّا وَجَدْنَا الْأَرُزَّ وَالْجِصَّ وَالدَّخَنَ وَسَائِرَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً فَكَانَ الْفَضْلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ بِلَا تَفَاوُتٍ فَلَزِمَنَا إثْبَاتُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ افْتِرَاقٌ وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِظَوَاهِرِهَا تَصْدِيقًا وَإِثْبَاتُ مَعَانِيهَا طُمَأْنِينَةً

ــ

[كشف الأسرار]

تَقَوُّمِ الْجَوْدَةِ فَيُجْعَلُ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ شَرْطًا لَا عِلَّةً صَارَتْ الْمُمَاثَلَةُ جَوَابُ لَمَّا ثَابِتَةً بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَيْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِوَاسِطَةِ الْمُمَاثَلَةِ، الْبَاءُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُتَمَاثِلِينَ وَالثَّانِيَةُ بِصَارَ أَيْ صَارَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ فَضْلًا بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَصَارَ شَرْطُ شَيْءٍ مِنْهَا أَيْ مِنْ الْأَعْيَانِ فِي الْبَيْعِ أَيْ فِي بَيْعِ الْمُتَجَانِسَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَرَامٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُفَوِّتٌ لِلْمُمَاثَلَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْأَمْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ بِمَا إذَا بَاعَ جَوْزَةً بِجَوْزَتَيْنِ أَوْ بَيْضَةً بِبَيْضَتَيْنِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَإِنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ قَطْعًا بِالْعَدَدِ وَالْجِنْسِ كَالْمَكِيلَاتِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ وَالْمَوْزُونَاتِ بِالْوَزْنِ وَالْجِنْسِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا مَعَ التَّفَاوُتِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدَدَ يَجْعَلُهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِ قَطْعًا بِخِلَافِ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ قَدْرًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ الْعَدَدُ التَّسْوِيَةَ قَطْعًا اُعْتُبِرَ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلتَّسْوِيَةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْرِي فِيهَا الْمُمَاكَسَةُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ أَمْثَالًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مَعَ قِيَامِ التَّفَاوُتِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُدْوَانِ وَاجِبٌ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْقِيمَةِ أَكْثَرُ فَلَوْ لَمْ نَتَحَمَّلْ هَذَا التَّفَاوُتَ لَوَقَعْنَا فِي تَفَاوُتٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ تَفَاوُتُ الْقِيمَةِ وَالسَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَسُوهِلَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ يَصِحُّ فِي الثِّيَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَلَا مَحَلًّا لِلرِّبَا، كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ فَهَذَا أَيْ كَوْنُ الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ هُوَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَيْ مَفْهُومٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ؛ فَإِنَّ.

قَوْلَهُ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ» يُشِيرُ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يُشِيرُ إلَى الْقَدْرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ يَعْنِي ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ النَّصِّ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ وَالْمَعْنَى الدَّاعِي إلَيْهِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ إلَّا الِاعْتِبَارُ، وَهُوَ أَيْ الِاعْتِبَارُ أَيُّ طَرِيقُهُ كَذَا مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ بِلَا تَفَاوُتٍ أَيْ مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا فَلَزِمَنَا إثْبَاتُهُ أَيْ إثْبَاتُ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا أَيْ هَذَا الِاعْتِبَارُ مِثْلُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ أَيْ فِي الْأَمْثِلَةِ أَوْ هَذَا الْمِثَالُ الَّذِي فِي صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ مِثْلُ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْمَثُلَاتُ وَالِاسْتِعَارَاتُ لَيْسَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَرْقٌ؛ فَإِنَّ التَّأَمُّلَ فِي إشَارَاتِ نُصُوصِ الْمَثُلَاثِ لِتُعْرَفَ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةُ إلَى وُقُوعِهَا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالتَّأَمُّلَ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَتِهَا لِغَيْرِهَا، مِثْلُ التَّأَمُّلِ فِي إشَارَاتِ حَدِيثِ الرِّبَا وَأَمْثَالِهِ لِتُعْرَفَ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ.

1 -

قَوْلُهُ (وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا) لَمَّا فَرَغَ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِ الْخُصُومِ فَقَالَ: حَصَلَ بِمَا قُلْنَا مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ اعْتِقَادُ حَقِّيَّةَ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ أَيْ بِنَفْسِهَا وَنَظْمِهَا. وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ بِإِثْبَاتِ مَعَانِيهَا؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ يَطْمَئِنُّ بِالْوُقُوفِ عَلَى

ص: 290

وَشَرْحًا لِلصُّدُورِ وَثَبَتَ بِهِ تَعْمِيمُ أَحْكَامِ النُّصُوصِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ حُدُودِهَا.

وَلَزِمَنَا بِهَذَا الْأَصْلِ مُحَافَظَةُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا وَمُحَافَظَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامُهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مَعًا، وَهُوَ الْحَقُّ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ وَمَا لِلْخَصْمِ إلَّا التَّمَسُّكُ بِالْجَهْلِ وَصَارَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي ثَابِتًا بِحُجَّةٍ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ وَفِي التَّعْيِينِ احْتِمَالٌ وَجَائِزٌ وَضْعُ الْأَسْبَابِ لِلْعَمَلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ قَبْلَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه طَلَبَ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] بَعْدَمَا قَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ لَهُ حَتَّى قَالَ {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] .

وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِهِ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَسُكُونِهِ إلَيْهِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْسِيعِهِ وَتَفْسِيحِهِ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَالشَّرْحُ يُضَافُ إلَى الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ فِنَاءُ الْقَلْبِ وَالتَّوَسُّعُ يُضَافُ إلَى الْفِنَاءِ يُقَالُ فُلَانٌ رَحْبُ الْفِنَاءِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ نُورًا وَشَرْحًا لِلصَّدْرِ فَقَالَ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، وَقَالَ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] وَالْقَلْبُ يَرَى الْغَائِبَ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ كَالْعَيْنِ تَرَى الْحَاضِرَ بِالنَّظَرِ، ثُمَّ لَا إشْكَالَ أَنَّ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَحْصُلُ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ بِالْخَبَرِ إذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِالطَّرِيقِ وَاعْتَقَدَ الصِّدْقَ فِي خَبَرِهِ يَحْصُلُ لَهُ بَعْضُ الِانْشِرَاحِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ انْشِرَاحُهُ إذَا عَايَنَ أَعْلَامَ الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ فِي رُؤْيَةِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا تَأَمَّلَ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَيْهِ يَتِمُّ بِهِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَيَحْصُلُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ بِالنُّورِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا التَّأَمُّلِ وَالْأَمْرُ بِالْوُقُوفِ عَلَى مَوَاضِعِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمَعْنَى يَكُونُ نَوْعَ حَجْرٍ وَرَفْعًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْقِيَاسُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنْ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ مَا هُوَ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] بِأَنَّ الْعِلْمَ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ.

وَيَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي تَعْمِيمُ أَحْكَامِ النُّصُوصِ؛ فَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَكُونُ مُقْتَصِرًا قَبْلَ التَّعْلِيلِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ يَثْبُتُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ كَحُكْمِ نَصِّ الرِّبَا كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَعْدَ التَّعْلِيلِ عَمَّ سَائِرَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْ وَفِي تَعْمِيمِ أَحْكَامِهَا تَعْظِيمُ حُدُودِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِيمَا نُصَّ عَلَيْهِ وَبِمَعَانِيهَا فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْفُرُوعِ فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الْخَصْمُ مِنْ تَخْصِيصِ إعْمَالِ النُّصُوصِ فِيمَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِهْمَالِهَا فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ.

وَلَزِمَنَا بِهَذَا الْأَصْلِ أَيْ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ مُحَافَظَةُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا أَيْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَمُحَافَظَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَيْ النُّصُوصُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامُ النُّصُوصِ وَهِيَ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقِفْ عَلَى النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ لَا نَصَّ فِيهَا وَمَا لَمْ يَقِفْ عَلَى مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ النُّصُوصِ جَمْعًا أَيْ لِأَجْلِ حُصُولِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ حِفْظُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ هُوَ الْحَقُّ فَكَانَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ حَقًّا وَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَكَانَ مَا قَالَ الْخَصْمُ أَنَّ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْقِيَاسِ مُحَافَظَةَ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا زَعْمًا بَاطِلًا وَوَهْمًا خَطَأً وَمَا لِلْخَصْمِ، وَهُمْ نُفَاةُ الْقِيَاسِ إلَّا التَّمَسُّكُ

ص: 291

كَالنُّصُوصِ الْمُحْتَمَلَةِ بِصِيغَتِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصَارَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ يُضَافُ إلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ صُيِّرَ إلَى الْحَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ.

ــ

[كشف الأسرار]

بِالْجَهْلِ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَمَآلُهُ إلَى الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ مَدَارَهُ عَلَى أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَحْضَةِ بِمَنْزِلَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي النُّصُوصِ وَإِنْ صَارَ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَعْنًى عَيَّنَهُ الْقَائِسُ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ احْتِمَالَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ، لَكِنَّ وَضْعَ الْأَسْبَابِ أَيْ شَرْعَهَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ جَائِزٌ كَالنُّصُوصِ الْمُحْتَمَلَةِ بِصِيَغِهَا مِثْلُ الْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ مِنْ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ، وَصَارَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ لُغَةً فَكَانَ بَيَانًا بِمَعْنَاهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى جَلِيٌّ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ كَحُرْمَةِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ بِمَعْنَى الْأَذَى الْمَوْجُودِ فِي التَّأْفِيفِ وَخَفْيٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ تَأَمُّلٍ كَتَعَلُّقِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِوَصْفَيْ النَّجَاسَةِ وَالْخُرُوجِ فِي الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الظَّاهِرِ إثْبَاتًا لَهُ بِالْكِتَابِ كَانَ إثْبَاتُهُ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ كَذَلِكَ أَيْضًا فَيَكُونُ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ بِظَاهِرِهِ وَمَعْنَاهُ.

، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكِتَابِ الْمُبِينِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فِي عَامَّةِ الْأَقَاوِيلِ لَا الْقُرْآنُ وَكَانَ أَوْلَى أَيْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَالِ لِمَا قُلْنَا، وَثَبَتَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذَا عُدِمَ النَّصُّ عِنْدَهُمْ أَوْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ.

وَقَوْلُهُمْ: لَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِابْتِدَاءِ لَا فِيمَا إذَا تَعَلَّقَ طَاعَةٌ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، ثُمَّ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ، وَهُوَ حَدِيثُ أَوْلَادِ السَّبَايَا فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقِيَاسُ الْمَهْجُورُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ فِي نَصْبِ الشَّرَائِعِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ لَا الْقِيَاسُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ إظْهَارُ مَا قَدْ كَانَ وَرَدُّ مَشْرُوعٍ إلَى نَظَائِرِهِ.

وَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي سَائِرِ مَا رَوَوْا مِنْ الْأَخْبَارِ الرَّأْيُ الْمُقْتَرَحُ الْمَذْمُومُ الَّذِي هُوَ مَدْرَجَةٌ إلَى الضَّلَالِ أَوْ الرَّأْيُ الَّذِي يَكُونُ الْمَقْصُود مِنْهُ رَدَّ الْمَنْصُوصِ نَحْوُ مَا فَعَلَهُ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَا الرَّأْيُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ إظْهَارُ الْحَقِّ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي إظْهَارِ قِيمَةِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ جل جلاله {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَالصَّحَابَةُ عَنْ آخِرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدِهِمْ عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهُ كَمَا بَيَّنَّا فَكَيْفَ يُظَنُّ الِاتِّفَاقُ عَلَى مَا ذَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام أَوْ جَعَلَهُ مَدْرَجَةً إلَى الضَّلَالِ هَذَا شَيْءٌ لَا يَظُنُّهُ إلَّا ضَالٌّ.

كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَمَا قَالَ النَّظَّامُ: إنَّ الْقِيَاسَ عَلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ.

قَوْلُهُ: لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ. قُلْنَا: أَمَّا الْفَرْقُ فَلِافْتِرَاقِهَا فِي الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ بِهَا

ص: 292