المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ بَيَانِ قِسْمِ) (الِانْقِطَاعِ)وَهُوَ نَوْعَانِ

- ‌ مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ

- ‌ إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ

- ‌[الإنقطاع الظَّاهِرُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] [

- ‌ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ

- ‌ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ

- ‌[الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ]

- ‌ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ

- ‌[الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ]

- ‌ خَبَرُ الْمَسْتُورِ

- ‌[الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ]

- ‌ خَبَرِ الْفَاسِقِ

- ‌[خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ]

- ‌[خَبَر صَاحِبُ الْهَوَى]

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ)

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَبَرُ]

- ‌ بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ)

- ‌بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى)

- ‌(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي)

- ‌(بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ)

- ‌‌‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ

- ‌[كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[تعارض الْجُرْح وَالتَّعْدِيل]

- ‌(بَابُ الْبَيَانِ)

- ‌[أَوْجُه الْبَيَانُ]

- ‌[بَيَانُ التَّقْرِير]

- ‌ بَيَانُ التَّفْسِيرِ

- ‌[تَخْصِيصِ الْعَامِّ]

- ‌(بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ)

- ‌[أَنْوَاع بَيَانِ التَّغْيِيرِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ}

- ‌[أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[تَفْسِيرِ النَّسْخِ]

- ‌النَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ)

- ‌[أَقْسَام مَالَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ شُرُوطِ النَّسْخ]

- ‌{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ}

- ‌[النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]

- ‌نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ

- ‌(بَابُ تَفْصِيلِ) (الْمَنْسُوخِ)

- ‌[أَنْوَاعٌ الْمَنْسُوخُ]

- ‌[الْفُرْق بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ]

- ‌(بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ)

- ‌[أَقْسَام أَفْعَالِ النَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ)فِي حَقِّ النَّبِيِّ

- ‌[أَنْوَاع الوحى]

- ‌[جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا)

- ‌ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ

- ‌[بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ]

- ‌[تَقْلِيد التَّابِعِينَ]

- ‌(بَابُ الْإِجْمَاعِ)

- ‌[أَرْكَان الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع]

- ‌بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) :

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه]

- ‌[إنْكَار الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ]

- ‌(بَابُ الْقِيَاسِ)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ]

- ‌[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

- ‌(فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ)

- ‌بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ) :

- ‌[بَابُ رُكْنُ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَا يصلح دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّة]

- ‌[بَابُ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ]

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ

- ‌بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) :

- ‌[جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ]

الفصل: ‌[باب حكم الإجماع ومحله]

بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه حُكْمُهُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُجْتَهِدِينَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ بِحَقِّيَّةِ قَوْلِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ حَقٌّ، وَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِّيَّةَ مَذْهَبِهِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ ضَلَالًا وَلَا يَكُونُ تَخْطِئَتُهُ تَضْلِيلًا لِلْحَالِ أَيْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ وَذَلِكَ أَيْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَحُدُوثُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ بِالرَّأْيِ وَرَدُّ الرَّسُولِ عليه السلام قَوْلَ الْبَعْضِ وَكَصَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ؛ فَإِنَّهُمْ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَمَا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى أُخْبِرُوا بِأَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَلَالًا وَإِنْ ظَهْر خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالنَّصِّ النَّاسِخِ، فَكَذَا هَذَا وَقُبَاءُ بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ يُنَوَّنُ وَلَا يُنَوَّنُ.

، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ وَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ لَا مَحَالَةَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا تَضْلِيلَهُ فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ بِالشُّبْهَةِ) أَيْ بِالشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ إجْمَاعًا يَكُونُ الِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا فَيُورِثُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ شُبْهَةَ بَقَاءِ الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ.

، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله نَفَّذَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ كَانَ أَوْلَى.

قَوْلُهُ (وَمِنْ شَرْطِهِ) أَيْ مِنْ شَرْطِ الْإِجْمَاعِ كَذَا إنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَمَا ذَكَرَهَا مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ وَهَاهُنَا ذَكَرَهَا قَصْدًا وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا وَلِيُبَيِّنَ اخْتِيَارَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

[بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه]

(بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ)

حُكْمُ الشَّيْءِ، وَهُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ وَبَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ فَلِذَلِكَ أَخَّرَهُ عَنْهُمَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِجَمِيعِ شَرَائِطِهِ أَنْ يَثْبُتَ الْمُرَادُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ يَعْنِي الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ قَطْعًا كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْيَقِينُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمُرَادِ وَيَصِحُّ لِلْحَالِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُرْآنًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت: 3] ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَيْ أَمْرًا دِينِيًّا إشَارَةً إلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ الْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ لَا غَيْرَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ كَوُجُودِ الْبَارِي جل جلاله وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ الدَّوْرَ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى النُّصُوصِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ عز وجل وَصِحَّةِ النُّبُوَّةِ فَلَوْ تَوَقَّفَا عَلَيْهِ لَزِمَ الدَّوْرُ.

وَأَمَّا مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا دِينِيًّا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَالْفُرُوعِ أَوْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ كَرُؤْيَةِ الْبَارِي لَا فِي جِهَةٍ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَغُفْرَانِ الْمُذْنِبِينَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا دُنْيَوِيًّا كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَالْعِمَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهَا فَقَدْ

ص: 251

وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ

ــ

[كشف الأسرار]

اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِيهِ حُجَّةً حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَإِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عليه السلام، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ دُونَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ التَّلْقِيحِ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» وَكَانَ إذَا رَأَى رَأْيًا فِي الْحَرْبِ رَاجَعَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَرُبَّمَا كَانَ يَتْرُكُ رَأْيَهُ بِرَأْيِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُرَاجِعُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ.

وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً فِيهِ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ يَجِبُ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَا يَجِبُ وَيَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً مِثْلُ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامِ وَالْقَاشَانِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَأَكْثَرِ الرَّوَافِضِ، وَقَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ مِنْهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِمَامَ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ فَالْحُجَّةُ قَوْلُ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ دُونَ الْإِجْمَاعِ.

وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَهُمْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ رَأَى الِاجْتِهَادَ مِنْهُمْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ كَانَ اجْتِهَادُ الْجَمِيعِ حُجَّةً فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إذَا تَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوعَهُ مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ دِيَارِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ لَا يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ وَلَا بِالْمَشْرِقِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفُوا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ الْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ مُتَعَذِّرٌ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ آرَائِهِمْ فِي الْحَادِثَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْفِطَنِ وَالْقَرَائِحِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَطَالِبِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ صَوْتًا مِنْ أَسَالِيبِ الطُّيُورِ فَيَكُونُ تَصْوِيرُ إجْمَاعِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ تَصْوِيرِ الْعَالَمِينَ فِي صُبْحِيَّةِ يَوْمٍ عَلَى قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ وَأَكْلِ نَوْعٍ مِنْ الطَّعَامِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ أَوْ إمَّا لَا إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ عَنْ نَصٍّ وَجَبَ نَقْلُهُ عَلَيْهِمْ إذَا تَعَلَّقَ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ هُوَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ أَمَارَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ مَظْنُونٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ عَنْ أَمَارَةٍ يَكُونُ الْأَمَارَةُ هِيَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا.

1 -

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْخَطَأُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأُ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَكْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا وَلَا يَكُونُ جَمِيعُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَكَمَا يَسْتَحِيلُ

ص: 252

أَمَّا الْكِتَابُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فَأَوْجَبَ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا بِيَقِينٍ

ــ

[كشف الأسرار]

أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ الْجَمِيعُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً كَقَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

قَوْلُهُ (لَكِنَّ هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُوجِبُ أَنَّهُ حُجَّةٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

1 -

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالسَّبِيلُ مَا يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَّا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاقِّ الرَّسُولِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا لَا يَحْسُنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ الْمُبَاحِ فِي الْوَعِيدِ، وَإِذَا حَرُمَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَبَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ سَبِيلُهُمْ وَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْزِلَةِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فِي اسْتِيجَابِ النَّارِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فَكَانَ تَرْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا قَطْعًا.

ثُمَّ تَرْكُ الْمُشَاقَّةِ إنَّمَا وَجَبَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ حَقٌّ بِيَقِينٍ فَكَذَلِكَ تَرْكُ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا وَجَبَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ حَقٌّ بِيَقِينٍ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِشَرْطِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فَلَا يَثْبُتُ التَّوَعُّدُ بِدُونِهَا إذْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِهَا الِاشْتِرَاطَ اللَّفْظِيَّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاتِّبَاعِ بِالْمُشَاقَّةِ فِي صِحَّةِ تَرَتُّبِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْوَعِيدَ تَرَتَّبَ عَلَى الْمُشَاقَّةِ وَالِاتِّبَاعِ الْمَذْكُورَيْنِ مَجْمُوعًا فَلَا يَثْبُتُ تَرَتُّبُ الْوَعِيدِ عَلَى الِاتِّبَاعِ بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَكَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَذَلِكَ فَاسِدٌ أَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشَاقَّةَ بِانْفِرَادِهَا سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13] .

، وَقَدْ سَاعَدَنَا الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ شَرْطًا وَسَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُشَاقَّةُ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُشَاقَّةُ بِانْفِرَادِهَا سَبَبًا لِذَلِكَ كَانَ الِاتِّبَاعُ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لَهُ أَيْضًا إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لَهُ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ لِلْإِثْمِ فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الِاتِّبَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يُقَالَ الْمُسْلِمُونَ أَتْبَاعُ الْيَهُودِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى عليه السلام بَلْ مُتَابَعَةُ الْغَيْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، فَأَمَّا الْآتِي بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لَا لِأَجْلِ أَنَّ الْغَيْرَ فَعَلَهُ بَلْ لِأَنَّ الدَّلِيلَ سَاقَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسِطَةٌ وَهِيَ أَنْ لَا يُتَّبَعَ أَحَدٌ أَصْلًا بَلْ يُتَوَقَّفُ إلَى ظُهُورِ الدَّلِيلِ، وَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطُ

ص: 253

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الِاسْتِدْلَال قُلْنَا: الِاسْتِدْلَال تَامٌّ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّبَاعِ فِي الْآيَةِ نَفْسُ الْمُوَافَقَةِ وَالسُّلُوكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ فُلَانٌ يَتَّبِعُ السَّبِيلَ الْفُلَانِيَّ يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْسُ السُّلُوكِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى اتِّبَاعِ أَحَدٍ بَلْ لِشُبْهَةٍ صَرَفَتْهُ إلَيْهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعِيدِ بِلَا خِلَافٍ.

وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَيَسْلُكُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّبَاعِ هَاهُنَا نَفْسُ السُّلُوكِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْتَفَتْ الْوَاسِطَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَصْمُ وَلَزِمَ مِنْ حُرْمَةِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لُزُومُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ضَرُورَةً يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ مَثَلًا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَتَرْكُ الصَّلَاة لَزِمَ عَلَيْهِ تَرْكُ الشُّرْب وَالتَّحَرُّزُ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَهُمَا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ السَّبِيلِ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ عليه السلام؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ لَا تَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فُهِمَ مِنْهُ سَبِيلُهُمْ الَّذِي صَارُوا صَالِحِينَ لَا سَبِيلُهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقَ؛ فَإِنَّهُ سَرَقَ دِرْعًا وَالْتَحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ مُرْتَدًّا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] أَيْ يُخَالِفُهُ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أَيْ ظَهَرَ لَهُ الدِّينُ الْحَقُّ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] أَيْ غَيْرَ طَرِيقِهِمْ بِالِارْتِدَادِ كَمَا فَعَلَهُ طُعْمَةُ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] نَتْرُكُهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ: نَدَعْهُ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ مِنْ الدِّينِ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] نُدْخِلْهُ فِيهَا كَذَا ذُكِرَ فِي التَّفَاسِيرِ، وَإِذَا حُمِلَ السَّبِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ تَبْقَ حُجَّةٌ فِي الْإِجْمَاعِ قُلْنَا.

الْأَصْلُ إجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ وَالسَّبِيلُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ الْإِضَافَةُ بِمَنْزِلَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْمِيمِ فَتَقْتَضِي النَّصُّ بِعُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ لُحُوقَ الْوَعِيدِ عِنْدَ تَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَفِيمَا لَمْ يَصِيرُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ اتَّبِعْ سَبِيلَ الْعُلَمَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يَتَّبِعَ سَبِيلَهُمْ فِيمَا صَارُوا بِهِ عُلَمَاءَ وَفِيمَا لَمْ يَصِيرُوا بِهِ عُلَمَاءَ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ إلَّا تَرْكُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ فَلَوْ حَمَلْنَا السَّبِيلَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَلَا يُعْتَنَى لِقَوْلِهِمْ نَزَلَ فِي رَجُلٍ مُرْتَدٍّ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِقَاطِعَةٍ فِي وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ عليه السلام أَوْ مُنَاصَرَتِهِ أَوْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ فِي الْإِيمَانِ بِهِ لَا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا لِمَا يُرَى الْإِجْمَاعُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً لَا يَكْفُرُ وَلَا يُفَسَّقُ مُخَالِفُهَا كَمَا هُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَكْفُرُ أَوْ يَفْسُقُ مُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْمُحْتَمَلِ الظَّنِّيِّ فِي مَقَامِ الْقَطْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ احْتِمَالٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الدَّلِيلِ قَطْعِيًّا؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ تَطَرَّقَ إلَى جَمِيعِ الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَوْ اُعْتُبِرَ

ص: 254

وَقَالَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَالْخَيْرِيَّةُ تُوجِبُ الْحَقِّيَّةَ فِيمَا أَجْمَعُوا

ــ

[كشف الأسرار]

كُلُّ احْتِمَالٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ وَالْعُمُومَاتِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَمَسَّكُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِشُبْهَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَمْ تَقْدَحْ فِي قَطْعِيَّةِ النُّصُوصِ حَتَّى وَجَبَ تَضْلِيلُهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِاحْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ.

1 -

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ إلَّا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ وَإِنْ احْتَمَلَ غَيْرَ ظَاهِرِهِ أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ مَعَ قَرِينَةٍ إنْ وُجِدَتْ مَعَهُ قَرِينَةٌ إذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ غَيْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ لَمَا حَصَلَ الْوُثُوقُ بِخِطَابِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ.، أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُ الشَّيْءَ جَائِزَ الْوُقُوعِ قَطْعًا، ثُمَّ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ انْقِلَابُ مَاءِ جَيْحُونَ دَمًا وَانْقِلَابُ الْجُدْرَانِ ذَهَبًا وَظُهُورُ الْإِنْسَانِ الشَّيْخِ لَا مِنْ الْأَبَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَمَعَ ذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَكَذَا هَاهُنَا وَإِنْ جَوَّزْنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِينَا عِلْمًا بَدِيهِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْنِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا ظَوَاهِرَهَا فَكَذَلِكَ أَمِنَّا عَنْ الِالْتِبَاسِ وَعَرَفْنَا أَنَّ الظَّوَاهِرَ قَاطِعَةٌ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ.

قَوْلُهُ: وَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ.

وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ: كُنْتُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مَذْكُورِينَ بِأَنَّكُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ، أُخْرِجَتْ أُظْهِرَتْ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ كَوْنَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكِرٍ فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى خَطَإٍ قَوْلًا لَكَانُوا أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ قَوْلًا فَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ هُوَ يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْآيَةِ.

وَعَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِكَلِمَةِ التَّفْضِيلِ؛ فَإِنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فَتَدُلُّ عَلَى النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقِّيَّةَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ خَيِّرًا مُطْلَقًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ النَّصِّ.

وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " بِمَعْنَى أَفْعَلَ فَتَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخَيْرِيَّةِ وَنَفْسُ الْخَيْرِيَّةِ فِي كَيْنُونَةِ الْعَبْدِ مَعَ الْحَقِّ وَالنِّهَايَةُ فِي كَيْنُونَتِهِ مَعَ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَدَلَّ لَفْظُ الْخَيْرِ، وَهُوَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُصِيبُونَ لَا مَحَالَةَ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ وَإِنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا.

فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إجْرَاؤُهَا عَلَى الظَّاهِرِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ عِنْدَنَا.

قُلْنَا: لَيْسَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ

ص: 255

وَقَالَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَذَلِكَ يُضَادُّ الْجَوْرَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْتَضِي الْإِصَابَةَ وَالْحَقِّيَّةَ إذَا كَانَتْ شَهَادَةً جَامِعَةً لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ خَيْرُ أُمَّةٍ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أُمَّةٌ حَقِيقَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ خَيْرًا مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَلِكِ لِعَسْكَرِهِ أَنْتُمْ خَيْرُ عَسْكَرٍ فِي الدُّنْيَا تَفْتَحُونَ الْقِلَاعَ وَتَكْسِرُونَ الْجُيُوشَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلِكَ وَصَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَسْكَرِ بِذَلِكَ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمَجْمُوعَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَاهُنَا وَصْفُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِيَّةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَعْنَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ بَنُو هَاشِمٍ حُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ أَيْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَوْصُوفٌ بِهَا.

1 -

قَوْلُهُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ جَعْلُ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً جَعَلْنَاكُمْ أَيْ صَيَّرْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ خِيَارًا وَهِيَ صِفَةٌ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَقِيلَ لِلْخِيَارِ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إلَيْهَا الْخَلَلُ وَالْأَوْسَاطُ مَحْمِيَّةٌ.

وَقِيلَ عُدُولًا لِأَنَّ الْوَسَطَ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَطْرَافِ لَيْسَتْ إلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِكَوْنِهِمْ وَسَطًا وَالْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ قَالَ تَعَالَى {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَأَرْضَاهُمْ قَوْلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ

إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ

فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ مَوْصُوفًا بِالْعَدَالَةِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَوْصُوفًا بِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا كَانَ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَالْكَاذِبُ الْمُبْطِلُ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ فَلَا يَكُونُ عَدْلًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُمْ وَسَطًا يُضَادُّ الْجَوْرَ أَيْ الْمَيْلَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ مَنْ يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ وَمُطْلَقُ الِارْتِضَاءِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْأَصْلِ مَرْدُودٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخْطِئَ رُبَّمَا يُعْذَرُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ وَيُؤْجَرُ عَلَى قَدْرِ طَلَبِهِ لِلْحَقِّ بِطَرِيقِهِ لَا أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ عز وجل.

فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ عَالِمٌ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِشَيْءٍ وَلَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً فَهُوَ مِنْ الصَّغَائِرِ لَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ.

قُلْنَا: إنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ يَكُونُ عَدْلًا حَقِيقَةً كَالْمُزَكِّي إذَا أَخْبَرَ بِعَدَالَةِ شَاهِدٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ظَاهِرًا وَهَاهُنَا قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي الْعَدَالَةَ الْمُطْلَقَةَ الْحَقِيقَةِ. بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ جَوَازِ

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

الصَّغِيرَةِ عَلَيْهِمْ وَاحْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِي شَهَادَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْبَاطِنِ فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَالشَّاهِدُ اسْمٌ لِمَنْ يُخْبِرُ بِالصِّدْقِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً وَالْكَاذِبُ لَا يُسَمَّى شَاهِدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ صَدَقَةٌ فِيمَا أَخْبَرُوا وَإِنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ؛ فَإِنَّ الْحَكِيمَ لَا يَحْكُمُ بِخَيْرِيَّةِ قَوْمٍ لِيَشْهَدُوا، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ كُلَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى الْكَذِبِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فَدَلَّ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ إلَّا عَلَى الْحَقِّ حَيْثُ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَلَّغَتْ إلَيْهِمْ الرِّسَالَةَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا صَدَقَةً فِي شَهَادَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ لَا حَالَ التَّحَمُّلِ.

قُلْنَا: لَا تَفْصِيلَ فِي الْآيَةِ فَتَتَنَاوَلُ شَهَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَا لَمْ يُذْكَرْ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ بِهِ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ كَمَا فِي قَوْلِك: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ؛ فَيَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً شَهَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ شَهَادَتِهِمْ حُكْمُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى النَّاسِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ صَيْرُورَتَهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالُوا لَقَالَ سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا كَيْفَ وَجَمِيعُ الْأُمَمِ عُدُولٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَتْ شَهَادَةً جَامِعَةً لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَعْنِي إذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مُعْتَبَرَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوَابًا وَحَقًّا لَا مَحَالَةَ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ جَعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ قُلْ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99] ، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، فَكَذَا إجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ حُجَّةً حِينَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ شُهَدَاءَ بِهِ وَلَمْ يَبْقَ الْيَوْمَ حُجَّةً لِكُفْرِهِمْ، عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بِمَا فِيهِ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَلِمَ لَا تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ.

فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ جَمِيعَ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ عليه السلام إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إحَاطَةُ عِلْمِنَا بِإِجْمَاعِ كُلِّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ عليه السلام وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ وُجِدَ فِي زَمَانِ نُزُولِ الْآيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إجْمَاعٌ حُجَّةً حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.

قُلْنَا: لِمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ وَالشَّهَادَةِ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَ تَقْسِيمًا يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْوُصُولِ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَاعْتَمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ.

وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّادِقِ هُوَ الصَّادِقُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الصَّادِقُ فِي الْبَعْضِ لَزِمَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِمُوَافَقَةِ كِلَا الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادِقٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالْمُتَابَعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَيِّنٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ وَالتَّعْطِيلُ، ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ الصَّادِقُ فِي

ص: 257

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَعُمُومُ النَّصِّ يَنْفِيَ جَمِيعَ وُجُوهِ الضَّلَالَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا «، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، فَمُرْ عُمَرَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ» ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَمِيرَةِ يَتَعَاطَاهَا الْجِيرَانُ، فَقَالَ:«مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» .

ــ

[كشف الأسرار]

كُلِّ الْأُمُورِ الَّذِي يَجِبُ مُتَابَعَتُهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُهُمْ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْكَوْنِ مَعَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِهِمْ.

وَقَدْ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَا نَعْرِفُ وَاحِدًا نَقْطَعُ فِيهِ بِأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْكَوْنِ مَعَهُمْ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.

قَوْلُهُ (وَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ) هَذَا مِنْ الْحُجَجِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسُّنَّةِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ تَظَاهَرَتْ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِعِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى لِسَانِ الثِّقَاتِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ أَوْ عَلَى ضَلَالَةٍ» سَأَلْت رَبِّي أَنْ لَا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهِ وَرُوِيَ عَلَى خَطَإٍ يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ، وَرُوِيَ وَلَا عَلَى خَطَأٍ «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلَا يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ» «مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ عُنُقِهِ» «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ» «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» «ثَلَاثٌ لَا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ» «مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» «لَنْ يَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ أَيْ عَادَاهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي كَذَا وَكَذَا فِرْقَةٍ كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قِيلَ: وَمَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: هِيَ الْجَمَاعَةُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً وَلَمْ تَزَلْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَانِنَا هَذَا لَمْ يَدْفَعْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِنْ مُوَافِقِي الْأُمَّةِ وَمُخَالِفِيهَا وَلَمْ تَزَلْ الْأُمَّةُ تَحْتَجُّ بِهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ.

ثُمَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الدَّلِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ قَصْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ آحَادُهَا تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْإِخْبَارُ بِعِصْمَتِهَا عَنْ الْخَطَإِ كَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ شَجَاعَةُ عَلِيٍّ وُجُودُ حَاتِمٍ وَخَطَابَةُ حَجَّاجٍ مِنْ آحَادِ وَقَائِعَ نُقِلَتْ عَنْهُمْ وَثَانِيهِمَا حُصُولُ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَمَسَّكًا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَلَا نَكِيرٍ إلَى زَمَانِ الْمُخَالِفِ وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِإِحَالَةِ اتِّفَاقِ مِثْلِ هَذَا الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ مَعَ تَكَرُّرِ الْأَزْمَانِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ وَهِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ مَعَ كَوْنِهَا مَجْبُولَةً عَلَى الْخِلَافِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

فِي إثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَبِّهَ أَحَدٌ عَلَى فَسَادِهِ وَإِبْطَالِهِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا خَالَفَ وَاحِدٌ وَلَمْ يُنْقَلْ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِمَّا تُحِيلُهُ الْعَادَةُ إذْ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَوْ خَالَفَ فِيهِ مُخَالِفٌ اُشْتُهِرَ إذْ لَمْ يَنْدَرِسْ خِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ وَحَدِّ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ انْدَرَسَ فِي أَصْلٍ عَظِيمٍ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْلِيلُ وَالتَّبْدِيعُ لِمَنْ أَخْطَأَ فِي نَفْيِهِ أَوْ إثْبَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اشْتَهَرَ خِلَافُ النَّظَّامِ مَعَ سُقُوطِ قَدْرِهِ فَكَيْفَ اخْتَفَى خِلَافُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؟ ،

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّكُمْ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ وَبِالْخَبَرِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ بِالْخَبَرِ وَعَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ بِخُلُوِّ الْأَعْصَارِ عَنْ الْمُدَافَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي إنْكَارَ إثْبَاتِ أَصْلٍ قَاطِعٍ بِحُكْمٍ عَلَى الْقَوَاطِعِ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ فَعَلِمْنَا بِالْعَادَةِ كَوْنَ الْخَبَرِ مَقْطُوعًا بِهِ لَا بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَادَةُ أَصْلٌ يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَعَارِفُ بِهَا يُعْرَفُ بُطْلَانُ دَعْوَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ وَبُطْلَانُ دَعْوَى نَصِّ الْإِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَالثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ أَثْبَتُوا الْإِجْمَاعَ بِغَيْرِهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَمَسُّكَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم بِهَا فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِمُخَالِفِ الْجَمَاعَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِثْبَاتَ إنَّمَا كَانَ بِهَا.

الرَّابِعُ: لَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ لَعَرَّفَتْ الصَّحَابَةُ التَّابِعِينَ طُرُقَ صِحَّتِهَا دَفْعًا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّعْرِيفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ تِلْكَ الطُّرُقِ قَرَائِنَ أَحْوَالٍ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحِكَايَةِ دَلَّتْ ضَرُورَةً عَلَى قَصْدِهِ إلَى بَيَانِ نَفْيِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحِكَايَةِ وَلَوْ حَكَوْهَا لَتَطَرَّقَ إلَى آحَادِهَا احْتِمَالَاتٌ فَاكْتَفَوْا بِعِلْمِ التَّابِعِينَ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ.

الْخَامِسُ: حَمْلُهُمْ الضَّلَالَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ» وَقَوْلُهُ عَلَى الْخَطَإِ لَمْ يَتَوَاتَرْ وَإِنْ صَحَّ فَالْخَطَأُ عَامٌّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَدُفِعَ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7] ، وَقَدْ فُهِمَ عَلَى الضَّرُورَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَخْصِيصُهَا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَمَّا الْعِصْمَةُ عَنْ الْكُفْرِ فَقَدْ أَنْعَمَ بِهَا فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ وَزَيْدٍ عَلَى مَذْهَبِ النَّظَّامِ؛ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْحَقِّ وَكَمْ مِنْ آحَادٍ عُصِمُوا عَنْ الْكُفْرِ حَتَّى مَاتُوا فَأَيُّ خَاصَّةٍ لِلْأُمَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا لَا تُعْصَمُ عَنْهُ الْآحَادُ مِنْ سَهْوٍ وَخَطَأٍ وَكَذِبٍ وَيُعْصَمُ عَنْهُ الْأُمَّةُ تَنْزِيلًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ الْخَطَإِ فِي الدِّينِ وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ عُمُومُ النَّصِّ، وَهُوَ نَفْيُ الضَّلَالَةِ مُحَلَّاةً فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِاللَّامِ، وَكَوْنُهَا نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِغَيْرِ لَامٍ يَنْفِي جَمِيعَ وُجُوهِ الضَّلَالَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدُّ الْهُدَى وَالْهُدَى اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْعَامِّ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُفْرِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.

السَّادِسُ: حَمْلُهُمْ الْخَطَأَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مِمَّا يُوَافِقُ النَّصَّ الْمُتَوَاتِرَ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ دُونَ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يَذْهَبْ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ

ص: 259

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ رَسُولَنَا عليه السلام خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَشَرِيعَتَهُ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَأُمَّتُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَقَالَ حَتَّى تُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ»

ــ

[كشف الأسرار]

الدَّلِيلُ عَلَى تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ دَلَّ عَلَى تَجْوِيزِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَارِقٌ لَمْ يَثْبُتْ تَخْصِيصٌ بِالتَّحَكُّمِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَخْبَارُ إنَّمَا وَرَدَتْ لِإِيجَابِ مُتَابَعَةِ الْأُمَّةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَالزَّجْرِ عَنْ الْمُخَالَفَةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ بَلْ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَامْتَنَعَ إيجَابُ الْمُتَابَعَةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ عليه السلام قَصْدُ تَعْظِيمِهَا لِمُشَارَكَةِ آحَادِ النَّاسِ إيَّاهُمْ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ إذْ مَا مِنْ شَخْصٍ يُخْطِئُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُعْصَمُ عَنْ الْخَطَإِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِمْ الْأُمَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، هُوَ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إذْ لَا زَجْرَ وَلَا حَثَّ فِيهَا.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَقْرِيرُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَطْعِيِّ أَنَّ نَبِيَّنَا عليه السلام خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَتَى وَقَعَتْ حَوَادِثُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ وَوَقَعُوا فِي الْخَطَأِ أَوْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِهِمْ؛ فَقَدْ انْقَطَعَتْ شَرِيعَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ كُلُّهَا دَائِمَةً فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي أَخْبَارِ الشَّارِعِ وَذَلِكَ مُحَالٌ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لِتَدُومَ الشَّرِيعَةُ بِوُجُودِهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْمُحَالِ وَلَا يُقَالَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى اعْتِبَارِ إصَابَةِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَخْرُجُ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَمَتَى جَوَّزْتُمْ خُرُوجَ الْحَقِّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ لَمْ يَكُنْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عليه السلام بَلْ يَكُونُ عَمَلًا بِخِلَافِ شَرِيعَتِهِ فَتَنْقَطِعُ شَرِيعَتُهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَبَدًا.

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرْعِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ مِثْلُ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَبْقَى بِبَقَاءِ ذَلِكَ النَّصِّ وَلَا أَثَرَ لِلْإِجْمَاعِ فِي إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَكُنْ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ مُتَنَاوِلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الْمَوْجُودَةَ فِي الشَّرِيعَةِ وَقْتَ وُرُودِهِ لَا مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُهَا. عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِبَقَاءِ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَدَمُ الشَّرِيعَةِ.

قُلْنَا: جَمِيعُ الْأَحْكَامِ ثَابِتَةٌ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً بَعْضُهَا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَبَعْضُهَا بِمَعَانِيهَا الْخَفِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ كَانَ خَفِيًّا يَظْهَرُ بِالِاجْتِهَادِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ الْمُوجِبِ بَقَاءَ الشَّرِيعَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِ الْبَعْضِ خِلَافُ النَّصِّ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْبَعْضِ انْتِفَاءُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -

ص: 260