الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) :
فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ فَتَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ لِيَثْبُتَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْدِيَةَ حُكْمٌ لَازِمٌ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ كَمَا أَوْجَبَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ بَلْ يَسْتَحِيلُ فَلَمْ يُكَلِّفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ إقَامَتُهَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَضِّدَ جَانِبَهُ بِالْيَمِينِ كَمَا أَلْزَمَ الْمُدَّعِي أَنْ يُنَوِّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَقَوْلُهُمْ النَّفْيُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُطْلَبُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا حُكْمَ فِي حَقِّنَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالِانْتِفَاءُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ.
وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّفْيِ نَصًّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» «لَا زَكَاةَ فِي الْعَلُوفَةِ» «لَيْسَ فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ صَدَقَةٌ» وَإِذَا كَانَ النَّفْيُ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَأَمَّا نَفْيُ الْكُفَّارِ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ عليه السلام وَقَوْلُهُمْ لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ إظْهَارًا مِنْهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَكَانَ عَلَى الرَّسُولِ عليه السلام إزَالَةُ ذَلِكَ الْجَهْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ.
[بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ]
[جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ]
وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْقِيَاسِ وَشَرْطُهُ وَرُكْنُهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِهِ وَقَالَ. (بَابُ)(حُكْمِ الْعِلَّةِ) أَيْ الْقِيَاسِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فَأَمَّا إلَى تَعَلُّقِهِ بِمَا تَقَدَّمَ، يَعْنِي قَدْ مَرَّ بَيَانُ الشَّرْطِ وَالرُّكْنِ فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ يَعْنِي بِالْقِيَاسِ فَتَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَزَادَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: وَلَا إجْمَاعَ وَلَا دَلِيلَ فَوْقَ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيلِ كَذَا وَلَمْ يَقُلْ حُكْمُ الْقِيَاسِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ التَّعْدِيَةُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّعْلِيلِ فَعِنْدَنَا الْقِيَاسُ وَالتَّعْلِيلُ وَاحِدٌ وَعِنْدَهُ التَّعْلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ (فَإِنْ قِيلَ) إنَّهُ قَدْ جَعَلَ التَّعْدِيَةَ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الثَّابِتُ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَاسِ وَجَعَلَهَا هَاهُنَا حُكْمَ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَأَخُّرَهُ عَنْهُ وَوُجُودُهَا بِهِ. وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَنَافٍ إذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا بِالْقِيَاسِ وَتَوَقُّفِ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا (قُلْنَا) الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ شَرْطَ الْقِيَاسِ اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حُكْمًا لَهُ يَعْنِي يُشْتَرَط أَنْ يَكُونَ التَّعْدِيَةُ حُكْمَهُ لَا غَيْرُ؛ لِيَكُونَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ وُجُودِ التَّعْدِيَةِ شَرْطًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِ التَّعْدِيَةِ قَبْلَ الْقِيَاسِ وَلَوْ وُجِدَتْ التَّعْدِيَةُ قَبْلَهُ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَكَانَ تَصَوُّرُ وُقُوعِ الْقِيَاسِ مُوجِبًا لِلتَّعْدِيَةِ شَرْطَ صِحَّتِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقِيَاسِ فَيَصْلُحُ شَرْطُنَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَرْطٌ لِلْعِلْمِ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا شَرْطُ نَفْسِ الْقِيَاسِ وَالْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِهَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لِوُجُودِ النِّكَاحِ شَرْعًا.
وَكَذَا الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّعْدِيَةَ حُكْمٌ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ لَمْ يُفِدْ التَّعْلِيلُ تَعْدِيَةً كَانَ فَاسِدًا فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ وَالْقِيَاسُ عِبَارَتَيْنِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، جَائِزٌ عِنْدَ
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا إنَّ جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ إثْبَاتُ الْمُوجِبِ أَوْ وَصْفُهُ وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ أَوْ وَصْفُهُ وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفُهُ وَالرَّابِعُ هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ شَرْعًا مُدْرِكًا لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَفِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ وَصِفَتِهِ إثْبَاتُ الشَّرْعِ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّافِعِيِّ يَعْنِي يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُفِيدَ التَّعْلِيلُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْفَرْعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قِيَاسًا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفِيدَ تَعْدِيَةً وَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ فَكَانَ حُكْمُ التَّعْلِيلِ عِنْدَهُ تَعَلُّقَ حُكْمِ النَّصِّ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَبَيَّنَ عِلَّةً وَالتَّعْدِيَةُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ.
وَهَذَا بِنَاءً عَنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْفَرْعِ وَالنَّصَّ مُعَرِّفٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْلِيلُ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ صَحِيحًا لِإِفَادَتِهِ ظُهُورَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً كَمَا فِي الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ جُعِلَتْ أَسْبَابًا شَرْعًا لِيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَعْدِيَةٍ، وَعِنْدَنَا: الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ دُونَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ فِي إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ إبْطَالَ عَمَلِ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ وَإِسْنَادِ الْحُكْمِ إلَى الدَّلِيلِ الْأَضْعَفِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُفِدْ التَّعْلِيلُ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ، وَكَانَ لَغْوًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ) أَيْ أَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ قُلْنَا إنَّ جُمْلَةَ مَا يُعَلِّلُ لَهُ أَيْ جَمِيعُ مَا يَقَعُ التَّعْلِيلُ لِأَجْلِهِ وَيَتَكَلَّمُ الْقَائِسُونَ فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.:
الْأَوَّلُ - إثْبَاتُ الْمُوجِبِ أَوْ وَصْفُهُ وَالثَّانِي - إثْبَاتُ الشُّرُوطِ وَوَصْفُهُ وَالثَّالِثُ - إثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفُهُ وَالرَّابِعُ - هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطُهُ بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ الْبَاءُ الْأُولَى يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَالثَّانِيَةُ بِمَعْلُومٍ، أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِسَبَبِهِ، وَشَرْطُهُ مَعْلُومٌ بِأَوْصَافِهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الثَّانِيَةُ مَعَ مَعْمُولِهَا فِي مَحَلِّ الْحَالِ وَيُصْلِحُ الْحُكْمُ ذَا الْحَالَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ ثَابِتٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ مُلْتَبِسًا بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ.
وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ: وَالْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا مَعْلُومًا بِصِفَتِهِ أَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَمْ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَحَالِّ الَّذِي يُمَاثِلُهُ بِالتَّعْلِيلِ؟ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الْأُوَلِ بَاطِلٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إثْبَاتَ سَبَبٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ حُكْمٍ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ بَاطِلٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ مِنْ أَصْلِ فَرْعٍ بِالشَّرَائِطِ الْمَعْرُوفَةِ صَحِيحٌ وَاخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ بِأَنْ ثَبَتَ سَبَبٌ أَوْ شَرْطٌ لِحُكْمٍ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى السَّبَبِيَّةَ أَوْ الشَّرْطِيَّةَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بِمَعْنًى جَامِعٍ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَظُنُّهُ مَذْهَبًا لِعَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَذَهَبَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الْأُوَلِ بَاطِلُ التَّعْلِيلِ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً لَا التَّعْلِيلُ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ إمَّا التَّعْدِيَةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ تَعَلُّقُ حُكْمِ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَنْ خَالَفَنَا وَلَا تَصَوُّرَ لِلتَّعْدِيَةِ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً وَلَا لِتَعَلُّقِ حُكْمِ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ
وَفِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَصِفَتِهِ إبْطَالُ الْحُكْمِ وَرَفْعُهُ وَهَذَا نَسْخٌ وَنَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا وَمَا الْقِيَاسُ إلَّا اعْتِبَارٌ بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ جُمْلَةً وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ لِنَفْيِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّابِعُ
ــ
[كشف الأسرار]
لِفَوَاتِ حُكْمِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ شُرِعَ مُدْرِكًا لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِيَاسِ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَفِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ وَصِفَتِهِ أَيْ أَوْ صِفَتِهِ ابْتِدَاءً إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ أَمَّا فِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي إثْبَاتِ صِفَتِهِ فَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لَمَّا لَمْ يُعْلَمْ بِدُونِ صِفَتِهِ كَانَ إثْبَاتُهَا بِالتَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ إثْبَاتِ أَصْلِ السَّبَبِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَصْبَ شَرْعٍ بِالرَّأْيِ أَيْضًا، وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ نَصْبُ الشَّرْعِ بَلْ لَهُمْ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ وَفِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَصِفَتِهِ ابْتِدَاءً إبْطَالُ الْحُكْمِ وَرَفْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ وَبَعْدَمَا شُرِطَ لَهُ شَرْطٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَمَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِهِ فَكَانَ إثْبَاتُ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيلِ ابْتِدَاءً رَفْعًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ وَنَسْخًا لَهُ.
وَكَذَا التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ وَصْفِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ إثْبَاتُ الْوَصْفِ رَفْعًا لِلْحُكْمِ كَإِثْبَاتِ أَصْلِ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ وَنَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا دَلِيلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَيْ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفِهِ ابْتِدَاءً بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَصْبُ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَى الْعِبَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ يَعْنِي إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ نَصْبٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِثْبَاتُ الشُّرُوطِ رَفْعٌ لَهَا وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا رَفْعُهَا بِالرَّأْيِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِهِ أَيْضًا.
وَقَدْ انْدَرَجَ فِيهِ دَلِيلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَبُطْلَانُ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِهَا أَيْ لِنَفْيِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَيْضًا كَمَا بَطَلَ لِإِثْبَاتِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُنْكِرَ ثُبُوتَهَا أَصْلًا أَوْ أَنْ يَدَّعِيَ رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ فَإِنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا بِأَنْ قَالَ هِيَ لَمْ تُشْرَعْ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ ادَّعَى رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ وَكَذَلِكَ النَّسْخُ بِالتَّعْلِيلِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا.
وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ هَذَا الشِّقَّ؛ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ أَعْنِي بِالْقِيَاسِ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا نَفْسُ الْحُكْمِ وَالثَّانِي، نَصْبُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا إيجَابُ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ وَالْآخَرُ نَصْبُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ، فَيَجُوزُ لَنَا إذَا عَلَّقْنَا الْمَعْنَى فِي السَّبَبِ وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ سَبَبًا أَيْضًا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا نَصَبَ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي اللِّوَاطَةِ فَنَجْعَلُهَا سَبَبًا وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى زِنًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا إثْبَاتَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ فِي فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَتْ السَّبَبِيَّةُ أَوْ الشَّرْطِيَّةُ بِهِ يُمَكِّنُ مَعْرِفَةً كَالْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ فَيَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْجَمِيعِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ دُونَ الْفُصُولِ الْأُخَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ مَعْرِفَةَ عِلَّةِ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَخْتَلِفُ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ كَمَا فِي الْفَصْلِ
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ إنَّهُ يَحْرُمُ النَّسِيئَةُ فَهَذَا خِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ وَلَا نَفْيُهُ بِهِ إنَّمَا يَجِبُ الْكَلَامُ فِيهِ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّفَرِ أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا لَا يَصِحُّ التَّكَلُّمُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِمَا ذَكَرْنَا فَقُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ إنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُحَرَّمًا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْعِلَّةِ، وَوَجَدْنَا هَذَا حُكْمًا يَسْتَوِي شُبْهَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَقَدْ وَجَدْنَا فِي النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ وَحُلُولَ الْفَضْلِ وَحُلُولَ الْمُضَافِ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ وَقَدْ وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
ــ
[كشف الأسرار]
الْأَخِيرِ بَلْ يُعْرَفُ بِهِ الْحُكْمُ وَتَمَسَّكَ مَنْ أَنْكَرَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ أَصْلًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقِيَاسِ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِذَا قِسْنَا اللِّوَاطَةَ عَلَى الزِّنَا مَثَلًا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْحَدِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ: الزِّنَا سَبَبٌ لِلْحَدِّ بِوَصْفٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللِّوَاطَةِ لِيُمْكِنَ جَعْلُ اللِّوَاطَةِ سَبَبًا أَيْضًا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ وَيَخْرُجُ الزِّنَا وَاللُّوَاطَةُ عَنْ كَوْنِهِمَا مُوجِبَيْنِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا اسْتَنَدَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ اسْتَحَالَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِنَادُهُ إلَى خُصُوصِيَّةٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ يُنَافِي فِي بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ فَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُعَلَّلًا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ (فَإِنْ قِيلَ) : الْجَامِعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حُكْمٍ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي عِلِّيَّةِ الْوَصْفَيْنِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْوَصْفَيْنِ (قُلْنَا) هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ كَانَ صَالِحًا لِعِلِّيَّةِ الْحُكْمِ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى الْوَاسِطَةِ.
قَوْلُهُ (فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ بَيَانُ مِثَالِهِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ أَيْ اخْتِلَافُهُمْ يَعْنِي اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ هَلْ يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ أَوْ لَا؟ هَذَا خِلَافٌ أَيْ اخْتِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ أَيْ إثْبَاتُ كَوْنِ الْجِنْسِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ أَصْلًا نَقِيسُهُ عَلَيْهِ وَلَا نَفْيُهُ بِالرَّأْيِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ يَنْفِي إنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فَعَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِإِفْسَادِ دَلِيلِ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ التَّمَسُّكِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ أَمَّا الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِيَثْبُتَ الْعَدَمُ بِهِ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ إنَّمَا يَجِبُ الْكَلَامُ فِيهِ أَيْ فِي الْمُوجِبِ أَوْ فِي أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ فَقُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ كَذَا يَعْنِي أَثْبَتْنَا سَبَبَهُ الْجِنْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُحَرَّمًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ يَعْنِي ثَبَتَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «وَالْفَضْلُ رِبًا» وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ ثَوَابًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ هَذَا الْفَضْلِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ عَلَى مَا هُوَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ وَوَجَدْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ أَيْ تَحْرِيمَ الْفَضْلِ حُكْمًا يَسْتَوِي شُبْهَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ بِالْخَبَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَهَى عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّيبَةِ أَيْ عَنْ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَشُبْهَتِهِ.
وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةِ حِنْطَةٍ وَغَالِبُ رَأْيِهِمَا أَنَّهُمَا شَيْئَانِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الْفَضْلِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشُّبْهَةُ مُلْحَقَةً بِالْحَقِيقَةِ لَجَازَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْمَانِعُ مِنْ الصِّحَّةِ وَقَدْ وَجَدْنَا فِي النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ وَهِيَ الْحُلُولُ فَإِنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا؛ وَلِهَذَا يَنْقُصُ الثَّمَنُ إذَا كَانَ حَالًّا وَيُزَادُ إذَا كَانَ نَسِيئَةً بِمَنْزِلَةِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَنْقُصُ عِنْدَ وُجُودِ الْجَوْدَةِ وَيُزَادُ عِنْدَ فَوَاتِهَا.
وَلَا يُقَالُ هَذَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَفْوًا كَالْفَضْلِ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا سَقَطَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فِيمَا ثَبَتَ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ يَتَعَذَّرُ عَنْهُ فَأَمَّا مَا حَصَلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَمُعْتَبَرٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَجٌ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ لَزِمَتْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَجٌ وَالشَّرْعُ مَا أَوْجَبَ إلَّا حَجَّةً تَيْسِيرًا وَأَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْنَا الْحِنْطَةُ الْمَقْلِيَّةُ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِمَا تَفَاوُتًا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ كَانَ مُعْتَبَرًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدَيْهِمَا بِالْأُخْرَى وَالْحِنْطَةُ الْعِلْكَةُ بِغَيْرِ الْعِلْكَةِ فَإِنَّ فِيهِمَا تَفَاوُتًا أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جُعِلَ عَفْوًا حَتَّى جَازَ أَحَدَيْهِمَا بِالْأُخْرَى وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحُلُولُ الْمُضَافُ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ.
وَقَدْ وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ يَعْنِي لَمَّا وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْفَضْلِ مُعْتَبَرَةً لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُضَافَ إلَى سَبَبٍ فَوَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ أَيْ عِلَّةِ حُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ هِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ وَالْجِنْسُ شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ وَحُكْمُ الْعَدَمِ مِنْ حَيْثُ الشَّطْرُ الْآخَرُ فَدَارَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَثْبُتُ لَهُ شُبْهَةُ الْوُجُودِ فَانْعَقَدَ عِلَّةً لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْحُكْمِ احْتِيَاطًا لِبَابِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيمَا يَحْتَاطُ فِيهِ الْعَمَلُ عَمَلُ الْحَقِيقَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَيْ أَثْبَتْنَا هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّسِيئَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ النَّسِيئَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّ النَّصَّ الَّذِي يُوجِبُ سَبَبِيَّةَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِحُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْجِنْسِ لِحُرْمَةِ النَّسِيئَةِ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ رحمه الله أَنَّ فِقْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ التَّسْوِيَةَ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَيَدًا بِيَدٍ وَتَفْسِيرُ الْيَدِ بِالْيَدِ النَّقْدُ وَحَرُمَ الْفَضْلُ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ فَأَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْفَضْلِ، وَعِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً» فَأَسْقَطَ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ كَيْلًا عِنْدَ زَوَالِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ الْجِنْسُ وَحَكَمَ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ عِنْدَ بَقَاءِ الْوَصْفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَيْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَ هَذَا النَّصِّ أَعْنِي قَوْلَهُ إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ إلَى آخِرِهِ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ مِنْ وَجْهٍ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ فَضْلُ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ، وَأَنَّ عِلَّةَ هَذَا الْحُكْمِ كَوْنُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْكَيْلُ الْمُسَوَّى مِنْ وَجْهٍ لَمَّا أَوْجَبَ هَذَا الْحُكْمَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجِنْسِ الْمُسَوِّي بَيْنَ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهِ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَالْجِنْسُ يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِهَا مَعْنًى.
وَفَضْلُ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْكَيْلَ الْمُسَوِّي لِلْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ تَسْوِيَةً مَعْنَوِيَّةً، وَحَرَّمَ فَضْلًا مَعْنَوِيًّا فَالْجِنْسُ الْمُسَوِّي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَأَنْ يَحْرُمُ الْفَضْلُ الْمَعْنَوِيُّ كَانَ أَوْلَى وَهَذَا كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَابَ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَبَيَّنَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصْفَيْنِ حَيْثُ عُدِمَ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا فَكَانَا عِلَّةً وَاحِدَةً
وَكَذَلِكَ فَعَلْنَا فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَذَلِكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ رَدُّهُ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَعَيَّنَ تَخْفِيفًا بِخِلَافِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّ التَّخَيُّرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ وَنَفْعًا مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ دُونَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فَهَذِهِ دَلَالَاتُ النُّصُوصِ وَأَمَّا صِفَةُ السَّبَبِ فَمِثْلُ صِفَةِ السَّوْمِ فِي الْأَنْعَامِ أَيُشْتَرَطُ لِلزَّكَاةِ أَمْ لَا وَمِثْلُ صِفَةِ الْحِلِّ فِي الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ وَفِي صِفَةِ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَالْحُكْمُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ حَيْثُ لَمْ يَنْعَدِمْ الْحُكْمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةً كَامِلَةً يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ.
1 -
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فَعَلْنَا فِي السَّفَرِ) أَيْ كَمَا حَكَمْنَا بِسَبَبِيَّةِ الْجِنْسِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ حَكَمْنَا بِكَوْنِ السَّفَرِ مُسْقِطًا لِشَطْرِ الصَّلَاةِ بِالدَّلَالَةِ أَيْضًا لَا بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ذَلِكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ أَيْ التَّصَدُّقُ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَكَانَ إسْقَاطًا كَالتَّصَدُّقِ بِمِلْكِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ إسْقَاطًا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ خُصُوصًا إذَا صَدَرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَقَوْلُهُ مَحْضٌ، احْتِرَازٌ عَنْ التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَإِبْرَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْقَبُولِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِوُجُودِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَعَيَّنَ تَخْفِيفًا يَعْنِي السَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ عز وجل وَجِهَةُ التَّخْفِيفِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْقَصْرِ فَإِنَّهُ لَا تَخْفِيفَ فِي الْإِكْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَصْرِ بِوَجْهٍ فَيَكُونُ الْقَصْرُ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ التَّخْفِيفِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّوْمِ ضَرْبَ يُسْرٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَيَخْتَارُ أَيَّ الْيُسْرَيْنِ شَاءَ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ رِفْقًا أَيْ يُسْرًا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ دَفْعًا أَيْ دَفْعًا لِمَضَرَّةٍ وَنَفْعًا مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ دُونَ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ إلَّا اخْتِيَارُ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ رِفْقٌ وَنَفْعٌ وَفِي اخْتِيَارِ إكْمَالِ الصَّلَاةِ لَا رِفْقَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ فَكَانَ اخْتِيَارًا مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا عُرِفَ يَعْنِي فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَهَذِهِ أَيْ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَثْبَتْنَا كَوْنَ السَّفَرِ مُسْقِطًا لِشَطْرِ الصَّلَاةِ بِهَا دَلَالَاتُ النُّصُوصِ وَلَيْسَتْ بِأَقْيِسَةٍ.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ تَسَامُحٍ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ دُونَ الدَّلَالَةِ وَأَمَّا صِفَةُ السَّبَبِ أَيْ إثْبَاتُ صِفَةِ الْمُوجِبِ ابْتِدَاءً فَمِثْلُ صِفَةِ السَّوْمِ فِي الْأَنْعَامِ أَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَعْنِي هَلْ يُشْتَرَطُ صِفَةُ النُّمُوِّ فِي مَالِ الزَّكَاةِ نَاطِقًا كَانَ أَوْ صَامِتًا فَعِنْدَ الْعَامَّةِ تُشْتَرَطُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا فِي الْمَالِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ أَوْ السَّائِمَةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله لَا تُشْتَرَطُ فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْقِنْيَةِ وَالْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَسْتَدِلُّ بِالنَّصِّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَيَتَمَسَّكُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلِهِ عليه السلام لِمُعَاذٍ «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةً» إلَى أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِوَصْفٍ وَيُحْتَجُّ لِاشْتِرَاطِهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ صَدَقَةٌ» «لَيْسَ فِي الْبَقَرَةِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» فَصَارَ النَّمَاءُ شَرْطًا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَمِثْلُ صِفَةِ الْحِلِّ فِي الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فَعِنْدَنَا صِفَةُ الْحِلِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ تَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْوَطْءِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ صِفَةِ الْحِلِّ حَتَّى لَا تَثْبُتَ بِالزِّنَا فَلَا وَجْهَ لِلتَّمَسُّكِ فِيهِ بِالرَّأْيِ بَلْ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ فَالشَّافِعِيُّ رحمه الله أَثْبَتَ صِفَةَ الْحِلِّ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ وَنَحْنُ جَعَلْنَا الزِّنَا سَبَبًا بِالنَّصِّ
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشَّرْطِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ وَمِثْلُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ وَمِثْلُ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ وَمِثْلُ شَرْطِ النِّكَاحِ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ مِثْلُ صِفَةِ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ رِجَالٌ أَمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُدُولٌ لَا مَحَالَةَ أَمْ شُهُودٌ مَوْصُوفُونَ بِكُلِّ وَصْفٍ وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ
ــ
[كشف الأسرار]
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الْآيَةَ.
وَبِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ الزِّنَا سَبَبٌ لِلْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِثْلُ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فَيَلْحَقُ بِهِ الدَّلَالَةُ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ أَنَّهُ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ أَمْ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَصْفَيْنِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ فَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ كَمَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَعِنْدَنَا هُوَ سَبَبٌ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَصْفَيْنِ فَلَا تَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ وَفِي صِفَةِ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِكَفَّارَةٍ أَنَّهَا سَبَبٌ بِصِفَةِ الْعَقْدِ أَمْ بِصِفَةِ الْقَصْدِ فَعِنْدَهُ هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ الْقَصْدِ فَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْغَمُوسِ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ، وَعِنْدَنَا هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَصْفَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا تَجِبُ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ فَيَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا حَرُمَ الْفِطْرُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ لَيْسَ إلَّا تَرْكَ الْإِمْسَاكِ وَالْإِمْسَاكُ فِعْلُهُ فَكَانَ تَرْكُهُ وَإِبْطَالُهُ مَمْلُوكًا لَهُ لَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِمْسَاكِ هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ التَّرْكُ وَالْإِبْطَالُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَكَانَ نَظِيرَ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَلَمْ يَكُنْ عُدْوَانًا مَحْضًا بَلْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي بَابِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشَّرْطِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي)(شَرْطِ التَّسْمِيَةِ) أَيْ اشْتِرَاطِهَا لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ شَرْطٌ فَلَمْ يَحِلَّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ الْمِلَّةُ لَا غَيْرُ، وَمِثْلُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ وَمِثْلُ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ هُوَ الْإِعْلَامُ وَمِثْلُ شَرْطِ النِّكَاحِ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ شَرْطٌ لِنُفُوذِ الطَّلَاقِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعِدَّةِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِلْكُ بِالْبَيْنُونَةِ وَعِنْدَنَا شَرْطُ النُّفُوذِ إمَّا النِّكَاحُ أَوْ الْعِدَّةُ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا دَامَتْ تَحِلُّ لَهُ عَقَدَ أَوْ لَمْ تَصِرْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا كَانَتْ مَحَلًّا عِنْدَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَبْقَى مَحَلًّا بِالِاتِّفَاقِ لِبَقَاءِ الْحِلِّ عِنْدَنَا وَلِبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ مِنْ الْحِلِّ بِالرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَرِضَاءِ وَلِيِّهَا وَبِغَيْرِ مَهْرٍ.
وَكَذَا بِغَيْرِ شُهُودٍ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّكَاحَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَذَلِكَ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ وَالْأَسْرَارِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ لَا طَرِيقَ إلَى نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً بِالتَّعْلِيلِ بَلْ السَّبِيلُ فِيهَا الرُّجُوعُ إلَى النُّصُوصِ وَإِشَارَتِهَا وَدَلَالَاتِهَا فَفِي اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ يُتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَفِي اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ عليه السلام أَوْ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ.
وَفِي اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم -
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ وَفِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَمِثْلُ إشْعَارِ الْبُدْنِ
ــ
[كشف الأسرار]
«لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ فِي الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «الْمُخْتَلِعَةُ تَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَبِاسْتِدْلَالَاتٍ قَوِيَّةٍ عُرِفَتْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا لَا بِالْقِيَاسِ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ أَيْ صِفَةِ الشَّرْطِ مِثْلُ صِفَةِ الشُّهُودِ أَيْ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الشُّهُودِ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَدَالَةِ فِيهِمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَا بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَعِنْدَنَا لَا يُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ فِي الْجَمِيعِ وَلَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَمْ شُهُودٌ مَوْصُوفُونَ بِكُلِّ وَصْفٍ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَا نَفْيُهُمَا بِالرَّأْيِ بَلْ يَتَمَسَّكُ فِي إثْبَاتِهِمَا بِقَوْلِهِ عليه السلام «وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» فَإِنَّ عِبَارَتَهُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَيُشِيرُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ إلَى نَفْيِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّ عَدَدَ الِاثْنَيْنِ لَا يَكْفِي إلَّا مِنْ الرِّجَالِ وَيَتَمَسَّكُ فِي نَفْيِهِمَا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَبِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه السلام «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَكَقَوْلِنَا: الْوُضُوءُ شَرْطٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ يَعْنِي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لَكِنْ بِدُونِ صِفَةِ الْقُرْبَةِ حَتَّى صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ شَرْطٌ بِصِفَةِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الصِّفَةِ، وَلَا نَفْيُهَا بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً بَلْ يَتَمَسَّكُ مَنْ يُثْبِتُهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَحْتَجُّ مَنْ نَفَاهَا بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ جَازَتْ الصَّلَوَاتُ فَلَوْ كَانَ يُشْتَرَطُ صِفَةُ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ لَكَانَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ كُلِّ صَلَاةٍ وَإِرَادَتُهَا فِي الْوُضُوءِ وَلَمَّا لَمْ تُشْتَرَطْ عُلِمَ أَنَّ صِفَةَ الْقُرْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا إذَا أَرَادَ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَهْلًا لِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقِيَامِ بِحَضْرَتِهِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ) الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مَشْرُوعَةٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله هِيَ مَشْرُوعَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ شَرْعِيَّتِهَا بِالْقِيَاسِ فَمَنْ أَثْبَتَ شَرْعِيَّتَهَا يَتَمَسَّكُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ فَعَلَ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَعَلَ» وَمَنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا يَتَمَسَّكُ بِمَا اُشْتُهِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي الْآخِرَةِ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام نَهَى عَنْ الْبَتْرَاءِ» أَوْ بِمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَا أَجْزَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ وَبِنَوْعٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ السَّفَرَ سَبَبٌ لِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْأَرْبَعِ فَلَوْ كَانَتْ الرَّكْعَةُ صَلَاةً لَسَقَطَ الشَّطْرُ أَيْضًا فِي الْفَجْرِ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَبْقَى صَلَاةً فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلْكُلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَطْرَ الْمَغْرِبِ لَمْ يَسْقُطْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً وَنِصْفَ صَلَاةٍ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْقَاشَانِيُّ مَشْرُوعٌ حَتَّى لَوْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ بَاقِيَهُ جَازَ عِنْدَهُمْ، وَاعْتَبَرُوهُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى فَإِنَّ إمْسَاكَ بَعْضِ الْيَوْمِ قُرْبَةٌ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَقَاسُوهُ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا مَشْرُوعٌ كَالْكَثِيرِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا صَارَتْ قُرْبَةً مَشْرُوعَةً لِمَا فِيهَا مِنْ صِلَةِ الْفَقِيرِ وَفِي الْقَلِيلِ صِلَةُ الْفَقِيرِ كَمَا فِي الْكَثِيرِ أَمَّا الصَّوْمُ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَإِنَّمَا شُرِعَ قُرْبَةً لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فِي وَقْتٍ مُمْتَدٍّ وَهُوَ النَّهَارُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِيمَا دُونَهُ وَجَعْلُهُ مَشْرُوعًا بِالْقِيَاسِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْأَضْحَى لَيْسَ بِصَوْمٍ بَلْ شُرِعَ لِيَكُونَ أَوَّلَ التَّنَاوُلِ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ عز وجل فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى لَوْ نَوَى النَّفَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَهُ فِي قَوْلٍ وَلَمْ يَأْكُلْ فِيمَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ.
وَفِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا حَرَمَ لِلْمَدِينَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا حَرَمٌ مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى النُّصُوصِ فَقَوْلُهُ عليه السلام «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» وَقَوْلُهُ عليه السلام «إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» وَقَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ قَتَلَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ يُؤْخَذُ مِثْلُهُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا حَرَمًا مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِآلِ مُحَمَّدٍ وُحُوشٌ يُمْسِكُونَهَا وَقَوْلُهُ عليه السلام لِأَبِي عُمَيْرٍ «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَكَانَ طَيْرًا يُمْسِكُهُ» وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَمَ لَهَا كَمَا قُلْنَا وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الْبَابِ مَحْمُولَةٌ عَلَى إثْبَاتِ الِاحْتِرَامِ لَا عَلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَمِثْلُ إشْعَارِ الْبُدْنِ الْإِشْعَارُ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبُدْنِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ ثُمَّ يُلَطِّخُ بِذَلِكَ سَنَامَهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَعْلَمَ بِهِ أَنَّهَا هَدْيٌ وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ لُغَةً وَالْبُدْنُ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بَدَنَةٍ وَهِيَ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ثُمَّ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضُرَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله هُوَ سُنَّةٌ فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ بَلْ الْمَفْزَعُ فِيهِ الْأَخْبَارُ وَفِعْلُ النَّبِيِّ عليه السلام فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً.
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ إنْ شِئْت فَأَشْعِرْ وَإِنْ شِئْت فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْ لَا تَنَالَهَا أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُثْلَةُ وَتَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ بِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا عَلَى الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ عَلَى الْحَدِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ.
1 -
قَوْلُهُ (وَأَمَّا صِفَتُهُ أَيْ) الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافٍ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ أَنَّهُ سُنَّةٌ أَمْ وَاجِبٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَتِهِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَوَاتِكُمْ الْخَمْسِ، أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَحَافِظُوا عَلَيْهَا» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ
وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
مِنَّا» وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «ثَلَاثٌ كُتِبَ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» أَيْ الْأُضْحِيَّةُ.
وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَيْ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا فَعِنْدَنَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله سُنَّةٌ وَمَفْزَعُ الْفَرِيقَيْنِ السُّنَّةُ دُونَ الرَّأْيِ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ فِي الْإِيجَابِ بِقَوْلِهِ عليه السلام «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَهُوَ يَتَعَلَّقُ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ بِمَا رَوَيْنَا وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هِيَ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ فَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْحَجِّ مَا هُوَ أَصْغَرُ وَبِقَوْلِهِ عليه السلام «الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ» وَقُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَحَمَلْنَا أَلْفَاظَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ (وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ) لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى لَا يَصِحَّ رَهْنُ مَا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِيفَاءِ كَالْخَمْرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقُّ الْحَبْسِ وَثُبُوتُ الْيَدِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَعِنْدَنَا الْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْحَبْسُ ثَابِتٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلرَّهْنِ فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ وَيَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَيْسَتْ هَذِهِ يَدَ اسْتِيفَاءٍ بَلْ ثُبُوتُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ بِإِيفَائِهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِالْبَيْعِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ أَمَانَةً لَا مَضْمُونًا وَكَانَ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ ثُمَّ الرَّدِّ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
وَذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ: حَقِيقَةُ الرَّهْنِ تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِتَعْلِيقِهِ بِالْعَيْنِ لِيَسْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْإِفْلَاسِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِيَحْفَظَ مَحَلَّ حَقِّهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَى الْمَرْهُونِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ فِي قَضَاءِ حَقِّهِ إذَا لَمْ يُوَفِّهِ الرَّاهِنُ مِنْ مَالٍ آخَرَ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي عَقْدٍ آخَرَ لِتَعَدِّيهِ إلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْنَى التَّوَثُّقِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِمَا قُلْت فَإِنَّهُ مِنْ قَبْلُ كَانَ مُطَالَبًا بِالْإِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَحَلٍّ وَبَعْدَ الرَّهْنِ بَقِيَ مَا كَانَ وَازْدَادَ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ مُطَالَبَتُهُ بِالْإِيفَاءِ مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ تَبَعًا، وَإِيفَاءً لِلدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ عَلَى مِثَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ مُوجِبَهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى فَحَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ بِضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَهَاهُنَا حَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ بِتَعْيِينِ مَحَلٍّ مَعَ بَقَائِهِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْمَالِكِ بِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ فَلَا يَحْجُرُ الْمَالِكُ عَنْهُ لِحَقِّهِ كَمَا لَا يَحْجُرُ الْمَوْلَى عَنْ اسْتِخْدَامِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْوَطْءِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِاسْتِخْدَامِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم «الرَّهْنُ مَجْلُوبٌ
وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْمَهْرِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَمَرْكُوبٌ» وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْلُوبٍ وَلَا مَرْكُوبٍ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ، وَنَحْنُ نَقُولُ أَحْكَامُ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ تُقْتَبَسُ مِنْ أَلْفَاظِهَا الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ التَّعْرِيفَ وَقَعَ بِهَذَا الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ لِيَكُونَ التَّعْرِيفُ بِهِ صَحِيحًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُنْبِئٌ عَنْ الْحَبْسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مُحْتَبَسَةٌ فَجَعَلْنَا مُوجِبَهُ احْتِبَاسَ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهَذَا الِاحْتِبَاسُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِاتِّصَافِهِ بِكَوْنِهِ مُطْلَقًا شَرْعًا وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَظِيرِهِ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فَظَاهِرٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُنَا فَإِنَّ مُوجِبَهُ صَيْرُورَةُ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَضْمُونَةً إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ وَثِيقَةً فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ إثْبَاتُ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا ثَبَتَ بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى يَزْدَادَ وُثُوقًا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ الثَّابِتُ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ مَا هُوَ الْفَرْعُ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ جُعِلَ أَصْلًا فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ لِتَكُونَ مُوَصِّلَةً إلَى الْحَقِيقَةِ فَكَذَا الْيَدُ عَلَى الْمَحَلِّ فَرْعُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَجُعِلَتْ أَصْلًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِبْدَاءِ مَا هُوَ الِاتِّبَاعُ وَالْفُرُوعُ فِي الْأُصُولِ يُجْعَلُ أُصُولًا فِي التَّوَثُّقَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي هَذِهِ الْيَدِ وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ جُعِلَتْ وَثِيقَةً؟ (قُلْنَا) مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ زَائِدٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا كَانَ فَإِذَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ حَقِيقَةً يَصِيرُ هَذَا الِاحْتِبَاسُ وَسِيلَةً إلَى النَّقْدِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَاهَدُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ مَتَى صَارَ مَحْبُوسًا عَنْهُ بِدَيْنٍ يَتَسَارَعُ إلَى فِكَاكِهِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ جِنْسِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالدَّيْنُ بِالِاسْتِيفَاءِ يَصِيرُ مُحَصَّنًا فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَازْدَادَتْ يَدٌ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ ازْدَادَ الْأَوَّلُ تَوَثُّقًا بِهِ فَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي حَقِيقَةِ الِاحْتِبَاسِ وَالْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْمَحَلِّ فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ فَلَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ وَلَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ حُكْمٌ يَأْتِي بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ.
وَكَذَا تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ يَكُونُ فِي الْعَادَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَرْهَنُ الشَّيْءَ لِيُوَفِّيَ الدَّيْنَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ لَا لِيَبِيعَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ إلَّا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَمْ مِنْ رَهْنٍ يَنْفَكُّ عَنْ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ مُوجِبِ الْعَقْدِ مَا لَا يَخْلُو الْعَقْدُ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ قَوْلُهُ (وَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْمَهْرِ) مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ فَعِنْدَنَا هُوَ وَاجِبٌ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْبُضْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الشَّرْعِ بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَفِي الْبَقَاءِ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعْنَى الْعِوَضِ وَالصِّلَةِ وَقَدْ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَفَرَّعُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَأَكَّدَ الْمَهْرُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ كَمَا لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ وَبِالِاتِّفَاقِ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَهْرَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِ الْبَيْعِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ أَمْ مُتَرَاخٍ إلَى قَطْعِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَلْزَمُ اخْتِلَافُ النَّاسِ بِالرَّأْيِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ النَّهْيِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقَابُضِ
ــ
[كشف الأسرار]
رحمه الله التَّقْدِيرُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَعْرَاضِ وَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَصْلٌ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْهُ إلَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الْمَهْرُ زَائِدٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ النِّكَاحُ فَإِنَّ الْمُنَاكَحَةَ تَقُومُ بِبَدَنِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ فَكَانَ الرُّكْنُ فِي الْعَقْدِ ذِكْرَهُمَا لِيَتَحَقَّقَ مُوجِبُ اللَّفْظِ أَمَّا الْمَالُ فَأَمْرٌ زَائِدٌ، وَبِهَذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَمَعَ نَفْيِهَا فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا ضَرْبُ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي جَانِبِهَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِ فَلِكَوْنِهِ عِوَضًا إذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَمَلُّكَ مِلْكِ الْأَعْوَاضِ وَإِذَا نَفَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَا يَجِبُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَلِكَوْنِهِ صِلَةً تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ مُطَالَبَةَ الْفَرْضِ كَالنَّفَقَةِ أَوْ يُقَالُ إذَا تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِ وَالصِّلَةِ فَلِكَوْنِهِ صِلَةً يَنْعَقِدُ أَصْلُ الْعَقْدِ بِدُونِ الْمَهْرِ وَلِكَوْنِهِ عِوَضًا لَا يَخْلُو عَنْهُ مِلْكُ الْبُضْعِ فَيَتَأَخَّرُ وُجُوبُهُ إلَى حِينِ الدُّخُولِ وَتَسْتَحِقُّ الْفَرْضَ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْبُضْعُ عَنْهُ قَالَ وَهُوَ خَالِصُ حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ مُقَابِلًا بِالْبُضْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَهُ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ أَوْ حُكْمُ الْمَنَافِعِ فَكَيْفَ مَا كَانَ هُوَ حَقُّهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَهُ خَالِصُ حَقِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ لَمَا صَحَّ إسْقَاطُهَا أَصْلًا.
، وَنَحْنُ نَقُولُ حُكْمُ النِّكَاحِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالِازْدِوَاجُ وَالسَّكَنُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَهَذَا الْمِلْكُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِمَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فَكَانَ وُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ دُونَ الصِّلَةِ ثُمَّ هَذَا الْمَالُ مَعَ كَوْنِهِ عِوَضًا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ فَإِنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ وَيَجِبُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ الْمَشْرُوعِ فَإِذَا شَرَعَ فِي الْعَقْدِ وَحَصَلَ الْمِلْكُ وَجَبَ الْمَالُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ وَصَارَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ تَحْصِيلًا لِلْمِلْكِ بِمَالٍ وَفِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَحَلُّ النَّسْلِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْبَادُ فَظَهَرَ حَقُّ الشَّرْعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ النَّسْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ، وَالْإِبَاحَةُ وَلَا يَخْلُو التَّصَرُّفُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ حَدٍّ وَعَقْدٍ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَوْ كَانَ الْبُضْعُ مَحْضَ حَقِّ الْمَرْأَةِ لِعَمَلِ رِضَاهَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ إنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي إبَاحَةِ الْفِعْلِ كَمَا فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ وَقَتْلِ النَّفْسِ لَا يَحِلُّ الْفِعْلُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الْأَطْرَافِ وَلَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ.
وَكَذَا إبَاحَةُ الْمَالِ إنْ كَانَتْ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحَلِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الشَّرْعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَهْرِ وَالشُّهُودِ، وَإِنَّمَا شُرِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إبَانَةً لِحَظْرِ الْمَحَلِّ وَصَوْنًا لَهُ عَنْ الْهَوَانِ فَأَمَّا الْبَقَاءُ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالسَّبَبِ فَعَمِلَ رِضَاهَا فِي الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا عَلَى التَّمَحُّضِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا ظَهَرَ حَقُّ الشَّرْعِ فِيهِ وُجُوبًا وَالْبَقَاءُ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى التَّمَحُّضِ.
قَوْلُهُ (وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِ الْبَيْعِ) اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةِ اللُّزُومِ أَمْ بِتَرَاخٍ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَعِنْدَنَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَازِمًا فَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَرَاخَى ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي قَوْلٍ وَإِلَيْهِ
فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا لِإِثْبَاتِهِ أَصْلًا وَهُوَ الصَّرْفُ وَوَجَدْنَا لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَصْلًا وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ.
فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى إيجَابَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ شَرْطًا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ أَرَادَ إيجَابَ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطًا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا أَيْضًا
ــ
[كشف الأسرار]
أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَكِنْ يَتَرَاخَى اللُّزُومُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَيَثْبُتُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَرَّفُ إثْبَاتَهُ وَلَا نَفْيَهُ بِالْقِيَاسِ فَرَجَعَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي إثْبَاتِهِ إلَى الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا اللُّزُومَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَوْلِهِ عليه السلام «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَالصِّفَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّافِذَةِ اللَّازِمَةِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ لَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَمَا اخْتَلَفُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَدَلَّ عَلَى زِيَافَتِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَإِنَّهُ سَمَّاهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي حَالِ إقْدَامِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ يُسَمَّيَانِ بِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَلَا يَلْزَمُ اخْتِلَافُ النَّاسِ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا قُلْنَا: إنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَتَكَلُّمُهُمْ فِيهِ بِالرَّأْيِ وَهُوَ حُكْمٌ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا جَوَابَ السُّؤَالِ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْأَيَّامَ مَحَالٌّ لِلصَّوْمِ بَلْ مَحَلِّيَّةُ الْأَيَّامِ لِلصَّوْمِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّهُ يَوْمٌ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ النَّهْيِ أَيْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى فِيهِ اخْتِيَارٌ لِلْمَنْهِيِّ فَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَمْ يُوجِبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ بِأَنْ صَارَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَنْسُوخًا بِالنَّهْيِ، وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ أَيْ حُكْمُ النَّهْيِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَقَالَ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] فَمُقْتَضَى هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنْ يَكُونَ مَا كُلِّفَ الْعَبْدُ وَابْتُلِيَ بِهِ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَالنَّهْيُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِانْتِهَاءُ الْوَاجِبُ بِهِ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا لِيَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَيُثَابَ وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَيُعَاقَبَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ النَّهْيِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ) أَيْ إنَّمَا لَمْ نُجَوِّزْ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَيْ لِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَتَعْدِيَةُ حُكْمِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِيهِ وَإِثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقَابُضِ أَيْ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ أَيْ بَيْعِ طَعَامٍ بِعَيْنِهِ بِطَعَامٍ بِعَيْنِهِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ اخْتَلَفَ بِأَنْ بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرِّ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا رِبَا الْفَضْلِ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَقُلْنَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ عَيْنَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الْكَلَامُ فِيهِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ لِإِثْبَاتِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ أَصْلٌ وَهُوَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَوُجِدَ لِلْجَوَازِ بِدُونِ الْقَبْضِ أَصْلٌ أَيْضًا وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ فَاسْتَقَامَ تَعْلِيلُ كُلِّ أَصْلٍ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ. فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ أَيْ
وَهَذَا بَابٌ لَا يُحْصَى عَدَدُ فُرُوعِهِ فَاقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْجُمَلِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ: وَهُمَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ.
ــ
[كشف الأسرار]
وُجِدَ أَصْلٌ يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ فِي غَيْرِ التَّقَابُضِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وُجِدَ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَصْلٌ وَهُوَ عُقُودُ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الشُّهُودُ لِصِحَّةِ الْمُعَامَلَاتِ شَرْعًا وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى بَعْضِهَا حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ كَبَيْعِ الْأَمَةِ فَيُعَلَّلُ ذَلِكَ الْأَصْلُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ، وَكَذَلِكَ وُجِدَ لِسُقُوطِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ أَصْلٌ وَهُوَ النَّاسِي فَيُعَلَّلُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ (قُلْنَا) لَمْ يُشْتَرَطْ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَامَلَةٌ وَلَكِنَّ اشْتِرَاطَ الشُّهُودِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ وَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ يَخْتَصُّ بِشَرْطِ الشُّهُودِ وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيُعَلَّلَ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَيُعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَى الْفَرْعِ.
وَأَمَّا النَّاسِي فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَرْطُ التَّسْمِيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمُسَمَّى حُكْمًا لِلْعُذْرِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عليه السلام «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» كَمَا جَعَلَ النَّاسِيَ فِي الصَّوْمِ كَالْمُبَاشِرِ لِرُكْنِ الصَّوْمِ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» وَهَذَا حُكْمٌ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُ مِثْلِهِ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ مَعَ أَنَّ الْعَامِدَ لَيْسَ كَالنَّاسِي لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَاسَ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي فِي الصَّوْمِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَصَارَ حَاصِلُ الْبَابِ أَنَّ إثْبَاتَ السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ أَوْ الْحُكْمِ بِالتَّعْلِيلِ ابْتِدَاءً لَا يَجُوزُ فَأَمَّا بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ التَّعْدِيَةِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ إنَّمَا حَكَمْنَا بِفَسَادِ التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ أُصُولٍ تُقَاسُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ عَلَيْهَا لَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْقِيَاسِ وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ إلَى آخِرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَعْنِي الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيلِ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّأْيِ مُسْتَنْبَطٌ بِالْعِلَّةِ إلَّا أَنَّهُمَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ نَوْعَانِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُثْبِتُ مَا يَنْفِيهِ الْآخَرُ ثُمَّ الْحُكْمُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ جَلِيًّا سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّيْنَاهُ اسْتِحْسَانًا