الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ مِائَةٌ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيَانًا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ دَلِيلُ الِاتِّحَادِ مِثْلُ الْإِضَافَةِ فَكُلُّ جُمْلَةٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ بَيَانًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِائَةٌ وَعَبْدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
{بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ
وَهُوَ النَّسْخُ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ نَفْسِ النَّسْخِ وَمَحِلِّهِ وَشَرْطِهِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَمَّا النَّسْخُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّبْدِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] فَسَمَّى النَّسْخَ تَبْدِيلًا وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ أَنْ يَزُولَ شَيْءٌ فَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ يُقَالُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ؛ لِأَنَّهَا تَخْلُفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ خَبَرٌ كَمَا لَوْ أَخَّرَ التَّفْسِيرَ عَنْ الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ أَوْ جَعَلَ الْعَدَدَ بِنَفْسِهِ مُفَسِّرًا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ عَدَدًا مُفَسِّرًا.
فَأَمَّا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَقَوْلُهُ وَثَوْبٌ لَيْسَ بِمُفَسِّرٍ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ مُخْتَلِفَةُ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ كَقَوْلِهِ مِائَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَلُّ جَهَالَةً فَلَمْ يَلْتَحِقْ بِمَا وُضِعَ تَفْسِيرًا أَوْ خَبَرًا عَنْ الْجُمْلَةِ بَلْ كَانَ هَذَا إلَى الْقِيَاسِ أَقْرَبَ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إلَى التَّفْسِيرِ الْمُصَرَّحِ بِهِ أَقْرَبُ فَاسْتُحْسِنَ الرَّدُّ إلَى التَّفْسِيرِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ أُضِيفَتَا إلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " عَلَيَّ مِائَةٌ " جُمْلَةٌ ظَرْفِيَّةٌ وَقَوْلُهُ وَثَلَاثَةٌ جُمْلَةٌ أُخْرَى ظَرْفِيَّةٌ نَاقِصَةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْأُولَى وَقَدْ أُضِيفَتَا جَمِيعًا إلَى الدَّرَاهِمِ فَصَارَ لَفْظُ الدَّرَاهِمِ بَيَانًا لَهُمَا لِكَوْنِهِمَا مُفْتَقِرَيْنِ إلَى الْبَيَانِ قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ مِائَةٌ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيَانًا لِلْمِائَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنْ الثِّيَابِ وَالشِّيَاهِ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِنْسِهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا الْمَعْطُوفَ تَفْسِيرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الِاتِّحَادِ كَمَا ذَكَرْنَا فَكُلُّ جُمْلَةٍ أَيْ كُلُّ مَالٍ مُجْتَمِعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْ قِسْمَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَنْ يُقَسَّمَ الْجَمِيعُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِطَرِيقِ الْخَبَرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى قِسْمَةٍ أُخْرَى فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلِاتِّحَادِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْقَاضِي جَبْرًا لَا تَقَعُ إلَّا فِيمَا هُوَ مُتَّحِدُ الْجِنْسِ، وَالثَّوْبُ وَالشَّاةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُفَسَّرُ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ الْمُوجِبِ لِلِاتِّحَادِ كَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِاحْتِمَالِ الِاتِّحَادِ جُعِلَ قَوْلُهُ وَثَوْبٌ أَوْ شَاةٌ بَيَانًا لِلْمِائَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِائَةٌ وَعَبْدٌ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الِاتِّحَادِ بِسَبَبِ الْعَطْفِ فَلَا يَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِالْمَعْطُوفِ فِيهِ مُفَسِّرًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَبْسُوطِ وَهَذَا الْفَرْقُ مُشْكِلٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُقَسَّمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ وَهِيَ أَنْ يُقَسَّمَ الْجَمِيعُ وَاحِدَةً بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى قِسْمَةٍ أُخْرَى كَالثِّيَابِ وَالْغَنَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ الْعَبْدُ الثَّوْبَ فِي صَيْرُورَتِهِ بَيَانًا لِلْمِائَةِ بِالْعَطْفِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الرَّقِيقِ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مُؤَوَّلٌ بِمَا إذَا اتَّفَقَ رَأْيُ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى الْقِسْمَةِ فَيُقَسِّمُ الْقَاضِي بِنَاءً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا قِسْمَةً حَقِيقَةً بَلْ يَكُونُ تَبَعًا كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَنْقُولًا عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحُسَامِيِّ وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا إذْ الْمَذْكُورُ فِيهَا أَنَّ الرَّقِيقَ إذَا كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا تُقَسَّمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَهُمَا بِطَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ أَبَى الْبَعْضُ وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو يُوسُفَ مُوَافِقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقَسَّمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الثَّوْبَ وَالْغَنَمَ يُقَسَّمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِالِاتِّفَاقِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِمَا الِاتِّحَادُ وَالرَّقِيقُ لَا يُقَسَّمُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ هِيَ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الِاتِّحَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ]
[تَفْسِيرِ النَّسْخِ]
بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ:
وَهُوَ النَّسْخُ تَكَلَّمَ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ لُغَةً فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِزَالَةُ يُقَالُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ أَزَالَتْهُ وَرَفَعَتْهُ وَنَسَخَ الرِّيحُ الْآثَارَ إذَا مَحَتْهَا وَنَسَخَ الشَّيْبُ الشَّبَابَ أَيْ أَعْدَمَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ أَنْ يَزُولَ شَيْءٌ فَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ إلَى آخِرِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ النَّقْلُ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان أَوْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفْسِهِ يُقَالُ نَسَخَتْ النَّحْلُ الْعَسَلَ إذَا نَقَلَتْهُ مِنْ خَلِيَّةٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
إلَى أُخْرَى وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ لِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ وَمِنْهُ نَسَخْت الْكِتَابَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّقْلِ بِتَحْصِيلِ مِثْلِ مَا فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ ثُمَّ قِيلَ هِيَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: نَسَخْت الْكِتَابَ لَمْ يُوجَدْ النَّقْلُ حَقِيقَةً فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ تَفَادِيًا عَنْ كَثْرَةِ الْمَجَازِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَسَخْت الْكِتَابَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَلَا يَكُونُ مُسْتَعَارًا مِنْ الْإِزَالَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُزَالٍ وَلَا مُشَابِهٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا مِنْ النَّقْلِ لِمُشَابِهَتِهِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ مُسْتَعَارًا مِنْهُ كَانَ النَّقْلُ حَقِيقَةً فَكَانَ مَجَازًا فِي الْآخَرِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْأَوْلَى فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوخٌ إلَى نَاسِخِهِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَأَمَّا الْإِزَالَةُ وَهِيَ الْإِبْطَالُ وَالْإِعْدَامُ فَمُتَصَوَّرٌ وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ اسْمٌ عُرْفِيٌّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَإِنَّ مَا هُوَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ فَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ عُرْفًا فَيَكُونُ الِاسْمُ مَنْقُولًا كَاسْمِ الصَّلَاةِ لِلْأَفْعَالِ الْمَعْهُودَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنَى الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ يَكُونُ اسْمًا مَنْقُولًا لَا اسْمًا شَرْعِيًّا فَكَذَا هَذَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنًى لُغَوِيًّا وَهُوَ الْإِزَالَةُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا يُذْكَرُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ شَرِيعَةً أَيْضًا أَيْ فِي حَدِّهِ فَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْخِطَابِ دُونَ النَّصِّ لِيَشْمَلَ اللَّفْظَ وَالْفَحْوَى وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الزَّائِلَةِ بِهَا مَعَ تَرَاخِيهَا عَنْهَا وَكَوْنِهَا بِحَيْثُ لَوْلَاهَا لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الزَّائِلَةُ بِهَا مُسْتَمِرَّةً وَقَيَّدَ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ احْتِرَازًا عَنْ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ إيجَابِ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ يُزِيلُ حُكْمَ الْعَقْلِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ حُكْمَ خِطَابٍ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُوَقِّتٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَبَعْدَ انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُنَاقِضٍ لِلْأَوَّلِ كَمَا لَوْ وَرَدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مُسْتَمِرًّا بَلْ كَانَ مُنْتَهِيًا بِالْغُرُوبِ وَقَوْلُهُ مَعَ تَرَاخِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لَا نَسْخًا وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَإِنَّمَا زِيدَ لَفْظُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَدِّ يَقُولُ تَحْقِيقُ الرَّفْعِ فِي الْحُكْمِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْفُوعَ إمَّا حُكْمٌ ثَابِتٌ أَوْ مَا لَا ثَبَاتَ لَهُ وَالثَّابِتُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ وَمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ لَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِهِ فَدَلَّ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَا رَفْعُ عَيْنِهِ أَوْ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ التَّأَخُّرِ عَنْ مَوْرِدِهِ وَزُيِّفَتْ هَذِهِ الْحُدُودُ بِأَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا تَعْرِيفَاتٍ لِلنَّاسِخِ لَا لِلنَّسْخِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَلِيلُ النَّسْخِ وَالطَّرِيقُ الْمُعَرِّفُ لَهُ لَا نَفْسُهُ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا قَالَ نُسِخَ حُكْمُ كَذَا يَكُونُ هَذَا
هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَقِيقَتُهَا حَتَّى صَارَتْ تُشْبِهُ الْإِبْطَالَ مِنْ حَيْثُ كَانَ وُجُودًا يَخْلُفُ الزَّوَالَ وَهُوَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَهُ فَصَارَ ظَاهِرُهُ الْبَقَاءَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَكَانَ تَبْدِيلًا فِي حَقِّنَا بَيَانًا مَحْضًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهُوَ كَالْقَتْلِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِلْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ بِلَا شُبْهَةٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَفِي حَقِّ الْقَاتِلِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ.
ــ
[كشف الأسرار]
الْقَوْلُ خِطَابًا وَلَفْظًا دَالًّا عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَزَوَالُهُ ظُهُورُ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِهِ وَانْتِهَاءُ أَمَدِهِ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ لِوُجُودِ النَّسْخِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ عليه السلام وَهُوَ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلِهَذَا زَادَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هُوَ إزَالَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِقَوْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ عليه السلام أَوْ فِعْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ رَسُولِهِ عليه السلام مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا. وَيَنْدَفِعُ الْأَوَّلُ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الْخِطَابِ خِطَابُ الشَّارِعِ لَا خِطَابُ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْخِطَابَ إذَا أُطْلِقَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلَامَ الْعَدْلِ دَالٌّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ كَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى خِطَابٍ مِنْ الشَّارِعِ دَالٍّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ وَكَذَا وَكَذَا فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا.
وَالثَّانِي بِأَنْ يُقَالَ: فِعْلُهُ عليه السلام يَدُلُّ عَلَى خِطَابٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى دَالٍّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ إذْ لَيْسَ لِلرَّسُولِ وِلَايَةُ رَفْعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُعَرِّفًا لِلْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ وَمُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فَقَيَّدَ بِالشَّرْعِيِّ احْتِرَازًا عَنْ الْعَقْلِيِّ فَإِنَّ رَفْعَ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمُبَاحِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِالْإِجْمَاعِ وَبِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ احْتِرَازًا عَنْ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ وَبِقَوْلِهِ مُتَأَخِّرًا احْتِرَازًا عَنْ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقِيلَ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقَيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ رَفْعُ الْحُكْمِ خَرَجَ التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمُتَّصِلَ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِرَافِعٍ لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَإِتْمَامٌ لِمَعْنَاهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَتَقْيِيدٌ لَهُ بِمُدَّةٍ وَشَرْطٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ بَيَانُ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي تَقْدِيرِ أَوْهَامِنَا اسْتِمْرَارُهُ لَوْلَاهُ بِطَرِيقِ التَّرَاخِي وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ الْمَحْكُومَ لَا الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُوَقَّتُ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَهْمِنَا اسْتِمْرَارُهُ وَلَا التَّخْصِيصُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْأَصْلِ لَا أَنَّهُ انْتِهَاءٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ قَالَ وَمَا قَالُوا مِنْ الْإِزَالَةِ وَالرَّفْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ فِي الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ وَمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فَكَيْفَ يَبْطُلُ قُلْت وَهَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ كُلُّهَا لَيْسَتْ بِجَامِعَةٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ نَسْخٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي كُتُبِهِمْ نَظِيرَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا مَا رُفِعَ مِنْ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ بِالْإِنْسَاءِ وَمَا رُفِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالْإِنْسَاءِ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَاءَ لَيْسَ بِخِطَابٍ رَافِعٍ وَلَا دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَلَا بَيَانٍ لِشَيْءٍ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ تَصِيرُ بِهَا جَامِعَةً مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِإِنْسَاءٍ وَهَكَذَا فِي كُلِّ حَدٍّ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْقِسْمَ نَسْخًا، فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ نَسْخًا كَالرَّفْعِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى النَّسْخِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] وَالْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِ (هَذَا) أَيْ التَّبْدِيلُ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هِيَ النَّسْخُ حَتَّى صَارَتْ أَيْ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّبْدِيلُ تُشْبِهُ الْإِبْطَالَ مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّبْدِيلُ أَيْ الْمُبَدِّلُ