الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ الْأَهْلِيَّةِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رضي الله عنه أَهْلِيَّةُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَلَا وَالْقَوْلُ بِالتَّفْضِيلِ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُفَضِّلْ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ كُلِّ الْأُمَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَخْطِئَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي بَعْضِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا.
، فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَسْرُوقًا أَحْدَثَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ قَوْلًا آخَرَ بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فَقَالَ لَا أُبَالِي أُحَرِّمُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَأَحْدَثَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فِي أُمٍّ وَزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ قَوْلًا ثَالِثًا بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا اسْتِحْقَاقُهَا ثُلُثَ كُلِّ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي فِي الصُّورَتَيْنِ فَقَالَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَثُلُثُ الْبَاقِي فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَأَقَرَّهُمَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ فَدَلَّ أَنَّ إحْدَاثَ قَوْلٍ آخَرَ جَائِزٌ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إحْدَاثُ الْقَوْلِ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَيَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ مَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مُعَاصِرَيْنِ لِلصَّحَابَةِ وَكَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ لَهُمْ إجْمَاعٌ بِدُونِ رَأْيِهِمَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمَا الصَّحَابَةَ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ أَنَّهُمَا مَحْجُوجَانِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّ قَوْلَهُمَا مَرْدُودٌ لِمُخَالَفَتِهِمَا الْإِجْمَاعَ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَقْوَالٍ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْقَوْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِ غَيْرِهِمْ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا إنَّ هَذَا أَيْ اخْتِلَافَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا ذَلِكَ أَيْ رَدُّ الْقَوْلِ الْحَادِثِ مُخْتَصٌّ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ وَالسَّابِقِيَّةِ فِي الدَّيْنِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً دُونَ إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَسَيَظْهَرُ لَك فَسَادُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَتَنْصِيصِ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ مَا خَطَبَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَيْ بَيَّنَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي خُطْبَتِهِ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ إظْهَارِ الْحَقِّ وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُهُمْ تَسْلِيمًا كَانَ فِسْقًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما فِي خُطْبَتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُك؛ لِأَنَّك خَالَفْت النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ فَإِنِّي مَرَرْت عَلَى بَابِك فَرَأَيْت قِدْرَيْنِ يَغْلِيَانِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ إلَّا قِدْرٌ وَاحِدٌ فَاعْتَذَرَ عُمَرُ وَقَالَ إنَّ فِي أَحَدَيْهِمَا دَوَاءً وَفِي الْأُخْرَى طَعَامًا وَقَسَمَ عُمَرُ رضي الله عنه حُلَلًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ حُلَّةً ثُمَّ خَطَبَ فِي حِلَّتَيْنِ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ اسْمَعُوا فَقَالَ سَلْمَانُ رضي الله عنه لَا نَسْمَعُ؛ لِأَنَّ فِعْلَك يُخَالِفُ قَوْلَك، فَإِنَّك قَدْ جُرْت فِي الْقِسْمَةِ وَأَخَذْت حُلَّتَيْنِ وَأَعْطَيْت غَيْرَك حُلَّةً حُلَّةً فَقَالَ قَدْ اسْتَعَرْت أَحَدَيْهِمَا مِنْ ابْنِي وَلَيْسَ لِي إلَّا حُلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَك فَلَمَّا لَمْ يَسْكُتُوا عَمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْإِبَاحَةِ وَلَكِنَّهُ مُخِلٌّ بِدَقَائِقِ التَّقْوَى فَكَيْف يُظَنُّ بِهِمْ السُّكُوتُ فِيمَا كَانَ الْحَقُّ بِخِلَافِهِ عِنْدَهُمْ وَقَوْلُهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَيْسَ بِقَيْدٍ لَازِمٍ بَلْ لَوْ خَطَبَ غَيْرُهُمْ وَسَكَتُوا كَانَ إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ يَخْطُبُ إلَّا الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْ الْخُلَفَاءِ
[بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع]
(بَابُ الْأَهْلِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِلَفْظِ الْأُمَّةِ مِثْلُ
وَذَلِكَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ فِيهِ هَوًى وَلَا فِسْقٌ أَمَّا الْفِسْقُ فَيُورِثُ التُّهْمَةَ وَيُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَبِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ
ــ
[كشف الأسرار]
قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَهَذَا اللَّفْظُ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُفَّارَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَيَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ كُلَّ مُسْلِمٍ لَكِنْ لَهُ طَرَفَانِ وَاضِحَانِ وَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَأَوْسَاطٌ مُتَشَابِهَةٌ أَمَّا الْوَاضِحُ فِي النَّفْيِ فَالْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَالْأَجِنَّةُ فَإِنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْأُمَّةِ فَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِالْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَأَمْثَالِهِ إلَّا مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِفَاقُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ فَهْمِهَا وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ مَنْ لَا يَفْهَمُهَا وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَيُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً دَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الْكُلِّ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْمُجْمِعِينَ وَلَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا الْوَاضِحُ فِي الْإِثْبَاتِ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مَقْبُولُ الْفَتْوَى؛ إذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ قَطْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ الْمُتَشَابِهَةُ فَالْعَوَامُّ الْمُكَلَّفُونَ، وَالْفَقِيهُ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ، وَالْأُصُولِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَالْمُجْتَهِدُ الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ وَأَمْثَالُهُمْ ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ اشْتَرَطَ مُوَافَقَةَ الْأَوْسَاطِ أَيْضًا فَقَالَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاتِّبَاعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ خَوَاصِّهِمْ وَعَوَامِّهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ
وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ لِعَدَمِ الْفَهْمِ التَّامِّ وَلِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ مِنْهُمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي بِحَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى كَذَا» تَنَاوَلَ الْكُلَّ فَكَذَا هَا هُنَا وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِعِصْمَتِهَا عَنْ الْخَطَأِ وَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْعِصْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالشَّيْخُ لَمْ يَعْتَبِرْ إلَّا اتِّفَاقَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْعَدَالَةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَقَالَ: أَهْلِيَّةُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ فِيهِ هَوًى أَيْ بِدْعَةٌ وَلَا فِسْقٌ أَيْ فِسْقٌ ظَاهِرٌ يَعْنِي أَهْلِيَّةَ الْإِجْمَاعِ تَثْبُتُ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَعَلَتْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَمَّا اشْتِرَاطُ الِاسْتِقَامَةِ عَمَلًا وَهِيَ الْعَدَالَةُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُلْزِمًا إنَّمَا ثَبَتَ بِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَبِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَثْبُتُ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ اتِّبَاعَ الْآمِرِ وَالنَّاهِي فِيمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى؛ إذْ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الِاتِّبَاعُ لَا يَكُونُ فِيهِمَا فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْكَرَامَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْفِسْقُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ بِهِ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ وَيُورِثُ التُّهْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَرَّزْ مِنْ إظْهَارِ
وَأَمَّا الْهَوَى فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِ فَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّعَصُّبِ الْبَاطِلِ وَبِالسَّفَهِ وَكَذَلِكَ إنْ مَجَنَ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ غَلَا حَتَّى كَفَرَ بِهِ مِثْلُ خِلَافِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْإِمَامَةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَشْهُورُ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِعْلِ مَا يَعْتَقِدُهُ بَاطِلًا لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ إظْهَارِ قَوْلٍ يَعْتَقِدُهُ بَاطِلًا أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِقَوْلِهِ وَافَقَ أَمْ خَالَفَ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ بَلْ يَتْبَعُ فِيمَا يَقَعُ لَهُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَاجْتِهَادُهُ يُخَالِفُ اجْتِهَادَ مَنْ سِوَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَاسِقَ يَدْخُلُ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْرُجُ مِنْ وَجْهٍ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ إذَا أَظْهَرَ خِلَافَهُ يُسْأَلُ عَنْ دَلِيلِهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ فِسْقُهُ عَلَى اعْتِقَادِ شَرْعٍ لِغَيْرِ دَلِيلٍ فَإِذَا أَظْهَرَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ دَلِيلًا صَالِحًا عَلَى خِلَافِهِ يَرْتَفِعُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ دَلِيلًا صَالِحًا عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَيُفَارِقُ الْعَدْلَ الْفَاسِقَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَظْهَرَ خِلَافَهُ جَازَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اسْتِعْلَامِ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ مَانِعَةٌ مِنْ اعْتِقَادِ شَرْعٍ لِغَيْرِ دَلِيلٍ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِنَاءً عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ الْوَسَاطَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَافِرًا لَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَذَكَرَ دَلِيلًا صَالِحًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ فَكَذَا الْفَاسِقُ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْهَوَى) فَكَذَا يَعْنِي اتِّبَاعَ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَانِعٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ دَاعِيًا إلَيْهِ أَوْ مَاجِنًا بِهِ، أَوْ يَكُونَ غَالِبًا فِيهِ بِحَيْثُ يَكْفُرُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إلَى مُعْتَقَدِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَصَّبُ لِذَلِكَ حِينَئِذٍ تَعَصُّبًا بَاطِلًا حَتَّى يُوصَفَ بِالسَّفَهِ فَيَصِيرَ مُتَّهَمًا فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالتَّعَصُّبُ تَفَعُّلٌ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْعُصْبَةِ، وَهِيَ التَّقْوِيَةُ وَالنُّصْرَةُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ الْمُتَعَصِّبَ مَنْ يَكُونُ عَقِيدَتُهُ مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَجَنَ بِالْهَوَى أَيْ لَمْ يُبَالِ بِمَا قَالَ وَمَا صَنَعَ وَمَا قِيلَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُبَالَاةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ أَيْضًا وَمَصْدَرُهُ الْمُجُونُ وَالْمَجَانَةُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْ بَابِ طَلَبَ وَكَذَلِكَ إنْ غَلَا فِيهِ حَتَّى وَجَبَ إكْفَارُهُ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ وَوِفَاقُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْمُصَلِّينَ إلَى الْقِبْلَةِ بَلْ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَافِرٌ
وَقَوْلُهُ: مِثْلُ خِلَافِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْإِمَامَةِ أَيْ خِلَافِ الرَّوَافِضِ فِي إمَامَةِ الشَّيْخَيْنِ وَخِلَافِ الْخَوَارِجِ فِي إمَامَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه نَظِيرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَصَبِيَّةِ وَنَظِيرُ الْقِسْمِ الثَّانِي مَا نُقِلَ عَنْ الرَّوَافِضِ مِنْ الْهَذَيَانَاتِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا عَلَيْهِمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تُحَابِيهِمْ وَتَعَصُّبُهُمْ فِي هَوَاهُمْ وَنَظِيرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّشْبِيهِ وَعَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضَةِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي أَمْرِ عَلِيٍّ حَتَّى قَالُوا: غَلِطَ جِبْرِيلُ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَعْدُومِ حَتَّى قَالُوا: لَمْ يَعْلَمْ اللَّهُ شَيْئًا حَتَّى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ
قَوْلُهُ: (وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَشْهُورُ) بِهِ أَيْ الَّذِي غَلَا فِي هَوَاهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ الْأُمَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عليه السلام «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» فَيُشْتَرَطُ
فَأَمَّا صِفَةُ الِاجْتِهَادِ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ أَمَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ الْمُمَهَّدَةِ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ
ــ
[كشف الأسرار]
وِفَاقُهُ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ أُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأُمَّةِ تَتَنَاوَلُ أُمَّةَ الْمُتَابَعَةِ دُونَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله: وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ وَلَكِنَّهُ مَشْهُورٌ بِهِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِيمَا يُضَلَّلُ هُوَ فِيهِ: لَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضَلِّلُ لِمُخَالَفَتِهِ نَصًّا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، وَكُلُّ قَوْلٍ كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَحْكَامِ.
قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْهَوَى، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُظْهِرٍ لَهُ فَالْجَوَابُ هَكَذَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُظْهِرًا لِهَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَا يُوجَدُ هَا هُنَا فَإِنَّهُ يُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله قَوْمٌ عَظَّمُوا الذُّنُوبَ حَتَّى جَعَلُوهَا كُفْرًا لَا يَهْتَمُّونَ بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ الذَّنْبُ نَفْسُهُ كُفْرٌ، وَقَدْ كَفَّرُوا أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَارُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهَا بِنَقْلِهِمْ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَأَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ النَّاقِلِينَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِ الْجُهَّالِ فِي الْإِجْمَاعِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: لَوْ خَالَفَ الْمُبْتَدِعُ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ تَابَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الْمُجْمِعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلَّ الْأُمَّةِ دُونَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ خَالَفَ كَافِرٌ جَمِيعَ كَافَّةِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ:(فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ) إنَّ الشَّرِيعَةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ أَيْ أُصُولِهَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ فُرِضَ خِلَافُ بَعْضِ الْعَوَامّ فِيهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ
وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِدَرْكِهِ الْخَوَاصُّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْخَوَاصُّ فَالْعَوَامُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَا يُضْمِرُونَ فِيهِ خِلَافًا فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ حَتَّى لَوْ خَالَفَ بَعْضُ الْعَوَامّ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِطَلَبِ الصَّوَابِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ آلَةُ هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي نُقْصَانِ الْآلَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخِطَابِ إلَّا عِصْمَةُ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَوَامِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا عُلِمَ أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ جَهْلٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ عَامِّيٍّ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّهُ يُفَوَّضُ مَا لَا يَدْرِي إلَى مَنْ يَدْرِي وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فُرِضَتْ، وَلَا وُقُوعَ لَهَا أَصْلًا كَذَا ذَكَرَهُ
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا، وَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْغَزَالِيُّ رحمه الله
وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا أَيْ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْمَقَادِيرِ، فَإِنَّ الرَّأْيَ وَإِنْ كَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا، وَلَكِنْ أَجْرَوْا بَعْضَهَا مَجْرَى مَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّأْيُ كَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ أَيْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَوَامُّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْعَوَامّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إلَّا عِلْمَ الْكَلَامِ وَالْمُفَسِّرِ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُحَدِّثِ الَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ فِي وُجُوهِ الرَّأْيِ وَطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَالنَّحْوِيِّ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ آلَاتِهِمْ فِي دَرْكِ الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَامّ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَحْفَظُ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُرُوعِيِّ وَفِيمَنْ تَفَرَّدَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ يَحْفَظْ الْفُرُوعَ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأُصُولِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْأُصُولِيَّ دُونَ الْفُرُوعِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعِلْمِهِ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْقُولِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفُرُوعِيِّ
وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفُرُوعِيَّ دُونَ الْأُصُولِيِّ لِعِلْمِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُمَا نَظَرًا إلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي عُدِمَ ذَلِكَ فِي الْعَامَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُمَا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الشَّيْخِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَئِمَّةِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَفْظُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَيُشْتَرَطُ اشْتِرَاطُ الْكُلِّ فَيَقُولُ: إنَّهُ عَامٌّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ الْعَارِفِينَ بِطُرُقِ الْأَحْكَامِ، وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حُجَّةً إذَا قَالُوهُ عَنْ اسْتِدْلَالٍ، وَهِيَ إنَّمَا عُصِمَتْ عَنْ الْخَطَأِ فِي اسْتِدْلَالِهَا، وَالْعَامَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِيُعْصَمُوا مِنْ الْخَطَأِ فَصَارَ وُجُودُهُمْ وَعَدَمُهُمْ بِمَنْزِلَةٍ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ كَمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْعَامَّةِ
وَكَذَا إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ تَتَبَنَّى عَلَى عُلُومِهِمْ مِثْلُ النَّحْوِ أَوْ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُ كُلِّ عَالِمٍ فِيمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِجْمَاعِ كَوْنَ الْمُجْمِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قُلْنَا وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمْ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَبِقَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] دُونَ غَيْرِهِمْ إذْ الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ دُونَ الْمَعْدُومِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام إذْ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ اتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْكُلِّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ سِوَاهُمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي إلَّا فِي الْجَمْعِ الْمَحْصُورِ كَمَا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ أَمَّا فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ فَيَسْتَحِيلُ مَعْرِفَةُ اتِّفَاقِ جَمِيعِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ عليهم السلام فَهُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِالْعِرْقِ الطَّيِّبِ الْمَجْبُولُونَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شَيْءٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ تَكُونُ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ بِإِجْمَاعِهِمْ فَلَوْ اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ غَيْرِهِمْ لَخَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَنَاقُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَهُمْ الزَّيْدِيَّةُ وَالْإِمَامِيَّةُ مِنْ الرَّوَافِضِ: لَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ عليه السلام أَيْ قَرَابَتِهِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] أَخْبَرَ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ بِكَلِمَةِ إنَّمَا الْحَاصِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْهُمْ فَقَطْ، وَالْخَطَأُ مِنْ الرِّجْسِ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمْ فَقَطْ، وَبِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» حَصَرَ التَّمَسُّكَ بِهِمَا فَلَا يَقِفُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَصُّوا بِالشَّرَفِ وَالنَّسَبِ فَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ الرِّسَالَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَوَقَفُوا عَلَى أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ وَأَفْعَالِ الرَّسُولِ وَأَقْوَالِهِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ فَكَانُوا أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ لَا إجْمَاعَ إلَّا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»
وَالْخَطَأُ مِنْ الْخَبَثِ فَكَانَ مَنْفِيًّا عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُمْ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُمْ ضَرُورَةً، وَقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ يَنْضَمُّ إلَيْهَا وَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِيهَا، وَقَوْلِهِ عليه السلام «لَا يَكِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إلَّا امَّاعَ كَمَا يَمَّاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ خَطَرِهَا وَكَثْرَةِ شَرَفِهَا وَبِأَنَّ الْمَدِينَةَ دَارُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمَجْمَعُ الصَّحَابَةِ وَمُسْتَقَرُّ الْإِسْلَامِ وَمُتَبَوَّأُ الْإِيمَانِ، وَفِيهَا ظَهَرَ الْعِلْمُ، وَمِنْهَا صَدَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عَنْ قَوْلِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَسَمِعُوا التَّأْوِيلَ، وَكَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ عليه السلام مِنْ غَيْرِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمْ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ هَذِهِ) جَوَابٌ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَيْ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهِيَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمُجْمِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِصِفَةِ الْوَسَاطَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلَا بِمَكَانٍ وَلَا بِقَوْمٍ وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَغَيْرُهَا لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْإِجْمَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَيْ مِمَّا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَعِتْرَةَ الرَّسُولِ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عليه السلام كَانَ عِتْرَتُهُمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ كَذَلِكَ
أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا فَنَقُولُ: مَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُرُودِ تِلْكَ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَيْسَ إجْمَاعَ جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَقْتَ وُرُودِهَا
فَهُمْ أَهْلُ حَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةُ الْأُمَّةِ وَلَا اخْتِصَاصَ لِلْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ مَنْ يَبْقَى مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ عليه السلام وَبَعْدَ مَنْ مَاتَ بَعْدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَمَا أَنَّ الْآتِيَ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ
وَقَوْلُهُمْ: الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْكُلِّ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إلَى تَعَذُّرِ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ كَانَ حُجَّةً وَكَذَا شُبْهَتُهُمْ الثَّالِثَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوا لَزِمَ امْتِنَاعُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوا، وَهُوَ بَاطِلٌ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إجْمَاعَهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا وُجِدَ عَلَى حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ زَالَ شِرْكُ الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّجْوِيزِ فَيَزُولُ بِزَوَالِ شَرْطُهُ وَكَذَا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] أَزْوَاجُ النَّبِيِّ عليه السلام عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَرَابَةُ الرَّسُولِ عليه السلام فَالْمُرَادُ مِنْ الرِّجْسِ الشِّرْكُ أَوْ الْإِثْمُ أَوْ الشَّيْطَانُ أَوْ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ أَوْ الْبُخْلُ وَالطَّمَعُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ فَلَا يَصِحُّ الِاجْتِمَاعُ بِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ عليه السلام «تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ» مِنْ الْآحَادِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالْعِتْرَةِ لَا بِالْعِتْرَةِ وَحْدَهَا مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَحْوِ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَوْنِ الْمُتَمَسِّكِ بِهِ مُهْتَدِيًا، وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ أَهْلَ الْبَيْتِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ.
وَكَذَا مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِهَا لَا عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَجِبُ مُتَابَعَتُهُ ضَرُورَةً بَلْ مُوَافَقَةُ الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَرِهَ الْمُقَامَ بِهَا؛ إذْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ مَعَ جِوَارِ الرَّسُولِ عليه السلام وَمَسْجِدِهِ وَمَا وَرَدَهُ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْمُقِيمِينَ بِهَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الدِّينِ أَوْ؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا الْخَبَثَ مَخْصُوصٌ بِزَمَانِ الرَّسُولِ عليه السلام وَقَوْلُهُ «الْمَدِينَةُ دَارُ الْهِجْرَةِ» إلَى آخِرِهِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا فَإِنَّ مَكَّةَ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ وَالزَّمْزَمِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ وَكَوْنِهَا مَوْلِدَ النَّبِيِّ وَمَنْشَأَ إسْمَاعِيلَ وَمَنْزِلَ إبْرَاهِيمَ عليهما السلام لَا يَكُونُ إجْمَاعُ أَهْلِهَا حُجَّةً، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْبِقَاعِ فِي ذَلِكَ بَلْ الِاعْتِبَارُ لِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَثَلًا قَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَكَمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ مَجْمَعَ الصَّحَابَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَانَتْ دَارَ الْمُنَافِقِينَ وَمَجْمَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَفِيهِمْ مَنْ قَالَ: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]، وَمَنْ قَالَ:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] وَمِنْهَا الْمَارِدُونَ عَلَى النِّفَاقِ وَفِيهَا طُعِنَ عُمَرُ وَحُوصِرَ عُثْمَانُ رضي الله عنهما حَتَّى قُتِلَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ الْعِلْمُ فَقَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ
قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: إنْ أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ الْمَدِينَةَ هِيَ الْجَامِعَةُ لِلصَّحَابَةِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْمَعْ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَا بَعْدَهَا بَلْ لَا يَزَالُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْأَسْفَارِ وَالْغَزَوَاتِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَدْ ارْتَحَلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إلَى الشَّامِ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ إلَى الْعِرَاقِ وَفِرْقَةٌ جَمَّةٌ إلَى خُرَاسَانَ وَسَائِرِ