الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ الْإِجْمَاعِ)
الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي رُكْنِهِ وَأَهْلِيَّةِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ وَشَرْطِهِ وَحُكْمِهِ وَسَبَبِهِ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَنَوْعَانِ عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ مِنْهَا بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعَهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلِيٍّ رضي الله عنه جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَوْجَبَ مَسْرُوقٌ فِيهِ شَاةً بَعْدَمَا أَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُسَوِّغُونَ الِاجْتِهَادَ لِلتَّابِعِينَ وَيَرْجِعُونَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَيَعُدُّونَهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَقْلِيدُهُمْ كَتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَلِفَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَذَانِكَ مَفْقُودَانِ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ.
وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَمْثِلَةِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَزَاحَمُوهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الصَّحَابَةَ سَلَّمُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ وَلَكِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّقْلِيدِ مِنْ احْتِمَالِ السَّمَاعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ التَّنْزِيلِ وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ عليه السلام مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ بِحَالٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا جَاءَنَا عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُ يَعْنِي فِي الْفَتْوَى فَنُفْتِي بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ بِاجْتِهَادِنَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَالشَّيْخُ اعْتَبَرَهَا وَأَثْبَتَ الْخِلَافَ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْوَالَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ قُلْنَا: إنَّمَا ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُخْتَرِعًا بَلْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ وَافَقَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ يُقَلِّدُهُمْ وَالْأَبْظَرُ هُوَ الَّذِي فِي شَفَتَيْهِ بُظَارَةٌ وَهِيَ هِنَّةٌ نَابِتَةٌ فِي وَسَطِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا وَلَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ الْأَبْظَرُ الصِّحَارُ الطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَجَعَلَهُ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ سَبْيُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الْإِجْمَاعِ]
[أَرْكَان الْإِجْمَاع]
(بَابُ الْإِجْمَاعِ) الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَزْمُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَيْ اعْزِمُوا عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ عليه السلام «لَا صِيَامَ لَمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» أَيْ لَمْ يَعْزِمْ، وَالِاتِّفَاقُ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُتَصَوَّرٌ مِنْ وَاحِدٍ وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا وَفِي الشَّرِيعَةِ قِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عليه السلام جُمْلَةُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ خَلَا عَصْرٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاتَّفَقُوا
لِأَنَّ رُكْنَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَقُومُ بِهِ أَصْلُهُ وَالْأَصْلُ فِي نَوْعَيْ الْإِجْمَاعِ مَا قُلْنَا.
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا شَرْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ انْطِبَاقِ هَذَا الْحَدِّ عَلَيْهِ وَغَيْرَ مُنْعَكِسٍ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ وَالْمُجْتَهِدِينَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ كَانَ إجْمَاعًا مَعَ خُرُوجِهِمَا عَنْ هَذَا الْحَدِّ لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ دِينِيَّيْنِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْجُودُونَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ كَوْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ إجْمَاعًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ وَقِيلَ هُوَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ آرَاءِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ.
وَقِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَأُرِيدَ بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكُ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ. وَإِذَا أَطْبَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الدَّالَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ بِالْجَمِيعِ عَنْ اتِّفَاقِ غَيْرِهِمْ كَالْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ وَبِقَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَبِقَوْلِهِ فِي عَصْرٍ عَنْ إيهَامِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِاتِّفَاقِ مُجْتَهِدِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعَهُمْ، وَإِنَّمَا قِيلَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لِيَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُتَصَوَّرٌ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ وَالنَّظَّامُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تَصَوُّرَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ انْتِشَارَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ عَادَةً، فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الِاتِّفَاقُ الَّذِي هُوَ فَرْعُ تَسَاوِيهِمْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ وَبِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَاطِعٍ أَوْ ظَنٍّ إذْ لَا ثَالِثَ وَلَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنَدٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ قَاطِعٍ فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ وَتَوَاطُؤِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى إخْفَائِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ ظَنٍّ فَالِاتِّفَاقُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ عَادَةً أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ يَكُونُ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَوُجِدَ أَيْضًا سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ بِاعْتِقَادِ الْأَحْكَامِ، وَالِانْتِشَارُ إنَّمَا يَمْنَعُ عَنْ النَّقْلِ عَادَةً إذَا لَمْ يَكُونُوا مُجِدِّينَ وَبَاحِثِينَ فَأَمَّا إذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلَا وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ أَيْضًا عَدَمَ نَقْلِ الْقَاطِعِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ عَلَى حُكْمِهِ كَالْإِجْمَاعِ فِي مِثَالِنَا، فَإِنَّهُ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ.
وَكَذَا اخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِيمَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْ الظَّنِّ لَا فِيمَا هُوَ جَلِيٌّ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بَلْ يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْكُلِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَيَبْطُلُ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا بِالْوُقُوعِ، وَإِنَّا نَعْلَمُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ إخْفَاءِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ بَلْ وَاقِعٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ رُكْنِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَأَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ أَيْ بِرَأْيِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ إذْ لَا بُدَّ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا مِنْ صُدُورِ رُكْنِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ
وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَأَنْ يَتَكَلَّمَ الْبَعْضُ وَيَسْكُتَ سَائِرُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي الْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْفِعْلِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ
ــ
[كشف الأسرار]
مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَحُكْمُهُ أَيْ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى الْإِجْمَاعِ الْجَامِعِ لِلْآرَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ، عَزِيمَةٌ وَهِيَ مَا كَانَ أَصْلًا فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ وَرُخْصَةٌ وَهِيَ مَا جُعِلَ إجْمَاعًا لِضَرُورَةٍ إذْ مَبْنَى الرُّخْصَةِ عَلَى الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعُهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِيمَا يَسْتَوِي الْكُلُّ فِي الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى الْعَامِّ فِيهِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا أَوْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ الْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعَدَمِ الْبَلْوَى الْعَامِّ لَهُمْ فِيهِ كَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَفَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ مِمَّا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ عليه السلام مَخْرَجَ الشَّرْعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الشَّرْعُ.
وَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ فَيَصِحُّ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ عليه السلام كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ مَا فَعَلُوا وَكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا فَرْضٍ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرُّخْصَةُ) فَكَذَا سُمِّيَ هَذَا الْقِسْمُ رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ إجْمَاعًا ضَرُورَةً لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نِسْبَتِهِمْ إلَى الْفِسْقِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي عَصْرٍ إلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَمَضَى مُدَّةُ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَعْنِي إذَا فَعَلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِعْلًا وَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ زَمَانِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُسَمَّى هَذَا إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا كَانَ تَرْكُ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّقِيَّةِ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الرِّضَاءِ وَتَرْكَ النَّكِيرِ فِي حَالَةِ التَّقِيَّةِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَلْ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ رُخْصَةً فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الرِّضَا وَكَذَا السُّكُوتُ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الرَّدِّ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ حَلَالٌ شَرْعًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا مَعَ السُّكُوتِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ زَوَالَ التَّقِيَّةِ وَمُضِيَّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ ثُمَّ قَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَفْضَلُ أَمْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَتَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ النَّظَرُ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْإِنْكَارُ إذْ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَنْ يَبْعُدَ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْكَارَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ يَكُونُ سُكُوتُهُمْ تَصْوِيبًا وَرِضَاءً بِذَلِكَ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِنْهُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ
وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ حَتَّى قَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَرَوَى لَهُ حَدِيثًا فِي قِسْمَةِ الْفَضْلِ فَلَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَشَاوَرَهُمْ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَرَأَوْا بِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ وَلِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ مَهَابَةً كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا مَنَعَك أَنْ تُخْبِرَ عُمَرَ بِقَوْلِك فِي الْعَوْلِ فَقَالَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً
ــ
[كشف الأسرار]
النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُحَالِ وَهُوَ الْخَلْفُ فِي إخْبَار اللَّهِ عز وجل، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ فَاسِدٌ.
1 -
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً بِأَنْ كَانَتْ مِنْ الْفُرُوعِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ سَوَاءٌ يَعْنِي يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَصَاحِبِ الْقَوَاطِعِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُخَالَفْ فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرٌ يَسِيرٌ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ انْتَشَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ وَالسَّاكِتُونَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَنُقِلَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ كَانَ ذَلِكَ فَتْوَى وَانْتَشَرَ وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنْ كَانَ حُكْمًا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فَتْوَى لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَقَوْلُهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ أَيْ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ الْكُلِّ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ قَوْلِيًّا وَمِنْ شُرُوعِهِمْ جَمِيعًا فِي الْفِعْلِ إنْ كَانَ فِعْلِيًّا وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ أَيْ لَا يَثْبُتُ التَّنْصِيصُ بِالسُّكُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْسَبُ قَوْلٌ إلَى سَاكِتٍ أَوْ وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا بِالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْآثَارُ فَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ «ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ» وَلَوْ كَانَ تَرْكُ النَّكِيرِ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ لَاكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمَا اسْتَنْطَقَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا شَاوَرَ الصَّحَابِيَّ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْسَاكِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَعَلِيٌّ رضي الله عنه فِي الْقَوْمِ سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَالَ لَمْ نَجْعَلْ يَقِينَك شَكًّا وَعِلْمَك جَهْلًا أَرَى أَنْ تُقَسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا فَعُمَرُ لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَدَلِيلًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ حَتَّى سَأَلَهُ وَاسْتَجَازَ عَلِيٌّ رضي الله عنه السُّكُوتَ مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ عِنْدَهُ فِي خِلَافِهِمْ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّهَا تُجَالِسُ الرِّجَالَ وَتُحَدِّثُهُمْ فَأَشْخَصَ إلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَمْصَلَتْ مِنْ هَيْبَتِهِ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا لَا غُرْمَ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَمَا أَرَدْت إلَّا الْخَيْرَ وَعَلِيٌّ رضي الله عنه سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ قَارَبُوك أَيْ طَلَبُوا قُرْبَتَك
وَلَنَا شَرْطُ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِبَارُ الْفَتْوَى وَيُسَلِّمُ سَائِرُهُمْ
ــ
[كشف الأسرار]
فَقَدْ غَشُّوك أَيْ خَانُوك أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةُ فَقَالَ: أَنْتَ صَدَقْتَنِي فَقَدْ اسْتَجَازَ عَلِيٌّ السُّكُوتَ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ وَلَمْ يَجْعَلْ عُمَرُ رضي الله عنهما سُكُوتَهُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ حَتَّى اسْتَنْطَقَهُ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ كَمَا يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ يَكُونُ لِلْمَهَابَةِ وَالتَّقِيَّةِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَمَّا أَظْهَرَ قَوْلَهُ فِي الْعَوْلِ وَقَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ هَلَّا قُلْت هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْعَوْلِ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنَعَنِي عَنْ ذَلِكَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ لَمْ يَجْتَهِدُوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ أَوْ سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ فَتَوَقَّفُوا.
وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَمْ يَرَوْا الْإِنْكَارَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ مَعْنًى لِكَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ صَوَابًا فِي حَقِّ قَائِلِهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَاضِي إذَا قَضَى فِي مَسْأَلَةٍ مُجْتَهِدًا فِيهَا بِرَأْيِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَكَتَ الْمُخَالِفُونَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْعَامِلِ أَكْبَرَ سِنًّا وَأَعْظَمَ حُرْمَةً وَأَقْوَى فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَزُولُ التَّدَارُكُ وَالْإِنْكَارُ مَصْلَحَةً احْتِرَامًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً خُصُوصًا فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّكُوتَ فِيمَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا فَكَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خِلَافٌ.
1 -
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ بِأَنَّ سُكُوتَهُمْ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَقَدْ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِالْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ فِي الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوهُ حُجَّةً إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ، فَإِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ سُكُوتًا يَجْعَلُ ذَلِكَ كَسُكُوتِ الْكُلِّ، وَإِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ الْأَكْثَرِ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَظُهُورٍ مِنْ الْكُلِّ.
وَأَمَّا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا كَانَ حُكْمًا مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى الرِّضَاءِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِنْكَارِ اقْتِيَاتًا عَلَيْهِ قَالَ وَنَحْنُ نَحْضُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضَاءً مِنَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ فَتْوَاهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَوَافَقَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: إنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَنْ مَشُورَةٍ وَالصَّادِرَ عَنْ فَتْوَى يَكُونُ عَنْ اسْتِبْدَادٍ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَوْلُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْ اسْتِبْدَادِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَالَ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ يُضْعِفُ احْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ ظَنِّيَّةٍ لَكِنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى السُّكُوتِ فِي الزَّمَنِ الْمُتَطَوِّرِ يَبْعُدُ وَيُخَالِفُ الْعَادَةَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَكَرَّرُ تَذَاكِيرُ الْوَاقِعَةِ وَالْخَوْضُ فِيهَا لَمْ يُتَصَوَّرْ دَوَامُ السُّكُوتِ مِنْ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ وَلِهَذَا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافًا فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ مِنْ بَعْدُ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لِصَيْرُورَتِهِ إجْمَاعًا.
قَوْلُهُ: (إنَّ شَرْطَ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ) إلَى آخِرِهِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ التَّنْصِيصُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَإِظْهَارُ الْمُوَافَقَةِ مَعَ الْأَخْرَسِ قَوْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ كُلِّهِمْ عَلَى قَوْلٍ يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا
وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ السُّكُوتَ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ تَسْلِيمًا كَانَ فِسْقًا أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ وَالْإِشْهَارُ يُنَافِي الْخَفَاءَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ وَذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ.
وَأَمَّا سُكُوتُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا
ــ
[كشف الأسرار]
وَفِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِانْتِشَارِ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ وَفِي اتِّفَاقِنَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَطَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَذِّرَ كَالْمُمْتَنِعِ ثُمَّ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِشَرْطٍ هُوَ مُمْتَنِعٌ يَكُونُ نَفْيًا فَكَذَا تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ هُوَ مُتَعَذِّرٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنَّا الْحَرَجَ كَمَا لَمْ يُكَلِّفْنَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَلَيْسَ فِي وُسْعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ السَّمَاعُ مِنْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ بِقُرُونٍ فَكَانَ ذَلِكَ سَاقِطًا عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ السَّمَاعُ مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اشْتِهَارُ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَالسُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ كَافِيًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ) دَلِيلٌ آخَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَ الْخَصْمُ مِنْ تَحَقُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ سُكُوتَ الْبَاقِينَ تَسْلِيمًا لِقَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ بَعْدَ عَرْضِ الْحَادِثَةِ وَجَوَابِ هَذَا الْقَائِلِ فِيهَا عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَيْ الْعَرْضُ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ السَّاكِتُ مُخَالِفًا إذْ السَّاكِتُ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ كَانَ فِسْقًا؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ وَتَرْكٌ لِلْوَاجِبِ احْتِشَامًا لِلْغَيْرِ، وَالْعَدَالَةُ مَانِعَةٌ عَنْهُ فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ خُصُوصًا بِالصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْ صِغَارِهِمْ الرَّدُّ عَلَى الْكِبَارِ وَقَبُولُ الْكِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَقَوْلُهُ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَيْ يُجْعَلُ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ إذْ الِاشْتِهَارُ يُنَافِي الْخَطَأَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ، وَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ جَعْلُ السُّكُوتِ تَسْلِيمًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ فَيَنْدَفِعُ بِإِسْقَاطِهِمَا احْتِمَالُ السُّكُوتِ لِلْخَفَاءِ وَالتَّأَمُّلِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ مُضِيُّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ بِاشْتِرَاطِهِمَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ أَيْ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّسْلِيم فِي السُّكُوتِ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ فِيهِ يُبَيِّنُهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ مَعْصُومُونَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْعِصْمَةُ وَاجِبَةٌ لَهُمْ كَمَا لِلنَّبِيِّ عليه السلام، وَإِذَا رَأَى النَّبِيُّ عليه السلام مُكَلَّفًا يَقُولُ قَوْلًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَسَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ تَقْرِيرًا مِنْهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَزَلَ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالتَّصْدِيقِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ سُكُوتُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالْمُوَافَقَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مَعَ السُّكُوتِ مِنْ الْبَاقِينَ إجْمَاعًا صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الِاعْتِقَادِ كَانَ إجْمَاعًا فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا لِمَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ.
فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ عِنْدَهُمْ خَطَأً لَا يَحِلُّ لَهُمْ السُّكُوتُ وَتَرْكُ الرَّدِّ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِيمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ لَا يَرْضَى بِقَوْلِ صَاحِبِهِ قَوْلًا لِنَفْسِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ فِيهِ خِلَافَهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إلَى مُعْتَقَدِهِ وَيُنَاظِرُ مَعَ خَصْمِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مُعْتَقَدَ الْبَاقِينَ لَظَهَرَ وَانْتَشَرَ إلَّا عَنْ خَوْفٍ وَتَقِيَّةٍ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ سَبَبُ التَّقِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ التَّقِيَّةِ وَلَا الْخِلَافُ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ دَلَّ أَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ قَوْلًا؛ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ الْحَنَفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ سَائِلٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَأَجَابَ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَسَكَتَ الْحَاضِرُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الرَّدِّ لَا يُحْمَلُ سُكُوتُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ بِقَوْلِهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
قُلْنَا قَدْ احْتَرَزْنَا عَنْهُ بِقَوْلِنَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
لَا يَدُلُّ سُكُوتُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَ الْكُلِّ قَدْ تَقَرَّرَتْ وَصَارَتْ مَعْلُومَةً فَلَا يَدُلُّ السُّكُوتُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حَادِثَةٍ تَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا قَوْلٌ فَيَذْكُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا فِيهِ وَيَنْتَشِرُ فِي الْبَاقِينَ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ إنْكَارٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً وَالْإِنْكَارُ مِنْ الْبَاقِينَ لِذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ سُكُوتُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَبْلُ لَا عَلَى إظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ أَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ قَبْلُ خِلَافٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ فَدَلَّ أَنَّ سُكُوتَهُمْ كَانَ مَحْضَ الْمُوَافَقَةِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، فَإِذَا ظَهَرَ قَوْلٌ مِنْ وَاحِدٍ فَسُكُوتُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَهِدُوا أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ أَوْ أَدَّى إلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوْ صِحَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تُخَالِفُهُ، فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي حَادِثَةٍ نَزَلَتْ خِلَافَ الْعَادَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى إهْمَالِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَدَثَ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُجْتَهِدِينَ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ ارْتِكَابِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُتَدَيِّنِ وَمُؤَدٍّ إلَى خُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ مَعَ ظُهُورِ طُرُقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاجِبٌ لَا سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ قَوْلٍ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْلِيقُ بِالْهَيْبَةِ وَالتَّقِيَّةِ تَعْلِيقٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا، وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ وَطَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِهِ لَا بِطَرِيقِ الْإِنْكَارِ كَالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِمُنَاظَرَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ كَمُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَوْلِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْخُصُومُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مُسْتَدَلًّا عَلَيْهِ وَيَكُونُ دُونَ الْقَوَاطِعِ مِنْ وُجُوهِ الْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ
قُلْت فَعَلَى هَذَا لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ وَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ فَيَظْهَرُ الْفَرْقُ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَرْقُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ أَرَادَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْإِجْمَاعِ قَوْلًا كَالنَّصِّ. وَالْمُفَسَّرُ دُونَ الْمُحْكَمِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَطْعِيًّا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ أَرَادَ أَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا يَلْزَمُ أَنْ يَكْفُرَ جَاحِدُهُ أَوْ يُضَلَّلَ كَجَاحِدِ سَائِرِ الْحُجَجِ الْقَطْعِيَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَكْفُرْ لِكَوْنِهِ
إلَّا أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْتِزَامَ الْغُرْمِ مِنْ عُمَرَ صِيَانَةٌ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالَ وَرِعَايَةٌ لِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ فَحَلَّ السُّكُوتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَبَعُدَ فَإِنَّ السُّكُوتَ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوْتِ جَائِزٌ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا وَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَكَلَامُنَا فِي السُّكُوتِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الدِّرَّةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ إيلَاءُ الْعُذْرِ فِي الْكَفِّ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
مُتَمَسِّكًا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ شُبْهَةً.
أَلَا تَرَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ عِنْدَنَا ثُمَّ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَصْلُحُ شُبْهَةً ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ رحمه الله عَمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ الْآثَارِ فَقَالَ سُكُوتُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْلَاصِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ لَا مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ، فَإِنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى عُمَرَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ الْفَاضِلِ لِيُصْرَفَ إلَى نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا حَسَنٌ وَكَذَا الْحُكْمُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْغُرَّةِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ خِيَانَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ أَيْ تَعْجِيلَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَسَمَّاهَا صَدَقَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ وَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَالصَّدَقَاتِ وَأَكْثَرُ مَصَارِفِهَا مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ.
وَالْتِزَامُ الْغُرْمِ أَيْ غُرْمِ الْغُرَّةِ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه صِيَانَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ أَيْ لِأَجْلِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ أَلْسُنِ النَّاسِ فَيَقُولُوا: إنَّهُ أَمْسَكَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنَعَهَا عَنْ مُسْتَحَقِّهَا لِمَوْهُومٍ عَسَى لَا يَقَعُ وَخَوْفُ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ تَحَقَّقَتْ مِنْهَا حَتَّى أَمْلَصَتْ وَتَلِفَتْ نَفْسٌ بِذَلِكَ وَدُعَائِهِ أَيْ عَلَى نَفْسِهِ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ أَيْ بِحُسْنِهِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَقْرَبَ إلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا تَحَمَّلَ مِنْ الْعُهْدَةِ وَهُوَ كَتَأْخِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى انْقِضَاءِ الْحَوْلِ يَكُونُ حَسَنًا وَتَعْجِيلُهُ قَبْلَ انْقِضَائِهِ يَكُونُ أَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَّ السُّكُوتُ عَنْ مِثْلِهِ وَلَا يَجِبُ إظْهَارُ الْخِلَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْزِلٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنْهُ بِحَالٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَبَعُدَ أَيْ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْجَوَابَ أَوْ بَعْدَمَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ وَكَانَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ لَا يَدُلُّ هَذَا السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ السُّكُوتَ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوَاتِ أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ جَائِزٌ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا، فَإِنَّ تَرْكَ التَّعْجِيلِ فِي الْفُتْيَا وَالتَّأَمُّلَ فِيهَا وَالسُّكُوتَ إلَى أَنْ يُبْرِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا فِي ضَمِيرِهِ ثُمَّ إنَّهُ يُظْهِرُ الْحَقَّ الَّذِي وَضَحَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهَا وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُخَالَفَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله أَنَّ مُجَرَّدَ السُّكُوتِ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ عِنْدَنَا مَا بَقِيَ مَجْلِسُ الْمُشَاوَرَةِ وَلَمْ يُفْصَلْ الْحُكْمُ بَعْدُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا حُجَّةً أَنْ لَوْ فَصَلَ عُمَرُ رضي الله عنه الْحُكْمَ بِقَوْلِهِمْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ تَوَقُّفٌ فِي الْجَوَابِ وَيَكُونُ عَلِيٌّ رضي الله عنه سَاكِتًا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ سُكُوتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنَّهُ لِتَجْرِبَةِ أَفْهَامِهِمْ أَوْ لِتَعْظِيمِ الْفَتْوَى الَّتِي يُرِيدُ إظْهَارَهَا بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا يَزْدَرِيَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّامِعِينَ أَوْ لِيُرَوِّيَ النَّظَرَ فِي الْحَادِثَةِ وَيُمَيِّزَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا هُوَ الصَّوَابُ فَيُظْهِرَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَنْطِقْهُ عُمَرُ رضي الله عنه لَكَانَ هُوَ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْ الْجَوَابِ قَبْلَ إبْرَامِ الْحُكْمِ وَانْقِضَاءِ مَجْلِسِ الْمُشَاوَرَةِ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا حَدِيثُ الدِّرَّةِ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنَعَنِي دِرَّتُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنَاظِرُونَ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبُولَ الْحَقِّ وَيُقَدِّرُونَ إظْهَارَهُ نُصْحًا وَالسُّكُوتَ عَنْهُ غِشًّا فِي الدِّينِ، وَالْمُنَاظَرَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ كَانَتْ مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ فَمِنْ الْبَعِيدِ أَنَّ
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه السلام كَانَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَبَاطِلٌ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا بَلْ اخْتِلَافُهُمْ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ
ــ
[كشف الأسرار]
ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ بِقَوْلِهِ عُمَرَ رضي الله عنهم مَهَابَةً لَهُ مَعَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُهُ وَيَدْعُوهُ فِي الشُّورَى مَعَ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فِطْنَتِهِ وَقُوَّةِ ذِهْنِهِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِأَشْيَاءَ فَقَبِلَهَا مِنْهُ وَاسْتَحْسَنَهَا وَكَانَ يَقُولُ لَهُ غُصْ يَا غَوَّاصُ شَنْشَنَةً أَعْرِفُهَا مِنْ أَحْزَمَ يَعْنِي أَنَّهُ شَبَّهَ ابْنَ الْعَبَّاسِ فِي رِوَايَتِهِ وَدَهَائِهِ وَمَعَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ لَا خَيْرَ فِيكُمْ مَا لَمْ تَقُولُوا وَلَا خَيْرَ فِي مَا لَمْ أَسْمَعْ، وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي بَيْنَ قَوْمٍ إذَا رَغِبْت عَنْ الْحَقِّ قَوَّمُونِي وَلَمَّا نَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي الْمُهُورِ فِي خُطْبَتِهِ قَالَتْ امْرَأَةٌ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عز وجل {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَتَمْنَعُنَا عَمَّا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ رَجُلًا فَخَصَمَتْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ وَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءِ فِي الْبُيُوتِ وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى جَلْدِ الْحَامِلِ قَالَ لَهُ مُعَاذٌ إنْ جَعَلَ اللَّهُ لَك عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَلَمْ يَجْعَلْ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا فَقَالَ لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ وَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] بِالْوَاوِ وَهُوَ كَانَ يَقْرَأُ بِغَيْرِ وَاوٍ فَقَالَ مَنْ أَقْرَأَك فَقَالَ أُبَيٌّ فَدَعَاهُ فَقَالَ أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّك لَتَبْتَعُ الْقُرْطَ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ صَدَقْت، وَإِنْ شِئْت قُلْت شَهِدْنَا وَغِبْتُمْ وَنَصَرْنَا وَخَذَلْتُمْ وَآوَيْنَا وَطَرَدْتُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ إظْهَارِ قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ مَهَابَةً لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَئِنْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ فَتَأْوِيلُهُ إبْلَاءُ الْعُذْرِ أَيْ إظْهَارُهُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ يَعْنِي لَمَّا عَرَفَ فَضْلَ رَأْيِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَفِقْهِهِ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُ كَمَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الشُّبَّانِ مَعَ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنَّهُمْ يَهَابُونَ الْكِبَارَ فَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ حَسَبَ مَا يَفْعَلُونَ مَعَ الْأَقْرَانِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْ بَعْدَ ثَبَاتِ عُمَرَ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَرَكَ مُنَاظَرَتَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ بَعْدَ ثَبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ هُوَ ثَابِتًا عَلَى مَذْهَبِهِ لَا يَضُرُّهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُنَاظَرَةِ مَنْ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ احْتِشَامًا لَهُ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ وَيَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ يُخَرِّجُ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي حَادِثَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بَاطِلٌ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: إنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِقَوْلِهِ أَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَفِي اخْتِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ اخْتِلَافٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي آخِرِ الْبَابِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا يَعْنِي اخْتِلَافَهُمْ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ سُكُوتٌ عَمَّا وَرَاءَهَا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ آخَرَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَة الْأُولَى إذْ الْمُحْتَمَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بَلْ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ وَالْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَجَازَ إحْدَاثُ قَوْلٍ
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ لَا يَعْدُوهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ بِيَقِينٍ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ الْجَهْلُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَقْوَالٍ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ خَاصَّةً رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ مَا خَطَبَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ــ
[كشف الأسرار]
آخَرَ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَيْ لَا يُعَيِّنُ سُكُوتُهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْغَيْرِ نَوْعُ تَعْيِينٍ لَهَا، وَالتَّعَيُّنُ لَا يَثْبُتُ بِالْمُحْتَمَلِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْحَادِثُ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْدُودًا أَيْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأَخِ عَلَى قَوْلَيْنِ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ الْمَالِ وَالْمُقَاسَمَةُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَهُ قِسْطًا مِنْ الْمَالِ فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا يَكُونُ مَرْدُودًا لِاسْتِلْزَامِهِ خِلَافَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بَلْ وَافَقَ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ مَرْدُودًا مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُمٍّ وَزَوْجٍ أَبٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ ثُلُثُ مَا يَبْقَى فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَهِيَ امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَثُلُثُ الْبَاقِي فِي الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَا إبْطَالَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْمَانِعُ مِنْ إحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَيْسَ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ، فَإِذَا انْتَفَيَا لَزِمَ الْجَوَازُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الِاجْتِهَادُ كَمَا لَوْ حَكَمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ بِنَقِيضِهَا فِيهِمَا وَالثَّالِثُ وَافَقَ كُلًّا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَبُطْلَانَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَذَا هَذَا وَلَكِنَّنَا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا نَعُدُّهُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ لِمَا سَنُبَيِّنُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ إذْ لَوْ كَانَ وَرَاءَ أَقْوَالِهِمْ قَوْلٌ آخَرُ مُحْتَمِلٌ لِلصَّوَابِ لَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ إجْمَاعًا عَلَى الْخَطَأِ وَلَوَجَبَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ لِلْقَوْلِ الْخَارِجِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ الْجَهْلُ بِالْحَقِّ وَالْعُدُولُ عَنْهُ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُحَرِّمُ الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالَتْهُ أَوْ قَالَهُ مُخَالِفُهَا فَقَطْ فَجَوَازُ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَخْذِ بِهِ وَقَدْ مَنَعُوا مِنْهُ.
وَلَا يُقَالُ إنَّمَا حَظَرُوا الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالُوهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِمْ إلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الِاحْتِمَالَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبُوا التَّمَسُّكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْقَوْلِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُقَالُ أَيْضًا إنَّمَا جَوَّزْنَا الْقَوْلَ الْحَادِثَ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ الْقَوْلِ بِهِ حَقِيقَةٌ إذْ الِاجْتِهَادُ الْخَطَأُ قَدْ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِيقَتِهِ بُطْلَانُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ مُخَالَفَةُ أَيِّ إجْمَاعٍ كَانَ وَهُوَ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ يُوجِبُ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ قُلْنَا إنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَأَمَّا فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ فَلَا لِتَأْدِيَتِهِ إلَى إبْطَالِ إجْمَاعِهِمْ أَوْ أَنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْحَادِثِ فَأَمَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ