المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(بَابُ بَيَانِ قِسْمِ) (الِانْقِطَاعِ)وَهُوَ نَوْعَانِ

- ‌ مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ

- ‌ إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ

- ‌[الإنقطاع الظَّاهِرُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] [

- ‌ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ

- ‌ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ

- ‌[الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ]

- ‌ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ

- ‌[الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ]

- ‌ خَبَرُ الْمَسْتُورِ

- ‌[الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ]

- ‌ خَبَرِ الْفَاسِقِ

- ‌[خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ]

- ‌[خَبَر صَاحِبُ الْهَوَى]

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ)

- ‌[بَابُ بَيَانِ الْخَبَرُ]

- ‌ بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ)

- ‌بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى)

- ‌(بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي)

- ‌(بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ)

- ‌‌‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌(بَابُ الْمُعَارَضَةِ)

- ‌حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ

- ‌[كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ]

- ‌[تعارض الْجُرْح وَالتَّعْدِيل]

- ‌(بَابُ الْبَيَانِ)

- ‌[أَوْجُه الْبَيَانُ]

- ‌[بَيَانُ التَّقْرِير]

- ‌ بَيَانُ التَّفْسِيرِ

- ‌[تَخْصِيصِ الْعَامِّ]

- ‌(بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ)

- ‌[أَنْوَاع بَيَانِ التَّغْيِيرِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ}

- ‌[أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌{بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[تَفْسِيرِ النَّسْخِ]

- ‌النَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ

- ‌(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ)

- ‌[أَقْسَام مَالَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ]

- ‌[بَابُ بَيَانِ شُرُوطِ النَّسْخ]

- ‌{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ}

- ‌[النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]

- ‌[نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]

- ‌نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ

- ‌(بَابُ تَفْصِيلِ) (الْمَنْسُوخِ)

- ‌[أَنْوَاعٌ الْمَنْسُوخُ]

- ‌[الْفُرْق بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ]

- ‌(بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ)

- ‌[أَقْسَام أَفْعَالِ النَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ)فِي حَقِّ النَّبِيِّ

- ‌[أَنْوَاع الوحى]

- ‌[جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ]

- ‌(بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا)

- ‌ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ

- ‌[بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ]

- ‌[تَقْلِيد التَّابِعِينَ]

- ‌(بَابُ الْإِجْمَاعِ)

- ‌[أَرْكَان الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع]

- ‌بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) :

- ‌[بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه]

- ‌[إنْكَار الْإِجْمَاع]

- ‌[بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ]

- ‌(بَابُ الْقِيَاسِ)

- ‌[بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ]

- ‌[ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه]

- ‌(فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ)

- ‌بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ) :

- ‌[بَابُ رُكْنُ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَا يصلح دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّة]

- ‌[بَابُ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ]

- ‌ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ

- ‌ الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ

- ‌بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) :

- ‌[جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ]

الفصل: ‌حكم المعارضة بين آيتين

وَ‌

‌حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ

الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ: الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالنَّاسِخِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِمَا وَعِنْدَ الْعَجْزِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي وُقُوعِ الْمُعَارَضَةِ الْجَهْلُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ بَيْنَ آيَتَيْنِ

ــ

[كشف الأسرار]

فَيَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ

[حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ]

قَوْله (وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ) كَذَا إذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالسَّبِيلُ فِيهِ الرُّجُوعُ إلَى طَلَبِ التَّارِيخِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ سَقَطَ حُكْمُ الدَّلِيلَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَبِأَحَدِهِمَا عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْآخَرِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ أَيْضًا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِذَا تَسَاقَطَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الْتَحَقَتْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ النَّصَّانِ بِتَسَاقُطِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ آخَرَ يُتَعَرَّفُ بِهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ.

ثُمَّ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ إنْ وُجِدَتْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ إنْ لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ السُّنَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ، ثُمَّ عِنْدَ مَنْ أَوْجَدَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَفِيمَا لَا يُدْرَكُ بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِهِمْ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَإِلَى الْقِيَاسِ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ هُوَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى السُّنَّةِ وَاجِبٌ وَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَالْمَيْلُ إلَى الْقِيَاسِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَة، وَعِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قِيَاسٍ آخَرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ قِيَاسَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ التَّحَرِّي.

ثُمَّ مُخْتَارُ الشَّيْخِ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ أَيْ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ السُّنَّتَيْنِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا عَلَى التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ لَا بِقَوْلِهِ إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَيْ الْكِتَابُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّنَّةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ يُصَارُ إلَى السُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَإِنَّمَا قَالَ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ وَإِنْ كَانَ يُصَارُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ شُبْهَةُ السَّمَاعِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ.

قَوْلُهُ (وَعِنْدَ الْعَجْزِ) يَعْنِي عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَصِيرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ، أَوْ يُوجَدُ التَّعَارُضُ فِي الْجَمِيعِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّصَّيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُعَارَضَةِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ إنْ أَمْكَنَ وَتَقْرِيرُ الْأُصُولِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَصِيرُ

ص: 78

أَوْ قِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ أَوْ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ أَوْ سُنَّةٍ وَآيَةٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَائِغٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِمَّا بَيْنَ قِيَاسَيْنِ أَوْ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ أَيْضًا، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا لَمْ يَسْقُطَا بِالتَّعَارُضِ لِيَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَانَ لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ

ــ

[كشف الأسرار]

إلَى السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَنَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ وَإِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ جَعَلْتَ الْمَصِيرَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ نَوْعًا وَاحِدًا وَتَقْرِيرَ الْأُصُولِ عِنْدَ الْعَجْزِ نَوْعًا آخَرَ فَلَهُ وَجْهٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي سِرُّهُ.

ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ فِي تَعَارُضِ السُّنَّتَيْنِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ التَّسَاوِي ثَابِتًا فِي عَدَدِ الْحُجَجِ بِأَنْ كَانَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَمِنْ جَانِبٍ دَلِيلَانِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ يَسْقُطُ بِالتَّعَارُضِ وَالدَّلِيلُ الْآخَرُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ يُتَمَسَّكُ بِهِ وَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَقِلَّتِهِ فِي التَّعَارُضِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل.

ثُمَّ قِيلَ نَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى السُّنَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَقَوْلُهُ عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِعُمُومِهِ يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي لِوُرُودِهِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَبِدَلَالَةِ السِّيَاقِ، وَالسِّيَاقُ الثَّانِي يَنْفِي وُجُوبَهَا عَنْهُ إذْ الْإِنْصَاتُ لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَيَتَعَارَضَانِ فَيُصَارُ إلَى الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه السلام «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَقَوْلُهُ عليه السلام فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَلَا يُعَارِضُهُمَا قَوْلُهُ عليه السلام «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ.

وَنَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَمَا تُصَلُّونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ» وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» فَإِنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. قَوْلُهُ (أَوْ قِرَاءَتَيْنِ) مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ لِلْجَهْلِ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِنُزُولِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَهُوَ زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ نُزُولَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ الْإِذْنُ بِالْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ بِسُؤَالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا نَزَلَتْ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِزَمَانٍ طَوِيلٍ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمِ الْأُولَى فِيمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّا لَمَّا لَمْ نَعْرِفْ الْأُولَى مِنْ الثَّانِيَةِ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.

(قَوْلُهُ) ؛ (لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا) أَيْ لَا يُصْلَحُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ أَصْلًا أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ، وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النَّصِّ أَيْضًا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَيْ بَيَانُ عَدَمِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ كَذَا يَعْنِي. الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا لِشَرْطِ التَّحَرِّي

ص: 79

وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ وَجَبَ التَّخْيِيرُ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِاخْتِصَاصِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ.

وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَجَهْلٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ

ــ

[كشف الأسرار]

إذَا احْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْعَمَلِ يَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، وَلِهَذَا صَارَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ وَأَقْوَالٌ وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ رُوِيَتَا عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى فَاسِدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ الْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا كَالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرِوَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّهُ عليه السلام قَدْ قَالَهُمَا فِي زَمَانَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ السَّابِقُ مِنْ اللَّاحِقِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ، فَصَارَ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعَارُضَ يَجْرِي بَيْنَ النَّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فَأَقَامَ الشَّيْخُ دَلِيلًا عَلَى الْحَاصِلِ فَقَالَ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَذَا.

وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ النَّصَّيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ إلَّا وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّا جَهِلْنَاهُ وَالْجَهْلُ لَا يَصِيرُ عَمَلًا شَرْعِيًّا وَالِاخْتِيَارُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الْقِيَاسَانِ فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى طَرِيقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً يُعْمَلُ بِهِ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْطَأَهُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي أَجْنَاسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ كِلَاهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ إصَابَةِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ عليه السلام «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَإِصَابَةُ الْحَقِّ غَيْبٌ فَتَصْلُحُ شَهَادَةُ الْقَلْبِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِمَا شَهِدَ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْإِصَابَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ صَارَا مُتَعَارِضَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ وَالْآخَرَ صَوَابٌ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا الصَّوَابُ كَمَا فِي النَّصَّيْنِ فَمِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ وَمِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ فَقُلْنَا يَحْكُمُ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَيَعْمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ.

قَوْلُهُ (فَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. (لِأَنَّ ذَلِكَ) : أَيْ الْقِيَاسَ. (وَضْعُ الشَّرْعِ) : أَيْ دَلِيلٌ وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ الْقِيَاسَ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَنْصُوصِ وَيُبَيِّنَ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ وَيُحَافَظَ شَرَائِطَهُ فَيَكُونَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا بِوَضْعِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ بِنَاءً عَلَى الْجَهْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ أَيْ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً وَوُقُوعِ الْعِلْمِ فَلَا أَيْ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ طَرِيقًا إلَيْهِ فَيَكُونُ سَبَبَ التَّعَارُضِ الْجَهْلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. إلَّا أَنَّهُ: أَيْ لَكِنَّ الْقَايِسَ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ أَيْ اجْتِهَادِهِ أَخْطَأَ الْحَقَّ أَوْ أَصَابَ وَجَبَ التَّخْيِيرُ أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ: أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ

ص: 80

وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِلَا دَلِيلٍ هُوَ الْحَالُ، وَتَعَارُضُ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ فِي أَحَدِهِمَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي الْآخَرِ طَاهِرٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَمِلَ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ وَقَعَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَقَعْ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ لَا ثَوْبَ مَعَهُ غَيْرُهُمَا عَمِلَ بِالتَّحَرِّي

ــ

[كشف الأسرار]

بِالْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَذَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ شَهَادَةُ الْقَلْبِ دَلِيلٌ لِطَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ انْقِطَاعُ الْأَدِلَّةِ كَمَا فِي اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ، وَالْفِرَاسَةُ نَظَرُ الْقَلْبِ بِنُورٍ يَقَعُ فِيهِ.

وَفِي الصِّحَاحِ الْفِرَاسَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ قَوْلِك تَفَرَّسْت فِيهِ خَيْرًا أَيْ أَبْصَرْت وَفَهِمْت وَهُوَ يَتَفَرَّسُ أَيْ يَتَثَبَّتُ وَيَنْظُرُ وَتَقُولُ مِنْهُ رَجُلٌ فَارِسُ النَّظَرِ وَأَنَا أَفَرَسُ مِنْهُ أَيْ أَعْلَمُ وَأَبْصَرُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» .

وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ: أَيْ التَّعَارُضُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَجَهْلٌ مَحْضٌ: أَيْ بِنَاءً عَلَى جَهْلٍ مَحْضٍ بِالنَّاسِخِ. بِلَا شُبْهَةٍ: أَيْ بِلَا شُبْهَةِ حَقِّيَّةَ فِي كِلَيْهِمَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بَلْ الْحَقُّ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ جَمِيعًا.

قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ) يَعْنِي إذَا قُلْنَا بِتَحَقُّقِ التَّعَارُضِ فِي الْقِيَاسَيْنِ فَلَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ تَرْتِيبِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّسَاقُطُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضْطَرُّ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْوَاقِعَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ وَحُجَّةٌ يَقِينًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ الْحُجَّةُ حَقِيقَةً أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ فَحَلَّ لَهُ الْعَمَلُ بِالْمُحْتَمَلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا فِي تَعَارُضِ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَهُوَ الْمَنْسُوخُ.

قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّسَاقُطِ وَعَدَمِ التَّخْيِيرِ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ وَعَدَمِ التَّسَاقُطِ وَثُبُوتِ التَّخْيِيرِ بِشَرْطِ التَّحَرِّي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَتَا الْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ مِنْ الْمَاءِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَيْسَ لَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَاهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجَسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّيَمُّمَ أَوْ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ هَاهُنَا بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ لَمَّا أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوَضُّؤُ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي وَبِدُونِهِ فَهَذَا نَظِيرُ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَنَظِيرُ تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَةُ الثَّوْبَيْنِ وَهِيَ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ وَلَيْسَ لَهُ ثَوْبٌ آخَرُ طَاهِرٌ وَلَا مَاءٌ يَغْسِلُهُمَا بِهِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِلسَّتْرِ بُدٌّ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَجَازَ لَهُ التَّحَرِّي لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِلشُّرْبِ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْعَطَشِ وَعَدَمِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا خَلَفَ لَهُ فِي حَقِّ الشُّرْبِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي إقَامَةِ الشُّرْبِ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِلشُّرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ حَقِيقَةً عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالتَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ إصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ فِيهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ كَانَا نَجِسَيْنِ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِمَا وَلَوْ فَعَلَ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْخَلَفِ وَهُوَ التُّرَابُ وَفِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ لَوْ كَانَ كِلَاهُمَا نَجِسَيْنِ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي أَحَدِهِمَا وَيُجْزِيه وَذَلِكَ لِأَنَّ لَيْسَ لِلسَّتْرِ أَوْ لِلثَّوْبِ خَلَفٌ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ

ص: 81

لِضَرُورَةِ الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ الْحَالُ

ــ

[كشف الأسرار]

إصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ أَيْضًا.

وَقَوْلُهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِالتَّحَرِّي الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ جَائِزٌ الْعَمَلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَاحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا إذَا وَجَدَ ثَوْبًا رُبْعُهُ طَاهِرٌ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالْعُدُولُ عَنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ فَاسِدٌ.

ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّحَرِّي وَوُجُوبِ التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ مَذْهَبُنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ تَحَرِّيه عَلَيْهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ إنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ قَطْعًا وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُصُولِ إلَى الطَّاهِرِ قَائِمٌ وَهُوَ التَّحَرِّي فَقِيَامُ الدَّلِيلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى بِتَوَضُّؤٍ بِالْمَاءِ الَّذِي تَحَرَّاهُ كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ وَجْهٍ وَمَتَى صَلَّى بِتَيَمُّمٍ كَانَتْ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَلَى أَصْلِهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنَّا نَقُولُ إنَّ التَّحَرِّيَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ التَّحْصِيلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ التَّحْصِيلُ بِالْخَلَفِ فَلَا يَكُونُ التَّحَرِّي مُعْتَبَرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ جُعِلَ خَلَفًا حَالَةَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْعَجْزَ عَنْهُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ إلَّا بِالتَّحَرِّي وَشَرْعُ الْخَلَفِ يَمْنَعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ حِلَّ الصَّلَاةِ بِتَيَمُّمٍ عُلِّقَ بِعَدَمِ ظُهُورٍ مُطْلَقٍ لَا بِعَدَمِ ظُهُورٍ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَصَارَ الْفَرْضُ أَنَّ الْخَصْمَ جَعْلُ الشَّرْعِ التَّحَرِّيَ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْخَلَفِيَّةِ لِلتُّرَابِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَثْبُتُ مَعَ التَّحَرِّي وَقُلْنَا التَّحَرِّي لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوَصِّلٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَرُورَةِ فَقْدِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ فَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ خَلَفٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ ظُهُورَ حُجِّيَّةِ التَّحَرِّي فَيَثْبُتُ الْعَجْزُ فَإِذًا لَا يُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي حُجَّةً إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْخَلَفِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ أَقْوَى مِنْ التَّحَرِّي كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِأَبِي الْفَضْلِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الطَّاهِرُ وَالنَّجِسُ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الْأَوَانِي الثَّلَاثَةِ نَجِسًا وَاثْنَانِ طَاهِرَانِ يَجِبُ التَّحَرِّي بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولَةٌ، ثُمَّ فِيمَا إذَا كَانَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ حَتَّى لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يُرِيقَ الْكُلَّ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رحمه الله لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ، وَإِنْ لَمْ يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله أَنَّهُ يَخْلِطُ الْمَائِينَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يَسْقِيه دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانَ يَقُولُ يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ الْحَدَثِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَقَاسَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَمُنَجِّسًا أَعْضَاءَهُ أَيْضًا خُصُوصًا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ

ص: 82

وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَا دَلِيلَ مَعَهُ أَصْلًا عَمِلَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بَلْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ.

، وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ يُوجِبُ نَقْضَ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ نَزَلَ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ أَوْ إجْمَاعٍ انْعَقَدَ بَعْدَ إمْضَاءِ حُكْمِ الِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِهِ.

وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ فَنَوْعَانِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَانْتَقَلَ مِنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ إلَى جِهَتِهَا فَصَلُحَ التَّحَرِّي دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِالْمَسْحِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَجِّسٍ، وَلِهَذَا لَوْ غُمِسَ الثَّوْبُ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ) عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبَيْنِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ يَعْمَلُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيْ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ إنَّ الصَّوَابَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ فَكَذَا الصَّوَابُ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جِهَةٍ صَوَابًا فِي انْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي مَوْضِعِهِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ إنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْ الظَّنَّيْنِ أَوْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بِإِيجَابِ التَّحَرِّي لِمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسَيْنِ حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ صَارَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَا يُجْزِيه صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ، وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُ عَنْهُ

قَوْلُهُ (وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي، لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ أَيْ نَقْضُ ذَلِكَ الْعَمَلِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بَاطِلًا، حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِي أَيْ أُتِمَّ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ أَيْ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ أَيْ يُقَوَّى بِاتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصَّوَابِ فِيهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً وَصَوَابًا ظَاهِرًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَرَجُّحُ جَانِبِ الْخَطَأِ فِي الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ لَمْ يُنْقَضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّك قَدْ قُلْت إنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْقَضُ بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ لَمْ يُنْقَضْ مَا أَدَّى بِالتَّحَرِّي بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ بِأَنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْقِبْلَةِ فِي تَحَرِّيهِ، كَمَا يُنْقَضُ حُكْمٌ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ يَعْنِي هَذَا الْيَقِينُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَدَى عَنْ أُسَارَى بَدْرٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبُطْلَانِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ الطَّلَبُ قَائِمًا إلَّا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ

ص: 83

وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ وَالتَّعَاقُبِ.

وَأَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ فَرَجُلٌ صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى تَحَرِّي طَهَارَتِهِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَصَلَّى فِي ثَوْبٍ آخَرَ عَلَى تَحَرِّي أَنَّ هَذَا طَاهِرٌ وَأَنَّ الْأَوَّلَ نَجِسٌ لَمْ يَجُزْ مَا صَلَّى فِي الثَّانِي إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِطَهَارَةِ الْأَوَّلِ وَنَجَاسَةِ الثَّانِي وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ فَبَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ،

ــ

[كشف الأسرار]

فِي الطَّلَبِ فَيَنْقَضِي لِفَوَاتِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ عَدَمُ النَّصِّ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ فِيمَا مَضَى فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ الْآخَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ إنْ احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ أَوْ الِانْتِسَاخَ وَالتَّعَاقُبَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الْآخَرِ إذَا تَبَدَّلَ رَأْيُهُ إلَيْهِ.

وَإِلَّا فَلَا أَيْ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الِانْتِقَالَ وَالتَّعَاقُبَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ أَدَّى إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ قِيَاسٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا تَحَرَّى وَعَمِلَ وَجَعَلَ التَّحَرِّيَ حُجَّةً لَهُ ضَرُورَةً صَارَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ التَّحَرِّي، وَالْآخَرُ خَطَأً، فَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ صَارَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعَاقُبَ وَالِانْتِقَالَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ وَالتَّعَاقُبَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالتَّعَدُّدِ، وَقَدْ اُبْتُلِينَا بِالْقِيَاسِ فِي الْحَوَادِثِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْآخَرُ فَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ) أَيْ كَمَا يُعْمَلُ بِتَبْدِيلِ التَّحَرِّي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ يُعْمَلُ بِتَبْدِيلِ الرَّأْيِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا إذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ يُشْبِهُ النَّسْخَ فَيُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ بُطْلَانُ الْمَاضِي كَمَا فِي النَّسْخِ الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ فَإِنْ لَحِقَ بِهِ حُكْمٌ فَلَا يُعْمَلُ بِتَبَدُّلِ الرَّأْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا كَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي نَفَذَ فِي مَحَلٍّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ. بَيَانُهُ إذَا أَدَّى اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ إلَى الْخُلْعِ الْفَسْخِ مَثَلًا فَنَكَحَ امْرَأَةً خَالَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إمْسَاكُهَا عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْحَادِثِ وَلَكِنْ لَا يُحَرِّمُ الْوَطَآتِ السَّابِقَةِ.

وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ خَالَعَ الزَّوْجُ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُنْقَضْ الِاجْتِهَادُ السَّابِقُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ لَوْ نُقِضَ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ لَنُقِضَ النَّقْضُ أَيْضًا، وَلَتَسَلْسَلَ وَاضْطَرَبَتْ الْأَحْكَامُ وَلَمْ يُوثَقْ بِهَا كَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ فَرَجُلٌ صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى تَحَرِّي طَهَارَتِهِ حَقِيقَةً أَيْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى ثَوْبٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ طَاهِرٌ أَوْ تَقْدِيرًا أَيْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ بِالتَّحَرِّي وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَجِسٌ لَكِنْ الشَّرْعُ لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ ثَبَتَ طَهَارَتُهُ تَقْدِيرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي الثَّوْبَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ كُلُّهُ حَقِيقَةً أَوْ الْآخَرُ رُبْعُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَصَلَّى فِي أَحَدِهِمَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ثُمَّ وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لَمْ يَجُزْ مَا صَلَّى فِي الثَّانِي مَا لَمْ يَثْبُتْ طَهَارَتُهُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الثَّانِي، وَهَذَا وَصْفٌ أَيْ تَنَجُّسُ الثَّوْبِ وَصْفٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى يَثْبُتْ فِي مَحَلٍّ لَا يُتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى مَكَان آخَرَ وَلَا يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحَوُّلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَغَيُّرِ الْحَقَائِقِ فَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّحَرِّي ثَانِيًا كَانَ تَحْوِيلًا، فَبَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِهَذَا التَّحَرِّي الثَّانِي

ص: 84

وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَمَّا تَعَارَضَتْ وَلَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ فَقِيلَ إنَّ الْمَاءَ عُرِفَ طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا بِالتَّعَارُضِ

ــ

[كشف الأسرار]

بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْحُكْمِ بِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَانَ تَحَرِّيه إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُصَادِفًا مَحَلَّهُ وَهَاهُنَا مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ الْأَوْلَى الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ فِيهِ النَّجَاسَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، بَيَّنَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ تَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَمَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الْأُولَى تَعْيِينُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ، وَالْأَخْذُ بِالدَّلِيلِ الْحُكْمِيِّ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ.

وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةً حَتَّى صَلَّى وَهُوَ سَاهٍ فِي أَحَدِهِمَا الظُّهْرَ وَفِي الْآخَرِ الْعَصْرَ وَفِي الْأَوَّلِ الْمَغْرِبَ وَفِي الْآخَرِ الْعِشَاءَ ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخَرُ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ وَبِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَمَا أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ وَجَبَتْ إعَادَتُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ لِمَكَانِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الْعَصْرِ وَالتَّرْتِيبُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ يَسْقُطُ.

قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي) وَهُوَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ عِنْدَ الْعَجْزِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ إذْ هُوَ رَابِعُ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ سُؤْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ لَمَّا تَعَارَضَتْ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ بَقِيَ مُشْتَبَهًا فَوَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.

ثُمَّ قِيلَ فِي بَيَانِ التَّعَارُضِ إنَّ الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ فِي إبَاحَةِ لَحْمِ الْحِمَارِ وَحُرْمَتِهِ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه رَوَى أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ» وَرَوَى غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبَاحَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَأَوْجَبَ ذَلِكَ اشْتِبَاهًا فِي لَحْمِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِبَاهُ فِي سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُهُ مِنْهُ وَكَذَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيهِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَكْرَهُ التَّوَضُّؤَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَيَقُولُ إنَّهُ رِجْسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ يَقُولُ إنَّ الْحِمَارَ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ لَا بَأْسَ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا أَيْ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً إذْ الْقِيَاسُ لِتَعَدِّيهِ الْحُكْمَ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ نَصْبَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَكَوْنِ الْوِتْرِ رَكْعَةً بِالْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَفِي الْأَسْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ وَأَمَّا سُؤْرُ الْحِمَارِ فَهُوَ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ لَحْمِهِ وَلَحْمُهُ مُشْكِلٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ بَاتٍّ، وَكَذَلِكَ السُّؤْرُ عِنْدَنَا لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ بِوَجْهٍ، إلَّا أَنَّ تَحَقُّقَ الِاشْتِبَاهِ وَالْإِشْكَالُ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى الْآخَرِ.

وَقَدْ ثَبَتَ رُجْحَانُ الْخَبَرِ الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ هَاهُنَا حَتَّى حَكَمَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِحُرْمَةِ لَحْمِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ هَذَا بِوَرَقَةٍ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا حَكَمُوا بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الضَّبُعِ مَعَ تَعَارُضِ أَخْبَارِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي لَحْمِهَا بِاعْتِبَارِ تَرْجِيحِ الْحُرْمَةِ، كَيْفَ وَالدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَهُوَ حَدِيثُ غَالِبٍ مُؤَوَّلٌ فَإِنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَكْلِ الثَّمَنِ عَلَى مَا عُرِفَ، أَوْ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ قَدْ «أَصَابَتْنَا سَنَةٌ وَإِنَّ سَمِينَ مَالِنَا فِي الْحَمِيرِ فَقَالَ كُلُوا مِنْ سَمِينِ مَالِكُمْ» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ التَّعَارُضِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُجَّتَيْنِ أَوْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ غَيْرُ فَرْعٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ يُلْحَقُ بِهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا وَهَاهُنَا أَمْكَنَ إلْحَاقُ سُؤْرِ الْحِمَارِ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ فِي النَّجَاسَةِ بِعِلَّةِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ أَوْ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ بِعِلَّةِ الطَّوْفِ فَأَنَّى يَكُونُ هَذَا نَصْبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ سُؤْرَ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ أُلْحِقَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَسُؤْرَ السِّبَاعِ أُلْحِقَ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ فِي النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَصْبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً فَكَذَا هَذَا، فَالْأَحْسَنُ فِي بَيَانِ التَّعَارُضِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَإِنَّ جَابِرًا رضي الله عنه رَوَى أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ قَالَ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهُ طَاهِرٌ وَرَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ.

وَقَدْ تَعَارَضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ إنْ اُعْتُبِرَ بِالْعَرَقِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا إذْ الْعَرَقُ طَاهِرٌ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِاللَّبَنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا إذْ اللَّبَنُ نَجِسٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي الدَّلَائِلِ وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا بَقِيَ الِاشْتِبَاهُ وَصَارَ الْحُكْمُ مُشْكِلًا فَوَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ وَهُوَ إثْبَاتُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا وَلَا يَطْهُرُ بِهِ مَا كَانَ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ أَوْ النَّجَاسَةَ عُرِفَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ رحمه الله أَنَّ لَحْمَهُ حَرَامٌ بِلَا إشْكَالٍ وَحُرْمَةُ لَحْمِهِ تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَوْجَبَتْ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْحِمَارَ يُرْبَطُ فِي الدُّورِ وَالْأَفْنِيَةِ وَيَشْرَبُ مِنْ الْأَوَانِي كَالْهِرَّةِ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ دُونَهَا فِي الْهِرَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَضَايِقَ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْهِرَّةُ فَلَوْ انْتَفَتْ الضَّرُورَةُ أَصْلًا لَكَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا لِحُرْمَةِ لَحْمِهِ كَسُؤْرِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ طَوْفَ الْكَلْبِ حَوْلَ الْأَبْوَابِ لَا فِي دَاخِلِ الدَّارِ وَالْبُيُوتِ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا كَسُؤْرِ الْهِرَّةِ فَلَمَّا اسْتَوَى الْوَجْهَانِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَالثَّابِتُ قَبْلَ التَّعَارُضِ شَيْئَانِ الطَّهَارَةُ فِي جَانِبِ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةُ فِي جَانِبِ اللُّعَابِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَبَقِيَ مُشْكِلًا فَلَا يَطْهُرُ مَا كَانَ نَجِسًا وَلَا يَنْجُسُ مَا كَانَ طَاهِرًا.

بِخِلَافِ الْمَاءِ إذَا أَخْبَرَ عَدْلٌ بِنَجَاسَتِهِ

ص: 86

فَقُلْنَا إنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

وَآخَرُ بِطَهَارَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُشْكِلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ بَعْدَ سُقُوطِ الْخَبَرَيْنِ بِالتَّعَارُضِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَبَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ وَهَاهُنَا الْأَصْلُ بَعْدَ التَّسَاقُطِ شَيْئَانِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةِ فِي اللُّعَابِ فَبَقِيَ مُشْكِلًا، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ، وَقَدْ عُرِفَ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا بِيَقِينٍ لَزِمَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ وَلَا يَزُولُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، قُلْنَا مِنْ ضَرُورَةِ تَقْرِيرِ الْأُصُولِ زَوَالُ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ عَنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَزَالَ الْحَدَثُ وَالنَّجَاسَةُ بِهِ إذْ لَا مَعْنَى لِلطَّهُورِيَّةِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَّا إزَالَةُ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ وَلَوْ قُلْنَا بِزَوَالِهِمَا بِهِ لَا يَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا لِلْأُصُولِ بَلْ يَكُونُ عَمَلًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَإِهْدَارًا لِلْآخَرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِزَوَالِ الطَّهُورِيَّةِ، وَأَعْنِي بِهِ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهَ فِيهَا إلَّا أَنَّهَا زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ قِيلَ هَلَّا سَقَطَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ الَّتِي مَرَّ تَقْرِيرُهَا قُلْنَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُطَهِّرِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَاءُ كَانَ مُطَهِّرًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِ هَذَا الْوَصْفِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِالشَّكِّ وَوَجَبَ ضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ احْتِيَاطًا، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ فَأَحَدُهُمَا نَجِسٌ بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ الْآخَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّصَّيْنِ كَمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْمُطَهِّرِ، وَقَدْ عَجَزَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْعِلْمِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ مِنْهُمَا وَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّجِسِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ.

وَلَا يُقَالُ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اسْتِعْمَالُهُ أَيْضًا احْتِرَازًا عَنْ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ احْتِرَازٌ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الرَّأْسِ بَعْدَمَا تَوَضَّأَ بِهِ، وَقَوْلُهُ (فَقُلْنَا إنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لَا فِي طَهَارَتِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ رحمهم الله، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ عُرِفَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ هَذَا الْوَصْفُ بِالشَّكِّ فَكَانَ السُّؤْرُ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا مَنْصُوصٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إنْ أَصَابَ لُعَابُ دَابَّةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا أَوْ عَرَقُهَا ثَوْبًا فَصَلَّى فِيهِ أَجْزَتْهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ فَحُشَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لُعَابُ الْحِمَارِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَصَلَّى فِيهِ أَجْزَتْهُ وَإِنْ فَحُشَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله ثَلَاثُ مِيَاهٍ لَوْ غُمِسَ فِيهِ الثَّوْبُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَسُؤْرُ الْحِمَارِ وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ اللُّعَابَ إنْ كَانَ طَاهِرًا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا أَوْ طَهُورًا مَا لَمْ يَغْلِبْ اللُّعَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنَّمَا لَا يَتَنَجَّسُ الثَّوْبُ وَالْعُضْوُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَقِيقَةً.

وَكَأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لَا فِي طَهَارَتِهِ أَرَادَ أَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ وَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَهَارَتِهِ شَكٌّ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي طَهُورِيَّتِهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ) أَيْ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ عَرَقُهُ فِي كَوْنِهِ طَاهِرًا أَوْ هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ

ص: 87

وَلَبَنُ الْأَتَانِ وَلَمْ يَزُلْ الْحَدَثُ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوَجَبَ ضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ فَسُمِّيَ مُشْكِلًا لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْجَهْلَ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ فِي الْمَفْقُودِ، وَمِثَالُ مَا قُلْنَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا أَيْضًا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فِي مَحَلٍّ مِنْهُمْ يُوجِبُ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّ وَرَاءَ الْإِبْهَامِ مَحَلًّا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ فَصَلُحَ الْمِلْكُ فِيهِ دَلِيلًا لِوِلَايَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِذَا طَلَّقَ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ لَمْ يَجُزْ الْخِيَارُ بِالْجَهْلِ.

وَإِذَا عَرَفْت رُكْنَ الْمُعَارَضَةِ وَشَرْطَهَا وَجَبَ أَنْ تَبْنِيَ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: مِنْ قِبَلِ الْحُجَّةِ، وَمِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ، وَمِنْ قِبَلِ الْحَالِ، وَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ صَرِيحًا، وَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ دَلَالَةً.

أَمَّا مِنْ قِبَلِ نَفْسِ الْحُجَّةِ فَأَنْ لَا يَعْتَدِلَ الدَّلِيلَانِ فَلَا يَقُومُ الْمُعَارَضَةُ مِثْلُ الْمُحْكَمِ يُعَارِضُهُ الْمُجْمَلُ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ الْمَشْهُورُ مِنْ السُّنَّةِ يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ رُكْنَهَا اعْتِدَالُ الدَّلِيلَيْنِ

ــ

[كشف الأسرار]

لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ» فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرَقَ الْحِمَارُ وَلِأَنَّ مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي عَرَقِهِ ظَاهِرٌ لِمَنْ يَرْكَبُهُ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ رحمه الله وَفِي لُعَابِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَعَرَقِهِمَا إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: فِي رِوَايَةٍ قَدَّرَهُ بِالدِّرْهَمِ وَفِي رِوَايَةٍ قَدَّرَهُ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَمَالِي وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْنَعُ وَإِنْ فَحُشَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رحمه الله أَنَّ عَرَقَ الْحِمَارِ نَجِسٌ إلَّا أَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ يَفْسُدُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رحمه الله أَنَّ عَرَقَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

قَوْلُهُ (وَلَبَنُ الْأَتَانِ) أَيْ هُوَ طَاهِرٌ كَسُؤْرِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ لَبَنَ الْأَتَانِ طَاهِرٌ وَلَا يُؤْكَلُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ نَجِسٌ كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ، وَعَنْ عَيْنِ الْأَئِمَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَسُمِّيَ مُشْكِلًا لِمَا قُلْنَا.

ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِطَهَارَتِهِ وَلَا بِنَجَاسَتِهِ وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ رحمه الله يُنْكِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَقَالَ الشَّيْخُ رحمه الله لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّهُ شُرِعَ مُشْكِلًا حَقِيقَةً بَلْ سُمِّيَ مُشْكِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبِ ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ. لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْجَهْلَ: أَيْ لَا أَنْ يَعْنِيَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ حُكْمَهُ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الِاسْتِعْمَالِ وَانْتِفَاءُ النَّجَاسَةِ وَضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى) أَيْ وَمِثْلُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ مِنْ تَقْرِيرِ الْأُصُولِ وَالْعَمَلِ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ وُقُوعِ الْإِشْكَالِ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَيْضًا وَهُوَ الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَعْنِي الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أُشْكِلَ حَالُهُ بِتَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ وَالْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي مَوْضِعِهِ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَبِمَنْزِلَةِ الْإِنَاثِ فِي الْبَعْضِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي كُلِّ حُكْمٍ فَيُقَالُ أَكْبَرُ النَّصِيبَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ أَعْنِي نَصِيبَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَيَتَأَخَّرُ عَنْ الرِّجَالِ وَيَتَقَدَّمُ عَلَى النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا وَلَا يَخْتِنْهُ الرَّجُلُ وَلَا الْمَرْأَةُ لِاشْتِبَاهِ حَالِهِ بَلْ تُشْتَرَى أَمَةٌ تَخْتِنْهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى، وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ كَمَا فِي حُبْلَى وَالْبُشْرَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَةُ وَيُؤَنَّثَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَظَرُوا إلَى عَدَمِ تَحَقُّقِ التَّأْنِيثِ فِي ذَاتِهِ فَلَمْ يُلْحِقُوا عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ فِي وَصْفِهِ وَضَمِيرِهِ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورَةِ.

وَقَدْ يُوصَفُ الرَّجُلُ بِهِ أَيْضًا فَيُقَالُ رَجُلٌ خُنْثَى وَرِجَالٌ خَنَاثَى وَخِنَاثٌ قَالَ الشَّاعِرُ:

لَعَمْرُك مَا الْخِنَاثُ بَنُو قُشَيْرٍ

بِنِسْوَانٍ يَلِدْنَ وَلَا رِجَالِ

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ) أَيْ جَوَابُ عُلَمَائِنَا فِي الْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ حَيَاتُهُ وَمَمَاتُهُ وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ فَجُعِلَ حَيًّا فِي مَالِهِ حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ ثَابِتَةً فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَمَيِّتًا فِي مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ

ص: 88