الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ)
مَحِلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْمُدَّةِ وَالْوَقْتِ وَذَلِكَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدِيمٌ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ.
ــ
[كشف الأسرار]
مَنْ وَضَعَ لَهُمْ ذَلِكَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام وَأَقْرَبُ قَاطِعٍ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى دَفْعِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ مِنْهُمْ كَمَا اُشْتُهِرَ سَائِرُ أُمُورِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 42] الْآيَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ مَا يُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ]
لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّهُ حُكْمًا يَحْتَمِلُ الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ لِيَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُ مُحْتَمِلًا لِلتَّوْقِيتِ يَحْصُلُ بِوَصْفَيْنِ أَيْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَيْ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَأَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا إذْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْكُفْرِ لَاسْتَمَرَّ عَدَمُ شَرْعِيَّتِهِ وَالنَّسْخُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعْدُومِ وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَاسْتَمَرَّ شَرْعِيَّتُهُ ضَرُورَةً فَلَا يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ وَرَفْعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَمَّا لَزِمَ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ.
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيْثُ يَلْحَقُ بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ مَا يُنَافِي بَيَانَ الْمُدَّةِ بِالنَّسْخِ يَعْنِي لَمْ يَلْتَحِقْ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَا يَمْتَنِعُ لِخَوْفِ النَّسْخِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ جل جلاله بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ أَيْ مَعَ جَمِيعِهَا مِثْلُ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَصِفَاتِهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمٌ دَائِمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِحَالٍ أَعْنِي فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهَا.
الْحَاصِلُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي فِي وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي فِي جَائِزَاتِهَا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ النَّسْخَ فِي مَدْلُولِ الْخَبَرِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمَخْبَرِ بِهِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَالْخُلْفُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالنَّسْخُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ فَلَا يَجُوزُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِجَوَازِهِ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مَدْلُولُهُ مُتَكَرِّرًا وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ عَامًّا كَمَا لَوْ قَالَ عَمَّرْت زَيْدًا أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِسْعَمِائَةٍ أَوْ قَالَ لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِهِ أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّاسِخُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرًا نَحْوُ قَوْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا ثُمَّ قَوْلِهِ مَا أَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ إعْدَامِهِ وَإِيجَادِهِ جَمِيعًا كَانَ تَنَاقُضًا وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَمَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمُتَحَقِّقَ فِي الْمَاضِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13]{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] فَإِنَّهُ نُسِخَ بَعْدَ سُؤَالِ الرَّسُولِ عليه السلام بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 39]{وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] .
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] فَإِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وَبِظَوَاهِر آيَاتِ الْوَعِيدِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَغَيْرِهَا فَإِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَكُلُّ ذَلِكَ إخْبَارٌ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ بِحَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: اعْتَقِدُوا الصِّدْقَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلَى وَقْتِ كَذَا ثُمَّ اعْتَقِدُوا خِلَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ هُوَ الْبَدَاءُ وَالْجَهْلُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْيَهُودُ فِي أَصْلِ النَّسْخِ وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ إرَادَةِ تِسْعِمِائَةٍ مِنْ لَفْظِ الْأَلْفِ وَلَا صِحَّةَ وُرُودِ النَّسْخِ عَلَى مَا الْتَحَقَ بِهِ تَأْبِيدُ مَا نُبَيِّنُ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ يَنْسَخُ مَا يَسْتَصْوِبُ نَسْخَهُ وَيُثْبِتُ بَدَلَهُ أَوْ يَتْرُكُهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَقِيلَ يَمْحُو مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكَتْبَةِ كُلِّ قَوْلِ وَفِعْلٍ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَاسِعُ الْمَجَالِ وقَوْله تَعَالَى {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] لَيْسَ بِنَاسِخٍ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمًا ثَبَتَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذْ الْحُكْمُ فِي الْقَلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهَا ثَابِتٌ كَمَا كَانَ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِهِمْ فِرَقٌ أُخْرَى بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِتَضَرُّعِهِمْ أَوْ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ عليه السلام ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] .
وَقِيلَ الْآيَةُ الْأُولَى فِي السَّابِقِينَ وَالثَّانِيَةُ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعَنْ الْحَسَنِ سَابِقُو الْأُمَمِ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِي أُمَّتِنَا وَتَابِعُو الْأُمَمِ مِثْلُ تَابِعِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] مِنْ بَابِ الْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَكَذَا آيَاتُ الْوَعِيدِ كُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ أَوْ مَخْصُوصَةٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْلِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ عليه السلام بِالْحِلِّ مُطْلَقًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ وَرَدَ الْخَبَرُ بَعْدَهُ بِالْحُرْمَةِ يَنْتَسِخُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي
وَأَمَّا الَّذِي يُنَافِي النَّسْخَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَصْلِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَثَلَاثَةٌ تَأْبِيدٌ ثَبَتَ نَصًّا وَتَأْبِيدٌ ثَبَتَ دَلَالَةً وَتَوْقِيتٌ أَمَّا التَّأْبِيدُ صَرِيحًا فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] وَمِثْلُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] يُرِيدُ بِهِمْ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِثْلُ شَرَائِعِ مُحَمَّدٍ عليه السلام الَّتِي قُبِضَ عَلَى قَرَارِهَا فَإِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِدَلَالَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا نَسْخَ إلَّا بِوَحْيٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ. وَالثَّالِثُ وَاضِحٌ وَالنَّسْخُ فِيهِ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَدَاءٌ وَظُهُورُ الْغَلَطِ لَا بَيَانُ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ
1 -
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي يُنَافِي) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي يُنَافِي النَّسْخَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ لُحُوقِ مَا يُنَافِي بَيَانَ الْمُدَّةِ مَعَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّأْبِيدُ صَرِيحًا فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] وَصَفَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالْخُلُودِ أَيْ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا وَهُوَ مُطْلَقٌ يَقْبَلُ الزَّوَالَ فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْأَبَدُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ بَيَانُ التَّوْقِيتِ فِيهِ بِالنَّسْخِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْبَدَاءِ وَظُهُورِ الْغَلَطِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ عز وجل {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام اتَّبَعُوا دِينَ الْمَسِيحِ وَصَدَّقُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَوَاَللَّهِ مَا اتَّبَعَهُ مَنْ دَعَاهُ رَبًّا، وَمَعْنَى الْفَوْقِيَّةِ هَاهُنَا الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَبِهَا وَبِالسَّيْفِ حِينَ أَظْهَرَ مُحَمَّدًا عليه السلام وَأُمَّتَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ.
وَفِي الْكَشَّافِ وَمُتَّبِعُوهُ هُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّرَائِعُ دُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَكَذَبُوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَيْهِ مِنْ النَّصَارَى وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ فَوْقَ الْيَهُودِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَمْلَكَةٌ كَمَا لِلنَّصَارَى ثُمَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ تَوْقِيتًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ تَأْبِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 212] ، فَإِذَا كَانَ مُتَّبِعُوهُ ظَاهِرِينَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ غَلَبَةِ الْكُفَّارِ كَانُوا غَالِبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ غَلَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا غَالِبِينَ أَبَدًا ضَرُورَةً وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَصْدُرُ إذَا خَافَهُ وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ إيرَادُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَامْتِنَاعُ النَّسْخِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا بِالتَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ إيرَادُ النَّظِيرِ لِلتَّأْبِيدِ نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحْكَامِ تَأْبِيدٌ صَرِيحٌ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِإِيرَادِهِمَا فَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُمَا وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي تَأْبِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُمَا لَمَّا كَانُوا مُؤَبَّدِينَ فِيهِمَا كَانَتَا مُؤَبَّدَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالثَّالِثُ وَاضِحٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ أَذِنْت لَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا إلَى سَنَةٍ أَوْ قَالَ: أَحْلَلْت هَذَا الشَّيْءَ عَشْرَ سِنِينَ أَوْ مِائَةَ سَنَةٍ فَإِنَّ الْمَنْعَ عَنْهُ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ وَالنَّسْخُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ بَاطِلٌ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ رحمه الله وَلَيْسَ لِهَذَا الْقِسْمِ مِثَالٌ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ شَرْعًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ شَرْعِيَّةُ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَشَرْعِيَّةُ إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيْلِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوَقَّتَةٍ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
1 -
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ نَسْخِ مَا لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ أَوْ تَوْقِيتٌ مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ لِتَأْدِيَةِ النَّسْخِ فِيهِ إلَى الْكَذِبِ وَالتَّنَاقُضِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْخِطَابَ إذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ لِعُمُومِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مَعَ ذَلِكَ مَرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِمُرَادِ الْمُخَاطِبِ وَلِذَلِكَ لَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ مُحَالٌ.
تَنْبِيهٌ: إنَّ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا وَفُلَانٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ أَبَدًا وَاجْتَنِبْ فُلَانًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ وَيَتَبَيَّنُ بِلُحُوقِ النَّاسِخِ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ وَلِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ أَنَّ قَوْلَهُ صُومُوا أَبَدًا مَثَلًا لَا يَرْبُوا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوْلِهِ صُمْ غَدًا فَكَمَا جَازَ نَسْخُ هَذَا قَبْلَ الْغَدِ لِمَا سَنُبَيِّنُ جَازَ نَسْخُ الْآخَرِ أَيْضًا وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ نَسْخَ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَالْبَدَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأْبِيدِ أَنَّهُ دَائِمٌ وَالنَّسْخُ يَقْطَعُ الدَّوَامَ فَيَكُونُ دَائِمًا غَيْرَ دَائِمٍ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ الصَّوْمُ