المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بداية الدراسة: يتضمن هذا المقال: محاولة إثبات أن الربا الذي - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌موضوع العدد:الشفعة

- ‌ الشفعة في اللغة

- ‌الشفعة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌مشروعية الشفعة:

- ‌الحكمة في مشروعية الشفعة

- ‌ الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار:

- ‌ الاشتراك في المنقولات:

- ‌ الجوار:

- ‌أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها:

- ‌أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع والجوار ومناقشتها:

- ‌ الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى:

- ‌ الشفعة بشركة الوقف:

- ‌ شفعة غير المسلم:

- ‌ شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون:

- ‌ شفعة الغائب:

- ‌ شفعة الوارث:

- ‌ أناس يشترون ثمار النخيل عند بدء الصلاح بقيمة معينة ثم يبيعونه بربح وهو باق على رؤوسه

- ‌ بعض ملاك العقارات يختلق بعض المبررات لإخراج المستأجر من عقاره

- ‌ يساهم في شركات التأمين التجاري

- ‌ يتعامل مع البنوك التي تعطي زيادة على رأس المال أو تعطي المقترض زيادة

- ‌ إظهار الدجل والشعوذة أمام الناس

- ‌ الاستغفار للمشركين ولو كانوا من ذوي القرابة

- ‌ وضع السترة أمام المصلي داخل المسجد

- ‌قطع النافلة إذا أقيمت الفريضة

- ‌ضع شركة المساهمة أو غيرها رصيدا في البنك تأخذ عليه فائدة قليلة أو كثيرة

- ‌ تصرف المرأة زكاة مالها إلى زوجها

- ‌ صلاة الجمعة في مسجد لم ينو إقامة الجمعة فيه عند أول تأسيسه

- ‌ المعاملة مع البنك

- ‌ الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌بعد قبض عزرائيل روحه بنفسه بأمر الله ماذا يحدث بعد ذلك

- ‌ توفيت أمي عني وعن أختها من أمها وأبيها وعن ثلاثة أبناء أخ لأمي من أبيها وأمها وأخت لهم

- ‌ أعطي أحد أبنائي مالا أعطيه لآخر لكون الآخر غنيا

- ‌ حجت أمي سبع حجات فهل يجوز لي أن أحج عنها

- ‌ زواج البكر

- ‌بداية الدراسة:

- ‌بل الفائدة المصرفية من ربا النسيئة

- ‌ الاتجاه الثالث: يقول عنه الكاتب هو الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية

- ‌من أفذاذنا العلماء الشيخ محمد بن إبراهيم

- ‌من أعلام المجددينشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌ التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌الخاتمة:

- ‌ أقسام الألفات في كتاب الله العزيز

- ‌ ألف الوصل]:

- ‌[ألف الأصل]

- ‌ ألف القطع]

- ‌ ألف الاستفهام]

- ‌ ألف ما لم يسم فاعله]

- ‌ ألف المتكلم]

- ‌مصادر التقديم والتحقيق

- ‌أحاديث الصحيحينبين الظن واليقين

- ‌ تعريف الظن واليقين لغة واصطلاحا وحكمهما

- ‌ أقوال القائلين بإفادة أحاديث الصحيحين القطع

- ‌ أدلة من قال بإفادة أحاديث الصحيحين القطع

- ‌ أدلة من قال بإفادة أحاديث الصحيحين الظن

- ‌ مع ابن الصلاح وابن حجر:

- ‌ بين أحاديث الصحيحين والخبر المشهور:

- ‌مصادر البحث

- ‌ المسؤوليات التي تجب علينا نحو الجهاد الإسلامي في أفغانستان

- ‌وجوب أداء الصلاة في الجماعةلسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌بداية الدراسة: يتضمن هذا المقال: محاولة إثبات أن الربا الذي

‌بداية الدراسة:

يتضمن هذا المقال: محاولة إثبات أن الربا الذي جاء القرآن بتحريمه غير متحقق في معاملة المصارف بالاستدانة منها بفائدة يحددها المصرف ويلتزم المستدين بدفعها إلى المصرف مع أصل الدين، ومن ثم تكون هذه المعاملة مشروعة.

وقبل أن نناقش ما جاء في هذا المقال نحب أن نقرر هنا أمورا: أ) إن إخضاع الشريعة لواقع الناس في معاملاتهم وتصرفاتهم غير جائز شرعا، ومن ثم يجب رفضه؛ لأن الشريعة حاكمة يخضع الناس لأوامرها ونواهيها، وليست محكومة لواقع الناس وأهوائهم وأغراضهم يتبعونها عندما تحلو لهم، وينأون عنها إذا لم تصادف هوى في نفوسهم، يقول الله تعالى في تقرير هذا المبدأ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). ويقول جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2)، ويقول عز وجل:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3).

إذن فمحاولة إضفاء الشرعية على العملية المصرفية المذكورة وما يترتب عليها من فوائد تبريرا لما يتعامل به الناس مع المصارف أمر غير جائز شرعا؛ لأنه هدم للشريعة ومحاولة للتخلص من اتباعها.

ب) إن فقهاء الأمة في كل عصر ومصر مطالبون بإيجاد البديل عن

(1) سورة النساء الآية 65

(2)

سورة الأحزاب الآية 36

(3)

سورة النور الآية 51

ص: 140

المعاملات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم ولا تقرها الشريعة، إما بسبب انحراف الناس عن اتباع سنن الشريعة فيها، أو تقليد غير المسلمين في تعاملهم بها، وهذا البديل لا بد أن يكون في ظل الشريعة، فإن كان حكم المعاملة منصوصا عليه طبق عليها، وإلا ففي ميدان السياسة الشرعية التي يبنى فيها الحكم على المصلحة متسع له بشرط ألا يخالف نصا أو إجماعا، فإن أعوزنا النص ولم تسعفنا السياسة الشرعية - ونادرا ما يحصل هذا - حكمنا ببطلان هذه المعاملة؛ لظهور تحقق المفسدة فيها حينئذ.

ج) إن أحكام الشريعة يأخذها المرء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا كان أهلا للاستنباط منهما، فإن لم يكن أهلا أخذها من أقوال فقهاء أهل الشريعة المعترف بإمامتهم وحذقهم في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما.

أما أدعياء الاجتهاد والبحث الذين لم ينشأوا في رحاب الشريعة، ولم يتمرسوا بها، ولكنهم أقحموا أنفسهم في ميدانها لغرض من الأغراض، فهؤلاء لا تؤخذ عنهم شريعة الله ولو ظهرت لهم كتب أو مقالات أو أبحاث تحمل أسمائهم وذلك لعدم الثقة بها والاطمئنان إليها.

د) إن فقهاء الشريعة يقسمون أحكامها إلى قسمين:

1 -

أحكام قطعية: ويريدون بها الأحكام التي ثبتت بأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم أو السنة المتواترة، إذا كانت دلالتها على المعنى لا تحتمل معنى آخر غير ما تدل عليه بأصل وضعها اللغوي.

2 -

أحكام ظنية: وهي التي ثبتت بأدلة ظنية الثبوت والدلالة معا، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة،

ص: 141

وهي الأحكام الثابتة بنصوص القرآن الكريم إذا كانت دلالتها تحتمل أكثر من معنى، والأحكام الثابتة بالسنة غير المتواترة، سواء كانت ظنية الدلالة أو قطعيتها.

ولا يعني هذا التقسيم أن الأحكام الظنية لا يجوز العمل بها؛ لأن أدلتها ضعيفة، أو لمعارضة مصلحة لها فتترجح عليها، بل على العكس يجب العمل بها؛ لأن الإجماع قد قام على وجوب العمل بالأحكام الظنية التي بينا حقيقتها، ويؤيد ذلك أن أغلب أحكام الشريعة أحكام ظنية، أما التقسيم المذكور فالغرض منه بيان تنوع الأحكام الشرعية وخصائص كل نوع، وإذن فالتشكيك في قيمة الأحكام الظنية أو توهين العمل بها بقصد أو بدون قصد، أو جعلها عرضة لأهواء بعض المعاصرين يرفضونها بأهوائهم استنادا إلى المصالح التي يزعمونها يعتبر هدما للأحكام الشرعية.

هـ) إن بتر النص والاستشهاد ببعضه الذي يؤيد دعوى المدعى وإغفال البعض الآخر الذي لا يؤيده، أو الاستشهاد بنص مع إغفال النصوص الأخرى وعدم ربط بعضها ببعض يعتبر ذلك كله خارجا عن المنهج السليم في البحث، ويشبه أن يكون من باب الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر وهذا أمر مذموم بنص القرآن الكريم.

وإذن فالإدعاء بأن فلانا من الفقهاء المعترف لهم بالإمامة قال كذا، بدون ذكر صدر القول أو عجزه، أو بدون ربطه بما ذكره هذا الفقيه في مواضع أخرى من مؤلفه أو مؤلفاته قول لا قيمة له في البحث العلمي، وهو منهج مرفوض ومسلك مردود في مجال الإثبات والاستدلال لدى أهل الجدل والبحث والمناظرة من الفقهاء والعلماء.

و) يعرف الفقهاء الربا بأنه: فضل مال بلا عوض لأحد المتعاقدين في

ص: 142

معاوضة مال ربوي بجنسه ويقسون الربا إلى قسمين: ربا النسيئة وربا الفضل.

فربا النسيئة عبارة عن الزيادة في مقابل الأجل، ومنه الربا الذي كان معروفا في الجاهلية، وهو أن يكون للشخص دين على آخر فيقول الدائن للمدين عند حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يقضي المدين زاده في المال وزاد الدائن في الأجل.

أما ربا الفضل فهو: الزيادة التي لا يقابلها عوض في معاوضة مال بمال، سواء كانت في الأشياء الستة الواردة في الصحيحين وغيرهما، وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، أو في غيرها بطريق القياس عليها، والربا بقسميه محرم بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)، فإن النص يفيد تحريم الربا بجميع أقسامه، لأن - أل - في الربا للجنس، و - أل - الجنسية تفيد العموم كما نص على ذلك الأصوليون، فيكون تحريم جميع أنواع الربا ثابتا بعموم النص القرآني.

أما السنة فالأحاديث الكثيرة في ذم الربا، والوعيد الشديد لمن يمارسه، والتقبيح والتشنيع على من يتعامل به وكذلك الأحاديث الواردة في المنع من ربا الفضل، مثل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (2)» ، وفي لفظ «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر

(1) سورة البقرة الآية 275

(2)

صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 143

والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء (1)» رواه أحمد والبخاري (2). وفي لفظ «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (3)» رواه أحمد ومسلم ففي الأحاديث الثلاثة الصحيحة دلالة على تحريم ربا الفضل؛ لورودها بصيغة النهي الدالة على التحريم والفساد والبطلان كما هو مقرر عند علماء الأصول).

أما الإجماع: فقد اتفق المجتهدون من الأمة من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا على تحريم الربا بنوعيه ربا النسيئة وربا الفضل، والاختلاف بين الفقهاء ليس في أصل تحريم ربا الفضل، إنما هو في جريان الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تلك الأحاديث، وذلك بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته، بدليل أن الأصناف الربوية الستة التي نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حرمتها ليست محل خلاف بين أحد من الفقهاء. أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من جواز ربا الفضل، فقد صح رجوعه عن هذا القول عندما بلغته الأحاديث الصحيحة بالتحريم التي لم يكن قد اطلع عليها، على أن العلماء لم يسوغوا هذا الخلاف لورود الأحاديث الصحيحة بتحريم ربا الفضل في الصحيحين وغيرهما، والخلاف الذي لا يسوغه العلماء لا قيمة فيه لرأي المخالف، وذكره في الكتب لمجرد الحكاية والتاريخ، وأيضا فقد نقل التحريم عن الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم.

وبعد هذه المقدمة الموجزة والتي تضمنت أمورا في غاية الأهمية نتناول مقالة الكاتب بالدراسة والتحليل فنقول:

(1) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202)، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584)، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241)، سنن النسائي البيوع (4565، 4565)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 50، 3/ 97)، موطأ مالك البيوع (1324، 1324).

(2)

كتاب البيوع 3/ 6.

(3)

صحيح البخاري البيوع (2177)، صحيح مسلم المساقاة (1584)، سنن الترمذي البيوع (1241)، سنن النسائي البيوع (4570)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 4)، موطأ مالك البيوع (1324).

ص: 144

1 -

إن قول صاحب المقال (إن الربا المجمع على تحريمه هو ربا النسيئة فقط). خطأ فاحش لما قدمنا من الإجماع على أصل تحريمه في الأصناف الستة وإن الاختلاف بينهم إنما هو في غير الأصناف الستة بسبب اختلافهم في مناط الحكم وعلته، أي أنه اختلاف في التطبيق وليس اختلافا في الأصل (1).

2 -

إن ما جاء في المقال من (أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابلة الأجل هو ربا الفضل). خطأ أيضا، وهو خلط بين القسمين لأن الزيادة في مقابل الأجل من خصائص النسيئة غالبا، وقد يجتمع النوعان في ربا النسيئة كما لو باع ذهبا بذهب أكثر منه أو أقل إلى أجل أو فضة بفضة أكثر منها أو أقل منها إلى أجل وهكذا ما يشبه ذلك من أصناف الربا، ثم أي فرق بين الزيادة لأجل الأجل في ابتداء عقد الدين، والزيادة لأجل الأجل في المرة الثانية عند عجز المدين عن الوفاء وطلبه التأجيل؟ ولماذا كانت الزيادة في المرة الأولى جائزة مع وجود ربا الفضل والنسيئة ومحرمة عند أنظاره في آخر العقد عند العجز؟. اللهم إن هذا حكم لا يقوم عليه دليل وخلط غير مستقيم.

3 -

إن بعض الكتاب المعاصرين من الذين يدعون التحرر والاجتهاد ويقسمون الربا إلى نوعين: ربا استهلاك وربا استثمار.

ويريدون بربا الاستهلاك الربا الذي يدفعه المدين مع القرض الذي استهلكه في حاجة نفسه وأولاده من طعام وكسوة وسكنى ودواء ودفع حاجة ونحوها.

ويريدون بربا الاستثمار: ما يدفعه المدين مع القرض الذي

(1) انظر نيل الأوطار للشوكاني 5/ 161 - 167

ص: 145

صرفه في توسيع تجارته أو مصانعه أو أرضه بقصد الربح والفائدة. ويقولون إن النوع الأول هو المحرم؛ لأن الغني يستغل حاجة الفقر المحتاج. أما النوع الثاني فإنهم يقولون بجوازه وحله، ومن هؤلاء صاحب المقال الذي بين أيدينا، وسيأتي بيان وجهة نظرهم والرد عليها.

4 -

أما بالنسبة لإضفاء الشرعية على المعاملة المصرفية وهي الاقتراض من المصرف بفائدة تدفع مع أصل الدين حسب اتفاق المصرف مع المدين، إن الكاتب استند في ادعاء هذه الشرعية إلى شبه نوردها ثم نبدي رأينا فيها:

ص: 146

الشبهة الأولى: إن الزيادة الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وربا الفضل حرم سدا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز التعامل به إذا اقتضت مصلحة الناس هذا التعامل، وقد اقتضت المصلحة ذلك لأن معاش الناس لا يتم إلا بهذا التعامل. وقد استند في هذه الشريعة إلى فتوى الشيخ رشيد رضا وأقوال لابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن حزم - ص 4 من المقال.

تفنيد هذه الشبهة: نرد على هذه الشبهة بالنقاط التالية: أ- إن الزيادة الأولى ليست من ربا الفضل وحده، بل هي جامعة لربا الفضل والنسيئة كما تقدم لأنها في مقابل التأجيل قطعا، واعتبارها من ربا الفضل وحده قول لا نعلمه لأحد من أهل العلم ممن يعتد بقوله من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، فهو قول باطل وفيه مغالطة وتلبيس.

2 -

إن القول بأن ربا الفضل حرام سدا للذريعة قول باطل لا يقوم على دليل، إذ إن ربا الفضل محرم ابتداء وقصدا، كما تدل عليه

ص: 146

الأحاديث الخاصة بتحريمه، ونسبة هذا القول لابن القيم خطأ إذ لم يقل به أصلا (1). وإنما تحدث رحمه الله عن بيع المعدوم وأشار إلى أن الشريعة تراعي المصالح ولم يتحدث عن ربا الفضل أصلا، وقد ساق الكاتب عبارته عن الأخذ بالمصالح مبتورة محرفة.

3 -

إن القول بجواز التعامل به إذا اقتضت المصلحة ذلك بناء على أن تحريمه مبني على سد الذريعة قول باطل؛ لأن تحريم ربا الفضل ثابت بنصوص السنة الصحيحة الصريحة القوية في دلالتها ومثل هذه لا يجوز معارضتها بالمصلحة؛ لأن المصلحة لا اعتبار لها أمام النصوص الصحيحة، إذ هي لا تعتبر إلا في الوقائع المسكوت عنها، أي التي لم يرد بحكمها نص بالاعتبار أو الإلغاء، أو في الوقائع التي بني الحكم فيها على سد الذريعة ابتداء، على أن القول بتحكيم المصلحة في النصوص قول باطل لم يؤثر إلا عن نجم الدين الطوفي من فقهاء الحنابلة في القرن الثامن، وقد رفضه العلماء قديما وحديثا مبينين بطلانه وفساده إذ لو حكمت المصالح في النصوص تهدمت الشريعة وخضعت لأهواء الناس وفي ذلك ضياع لها والعياذ بالله.

4 -

إن القول بأن معايش الناس لا تتم إلا بهذه المعاملة قول لا يؤيده شيء من النصوص أو واقع المعاملات بين الناس، بل إن النصوص ومعاملات الناس تدل على استقامة الحياة وتمام المعيشة بدون هذه المعاملة الربوية، ولما دخلت هذه المعاملة حياة الناس أوجدت الكثير من النكد والتنغيص وفساد الحالة الاقتصادية، ومما يؤيد ذلك ما

(1) في الكتاب الذي أشار إليه صاحب المقال وهو " زاد المعاد "

ص: 147

قرره أساطين الاقتصاد في العالم من أن أكبر ضربة قاصمة توجه إلى اقتصاد أي دولة تأتي من ناحية الربا، ولقد حرمت روسيا الملحدة التعامل بالربا، فهل ضعف اقتصادها وهل أصاب معيشة أهلها شيء من الضنك والضيق والمشقة بسبب عدم التعامل بالربا؟

بل إن ما أصابهم ويصيبهم من الضيق والضنك إنما هو لجور الأنظمة الماركسية. إن اقتراض التجار وأصحاب رؤوس الأموال من الأغنياء لا تدعو إليه حاجة فضلا عن الضرورة، فالتاجر يقترض من المصرف لتوسيع تجارته وصاحب المصنع يقترض للتوسع في صناعته وأصحاب المزارع يقترضون للتوسع في الزراعة ووفرة الإنتاج، وهذه ليست أمورا أساسية لا تتم حياة الناس ومعايشهم إلا بها، وإنما هي أمور توسيعيه لا تشكل حاجة في حياة الناس فضلا عن الضرورة.

وقد يقال إن الأمة في حاجة إلى التوسع في وسائل الإنتاج لتكون قوية وقادرة على مواجهة الأحداث الاقتصادية ومواجهة الدول التي تستغل الدول الإسلامية نتيجة ضعفها المادي والاقتصادي. والجواب عن هذا: إن الحاجة إلى التوسع المذكور تسد من قبل الدولة أو من قبل الأفراد بتكوين الشركات الضخمة والمصانع العملاقة واستصلاح الأراضي البور، وذلك كله وظيفة الدولة وهي وظيفة واجبة كلها ومسؤولة عنها أمام الله سبحانه وتعالى.

5 -

أما فتوى الشيخ رشيد رضا التي استند إليها الكاتب في كلامه فإنه ليس ممن يحتج بقوله إذا كان معه غيره فما بالك إذا انفرد وخالف النص، أما ما نقله الكاتب عن ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن حزم فهي نصوص بعضها مبتور عن أصله، وبعضها غير

ص: 148

موافق لما قالوه في غير هذه المواضع وكلا الأمرين غير صالح للاحتجاج.

ص: 149

الشبهة الثانية: أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة المحتاج، والظلم غير متحقق في اقتراض كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال من المصارف بالفوائد لتنمية أموالهم وتجارتهم ومصانعهم؛ لأنهم ليسوا محتاجين ويستأنس الكاتب بقول الشيخ رشيد رضا: ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي التي لولاها فاتتهما المنفعة معا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1).

الرد على هذه الشبهة: إن الشبهة ليست بشيء في مقام الاستدلال لما يأتي: أ) إن حكمة تحريم الربا ليست منحصرة في إزالة الظلم الناشئ عن استغلال الغني حاجة الفقر، بل هناك حكم أخرى للتحريم، منها القضاء على البطالة والكسل بالنسبة للدائنين ودفعهم إلى العمل واستخلاص الرزق بالسعي في الأرض والمشي في مناكبها. ومنها أنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل لعدم العوض المقابل للزيادة الربوية. ومنها أنه يؤدي للعداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات؛ لأنه ينزع عاطفة التراحم من القلوب وتضيع به المودة ويذهب المعروف بين الناس وتحل القسوة محل الرحمة.

(1) سورة البقرة الآية 279

ص: 149

ب) إن هذا الوجه في الاستدلال تعليل بالحكمة والراجح لدى الأصوليين هو عدم التعليل بالحكمة لعدم انضباطها وظهورها.

ج) إنه على فرض جواز التعليل بالحكمة وانحصارها في إزالة الظلم فإنها ليست منحصرة في الفقير المحتاج، بل هي أيضا متحققة أيضا بالنسبة للغني غير المحتاج، إذ هي أكل لماله بالباطل لعدم المقابل للزيادة الربوية من مال أو منفعة أو مصلحة، ويؤيد ذلك أن النص القرآني الوارد في تحريم الربا لم يفرق بين الفقير المحتاج والغني غير المحتاج؟ كما يؤيده أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «(وأول ربا أضعه تحت قدمي هاتين ربا عمي العباس) (1)» ومعروف أن العباس يتعامل مع تجار قريش من الأغنياء، ولم يكن مع الفقراء المحتاجين؛ لأن مكانته من ذلك معروفة بإطعام الحجاج وسقايتهم ومواساة المحتاجين لا يسيغ هذا الإدعاء.

(1) صحيح البخاري الحج (1785)، صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن الترمذي الحج (856)، سنن النسائي مناسك الحج (2763)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 321)، موطأ مالك الحج (836)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).

ص: 150

الشبهة الثالثة: إن عملية الاقتراض من المصرف بفائدة تعتبر من البيع، والبيع جائز حلال، وفي ذلك يقول الكاتب نقلا عن الشيخ رشيد رضا ومقرا لقوله: إن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج. ثم يضيف إلى ذلك قولا للشيخ رشيد وهو: أنه ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلما لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام. اهـ.

الرد على هذه الشبهة: للرد على هذه الشبهة نقول: إن المعاملة المصرفية التي نحن بصدد مناقشتها لا تعتبر بيعا بأي معيار أو قياس من المعايير أو المقاييس الشرعية إذ ليس فيها بائع ومشتري ومبيع وثمن، وإنما هي قرض بفائدة مقابل الأجل وهذا هو الربا بعينه، نعم قد يبيع المقترض ويشتري ويتاجر بما اقترضه ولكن ذلك مع غير المصرف والمصرف لا علاقة له بهذه التجارة؛ لأنه لم يعطه المال مشاركة أو مضاربة

ص: 150

أو على أي وجه من الوجوه التجارية، وإذن فالادعاء بأن هذه المعاملة من قسم البيع ادعاء باطل وتخرج سخيف لا يقصد منه في نظرنا إلا التمويه على الناس لدفعهم إلى التعامل بالربا.

أما فتوى الشيخ رشيد رضا بحل أخذ الربح من صناديق الادخار والتوفر والمصارف فهي فتوى مخالفة للنصوص الشرعية، إذ لا يجوز أخذ الربح من صندوق التوفر أو من المصارف التي تدفع أرباحا عن الأموال المودعة بها، وذلك لأن صناديق التوفر والمصارف لا تستثمر أموالها في تجارة أو صناعة أو زراعة تحصل منها على أرباح وأموالها تأتي عن طريق إقراضها بفوائد فيأخذ البنك حصة منها ويعطي المدخر أو المودع البعض الآخر، فالكثير من البنوك الآن يعطي المودع 6% فوائد بينما يأخذ هذا البنك نفسه من المقترض 14 % كما أفاد البنك المركزي المصري دار الإفتاء المصرية بذلك، وإذن فما يأخذه المدخر أو المودع يعتبر أكلا للمال بالباطل وهذا ظلم فبطلت هذه الشبهة.

ص: 151

الشبهة الرابعة: إن خصائص الربا القرآني - في نظر الكاتب - لا تتحقق في المعاملة المصرفية التي نحن بصددها وهي الاقتراض بالفائدة. ويحدد الكاتب خمس خصائص للربا القرآني التي يسميها أسبابا ثم يري أنها ليست متحققة في المعاملة المصرفية، ومن ثم تكون هذه المعاملة جائزة في نظر الشريعة الإسلامية ونستعرض هذه الخصائص وتطبيقها ثم نبين وجه البطلان فيها أو في تطبيقها أو فيهما معا: أ) يرى الكاتب أن الخاصة الأولى من الربا القرآني المحرم هي: أن المدين لا بد أن يكون محتاجا للصدقة عملا بظروف الدين ولذلك فهو مظلوم بأخذ الربا منه.

ويمكن أن نرد شبهة الكاتب ومن سبقه في هذا الميدان بأن النصوص

ص: 151

القرآنية المحرمة للربا وردت عامة أو مطلقة لم تفرق بين الفقير المحتاج والغني القادر، فتخصيصها أو تقييدها بما يكون مع الفقير المحتاج يحتاج إلى دليل، وما ذكر على أنه دليل للتخصيص أو التقييد لا يعتبر دليلا أو شبه دليل لما يلي: أولا: أن الحث على التصدق لم يرد في كل آيات الربا وحسبنا أن آية التحريم الصريحة هي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) لم يعقبها الحث على الصدقة.

ثانيا: أن الحث على التصدق الوارد عقب بعض الآيات ليس خاصا بالمدين دينا ربويا، بل يشمله ويشمل غيره، لورود الحث على الصدقة بصيغ عامة.

ثالثا: أن الغرض من الحث على الصدقة في بعض الآيات هو بيان الطريق السوي الأمثل الذي يجب أن يسلكه المرابي بدل طريق الربا المحرم، بل هو حث له ولغيره فلا علاقة للحث على الصدقة التي تكون للفقير المحتاج بحقيقة الربا المحرم.

رابعا: أنه على فرض دلالة الحث على الصدقة على أن الربا المحرم هو الذي يكون مع الفقير المحتاج فإنه لا طريق لذلك إلا الاقتران، ودلالة الاقتران دلالة غير معتبرة عند كثير من العلماء ومن يعتبرها فإنه يقرر أنها دلالة ضعيفة.

خامسا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر ربا عمه العباس رضي الله عنه ومن المعروف أن العباس كان يرابي مع التجار الأغنياء ولم يكن يرابى مع المحتاجين من الفقراء كما قررناه من قبل، وهذا يدل على أن الربا المحرم ليس قاصرا على المعاملة مع الفقراء المحتاجين، والرسول عليه الصلاة والسلام

(1) سورة البقرة الآية 275

ص: 152

مبين لما جاء في القرآن الكريم وكل ذلك يدل على بطلان هذه الخاصة.

سادسا: أن العرب كانوا تجارا وكانت تجارتهم تمتد إلى خارج بلادهم في الشام واليمن فما المانع لهم من التعامل بالربا في التجارة؟ ثم الذي يقول (إنما البيع مثل الربا) هم التجار أو الفقراء المحتاجون للصدقة؟ أليسوا هم التجار الذين يتعاملون بالربا ويقيسونه على البيع ويجعلونه نوعا من أنواع البيع كما يقول بعض كتاب هذا العصر؟ وما دخل الفقراء المحتاجين في جعل الربا مثل البيع وهم لا يزاولون بيعا ولا تجارة؟ ثم أليس في مقابلة الربا بالبيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ما يشعر بأن العرب كانت تتعامل في الربا للأغراض التجارية؟ إن ذلك كله يدل على أن تحريم الربا نزل في مجتمع كان فريق التجار فيه يتعاملون بالربا، وهو ربا استغلالي وليس ربا استهلاكيا، ومعنى هذا أن تحريم الربا يشمل الربا الاستهلاكي والاستغلالي ومن ثم تبطل شبهتهم ودعواهم في قصر الربا على الربا الاستهلاكي. ثم هل قامت المصارف أو تقوم بإقراض أهل الحاجة والفقر قروضا حسنة بدون فوائد؟ أو أنها سلبتهم البقية الباقية من أموالهم بدون إشفاق على ضعفهم أو رحمة بصغارهم أو مراعاة لحاجتهم وأحوالهم.

سابعا: أن قصر الربا القرآني المحرم على المعاملة مع الفقير المحتاج دون الغني القادر، أو بعبارة أخرى قصره على الربا الاستهلاكي دون الربا الاستغلالي لم يقل به أحد من المفسرين ولا أحد من الفقهاء، ولم يظهر منه شيء في تعريفاتهم للربا على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يظهر القول به إلا في هذا العصر على لسان من يدعي التحرر والاجتهاد ومن هؤلاء صاحب المقال. ولكنه بكل أسف على حساب الشريعة بإخضاعها لواقع الناس وأهوائهم، إننا لسنا ضد التجديد والاجتهاد بل

(1) سورة البقرة الآية 275

ص: 153

على العكس ندعو إلى فتح أبوابهما على مصاريعها ولكن في إطار نصوص الشريعة وقواعدها الكلية، وفي الحدود المرسومة للاجتهاد والاستنباط من الكتاب والسنة، ونخلص من ذلك كله إلى أن الاحتياج للصدقة ليس خاصية للربا المحرم ولا جزءا من حقيقته ولا وصفا لازما له، وإن الرأي القائل بأن الربا القرآني المحرم هو ربا الاستهلاك أي الربا الذي يأخذه الدائن من الفقير الذي يستهلك الدين في حاجته الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء دون ربا الاستغلال أي الربا الذي يأخذه الدائن من الغني الذي يقصد بدينه الاستثمار في التجارة أو الزراعة أو الصناعة، قول باطل لعدم استناده إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو لغة أو نظر سليم أو قول لأحد من الفقهاء، بل الأدلة قائمة على تحريم كل من ربا الاستهلاك وربا الاستغلال بما ذكرناه سابقا وبما سيأتي.

ونختم هذه النقطة بفتوى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر المحرم 1385 هـ (مايو 1965م) ونصها: والفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي (الاستغلالي)، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، والإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة والاقتراض بالربا كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه ضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقدير الضرورة. وقد جاء في بحث هيئة كبار علمائنا ما نصه (1): أما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا، ربا الفضل وربا النسيئة حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخير.

ب) يرى الكاتب أن الخاصة الثانية في الربا القرآني هي أن الدائن ينفرد

(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثامن، ص 41، 42

ص: 154

وحده بالمنفعة من الربا وهذه الخاصة غير متحققة في المعاملات المصرفية التي نحن بصددها؛ لأن الدائنين فيها وهم الملاك الصغار - نقصد الذين أودعوا أموالهم في البنوك ابتغاء الفائدة - ويمثلهم المصرف لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين، بل يشترك مع الكبار في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه. ويوضح الكاتب هذا المعنى فيقول في ص 6: لأن المدين وهو المالك الكبير مشترك في المنفعة مع الدائن وهو المالك الصغير وذلك باستثماره أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع. ونرد على هذا التوجيه بأن المنفعة التي جاءت عن طريق الكبار واشترك فيها الصغار منفعة غير مشروعة، إذ لا سند لها سوى ما ادعاه الكاتب من أنها تمت بموجب عقد تجاري رضائي، وهذه دعوى غير صحيحة إذ ما هو نوع العقد التجاري؟ إن كان بيعا فأين هو البائع؟ إن كان صغار المالكين فهؤلاء لا يعرفهم الآخذ من المصرف ولا يعرفونه، وإن كان المصرف فأين المبيع الذي وقع التعاقد عليه، وإن كان نوع العقد شركة، فتحديد المصرف نسبة معينة يبطل الشركة بإجماع الفقهاء، لماذا تكون هذه النسبة ضئيلة في الغالب؟ ثم إن كانت شركة فلماذا لا يتحمل المصرف الخسارة كما هو الشأن في سائر الشركات، وإن كان نوع المعاملة رهنا فأين العين المرهونة؟ لا شيء من ذلك كله، إذا فأين الحقيقة؟ إن النظر الفقهي السليم لا يمكن أن يكيف هذه المعاملة إلا بأنها قرض بفائدة، وهذا هو عين الربا.

ثم إن قول الكاتب إن المدين دائما يكون من كبار المالكين قول ينقضه الواقع، إذ إن كثيرا ممن يتعامل مع المصارف ليسوا من كبار المالكين، بل فيهم الموظف الذي يقترض بضمان مرتبه وغير الموظف الذي يقترض بضمان أحد القادرين، فهذا التعميم الذي ادعاه الكاتب غير صحيح

ص: 155

من ناحية الواقع العملي ويؤدي إلى أن تعامل المصرف مع هؤلاء غير جائز شرعا في نظر الكاتب؛ لأن هؤلاء محتاجون إلى الصدقة فيعود هذا التعميم على أصله بالنقض وهو مالا يرضاه الكاتب.

وقول الكاتب إن المالك الكبير يستثمر أموال الدين بما فيه مصلحة الجميع مغالطة مكشوفة، إذ أن المالك الكبير يستثمر أموال الدين لمصلحته فقط ويعطي المصرف الفائدة المتفق عليها فقط دون المشاركة في الربح، والقول بغير هذا مكابرة وإنكار لواقع المعاملة.

ج) ويذهب الكاتب إلى أن الخاصة الثالثة للربا المحرم هي مجرد تنمية لمال الدائن في أموال المدين من تجارة ينتفع بها الطرفان، وإن هذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية؛ لأنها تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ودعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها وينتفع بها الطرفان المعطي والآخذ، ثم قال والمعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ويؤيد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر فيها على أحد قول ابن قدامة: إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز، وإن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها وإنما يرد بمشروعيتها، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا.

ونرد على الكاتب بأن المعاملة المصرفية التي نحن بصددها ليست من التجارة ولا من قسم البيع لعدم سمات التجارة فيها، ولأنه لا يوجد بها مبيع يقع عليه عقد البيع وإنها لا تتم في المصرف على أنها بيع، بل على أنها قرض بفائدة محددة تدفع في كل عام، والتدليل على أنها تجارة بتعارف الناس عليها تعليل غير سليم؛ لأن الناس جميعا لم يتعارفوا عليها

ص: 156

ولو فرض تعارفهم فهو عرف فاسد لمخالفته نصوص الربا العامة والمطلقة، وكل عرف في مقابل النص فهو عرف فاسد لا يبنى عليه حكم، وكذلك التدليل بأن هذا النوع من المعاملة قد دعت إليه حاجة الناس أجمعين تعليل غير سليم؛ لأن الواقع الفعلي أن حاجة الناس جميعا لا تدعو إلى هذه المعاملة، بل إن هذه المعاملة المصرفية تشكل حرجا للناس في معاملاتهما وتضعف اقتصاد الأمم والشعوب كما قرر ذلك أساطين الاقتصاد في العالم. وكثير من الناس - والحمد لله - يزاولون نشاطهم التجاري بدون أي حاجة إلى هذا النوع من المعاملة، وقول ابن قدامة وابن تيمية وارد في المصالح التي سكت الشارع عليها، فلم يرد باعتبارها أو إلغائها نص من الشارع، كما صرحوا بذلك في كثير من المواضع وصرح به الأصوليون في كلامهم على حجية المصالح المرسلة.

وقول الكاتب إن الدائنين في المعاملات المصرفية هم من صغار المالكين لم يستغلوا المدينين الذين هم جميعهم هنا من كبار المالكين، بل قد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم: قول غير صحيح لأن جل المنفعة يستأثر بها المدينون الذين هم من كبار الأغنياء، وليس للدائنين وهم صغار المالكين إلا نسبة ضئيلة محدودة وقعت الاستدانة من المصرف على أساسها، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق.

د) ويرى الكاتب أن الخاصة الرابعة للربا القرآني تجعل صاحب الدين المرابي عند عجز المدين عن أداء الدين كالذي يتخبطه الشيطان من المس إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة؛ لأنه فقد رأس ماله فوق فقده لأرباحه الربوية. وهذه الخاصة ليست متحققة في المعاملة المصرفية لأن المتعاملين فيها من معط وآخذ جميعهم يشعرون بالأمان والاطمئنان وذلك لقيام

ص: 157

إدارة المصرف نيابة عنهم باتخاذ جميع الإجراءات والضمانات اللازمة لسلامة المعاملة على السواء لمصلحة الدائن والمدين.

والرد على ما ذكره الكاتب في هذه الخاصة: أن التصوير المقترح لمن يأكل الربا ليس تصويرا له عند عجز المدين عن الوفا أو عند تخوفه من عدم الوفاء، وإنما هو تصوير له عند قيامه من قبره كما تظافرت بذلك أقوال المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، ويؤيد ذلك التفسير قراءة ابن مسعود (لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان من المس). وإذا لم يكن هذا تصوير للدائن في الدنيا فإنه لا يصلح أن يكون خاصة له، لأن خاصة الشيء تكون لازمة للشيء، والشيء الذي لا يتحقق إلا في الآخرة لا يكون ملازما له في الدنيا لانفكاك الجهة على أن هذا التصوير البشع جزاء المرابي في الآخرة، أي أنه مترف بأكل الربا. وأثر الشيء لا يكون جزءا من حقيقته ولا وصفا له ولا ملازما له ملازمة عقلية لحصول الأثر عقب المؤثر، فانتفى أن يكون هذا الوصف خاصة للربا القرآني.

على أن كلام الكاتب يقصر التصوير على آكل الربا الذي عجز المدين فيه عن الوفاء أو تخوف الدائن من عدم الوفاء مع أن التصوير القرآني يشمل أيضا من سلم له رأس المال والربح، بل إن التصوير قاصر على من سلم له رأس المال والربح بدليل التعبير بيأكلون، ولا يوصف بذلك إلا من سلم له رأس المال والربح، وإذن فكيف يكون هذا التصوير خاصا بالدائن الذي عجز مدينه عن الوفاء. ثم يدلل الكاتب على انتفاء هذه الخاصة في المعاملة المصرفية بأنه لا يوجد فيها خوف من العجز عن الوفاء لقيام المصرف باتخاذ الإجراءات التي تمنع هذا الخوف. . . إلخ.

ص: 158

ما قاله من الأمن والسلامة في المعاملة المصرفية. نقول ردا على هذا: إن الأمن غير متحقق أيضا في المعاملة المصرفية رغم قيام المصرف بالمراقبة والإشراف، وذلك لحصول الإفلاس من المدين في كثير من الأحيان والواقع الفعلي يؤيد هذا كما ظهر أخيرا من معاملات المدينين مع مصارف القاهرة؛ حيث هربوا عن البلاد وضاع على المصارف ما دفعته إليهم، وكما حدث في سوق المناخ بالكويت، وإذن فالأمن منعدم في عملية المصرف كما هو منعدم في عملية المرابي.

هـ) ويرى الكاتب أن الخاصة الخامسة للربا القرآني هي أن الربا زيادة طارئة في الدين تفرض على المحتاج للصدقة وتشترط عليه بعد حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، وهي زيادة بعقد جديد مستقل عن العقد الأول ولا يقابلها في هذا العقد الجديد إلا تأجيل الاستيفاء من المدين من غير أي نفع مادي للمدين؛ لأن التأجيل لا ينتفع به المدين في طعامه أو تجارته على حين أن الزيادة في الربا للدائن كانت زيادة مالية وقد اقتصرت عليه فقط دون مقابل للمدين، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، ثم قال وهذه الخاصة منتفية في المعاملة المصرفية لأن الزيادة فيها تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية مع مدينين أغنياء من رجال الأعمال وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج، وذلك يجعلها ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة. ونقول في الرد على ذلك أن ادعاء الكاتب أن الزيادة في المعاملة المصرفية تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية قول ينقضه الواقع؛ لأن العملية المصرفية لا تحدد للدائن نوع نشاطه الاقتصادي ولا نوع التجارة التي يزاولها، وأقصى ما يقوم به المصرف هو التوثق من الدين وكل ما يهمه بعد ذلك هو الحصول على الفائدة المتفق عليها، والمدين بعد ذلك حر في نشاطه ولا يتبادل مع المصرف منفعة ما سوى الفائدة، أما ثمرة نشاط

ص: 159

المدين بعد الفائدة فكله له هذا إن ربح، أما إذا خسر فلا يتحمل المصرف شيئا من خسارته، وهذا أكبر دليل على أن العلاقة بين المصرف والمدين ليست علاقة تجارية، وإنما هي قرض بفائدة معينة يدفعها المدين في كل عام. على أنه إذا كانت العلة في تحريم الربا القرآني هي مقابلة الزيادة بالأجل فهذا المعنى متحقق في المعاملة المصرفية؛ لأن الزيادة فيها عن الدين في مقابل الأجل فأي فرق بين المعاملتين؟

أما ادعاء الكاتب أن الربا القرآني هو الزيادة الطارئة عند عجز المدين عن الوفاء في مقابل الأجل وذلك بعقد مستقل، فقد سبق إبطال هذا الادعاء وبينا أن الزيادة في ابتداء الدين في مقابل الأجل ربا صريح، والقول بغير هذا قول باطل لا أساس له.

وقد اختتم الكاتب مقارنته بين الربا الذي ورد تحريمه في القرآن وبين المعاملة المصرفية بقوله: يتضح لنا أن المعاملات المصرفية تختلف تماما عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن الكريم؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا؛ ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته بيع السلم رغم ما فيه من بيع غير موجود، وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها، إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، ولذلك فإنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه، وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج في معاشهم

ص: 160

لا مثيل له، بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم، بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام.

وردنا على ما انتهى إليه الكاتب في موضوع الأسباب الذي ألمحنا إليه يتلخص فيما يلي: أ) إنه قد سبق لنا عند مناقشة الأسباب ومقارنتها بيان أن ما ذكره الكاتب من أسباب للربا المحرم بعضه ليس من باب الأسباب، والبعض الآخر متحقق في المعاملة المصرفية وأنه لذلك تنطبق عليها حقيقة الربا المحرم، إذ هي قرض بفائدة محددة في مقابل الأجل وأن القول بغير هذا إما جهل أو مكابرة، ومن ثم فإنه لا يجوز النظر في إباحتها من خلال المصالح المدعاة إذ لا عبرة للمصلحة في مقابل النص.

ب) إن جواز المعاملة المصرفية قياسا على السلم لعلة الحاجة قياس غير سليم من وجهين: الأول: أن علة الحاجة غير متحققة في الفرع وهو المعاملة المصرفية، إذ حاجة الناس تتم دون هذه المعاملة ومن ثم لا حاجة إليها.

الثاني: إن السلم ثابت شرعا بالنصوص الصحيحة الصريحة من السنة المطهرة هذا مع العلم بأنه لو فتح باب إبطال النصوص بالمصالح والحاجات المدعاة؛ لكان في ذلك إبطال الشريعة وهدمها بأهواء الناس والعياذ بالله.

ج) إن حظر المعاملة المصرفية لا يوقع الناس ولا الدولة في حرج لا مثيل له كما يدعي الكاتب، ولا يقضي نهائيا على المصالح الاقتصادية لأن الناس عاشوا ويعيشون بدون هذه المعاملة المصرفية، وتتم مصالحهم المعيشية بدونها بل العكس هو الصحيح، فإن شيوع الربا عن طريق المصارف أو

ص: 161

غيرها أكبر ضربة توجه إلى اقتصاد الدول والشعوب كما صرح بذلك أساطين الاقتصاد كما أشرنا إلى ذلك آنفا.

د) إن القول بحضر هذه المعاملة ليس مبنيا على ارتياح النفس أو عدم ارتياحها، وإنما هو مبني على النص والإجماع المحرمين لهذه المعاملة التي لا تكييف لها إلا أنها قرض بفائدة محدودة مقابل الأجل، ومع ذلك فإننا نقول بالبديل عنها وهو نظام المضاربة (القراض) المجمع على جوازه شرعا، وهو ما تعامل به المسلمون في سائر العصور إذ لا يتحقق في هذه المعاملة الربا، ويتحمل فيها كل من صاحب المال والعامل نصيبه من الربح والخسارة ومن ثم ينتفي فيها الظلم عن كل منهما.

والخلاصة أن الكاتب لم يوفق في إضفاء الشرعية على معاملة المصارف التي تقرض المستغلين من أصحاب المصانع والمتاجر والعقارات ونحوهم بفائدة محدودة، وأن كل ما ذكره لإثبات هذه الشرعية إنما هي شبهات واهية لا يثبت بها ما يدعيه. ولم يزد على أن جاء بملخص لما سبقه إليه الدكتور معروف الدواليبي في مقاله الذي نشره باللغة الفرنسية عام 1371 هـ الموافق 1951م (1)، وقد اطلعت عليه في العام الماضي مكتوبا باللغة العربية. والذي نراه بديلا لهذه المعاملات الربوية هي المضاربة إذا التزم فيها أحكام الشرع التي قررها الفقهاء استنباطا من كتاب الله العزيز وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع فقهاء الأمة.

والله تعالى ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

محمد بن أحمد الصالح

(1) انظر تاريخ الفكر الاقتصادي ص57 للدكتور لبيب شقير.

ص: 162