الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول عنه هو أوسع كثيرا من ربا الجاهلية، وتارة يقول إنه يختلف عنه اختلافا بينا. ولا يخفى ما في ذلك من التضارب فالتباين غير العموم والشمول. ثم إن قوله عن الثاني هو أوسع بكثير عن الأول غير مسلم به، فهذا في بيع وهذا في دين أو قرض، وهذا أصل بذاته وذاك أصل بذاته. ومع ذلك فالكل حرم بنصوص إسلامية لا فرق بين هذا وذاك.
ونحب أن نعلق بكلمة أخيرة بمناسبة تركيز الكاتب على وصف بعض الأنواع بالجلي وبعضها بالخفي، والذي نحب أن يكون واضحا وجليا في ذهن القارئ أن مقصود من قال بذلك من العلماء لا يحمل على الإطلاق تفرقة في الحرمة أو في درجتها، فالربا الخفي لا يقل حرمة عن الربا الجلي، وليس كل خفي أقل ضررا وخطورة من الجلي.
3 -
الاتجاه الثالث: يقول عنه الكاتب هو الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية
الوارد في القرآن الكريم وحده، ويقول إنه على رأس هذا الاتجاه ابن عباس ويستدل بحديث «لا ربا إلا في النسيئة (1)» فأصحاب هذا الاتجاه لا يحرمون ربا الفضل بل فقط ربا النسيئة. ونقاشنا للكاتب يدور حول تلك النقاط. فمن جهة، هذا - إن صدق - فهم لبعض العلماء يعارضه فهم الغالبية. مع ملاحظة أن الكاتب في صدر حديثه يقول عن هذا التيار إن التيار المتشدد قد جرفه، بمعنى أنه لم يبق هناك إلا تيار واحد، ثم يعود فيقول إن ابن عباس ظل على موقفه هذا حتى الوفاة. وهنا مفارقة، والعجيب أن الكاتب يرجع في قوله هذا عن ابن عباس إلى غير مرجع فهو يرجع إلى مجلة " المسلمون " وهل تلك المجلة - مع
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).
احترامنا لها - تعد مصدرا لمثل تلك المعلومة الخطيرة؟ كنا نتوقع من الكاتب أن يتحقق لنا من ذلك وينقل لنا بأمانة ودقة ما قاله العلماء الثقاة في الحديث المذكور وفي موقف ابن عباس، لكن الكاتب لم يفعل ذلك ولا شيئا منه، وفي الغالب خشية أن يوصله ذلك إلى غير ما يريد الوصول إليه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهب جدلا أن ما قاله هنا صحيح فما وجه تدعيم ذلك لوجهة نظر الكاتب؟ ليس له وجه ولو خافتا، فهذا في مجال آخر ونحن في مجال آخر هناك التفاضل يدا بيد، وهو ما عبر عنه السبكي بـ " النقد " وهنا التأخير والتأجيل، فأين هذا من ذاك؟ ومن جهة أخرى فإن مما يدلنا على أن نسبة هذا الكلام لابن عباس وبقاءه عليه فيها الكثير من النظر، إنه من غير المتصور أن يبيع شخص ذهبا بذهب من نفس النوع والجودة حالا متفاضلا، هذا غير متصور، والمتصور إحدى اثنتين، إما أن أحدهما ردئ أو أن أحدهما مؤجلا حتى يكون للتفاضل وجه يتصور من خلاله، أما التأجيل فلا خلاف بين ابن عباس أو غيره في حرمته، وأما الرداءة والجودة فهي الصورة الوحيدة التي يمكن تصورها فيما لو ثبت ذلك عن ابن عباس. وعندئذ فهي خارجة عن مجالنا لأنها حالة من جهة ومغايرة صفة من جهة أخرى.
ثم خلص الكاتب من ذكر تلك الاتجاهات إلى ما أسماه حقيقة لا تحتاج إلى دليل وهي: ما ملخصه أن الربا المحرم هو الذي نزل فيه القرآن الكريم وهو ربا الجاهلية وخاصيته - كما يقول - هو الزيادة عند حلول الأجل نظير تمديد الأجل، وهو الربا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال:«ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب (1)» ، أما ربا الفضل فهو محرم أيضا، لكن تحريم وسائل وما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة. ثم أضاف إلى ذلك معلومة أخرى وهي أن الربا المحرم قطعيا هو الذي يتخذ صورة التضعيف. ثم ينقل سببا من أسباب نزول الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) مشيرا إلى أن الجاهلية كانوا يضاعفون الدين بمضاعفة الأجل. هذا ملخص للحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل. والغريب أن الكاتب ينقل بعض الفقرات ويترك بعضها، وكنا نود منه طالما أنه تعرض لهذه المسألة أن يعرض لنا أقوال العلماء والمفسرين في معنى هذه الآية وما وراء هذا القيد أضعافا مضاعفة ومدى تدخله في الحل والحرمة، وهل لو كان الربا غير مضاعف كان حلالا. وهل التضعيف يرجع للدين أم يرجع للربا كما هو واضح من الآية. وهل يخفى على القارئ نوعية الفائدة المصرفية وهل هي بسيطة أم مركبة؟ وهل يخفى عليه ما هنالك من ديون تضاعفت أضعاف أضعاف بفعل الفائدة المصرفية؟
إن هذا الوصف ما ذكر لتقييد الحرمة به بل هو لشناعة وبشاعة ما يؤول إليه التعامل الربوي من نتائج، لا لأن ما عدا تلك الصورة.
(1) صحيح البخاري الحج (1785)، صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن الترمذي الحج (856)، سنن النسائي مناسك الحج (2763)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 321)، موطأ مالك الحج (836)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
(2)
سورة آل عمران الآية 130
- بفرض حدوثها - غير محرم أو أقل حرمة، إن القطرة من الخمر لا تقل في حرمتها عن الدن منها. والأمثلة في ذلك كثيرة لا تحتاج إلى بيان.
ولا أدري ماذا وراء قول الكاتب في حقيقته هذه " وهو الربا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع "، وهل يفهم من ذلك أن هذا هو الحرام وما عداه من صور الربا فهي غير ذلك؟ وهل يعني وضع ربا الجاهلية أن ربا غير الجاهلية غير موضوع!!!
مع أنني لست من المختصين في الحديث ولا في أصول الفقه إلا أنه في حدود فهمي للحديث الشريف - وأرجو أن يصحح لي هذا الفهم أهل الاختصاص - أن آيات الربا نزلت متأخرة وإلى نزولها كان هناك آثار باقية من عمليات ربوية تمت في الجاهلية، فعندما نزلت آيات الربا ثم جاءت حجة الوداع في هذا الحشد الهائل من كل صوب وحدب بين الرسول الكريم أن كل الآثار المترتبة والمتبقية من ربا الجاهلية موضوعة بمعنى أنه لا حق لدائن قبل مدين إلا برأس المال فقط، ومن باب القدوة والأسوة بدأ بالديون التي لعمه العباس على الغير. ماذا في ذلك؟ وما علاقته بحرمة بقية أنواع الربا التي بينتها السنة، وبالطبع فإنها تلاشت في المجتمع الإسلامي ولم يعد لها بقاء أو أثر حتى يوضع، بل عولجت معالجة كاملة قاطعة في حينها. أما ربا الجاهلية فربما كان يظن أنه طالما تم ذلك في الجاهلية، فيكون من حق الدائنين الحصول عليها كاملة فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ربا الجاهلية موضوع.
وفي فقرته الثالثة تناول الكاتب ما أسماه بموقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف. ومن استعراضه غير المدون في ورقته لمجمل كلامهم تبين له:
1 -
أن الربا محرم تحريما قطعيا لا شك فيه.
2 -
أن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، أم ربا الفضل فقد حرم سدا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز للمصلحة.
3 -
أن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم وعدم استغلال الغني حاجة الفقير، وبعد أن يستعرض بعض كلام للشيخ رشيد رضا يضيف قائلا:" إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية، ولذلك تخضع المصارف لأحكام الشريعة على طريق القياس، فإذا كان الشبه كاملا من غير أي فرق بينهما وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضا قطعا أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريما قطعيا. وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب. . إلخ ".
ولا ندري ما هو سر تركيز الكاتب وترديده لعبارة محرم تحريما قطعيا لا شك فيه. وهل هناك محرم غير قطعي؟ وهل هناك شك في أي تحريم ثبت كونه حراما؟ ونحن نتفق معه في أن من جوانب حكمة تحريم الربا إزالة الظلم، لكن ما هو هذا الظلم؟ وهل هو ظلم طرف أطرف في العملية؟ وما هو الطرف الظالم والطرف المظلوم؟ أم أن كلا منهما ظالم ومظلوم؟ أم أنهما معا ظالمان لغيرهما من شتى أفراد المجتمع الحاضرين والمستقبلين؟ وماذا عن ترديده وإصراره على قوله أهل العلم وكبار رجال الفتوى؟ وهل من تحدث عنهم هم كبار رجال الفتوى؟ أم أنهم نفر من رجال الفتوى؟ يعارض رأيهم جمهور إن لم يكن سائر من عداهم.
وفي فقرته الرابعة يتناول الكاتب طبيعة أعمال المصارف. ويقول: إنه بعد دراسة مفهوم الربا في القرآن والسنة وموقف أهل العلم من المصارف ندرس طبيعة أعمال المصارف لنرى هل تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن تحريما قطعيا لا شك فيه أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف، وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد منه ويخلص إلى هذه النتيجة: إن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن على النحو التالي: أولا: لأن الدائن في المعاملات المصرفية هو دائما من المالكين لرأس المال غير أنه يملك سيولة صغيرة لا يستطيع استثماره، أما المدين فهو دائما من كبار المالكين لرأس المال غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى، أي أن الذي يحتاج للآخر في تلك المعاملة هم دائما الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس، ويترتب على ذلك أن هؤلاء المدينين لا تحل لهم الصدقة فيما لو طلبنا إلى هؤلاء أن يتوبوا ويتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء، عملا بقوله تعالى:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (1)، وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم؛ حيث إن المدين يحتاج للصدقة عكس المدين في المعاملات المصرفية. هذا ما قاله الأخ الكاتب تعمدت نقله نقلا شبه حرفي حتى تكون مناقشته حضوريا.
وأعتقد أن ما يريد أن يقوله الكاتب في هذه الفقرة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح، لكن ترد عليه الأمور التالية دائما ما يركز على أنه في تلك المعاملة الدائن دائما أقل غنى من المدين، لكن
(1) سورة البقرة الآية 280
كون ذلك دائما فهذا غير صحيح خاصة إذا ما علمنا حقيقة المصارف وأنها في غالبيتها شركات مساهمة قد لا تكون ملكية الفرد فيها ذات شأن، بالإضافة إلى أن هناك من أصحاب الإيداعات من هم من أصحاب الملايين بل والبلايين. (2) حسنا أن صرح الكاتب بأن العلاقة المصرفية هي علاقة دائنية ومديونية أي أننا في مجال " الدين " وحيث إن الدين إما من بيع أو إجارة أو قرض إلخ، وحيث إن المصرف لم يشتر ولم يستأجر شيئا من الدائن فيبقى أن يكون مصدر الدين هو القرض، وعلى أية حال فنحن في مجال الدين، وقد أجمع العلماء على أن الزيادة المشترطة في عقد الدين هي من الربا القطعي التحريم " بتعبير الكاتب " لأنها صورة من صور ربا الجاهلية. (3) علينا أن نلاحظ أن المدين إذا أعسر فقد صار مركزه المالي سيئا جدا، بحيث لم يعد يستطيع سداد ما عليه بغض النظر عما كان عليه في الماضي، وفي تلك الحالة تجوز عليه الصدقة من الدائن أو غيره، وهب أن مصرفا قد أفلس وهب أن أعماله مشروعة فما المانع في تلك الحالة من التصدق على مالكيه. (4) يضاف إلى ذلك أنه كما هو معروف في العقود، فإن لكل عقد أركانه وطالما استوفى العقد تلك الأركان دخل في نطاق العنوان المتعارف عليه، فهناك دائن وهناك مدين وهناك دين إذن عقد الدين استكمل مقدماته، ولا أثر بعد ذلك فيما لو كان الدائن أغنى أو أقل غنى من المدين، وهكذا نصل إلى أنه ليس كل مدين محتاجا للصدقة، وكل مدين معسر يحتاج إلى ذلك، مصرفا كان أو غيره.
ثانيا: لأن الدائن في المعاملة المصرفية لا يختص وحده بالمنفعة دون المدين عكس ما حذر منه القرآن الكريم، كما أنه لا يستغل محتاجا للصدقة، بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه.
ومبدئيا نقول إن هذا الكلام كله بفرض التسليم بصحته لا أثر له في الحكم على الإطلاق، بل المعول عليه هو وقوع زيادة مشترطة منصوص عليها في دين. وهذا قائم وموجود هنا ثم إن عملية التراضي هي الأخرى لا أثر لها في حل أو حرمة، فكم من عقد تم بتراضي طرفيه ولكنه حرام ومحظور وفاسد وباطل مثل الكثير من البيوع وغيرها. وكون المنفعة مشتركة هي الأخرى لا أثر لها، فكم من عقود نجد منفعتها مشتركة لكنها محرمة مثل الزنا والكثير من البيوع والإجارات إلخ، كما أن قوله لا استغلال فيه غير مسلم به فالاستغلال قائم وموجود حتى ولو كان من قبل المدين. إن عملية الظلم مرفوضة من دائن أو مدين، من غني لفقير أو من فقير لغني. ولقد اعترف الخبراء باستغلالية المصرف لكل من الطرفين، المودع " الدائن " والمقترض " المدين ". ووصف الكاتب العقد بكونه تجاريا قاصدا بذلك أننا في عمليات بيع وتجارة وليس في عمليات إقراض اقتراض كما هو الحال في الربا في القرآن الكريم. لكن يرد عليه بأنه بنفسه اعترف أكثر من مرة بأننا هنا أمام دين ودائن ومدين، بل لقد صرح أكثر من مرة بالقرض، يضاف إلى ذلك أن كون المصرف أو حتى الطرفين قد حولا القرض إلى صورة تجارة، وهذا هو الواقع فنحن نعلم أن المصرف يعرف بأنه تاجر ائتمان أي أن يتاجر في عمليات الإقراض والاقتراض، وبالطبع فإن عملية التجارة هذه لا تخرج الأمر عن طابعه وطبيعته وهو " القرض " وعلينا أن ندرك أن ربا الجاهلية في الكثير من صوره كان لأغراض تجارية.
ثالثا: كرر الكاتب هنا ما قاله في " ثانيا " ومن ثم فلن نعيد الرد عليه اللهم إلا تركيزه على قصد الاتجار هنا وليس القرض لحاجة وأن ذلك من قسم البيع. ونقول للأخ الكريم طالما أنه يصر على ترديد ذلك وكأنه
عنصر جديد ومؤثر في العملية. من تعنى بمن يقصد الاتجار من طرفي العقد إن كان المدين فهذا لا أثر له. ومن الذي قال إن القرض كان في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو في أي عصر أو في عصرنا هذا إنما يكون بقصد الاستهلاك فحسب من قبل المدين أو المقترض؟ وإن كان الكامن لذلك هو الدائن " المقرض " بأن يستخدم إقراضه أو دائنيته لغيره لإدرار العوائد والفوائد متخذا من ذلك نشاطا تجاريا، فيقول الإسلام له إن ذلك منك حرام مهما كانت نوعية المقترض أو المدين، وإذا أردت توظيف مالك توظيفا اقتصاديا فالباب أمامك مفتوح على مصراعيه للولوج منه، أما أن تترك الباب المشروع لتوظيف الأموال؛ شركة، مضاربة، إلخ بقوانينها وضوابطها ثم تلج من باب القرض ذي الطبيعة الخاصة والقانون المميز مستخدما له استخدام مجال التوظيف الاقتصادي فهذا هو الحرام بعينه. وهذا فإن قصد الاتجار لا يحيل الحرام حلالا طالما نستخدم نفس الأدوات التي لا يجوز أن تستخدم في الاتجار، وإلا فما أيسر أن تقتصر التجارة في أعمال كثيرة محظورة، فهل يحيلها هذا القصد المجرد إلى حلال مباح؟؟ إننا نرى اليوم عشرات الأعمال المحظورة والمحرمة أصبحت محلا للتجارة بل وللصناعة - وكلاهما نشاط اقتصادي مشروع - مثل التجارة في الفوائد الدائنة والمدينة " الأعماق المصرفية "، الزنا وأعمال العهر، المخدرات، الملاهي والقمار. . إلخ وادعاء الكاتب بعدم وجود ضرر في تلك المعاملة غير صحيح، فماذا عن المجتمع، وماذا عن المديونية التي تجثم على صدر العديد من الدول الإسلامية ومعظمها مصدره الافتراض بفائدة؟ وماذا عن الآثار الضارة للفائدة على الإنتاج وهيكله ومستواه، والتوزيع والعمالة، والاستقرار الاقتصادي مما هو مدون في أمهات كتب الاقتصاد الوضعي؟؟ أليست هذه كلها أضرارا!!!
رابعا: في هذه الفقرة أضاف بعدا جديدا هو الشعور بالأمان والاطمئنان في المعاملة المصرفية لكل من الدائن والمدين، لكن ذلك مفتقر في الربا الذي حذر منه القرآن الكريم؛ حيث لا ضمان لأموال المرابين لدى العاجزين عن الوفاء.
سبحان الله!! وهل يتباكى الكاتب على أحوال المرابين وسوء أوضاعهم، وكأنه يطالب لهم بأمان أكبر. وهل نسي الضمانات المأخوذة هنا وهناك؟ وهل أمان المصرف على أمواله ميزة تميزه عن المرابي القديم ومن ثم تجعل عمله حلالا؟ ثم ما هذا الخلط؟ الكاتب تكاد تقوم ورقته كلها على موضوع " الإيداع " وحديثه هنا لا يتصور انصرافه إلا إلى إقراض البنك للعملاء، فأين الأمان الذي تتحدث عنه للبنك؟ أم أنه يتحدث عن ضمان وحماية مال صغار المالكين " الدائنين للبنك " بينما لم يكن ذلك موجودا في الدائن المرابي في الماضي؟ ما هذا؟
خامسا: في هذه الفقرة يكرر ما سبق قوله في أن الزيادة في الأعمال المصرفية إنما تشترط في أصل عقد الدين لأغراض تجارية من مدينين أغنياء من رجال الأعمال، وليست طارئة عند حلول الأجل مع المدين المحتاج للصدقة، وذلك ما يجعلها في الأصل ذات صفة تجارية في المعاملات المصرفية أي في مقابل منافع متبادلة، وهذه الزيادة تختلف تماما عن الزيادة التي أشار إليها القرآن الكريم، والتي اعتبرها محرمة لأنها لا تشترط إلا على رجل محتاج للصدقة. ومبدأ حلول أجل الدين وعجز المدين عن الوفاء، هذه عبارة كررت كثيرا ورددنا عليها في أكثر من مكان، ومضمونها في النهاية خاطئ ولا يعتبر تمييزا بين الربا المحرم وبين تلك الأعمال من قريب أو بعيد.
سادسا: ذكر الكاتب في هذه الفقرة عبارة غريبة عجيبة ننقلها بنصها
لتكون شاهدا حاضرا أمام عين القارئ. يقول الأخ الكاتب: " الفائدة جزء من ربح المضاربة، فنحن نعرف أن البنك يقدم قرضين، قرض استهلاكي وقرض إنتاجي. وقرض الإنتاج ما هو إلا أخذ مبلغ من المال من البنك للاستثمار والنماء عن طريق النشاط التجاري أو الصناعي أو كليهما معا، ويلتقي هذا التصرف مع نظير له في المعاملات الإسلامية أقره الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرف باسم المضاربة أو القرض، وقوامه المال من شخص والعمل لاستثمار هذا المال من شخص آخر بجزء مسمى على جهة الشيوع من الربح، وبناء عليه فالفائدة التي تؤخذ على القرض الإنتاجي يمكن احتسابها جزءا من ربح المضاربة المشروعة " ثم أخذ في تعريف المضاربة وبيان حكمها ورأي بعض العلماء المناصرين فيها.
نلاحظ أن حديث الكاتب ينصرف أساسا بل كلية إلى مديونية البنك وليس إلى دائنيه، لكنه هنا يتحدث عن دائنية البنك وهذا خلط واضح، ويدعى أن الفائدة جزء من ربح المضاربة. أية مضاربة؟ وأية فائدة؟ لا نجد إجابة. ثم يقول الأخ الكاتب بجرأة غريبة إن ما يقدمه البنك من قروض إنتاجية نظير ما هو معروف بالمضاربة، ويخلص من ذلك إلى إمكانية احتساب الفائدة على القرض الإنتاجي جزءا من ربح المضاربة المشروعة. إذن من المؤكد أنه الآن بصدد الحديث عن الفائدة الدائنة التي هي للبنك على ما يقدمه من قروض.
يضاف إلى ذلك أن الكاتب يصرح بإباحتها على أساس أنها نظير شيء جائز ومعروف في الإسلام. ومن يمعن النظر في كلام الكاتب يجده يناقض بعضه بعضا، فطوال ما مضى من حديث له كان يبنيه على أساس أن المعاملة المصرفية مغايرة للربا؛ حيث المدين فيها وهو البنك أغنى بكثير من الدائنين عكس ما هو كائن في الربا. لكن ما نراه الآن يقلب الكلام
رأسا على عقب فها هو المصرف أصبح دائنا والمقترضون أقل غنى منه بكثير طبقا لكلام الكاتب، أي أنه في تلك الحالة ينطبق عليه تماما ما يتصوره الكاتب في ربا الجاهلية فكيف جوز تلك المعاملة؟ ونلاحظ أيضا أنه يعترف صراحة هنا بكونها عملية قرض، والمتفق عليه أن أي زيادة مشترطة في القرض ربا. ثم إنه يمتلك من الجرأة ما تجعله يقول إن القرض نظير المضاربة وما دامت جائزة فيجوز نظيرها. من الذي قال إن القرض نظير المضاربة؟ وفي تناوله للمضاربة بحيث يؤكد على هذا التشابه والتناظر، كما يقول ذكر آراء بعض المعاصرين الذين يرى الكاتب رأيهم. ونلاحظ أن من تكلم في المضاربة من المعاصرين من أمثال الشيخ خلاف رحمه الله إنما ناقش مسألة اشتراط كون الربح نسبة وليس مبلغا محددا، وذهب إلى أن هذا الشرط لا يجب التقيد به لأنه من كلام الفقهاء وليس من القرآن ولا من السنة. ونحن هنا لا نناقش الشيخ خلاف فيما ذهب إليه لسبب بسيط هو أن مجال حديثه غير مجالنا، فنحن نتكلم عن معاملة مصرفية اعترف الكاتب بأنها قرض وهو يتكلم عن المضاربة وشتان بين هذا وذاك. وهب أن كلام الشيخ خلاف له وجه - مع عدم التسليم به - فإن ذلك لا يخدم وجهة نظر الكاتب لا من قريب ولا من بعيد، وذلك لأن القرض عقد ينقل الملكية نقلا كاملا للمقترض بتسلمه للقرض فيصبح القرض ملكا ومالا للمقترض يتصرف فيه كيف يشاء وهو ملتزم برد مثله للمقرض مهما كانت الظروف (1).
بينما المضاربة عقد شركة لا ينقل ملكية المال بل يظل مملوكا لصاحبه وكل ما للمضارب فيه هو العمل عليه؛ ولذلك لو تلف أو فقد أو خسر بلا إهمال أو تعد من المضارب، فإن ذلك كله يحسب على صاحبه عكس
(1) انظر في ذلك: الكاساني: " بدائع الصنائع " ج8 ص3596 نشر زكريا يوسف.
القرض، إذن الطبيعة مختلفة والأركان مختلفة والمقاصد مختلفة. يضاف إلى ذلك أن من تكلم من المعاصرين في المضاربة إنما تكلم فحسب في مسألة الربح وليس في مسألة الضمان ونقل الملكية، فالكل متفق على بقاء المال على ملك صاحبه.
تبقى لنا كلمة هنا، لقد نقل الكاتب عن الشيخ خلاف قوله:" واشتراط الفقهاء لصحة العقد ألا يكون لأحدهما من الربح نصيب معين اشتراط لا دليل عليه، وكما يصح أن يكون بالنسبة يصح أن يكون حظا معينا ولا يدخل في ربا الفضل ولا في ربا النسيئة؛ لأنه نوع من المضاربة وهذا الاشتراط مخالف لأقوال الفقهاء ولكنه غير مخالف نصا في القرآن الكريم أو السنة "، والتعليق هنا يقتصر فقط على الجزء الأخير من تلك العبارة. إن كل من له اطلاع على كتب الفقه على اختلاف مذاهبها يجد الإجماع على هذا الشرط " نسبية الربح "؛ إذن هناك إجماع فقهي ليس على مستوى مذهب أو مذهبين بل على مستوى المذاهب الأربعة، بل على مستوى الفقه الإسلامي بما فيه من المذهب الظاهري والزيدي والشيعي. . إلخ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقال إن تحديد مقدار معين من الربح يخالف أقوال الفقهاء ولكنه لا يخالف نصا من قرآن أو سنة؟ لو صح هذا لوقعنا في مأزق حرج، فلو كان القائل بهذا الشرط فقيه أو مذهب أو مذهبان مع مخالفة غيرهما لأمكن مخالفته، لكن أن يكون القائل هم كل علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم فيخالف هذا القول الإجماعي، ثم يقال إنه كلام فقهاء وليس كلام الله ولا كلام الرسول! وكيف أجمع هؤلاء العلماء على ذلك؟ وما مستندهم إن لم يكن كتاب الله وسنة رسوله؟ إن مثل هذا القول فيه تشكيك رهيب في الفقه الإسلامي بل وفي الشريعة نفسها! هذه كلمة خطيرة - سامح
الله شيخنا الفاضل فيها - ونحن نجزم بأنها لو صحت عنه فإنه لم يكن على دراية كاملة بمدلولها ومفهومها وما يترتب عليها.
ثم ينقل الكاتب عما أسماه بالأستاذ وفيق القصار كلاما في فائدة القرض لا يخرج قيد أنملة عما سبق، وردده رجال الكنيسة في العصور الوسطى تبريرا للفائدة وما يستمر في ترديده الآن رجال الفكر الغربيون. هذا عن الفقرة الرابعة التي تحدث فيها الكاتب عن طبيعة الأعمال المصرفية ومدى مخالفتها للأعمال الربوية كما ذهب الكاتب، وبعد تلك المناقشة هل هناك خلاف حقيقي بينهما فعلا أم أنه خلاف متخيل متوهم؟
الفقرة الخامسة: بعد ذلك يذكر الكاتب خلاصة لبحثه لا يزيد فيها عما سبق أن كرره كثيرا وما سبق أن رددنا عليه. ولكنا نحب أن نلفت نظر الأخ الكاتب هنا إلى نقطة صغيرة هي أن الأعمال المصرفية " الإيداع " باتفاق رجال الاقتصاد والقانون في الغرب هي من باب القرض وإن تسميت بوديعة أو بغيرها من التسميات. حتى إن تعريفهم للفائدة ينص صراحة على أنها ثمن استعمال النقود المقترضة. إذن كيف يتضح الخلاف والاختلاف؟!! والعجيب أنه يقول ما نصه: " لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن الكريم بشأن حرمة الربا) سبحان الله! وهل مجرد كونها جديدة يجعلها تختلف عن القديم، وهل كل جديد يخالف القديم؟ والأكثر فزعا قوله طالما هي جديدة فلا تخضع في حكمها للنصوص القطعية القرآنية. وكأن القرآن الكريم إنما جاء للمعاملات القديمة التي كانت في الجاهلية وإبان نزوله فحسب، ثم ما يجد من معاملات يبحث له عن مصدر آخر للتعرف على حكمه. مع أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن كل ما في القرآن والسنة هي نصوص خالدة وليست
تاريخية وتطبق على كل ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث إلى قيام الساعة، ثم يواصل في خلاصته قائلا: " إن علينا في ضوء ذلك أن ننظر لها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته للسلم رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه) لقد نسي الكاتب أن النصوص الإسلامية كفتنا مؤنة النظر هنا الذي يطالب به الأخ فنصت على حرمة الربا والذي من صوره الأساسية الدين بزيادة مشترطة.
والعمل المصرفي من صميمه. والعجيب أن يقول اقتداء برسول الله في إباحته السلم. وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد نصا أو وجد نصا محرما للسلم ولكن مصالح العباد اقتضت أن ينظر في الأمر فيبيحه. وهل يجهل الكاتب أن الرسول الكريم مشرع في الأول والأخير؟ وكل ما يقوله هو نصوص شرعية واجبة النفاذ؟ وهل هناك نص صريح يفيد حرمة السلم؟ وبفرض وجود ذلك فهل إذا جاء الرسول الكريم وقال نصا مغايرا هل يعتبر الحكم الثاني مصدره العمل بالمصلحة أم بالنص الإسلامي؟ ومن قال من العلماء إن السلم يدخل في باب بيع ما يسمى عندك هم فئة من العلماء وليس كل العلماء، وهناك منهم من أكد على غير ذلك (ابن تيمية وغيره) حيث ذهبوا إلى أن السلم أصل بذاته وليس هو رخصة أو مستثنى من محرم للحاجة، ثم يواصل الكاتب قائلا:" والمصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها " أما أن المصارف من حيث المبدأ حاجة اقتصادية عصرية فنعم، لكن ذلك لا يؤدي إلى اعتبار كل عمل تقوم به في حد ذاته حاجة من حاجات الناس. وإلا فيمكن القول أيضا وبنفس القوة إن الربا كان حاجة من حاجات المجتمع الجاهلي، وكان يمثل مصدرا أساسيا
من مصادر تمويل التجارة ذات الأهمية القصوى في حياتهم واقتصادهم، بل ولشدة تمسكهم به وحاجتهم إليه شبهوه بالبيع بل شبهوا البيع بقولهم:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1). فهل أبيح للحاجة والمصلحة؟
بل الصواب أن يقال إن المصارف كمؤسسات تمويلية حاجة هامة، وعلينا نحن المسلمين أن نتعرف على الأعمال التي تؤديها خدمة للمجتمع بما لا يخالف الشريعة وقواعدها وأحكامها، والحمد لله هناك عمل كبير قد تم في هذا الشأن على المستوى النظري وعلى المستوى التطبيقي، وبفرض أن في هذا العمل بعض الثغرات فإن الجهد المطلوب ليس هو نقص ما تم، بل تطويره وتحسينه بحيث يقدم الخدمة المطلوبة على أحسن وجه. ونحن نخالف الكاتب تمام المخالفة من الناحية الاقتصادية فوق مخالفتنا له من الناحية الشرعية، وذلك في ادعائه بأن تحريم المعاملات المصرفية " الإقراض والاقتراض " يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية. . إلخ ما يقول. فالحقيقة الدافعة أن تلك الأعمال بوضعها الراهن هي إحدى الأدوات الفتاكة التي تحقق ما تخوف منه الكاتب. والتبعية النقدية والمصرفية والسيطرة الغربية على أجهزة المصارف والنقد في العالم والمديونية الهائلة التي تتضاعف عاما بعد عام على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي كلها أمور أوضح من أن تناقش هنا، وكذلك الآثار الاقتصادية المدمرة لسعر الفائدة على الإنتاج والاستثمار والتوزيع والاستقرار الاقتصادي، ومن ثم على تقدم المجتمعات وتحقيق الرخاء الحقيقي لكل أفرادها كل ذلك معروف ومدون في كتب الاقتصاد الوضعي، فكيف يجيء كاتب مسلم ويقول إنه بلا الفائدة لن تكون قوة اقتصادية، وبلا قوة اقتصادية لن تكون قوة إسلامية. وهكذا يوصلنا إلى
(1) سورة البقرة الآية 275
مقولة من أغرب ما قيل وهي: إن الإسلام والمسلمين والدولة الإسلامية كل ذلك رهين وجود الفائدة. وفي نظري أن الأكثر جدوى من إبداء مثالب نظام الفائدة هو تقديم لمحة عن البديل الإسلامي.
وهل البديل الإسلامي عاجز عن إشباع تلك الحاجة وتحقيق هذه المصلحة على وجه أكمل من هذا الأسلوب المحرم؟ للإجابة على ذلك نعرض في كلمة لهذا البديل ثم لنرى إلى أي مدى يحقق المصلحة لكافة الأطراف.
إن البديل المتعارف عليه حاليا والمتفق عليه بين علماء المسلمين يتمثل في نظام ينحي الفائدة جانبا بكل صورها ويحل محلها أداتين، القرض الحسن " بلا فوائد " والمضاربة.
فهل هذا البديل يحقق المصلحة التي يتشدق بها أنصار النظام الربوي أم لا؟
إن الحاجة أو المصلحة برغم تداخلها وترابطها إلا أنه يمكن تحليلها إلى أربع: (1) حاجة صاحب المال. (2) حاجة صاحب المشروع. (3) حاجة الوسيط المالي " المصرف ". (4) حاجة المجتمع.
أولا: حاجة صاحب المال. وقبل أن نناقش تلك الحاجة يهمنا أن نشير إلي أن أنصار النظام الربوي عادة، بل غالبا ما يركزون على تلك الحاجة في مناقشاتهم مدعين أن تلك الحاجة إنما تتحقق على الوجه الأكمل في النظام الوضعي عكس النظام الإسلامي. وبمنطق علمي هادئ نناقش تلك المقولة.
إن حاجة صاحب المال تتمثل في توظيف ماله بما يحقق له عائدا مجزيا مع توفير أكبر قدر ممكن من الأمن على ماله، وقد تتمثل في المحافظة
على ماله والسحب منه عندما يحتاج.
أما عن توظيف ماله فإن نظام المضاربة يحقق له ذلك من خلال ما يقدمه له من حصة في الأرباح كبرت هذه الحصة أو قلت، كما أن الفائدة ترتفع وتهبط. وبرغم ذلك فعادة ما تثار الغيوم والشكوك. ومن ذلك أن الفائدة مضمونة ومعروفة سلفا وفي ذلك إغراء وتشجيع وأمن كبير.
والجواب عن ذلك متعدد الأبعاد لكنا نكتفي بأنه ليس كل مغر معترفا به شرعا سواء في المعاملات المالية أو في غيرها فالإغراء على العمل في حد ذاته ليس هو المعول عليه في التحليل أو التحريم. ولقد حفت النار بالشهوات وإغراء الشهوة في كل مجال معروف. كذلك قد يقال إن المال نفسه مضمون هناك ومعرض للمخاطر هنا.
والجواب عن ذلك يتمثل في: (1) المال في المصرف الوضعي غير مضمون ضمانا كاملا من الناحية الحقيقية الاقتصادية، بل هو مجرد ضمان شكلي قانوني ويكفي أن تعرف نسبة رأسمال المصرف إلى ودائعه إنها عادة لا تصل إلى 1: 5 فأي ضمان هذا؟ (2) إن المصرف هو المصرف فكيف يمنح الثقة الكاملة في حالة الفائدة وتسلب منه هذه الثقة في حالة المضاربة؟ (3) وهل هناك ما يمنع من وجود دراسات وسياسات للاستثمار وضوابط للمشروعات التي يمارسها المصرف على غرار " عدم السير في بطن الوادي وعدم الاتجار في حيوان وعدم ركوب البحر "؟ (4) وهل إذا وظف الشخص ماله في مشروع خاص أو شركة هل يضمن رأسها له وأرباحه مائة في المائة؟ (5) وهب جدلا أن بعض المصارف لم يكن على المستوى المطلوب من حيث الكفاية والأمانة ترى هل يظل قائما في السوق؟ أم سينصرف عنه المتعاملون مما يدفعه دفعا
إلى بذل كل جهد حرصا على النجاح والاستمرار؟ (6) وهل هناك ما يمنع من رقابة وإشراف الحكومة وقيامها بوضع الضوابط الكفيلة بمنع أي تلاعب أو انحراف؟ وقد يقال إن عودة المال إلى صاحبه عندما يحتاجه متيسرة في ظل نظام الفائدة وغير متيسرة في ظل نظام المضاربة. والجواب: أما أنها متيسرة هناك بلا قيد ولا شرط فهذا غير صحيح، فالودائع الاستثمارية عادة محددة الفترات، وأما أنه غير متيسر هنا فهو الآخر إلى حد كبير غير صحيح إذ من الممكن في الكثير من الحالات سحب المال أو جزء منه. وعلينا أن نعلم أن التجارة والصناعة وغيرها من جوانب النشاط الاقتصادي تحتاج إلى الزمن، ويجب أن نحترم هذا العنصر، وإلا ما تم مشروع واعتقد أن ذلك مصلوب اقتصاديا، وهب أن الشخص يعمل لحسابه، فهل من السهولة بمكان أن يقض مشروعه ويحصل على أمواله نقدا عندما يريد؟ أظن أن الإجابة على ذلك من الناحية الاقتصادية معروفة ولا تحتاج إلى تعليق.
أما عن حاجة صاحب المال المتمثلة في مجرد المحافظة على ماله والسحب منه عند ما يريد على غرار ما هو معروف بالوديعة الجارية. فهل البديل الإسلامي يعجز عن ذلك؟ إن الفقه الإسلامي قد خصص من أبوابه بابا أسماه بالوديعة، وقدم لها من الأحكام والضوابط ما يجعلها تنهض نهوضا كاملا بتلبية مصلحة رب المال. وليس هنا مجال مناقشة ذلك لكنا نشير إلى مجرد جزئية فيها لأهميتها. وهي أن الأصل أن يحتفظ المستودع " المصرف " بالوديعة دون التصرف فيها لكن طالما أن الوديعة تأخذ الشكل النقدي والنقد غير متعين عند الكثير من العلماء إلا في حالات معينة، وطالما أن من حق المستودع أن يتصرف في الوديعة بإذن، وطالما أن من حقهما " الطرفين " أن يحولا الوديعة إلى قرض يصبح
مالكا له المستودع " المقترض " ويتصرف فيه كما يشاء وله الغنم وعليه الغرم طالما أن ذلك كله متاح في الإسلام. فهل بعد ذلك يعجز البديل الإسلامي عن تلبية مصلحة صاحب المال في حفظ ماله والسحب منه عندما يحتاج؟ مع ملاحظة أن المودع للوديعة الجارية في النظام الربوي لا يحصل عادة على فوائد، بل كثيرا ما يدفع مصاريف وهو هنا أيضا لا يحصل على عوائد، بل ربما يدفع أجرة الحفظ والصيانة اللهم إلا إذا صرح له بالتصرف فيها متحملا الغرم مستفيدا بالغنم، فعند ذلك تتحول الوديعة إلى قرض لا يحصل المودع على شيء منه ولا يدفع مصروفا له. هذا عن حاجة صاحب المال ومصلحته فهل عجز البديل الإسلامي عن تحقيقها؟
ثانيا: حاجة صاحب المشروع. إن صاحب المشروع يحتاج إلي تأمين التمويل الكافي لإقامة مشروعه ولاستمراريته. ومن الحقائق المدونة في دنيا الاقتصاد أن حصول صاحب المشروع على خدمات عناصر الإنتاج المختلفة والتي منها خدمة رأس المال لا يتم مجانا وبلا مقابل عادة، بل لا بد من دفع المقابل أو الثمن. هذا معروف في الاقتصاد الوضعي ولا يعرف غيره. فهل البديل الإسلامي يحقق ذلك فقط؟ أم لمحققه وزيادة؟ أم لا يحققه؟ بالتحري والتدقيق نجد البديل الإسلامي يحقق ذلك وزيادة. فأمام صاحب المشروع أن يذهب للمصرف ويتفاهم معه حول تمويل مشروعه بعد دراسته دراسة جيدة والاطمئنان على سلامته من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الشرعية. وأمامهما عند ذلك أكثر من وسيلة لإنجاز هذا المطلوب من بينها دفع التمويل على سبيل المضاربة أي بحصته فيما يتحقق من أرباح. وهنا نجد أن حاجة صاحب المشروع قد لبيت فقد حصل على التمويل اللازم، وكل ما عليه أن يتنازل عن حصته
من الربح للمصرف إذا تحقق ربح. كما أنه يمكنه الحصول على قرض حسن من المصرف " الودائع الجارية " وعندئذ يلتزم التزاما قانونيا برده وفي نظير ذلك له كل ما يتحقق من ربح. وإذن فمن الممكن إجراء ترتيب بمقتضاه يمكن منح صاحب المشروع حاجته أو بعضها من التمويل دون دفع ثمن. وهذه الصورة غير موجودة على الإطلاق في النظام الربوي. وهنا قد تثار بعض الشكوك والغيوم، والتي منها أن صاحب المشروع قد يتعرض للتدخلات الكثيرة والمعوقة من المصرف في أعماله وهذا ما لا يرغبه عكس نظام الفائدة. والجواب عن ذلك إن هذه العملية نظرا لأهميتها وموضوعيتها قد احترمها الإسلام، ووضع من الأحكام والضوابط ما يجعل هذا التدخل في أدنى الحدود بالقدر الذي يعتبر في حقيقته من مصلحة صاحب المشروع أما ما عدا ذلك فلا تدخل من المصرف، وأحكام المضاربة تنص بوضوح وتفصيل على ذلك. وفي ضوء ذلك فمن مصلحة صاحب المشروع التعامل بنظام المضاربة بدلا من نظام الفائدة. ذات العبء الثابت والمال المضمون الذي لا بد له من إرجاعه بغض النظر عما قد يحدث للمشروع مع عدم الإهمال.
أما في نظام المضاربة فليس هناك عبء ثابت وليس هناك التزام قانوني برد المال إلا عند الإهمال أو التعدي كما أن هناك دراسة مشتركة لجدوى المشروع مما يخفف من العبء على صاحب المشروع.
ثالثا: حاجة الوسيط المالي "المصرف". سوف نسلم بأن عملية الوساطة المالية أو عملية الصرافة عملية مباحة ومتاحة أمام من يرغب في ذلك من الأفراد فكما أن من حق الأفراد أن يقيموا شركات تجارية أو زراعية أو صناعية الخ فمن حقهم أن يقيموا مؤسسات أو شركات تمارس عمليات الوساطة أو بمعنى آخر عمليات الربط بين أصحاب الأموال
وأصحاب المشروعات. فهل البديل الإسلامي يعجز عن تلبية مصلحة هؤلاء؟ إن مصلحتهم تتمثل في وجود إقبال من أصحاب الأموال عليهم وبالمثل من أصحاب المشروعات. وفي الوقت نفسه الحصول على عائد مجزي من جراء تلك العملية أو ممارسة هذا النشاط. من الملاحظ أن نظام المضاربة يحقق ذلك وذلك من حيث إنه يحقق مصلحة كل من أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال، وفي الوقت نفسه فإنه يبيح للمصرف الحصول على عائد مجزي إما على سبيل العمولة أو الأجرة أو على أساس اعتباره طرفا أصيلا في العملية مع كل من أصحاب الأموال من جانب وأصحاب المشروعات من جانب آخر. وبالمثل فقد تثار هنا بعض الشكوك حول تخوف المصارف من إعطاء الأموال لأصحاب المشروعات دون ضمان قانوني برجوعها أو الحصول على عوائدها. ولكن الرد على ذلك جد يسير فمن حقها الدراسة الجادة والمتابعة القويمة وأخذ الضمانات الكفيلة لسلامة العملية، ثم بعد ذلك فإن ما قد يحدث من تلاعب هو وارد على كل نظام، كما أنه سرعان ما يقضي على نفسه بنفسه. وقد يقال ما مصلحتها في إعطاء قروض حسنة؟ والجواب على ذلك يمثل في: وما ضررها في ذلك طالما أنها هي بنفسها تحصل على قروض حسنة؟ يضاف إلي ذلك أن هذه القروض عادة ما تؤدي إلى توثيق الصلة مع أصحاب المشروعات بل وتوسيع أعمالهم ونشاطهم مما يجعلهم في حاجة إلى المزيد من التمويل عن طريق المضاربة. مع ملاحظة. أن الكثير من عمليات التمويل في النشاط الاقتصادي عادة ما تتم بأساليب غير قرضية.
رابعا: حاجة المجتمع. ونحب أن نشير هنا إلى أن تلك المسألة كثيرا ما تستخدم من قبل أنصار النظام الربوي فدائما ما نسمع صيحات عالية
عن مصلحة المجتمع ومصلحة الاقتصاد القومي وحاجة البلد إلى التنمية والتقدم والقوة والرخاء والعمالة. . الخ. وكأن البديل الإسلامي يناقض كل ذلك!! علما بأنه عند التحري نجد البديل الإسلامي يحقق تلك المصلحة كأحسن ما يكون ذلك. دعونا من ترديد كلمات وعبارات جوفاء وتعالوا نحدد بدقة مضمون حاجة المجتمع ومصلحته في هذا الشأن. ليمكن الحكم العملي على مدى تحقق تلك المصلحة من عدمه في ظل البديل الإسلامي.
إن مصلحة المجتمع هنا يمكن إجمالها في كلمة هي توظيف وتشغيل كل ما لديه من موارد وطاقات والعمل المستمر على توسعة تلك الطاقات ووضعها في خدمة إنتاج ما يحتاجه المجتمع من سلع وخدمات. في إطار من قيمه وعقيدته وأخلاقياته. في ضوء هذا التحديد لمصلحة المجتمع فإنني أطلب من كل من لديه اعتراض على البديل الإسلامي أن يدلنا دلالة صحيحة بينة على نقطة الضعف أو العجز في هذا البديل حيال تلك المصلحة. فمن حيث الأموال هل يعجز هذا البديل عن توظيف وتعبئة وجذب كل ما هو متاح من أموال!! ومن حيث المشروعات فهل هناك مشروعات تنتج سلعا وخدمات يحتاجها المجتمع لا يمد لها البديل الإسلامي يد التمويل الذي تحتاجه!!.
هذا هو البديل الإسلامي لنظام الفائدة الربوي فهل هو عاجز عن سد حاجة المجتمع وتحقيق مصلحته؟ وإلى هذه المرحلة من البحث قد يقال إن ذلك يمكن قبوله على المستوي الداخلي. لكن ما العمل على
المستوى الخارجي؟ ونحن نعلم تشابك الاقتصاد القومي مع الاقتصاد العالمي وحاجة كل دولة إسلامية إلى التعامل الخارجي وحاجة الكثير منها إلى التمويل الخارجي وحاجة البعض فيها إلى توظيف أموالها في الخارج. وهذه حاجات لا تستقيم أحوال الأمة الإسلامية دون الاعتراف بها وأخذها في الحسبان. فكيف نشبع تلك الحاجة في ظل البديل الإسلامي؟ أنا لا أدعي أن الإجابة هنا -من قبل الباحث- جاهزة بوضوح وتفصيل وفي نفس الوقت لا أدعي أنها غير جاهزة على مستوى البحث الفكري الإسلامي عامة. فبالتأكيد هناك دراسات وأبحاث حول هذا الموضوع وللتأكيد أيضا هناك إمكانيات متزايدة لتطوير هذه الدراسات وتحسين هذه الإجابات. وأعتقد أن هذا يحتاج بحثا مستقلا. ولكن ذلك لا يستدعي توقف كل شيء إلى أن يتم كل شيء. فدعونا نؤمن إيمانا كاملا بصلاحية البديل الإسلامي لتحقيق المصلحة الداخلية للمجتمع بكافة أفراده. ودعونا نمارس عملية تغيير الواقع الداخلي نحو هذا البديل شريطة أن نمنحه الدعم الكافي على كل المستويات ونحرص بكل ثقلنا على نجاحه. ولو حدث هذا في المجال الداخلي فإننا نهيئ الجو بطريقة فعالة لاستخدامه في المجال الخارجي بالإضافة إلى الجهود التي تبذل بجد وإخلا0ص نحو تطوير أساليب فعالة لاستخدامه في الخارج.
وهنا نقطة أحب أن أشير إليها وهي أن غيرنا من الأم والمجتمعات قد حرصوا كل الحرص على تطبيق وإنجاز واستخدام ما اعتنقوه من أنظمة وأساليب رغم شدة المفارقة وصعوبة العقبات وكثرة التحذيرات والتخويفات ومع ذلك ما تراجعوا. والأمثلة جد صارخة منها أسلوب التخطيط ونظام الملكية الجماعية ونظام التعاونيات بل ونظام السوق ونظام الملكية الخاصة. . الخ فما بالنا نحن نضعف أمام كل عقبة وإن
هانت وكل تخوف وإن كان وهما ونجري نتسول الأنظمة والأساليب من هنا وهناك رغم ما فيها على عقيدتنا وشريعتنا وأخلاقنا واقتصادنا.
إن الحقيقة الدامغة التي لا جدال فيها أن درجة إيماننا بالبديل الإسلامي من حيث الصحة والفعالية لم ترق بعد كي تصل إلى الحدود الدنيا المقبولة، وإذا كان ذلك في حد ذاته مؤسفا ومحزنا فإن الأكثر مدعاة للأسف والأسى أن ذلك الموقف السلبي لم يرتكز على أي مستند حقيقي بل إما الانبهار بالنظام القائم والنظر إليه على أنه خير ما يمكن أن يكون أو أنه الجهل أو العداء لكل ما هو مستمد من الإسلام وإن كان فيه ما فيه من المصلحة الحقيقة. أو هو اللمز والغمز والتشكيك المستمر حول تجربة المصارف الإسلامية المعاصرة. إن الموقف الصحيح الذي ينبغي أن تحرص عليه المجتمعات الناهضة هو الدراسة الجادة المستمرة لكل ما يمكن أن تستفيد من قيمها وعقائدها من تنظيمات وأساليب. ولا شك أن الوضع الأمثل في مسألتنا هذه هو قصر التطبيق والاستخدام على البديل الإسلامي على الأقل لكونه لا يتعارض مع العقيدة والشريعة ثم العمل المستمر على تطويره وتحسينه، فإذا لم يكن هذا الوضع الأمثل فالوضع الأقل درجة هو أن يعامل البديل الإسلامي معاملة مفضلة ويمنح الدعم السياسي الكافي كي يأخذ فرصته لإثبات وجوده فإذا لم يكن ذلك فإن الوضع الأقل درجة وهو أقل وضع يمكن قبوله شرعا بصفة مرحلية هو أن يمنح البديل الإسلامي فرصة متكافئة بجوار البديل الوضعي ولنترك لهما العمل بحرية وبلا قيود وعرقلات ثم لنرصد النتائج لكن للأسف الشديد- وتلك حقيقة، وإن كان فيها ما فيها من المرارة والمكاسفة في الوقت نفسه أن غالبية دول العالم الإسلامي لم ترق في موقفها من البديل الإسلامي بعد إلى الوضع الأدنى خاصة على المستوى
الرسمي، بل نجد إما الحظر الكامل أو الموافقة الشكلية المحضة كل ذلك تذرعا بالخوف على الاقتصاد القومي وعلى انهياره لكن الحقيقة المرة وراء ذلك ببعيد.
ولنفرض أن في التجربة المصرفية الإسلامية المعاصرة ما فيها من الملاحظات والثغرات فهل بناء على ذلك ترفض التجربة كلية ويطرد البديل الإسلامي أم تعالج وتقوم وتطور؟ وهل قامت إحدى الدول بمثل تلك الدراسات الجادة وعمل التطوير السليم وأعطت ذلك ما يستحقه من جهد وعناية؟ وهل نجد من أجهزة الإعلام والتوعية توجها صادقا حقيقيا نحو هذا البديل؟
وهل هناك أعمال جادة من قبل الجامعات ومراكز البحث العلمي حيال هذا البديل وتلك التجربة؟ وإذا كان هناك مثل ذلك فهل وجد الأذن الصاغية من قبل المسؤولين؟ وهل من الصواب أن يغلق الباب أمام الموضوع إلى أن يكتمل وينضج؟ وإذا فعلت ذلك كل دولة إسلامية فأين يتم ذلك؟ إن الصدق مع النفس مطلوب في كل شأن من شؤوننا وعلينا أن نتحراه وإن رأينا فيه الهلاك فإن فيه النجاة.
هذا تعليق سريع على البديل الإسلامي وإلى أي مدى يمكنه أن يلبي مصلحة الأمة الإسلامية.
نعود إلى خلاصة الباحث فقد بقي فيه نقطتان:
الأولى: هي القيمة المالية للزمن في النشاط الاقتصادي، وقد ذكرها الكاتب مدعما بها وجهة نظره وبالتأكيد فإن ما قدمه في هذا الصدد يحسب عليه ولا يحسب له، وإضافة هذه الفقرة زادت الكلام وهنا على وهن. ذلك أنه باتفاق العلماء فإن للزمن قيمة مالية معتدا بها شرعا في النشاط الاقتصادي، فالثمن المؤجل يمكن شرعا أن يكون أكبر من
الحال والثمن في السلم يمكن أن يكون أقل من الثمن في غيره، الإسلام لم يعتد بأي قيمة مالية للزمن في مجالات أخرى من أهمها الدين والقرض ففيه خمسة حالة تساوي تماما خمسة مؤجلة، وكيلوجرام حال يعادل كيلو قمح مؤجلا تماما بتمام. ومعنى ذلك أننا نحتكم للإسلام في الاعتداد بالقيمة المالية للزمن من عدمه. وكم كان حريا بالأخ الكاتب أن يدرك أن القرض بزيادة هو إعمال للقيمة المالية للزمن، فهل الشرع بذلك؟ ولو تأمل الكاتب الأقوال العديدة التي نقلها في الصدد عن الفقهاء لاتضح له أنهم قالوها في معرض تحريم الربا في معرض تجويزه وإباحته. وإلا لجاز شرعا بيع خمسة بستة مؤجلا التساوي في القيمة المالية بين خمسة حالة وستة مؤجلة لكن ذلك بنص الحديث الشريف، وهناك دراسات حديثة توضح تلك المسألة على حقيقتها (1).
الثانية: وهي النقطة الأخيرة في بحث الأخ الكاتب وتتعلق بتقلب وتدهور قيمة النقود بفعل التضخم المستمر. ويخلص من ذلك إلى أنه من العدل إباحة الفائدة قائلا: "ولذلك لا يستطيع أحد الآن أن القيمة العددية للنقود معبرة عن قدرة اقتصادية أو قوة شرائية يتعين المدين أن يردها كاملة، ولذلك فإن المهلة الممنوحة للمدين في القرض لم تفوت على الدائن مكسبه فحسب بل إن هذه المهلة بل إن هذه المهلة تسبب له خسارة مالية بسب نقص القوة الشرائية لديه، ومن ثم فهناك توازن ضار بالدائن الأمر الذي نستخلص منه ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معا في احتمالات التقلبات النقدية وذلك بأن يتحمل الدائن نقص قيمة النقود،
(1) من ذلك كتاب تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي لكاتب هذه الورقة نشر مؤسسة الرسالة.
والمدين بأن يدفع الفوائد وبذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم ".
أما أن قيمة النقود تتعرض للتقلب الدائم فهذا ما لا شك فيه لأنه حقيقة قائمة، لكن علاج ذلك من خلال الفائدة غير صحيح شرعا واقتصادا. وهناك أبحاث متخصصة في ذلك يمكن للكاتب الرجوع إليها وهل يجادل الأخ الكاتب بأن الفائدة ذاتها هي أحد العوامل الأساسية وراء هذا التقلب المستمر في قيمة النقود؟ وكنا نود من الكاتب أن يعمل فكره ليجد لنا علاجا ناجعا لهذه المشكلة صحيحا شرعا بدلا من القول باستخدام أداة مجمع على حرمتها وضررها الاقتصادي أبلغ من نفعها إن كان لها نفع. ثم إن الترخيص هو تشريع، ومن الذي يملكه هل أنا أو هو أو أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالاعتماد القوي الواضح على نص شرعي وإذا كان من يملكه لم يفعله فهل الشريعة جاءت لعصر دون عصر؟ ويختم الكاتب كلامه بالتوجه بالدعوة الملحة لأهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي حول الأعمال المصرفية. ونحن نضم صوتنا لصوته لكنا نذكر الكاتب بالقرار الذي اتخذه مجمع البحوث الإسلامية بتحريم الفائدة على الدين بالإجماع، وكذلك بالعديد من الفتاوى التي صدرت عن الرئاسة العامة للإفتاء بهذا الشأن.
وبعد فهذا تعقيب أو رد على ما قدمه الكاتب ويمكن إجمال هذا كله في كلمة؛ لقد تصور الباحث أن الربا المحرم قطعيا فقط هو ربا الجاهلية المذكور في القرآن الكريم وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل