الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زكاة المستغلات العمارات والمصانع ونحوها
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث:
الأول: في زكاة "المستغلات" بين المضيقين الموسعين؟
الثاني: كيف تزكى هذه الأشياء؟
الثالث: كيف يحسب النصاب فيها؟
المبحث الأول
زكاة المستغلات بين المضيقين والموسعين
المستغلات: هي الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، ولم تتخذ للتجارة ولكنها تتخذ للنماء، فتغل لأصحابها فائدة وكسبًا بواسطة تأجير عينها، أو بيع ما يحصل من إنتاجها.
فما يؤجر: مثل الدور والدواب التي تكون بأجرة معينة، ومثل ذلك الحلي الذي يكرى وغيره. وفي عصرنا يتمثل في العمارات ووسائل النقل وغيرها.
وما ينتج ويباع نتاجه: مثل البقر والغنم غير السائمة التي تتخذ للكسب فيها، ببيع لبنها أو صوفها أو تسمينها أو غير ذلك. وأهم منها الآن المصانع التي تنتج ويباع إنتاجها في الأسواق.
وقد اخترنا في الفصل السادس أن تقاس المنتجات الحيوانية على العسل، ويؤخذ منها العشر من الصافي، لأنها متولدة من حيوان لا تجب الزكاة في أصله. ولهذا أرى أن تستثنى من المستغلات التي نذكرها في هذا الفصل، وإن أدخلها بعض الفقهاء فيه.
والفرق بين ما يتخذ من المال للاستغلال وما يتخذ للتجارة: أن ما اتخذ للتجارة يحصل الربح فيه عن طريق تحول عينه من يد إلى يد. وأما ما اتخذ للاستغلال فتبقى عينه، وتتجدد منفعته.
وعلى كل حال، فإن معرفة الحكم في المستغلات أمر مهم. وخاصة في عصرنا، بعد أن تعددت أنواع المال النامي فيه تعددًا واضحًا، فلم يعد مقصورًا على الماشية والنقود وسلع التجارة والأرض الزراعية.
فمن الأموال النامية في عصرنا: العمارات التي تعد للكراء والاستغلال، والمصانع التي تعد للإنتاج، والسيارات والطائرات والسفن التي تنقل الركاب والبضائع والأمتعة، غير ذك من رؤوس الأموال الثابتة أو شبه الثابتة، وبعبارة أدق: رؤوس الأموال المغلة النامية غير المتداولة التي تدر دخلًا وفيرًا على أصحابها، فماذا تقول شريعة الإسلام وفقهاؤها في زكاة هذه الأشياء؟
إن الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهة المضيقين والموسعين في إيجاب الزكاة.
وجهة المضيقين في إيجاب الزكاة:
أما الذين يميلون إلى التضييق في الأموال التي تجب فيها الزكاة، فيقولون:
1-
إن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد الأموال التي تجب فيها الزكاة، فلم يجعل منها ما يستغل أو ما يكرى من العقارات والدواب والآلات ونحوها، والأصل براءة الناس من التزام التكاليف، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل، إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ولم يوجد في مسألتنا.
2-
يؤيد هذا: أن فقهاء المسلمين في مختلف الأعصار، وشتى الأقطار، لم يقولوا بوجوب الزكاة في هذه الأشياء، ولو قالوا به لنقل عنهم.
3-
أنهم نصوا على ما يخالف ذلك فقالوا: لا زكاة في دور السكنى، ولا أدوات المحترفين، ولا دواب الركوب، ولا أثاث المنازل ونحوها. وإذن يكون الحكم عندهم: أن لا زكاة في المصانع وإن عظم إنتاجها، ولا في تلك العمارات، وإن شهق بنيانها، ولا في تلك السيارات والطائرات والسفن التجارية، وإن ضخم إيرادها.
فإذا قبض من إيرادها شيء، وبقي حتى حال الحول، ففيه زكاة النقود: بشروطها المدونة. وإن لم يبق إلى الحول نصاب أو ما يكمل نصابًا فلا شيء عليه.
والتضييق في أموال الزكاة مذهب قديم، عرف به بعض السلف، وتبناه ودافع عنه الفقيه الظاهري ابن حزم، وأيده في الأعصر الأخيرة الشوكاني، وصديق حسن خان، حتى قالوا: لا زكاة في عروض التجارة، ولا في الفواكه والخضروات ونحوها.
ومن أوضح العبارات في ذلك ما قاله صاحب "الروضة الندية" ردًا على ما قال: في المستغلات –كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، فضلًا عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة. (1)
وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة:
وأما المتوسعون في الأموال التي تجب فيها الزكاة فيقررون وجوبها في الأشياء المذكورة من مصانع وعمارات ونحوها، وهذا هو رأي بعض المالكية والحنابلة –وإن يكن غير مشهور- ورأي الهادوية من الزيدية. كما هو رأي بعض العلماء المعاصرين، أمثال أساتذتنا الأجلاء: أبي زهرة وخلاف وعبد الرحمن حسن. كما سنبين ذلك في المبحث القادم. وهذا التوسع هو الذي أرجحه استنادًا إلى الأمور الآتية:
1-
أن الله أوجب في كل مال حقًا معلومًا، أو زكاة، أو صدقة، لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أدوا زكاة أموالكم)) من غير فصل بين مال ومال.
وقد رد ابن العربي على الظاهرية الذي نفوا وجوب الزكاة في عروض التجارة، لعدم ورود حديث صحيح فيها، فقال: قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} عام في كل مال على اختلاف أصنافه، وتباين أسمائه واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل. (2)
2-
أن علة وجوب الزكاة في المال معقولة، وهي النماء كما نص الفقهاء الذين يعللون الأحكام، ويعملون بالقياس، وهم كافة فقهاء الأمة ما عدا حفنة قليلة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة. ومن هنا لم تجب الزكاة في دور السكنى، وثياب البذلة، وحلي الجواهر، وآلات الحرفة، وخيل الجهاد بالإجماع وكان القول الصحيح سقوط الزكاة عن العوامل من الإبل والبقر، وعن حلي النساء المستعملة المعتادة، وعن كل مال لا ينمى بطبيعتة أو بعمل الإنسان.
وإذا كان النماء هو العلة في وجوب الزكاة، فإن الحكم يدور معه وجودًا وعدمًا، فحيث تحقق النماء في مال وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا.
3-
أن حكمة تشريع الزكاة –وهي التزكية والتطهير لأرباب المال، أنفسهم والمواساة لذوي الحاجة، والإسهام في حماية دين الإسلام، ودولته ونشر دعوته –تجعل إيجاب الزكاة هو الأولى والأحوط لأرباب المال أنفسهم، حتى يتزكوا ويتطهروا، وللفقراء والمحتاجين، حتى يستغنوا ويتحرروا، وللإسلام دينًا ودولة، حتى تقوى شوكته، وتعلو كلمته.
وقد قال الكاساني في دلالة العقل على فرضية العشر فيما خرج من الأرض:
إن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس من الشح ومن الذنوب، وتزكيتها بالبذل والإنفاق، وكل ذلك لازم عقلًا وشرعًا. اهـ.
فهل يكون شكر النعمة، ومساعدة العاجز، وتطهير النفس وتزكيتها بالبذل، لازمًا عقلًا وشرعًا لصاحب الزرع والثمر، غير لازم لصاحب المصنع والعمارة والسفينة والطائرة ونحوها، مما يدر من الدخل أكثر مما تدره أرض الذرة والشعير بأضعاف مضاعفة، ويجهد أقل من جهدها؟
(1) الروضة الندية ج 1 ص 194
(2)
شرح الترمذي ج 3 ص 104
الرد على أدلة المضيقين:
أما قولهم: لا زكاة إلا فيما أخذ منه النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة؛ فنقول:
إن عدم نص النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الزكاة من مال لا يدل على عدم وجوب الزكاة فيه، فإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأموال النامية التي كانت منتشرة في المجتمع العربي في عصره، كالإبل والبقر والغنم من الحيوانات، والقمح والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار، والدراهم الفضية من النقود.
ومع هذا أوجب المسلمون الزكاة في أموال أخرى لم يجئ بها نص، قياسًا على تلك الأموال، أو عملًا بعموم النصوص، وتطبيقًا لما قرر من حكمة فرض الزكاة.
(أ) من ذلك ما قاله الإمام الشافعي في الرسالة عند زكاة الذهب، قال: وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق و (النقود الفضية) صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة: إما بخبر من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا وإما قياسًا على أن الذهب نقد الناس الذي اكتنزوه، وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان، قبل الإسلام وبعده. اهـ. (1)
واحتمال وجود خبر نبوي لم يبلغ الشافعي في عصره –مع حاجة الناس إلى تناقل هذا الخبر- احتمال ضعيف، فالعمدة هو القياس، وبهذا جزم القاضي الفقيه أبو بكر ابن العربي، فذكر في شرح الترمذي، في بيان الحكمة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفضة، ونصابها ومقدار الواجب فيها، وترك ذكر الذهب، قال:"إن تجارتهم إنما كانت في الفضة خاصة، معظمها، فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي، لأن كلهم أفهم خلق الله وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير، طمس الله باب الهدى، وخرجوا عن زمرة من استن بالسلف واهتدى"(2) وهو يعني بكلمته الأخيرة العنيفة الظاهريين الذين ينفون القياس، ولا يلتفتون إلى العلل.
(ب) ومن ذلك أنه لم يرد نص صحيح صريح بوجوب الزكاة في العروض التجارية، ومع هذا نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية الذين تعلقوا بشبهات واهية فندناها في موضعها.
(جـ) ومن ذلك أن عمر أمر بأخذ الزكاة من الخيل، لما تبين له أن فيها ما تبلغ قيمته مبلغًا عظيمًا من المال، وتبعه في ذلك أبو حنيفة؛ ما دامت سائمة، واتخذت للنماء والاستيلاد.
(د) أن أحمد أوجب الزكاة في العسل، لما ورد فيه من الأثر، وقياسًا على الزرع والثمر، وأوجب الزكاة في كل معدن، قياسًا على الذهب والفضة، ولعموم آية {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} .
(هـ) أن الزهري والحسن وأبا يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما الخمس، قياسًا على الركاز والمعدن.
(و) أن كل مذهب من المذاهب المتبوعة أدخل القياس في الزكاة في أحكام عدة، كقياس الشافعية غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في زكاة الفطر، من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير، وكقياسهم كل ما يقتات على الأقوات الأربعة المذكورة، التي جاء بها النص في عشر الزرع والثمر.
2-
وأما قولهم: إن فقهاء الإسلام في جميع أعصاره وأمصاره لم ينقل عنهم القول بذلك –فلأن بعض هذه الأموال النامية لم ينتشر في عصرهم انتشارًا تعم به البلوى، ويدفع الفقيه إلى الاجتهاد والاستنباط، وبعضها لم يكن موجودًا قط، بل هو من مستحدثات الأزمنة الأخيرة.
(1) الرسالة ص 193، 194 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(2)
شرح الترمذي ج 3 ص 104
ومع هذا وجد من أقوال الفقهاء ما يدل على وجوب الزكاة في هذه الأشياء أو في غلتها وفوائدها. كما سنذكر بعد.
3-
وأما نص الفقهاء على إعفاء الدور والآلات ونحوها من الزكاة؛ فهو عين الصواب –ولكن هذه الأشياء التي أخرجها علماؤنا من وعاء الزكاة غير ما نحن فيه، فدور السكنى غير العمارات الاستغلالية، وآلات المحترف كالقدوم والمنشار ونحوهما؛ غير الماكينات والأجهزة التي تنتج وتعمل وتدر ربحًا ودخلًا، والتي غير ظهورها وجه الحياة في العالم كله. ولهذا أطلق عليه المؤرخون اسم "الانقلاب الصناعي" ودواب الركوب غير هذه السيارات والطائرات والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، وأثاث المنازل غير محلات "الفراشة" التي تؤجر أثاثها ومقاعدها ومعداتها للناس- فما أخطأ علماؤنا حين قرروا أن لا زكاة فيما ذكروا من الأشياء، بل طبقوا بدقة ما اشترطوه لوجوب الزكاة؛ أن يكون المال ناميًا، فاضلًا عن الحاجة الأصلية لصاحبه، ولهذا علل صاحب "الهداية" الحكم بعدم الزكاة في الأشياء المذكورة بقوله: لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أيضًا. (1)
ووضح ذلك صاحب "العناية" فقال: يعني أن الشغل بالحاجة الأصلية وعدم النماء؛ كل منهما مانع من وجوبها، وقد اجتمعا ههنا: أما كونها مشغولة بها فلأنه لا بد له من دار يسكنها، وثياب يلبسها.. الخ- وأما عدم النماء فلأنه إما خلقي كما في الذهب والفضة، وإما بإعداد للتجارة، وليسا موجودين ههنا. (2)
وعلى هذا اتفق الفقهاء: أن لا زكاة في دار اتخذها صاحبها للسكنى، وهذا من العدل والتيسير الذي جاء به الإسلام، وإن كنا نرى كثيرًا من قوانين الضرائب في الدول المعاصرة تعمد إلى أخذ ضريبة على العقار، ولو كان سكنًا لصاحبه، وقليل منها –مثل التشريع الأمريكي- هو الذي نص على إعفاء مالك المبنى من الضريبة إذا كان يتخذه لسكناه.
هذا إلى أن تعليل فقهائنا لعدم وجوب الزكاة في الدور والثياب وآلات الحرفة ونحوها بأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وبأنها غير نامية، يدل –بمفهوم المخالفة- أن ما اتخذ منها للنماء ولغير الاستعمال في الحاجة الأصيلة يصبح صالحًا لوجوب الزكاة.
(1) الهداية مع فتح القدير ج 1 ص 487
(2)
العناية نفس الصفحة السابقة.
المبحث الثاني
كيف تزكي العمارات والمصانع ونحوها
الأموال النامية التي أوجب فيها الإسلام الزكاة نوعان:
الأول: نوع تؤخذ الزكاة من أصله ونمائه معًا، أي من رأس المال وغلته، عند كل حول، كما في زكاة الماشية وعروض التجارة، وهذا لتمام الصلة بين الأصل وفوائده وغلاته، ومقدار الزكاة هنا هو ربع العشر، أي 2.5 %.
الثاني: نوع تؤخذ الزكاة من غلته وإيراده فقط، بمجرد الحصول على الغلة دون انتظار حول، سواء أكان رأس المال ثابتًا كالأرض الزراعية، أو غير ثابت كنحل العسل. ومقدار الزكاة هنا هو العشر أو نصفه أي 10 % أو 5 %.
فعلى أي أساس تعامل هذه الأموال النامية الجديدة؟ وكيف تأخذ منها الزكاة؟ أنأخذ الزكاة من رأس المال وما بقي من غلته كما في أموال التجارة! أم نأخذ من غلته وإيراده فقط كما في الحبوب والثمار والعسل؟
اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات:
ولعل كثيرًا من المتصلين بالفقه ولا يغوصون في أعماقه يظنون أن الدور التي تكرى للناس بأجر، ونحوه مما يدر في كل عام أو في كل شهر مالًا وإيرادًا متجددًا؛ لم ينص أحد من الفقهاء على حكم في زكاته؛ لأنها لم تكن مما عمت به البلوى، وانتشر بين الناس، واحتاجوا فيه إلى حكم حاسم.
وهذا التعليل حق، ولكن وجدنا رغم ذلك من فقهائنا من يقول بتزكيتها، وإن اختلفوا في معاملتها والنظر إليها: أتعامل معاملة رأس المال التجاري، فتقوم كل حول، وتؤخذ الزكاة منها ربع عشر قيمتها؟ أم يغض النظر عن قيمتها وتؤخذ الزكاة من غلتها وإيرادها إذا بلغ نصابًا مستوفيًا لشروط الزكاة؟
الاتجاه الأول: أن تقوم وتزكى زكاة التجارة:
هذا الرأي يعامل مالك العمارة الاستغلالية، والطائرة والسفينة التجاريتين ونحوها معاملة مال السلع التجارية، فتثمن العمارة كل عام، مضافًا إليها ما بقي معه من إيرادها، ويخرج عن ذلك كله 2.5 % ككل عروض التجارة.
وقد وجد في فقهاء السنة وفي فقهاء الشيعة من ذهب هذا المذهب.
رأي ابن عقيل الحنبلي:
ففي فقه أهل السنة وجدت هذا الرأي للفقيه الحنبلي أبي الوفاء ابن عقيل –وهو عالم قوي الذهن ناضج الفكر خصب الاستنتاج- وقد نقل عنه هذا الرأي المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" نقل الموافق المقر- قال ابن عقيل مخرجًا ما روي عن الإمام أحمد في تزكيته حلى الكراء: يخرج من رواية إيجاب الزكاة من حلى الكراء والمواشط؛ أن تجب في العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة.
قال: "وإنما خرجت ذلك على الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا تجب فيه الزكاة، فإذا أعد للكراء وجبت. فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ إيجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي لا تجب فيها لزكاة ينشئ إيجاب الزكاة.
"يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع؛ غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء فغلب على الاستعمال، وأنشأ إيجاب الزكاة؛ فصار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها"(1)
هذا ما ذكره ابن عقيل وأقره ابن القيم تخريجًا على مذهب أحمد.
ونحن نقول: إن ما ذهب إليه الإمام أحمد من إسقاط الزكاة عن الذهب والفضة إذا استعملا في حلي مباح، ومن إيجابها في الحلي إذا أعد للكراء؛ مذهب قوى، يستند إلى أصل هام في باب الزكاة وهو: أن لا زكاة في مال غير نام أو مشغول بالحاجة الأصلية، وإنما الزكاة في المال النامي، وهو الذي يدر على صاحبه كسبًا ودخلًا.
(1) بدائع الفوائد ج 3 ص 143
والحلي المباح المستعمل للزينة واللبس مال غير نام، ومشغول بحاجة صاحبته، فإذا أعده للكراء فقد خرج عن ذلك إلى حيز النماء، وأصبح صالحًا للدخول في وعاء الزكاة".
وهو قول لمالك أيضًا كما ذكر ابن رشد. (1)
وإذا طبقنا هذا على العقارات والأثاث والسيارات والسفن والطائرات والماكينات والأجهزة الصناعية المختلفة، اتضح لنا هذا الحكم: أن لا زكاة فيها إذا كانت للاستعمال الشخصي، فإذا أعدت للكراء، وغدا من شأنها أن تجلب نماء وربحًا؛ فقد غدت صالحة لوجوب الزكاة، وزكاتها في هذه الحال كزكاة عروض التجارة نصابًا ومقدارًا.
ومعنى هذا أن مالك العمارة أو "الأوتوبيس" أو الطائرة أو الفندق أو محل "الفراشة"(2) أو أي سلعة تؤجر وتعد للإجارة –كما قال ابن عقيل - عليه- فردًا كان أو شركة- أن يقوم عقاراته أو سياراته (التاكسي) ، فإذا عرف قيمتها ضم إليها ما لديه من رأس المال النقدي، وما له من ديون مرجوة، كما يصنع التاجر في رأس ماله، ثم يخرج ربع عشرها زكاة.
ولا يقال: إن هذه الأشياء رأس مال ثابت، فيجب أن يعفى من الزكاة، كما يعفى الأثاث الثابت في حوانيت التجارة؛ لأنا نقول: إن هذه الأشياء الثابتة هنا هي نفسها رأس المال النامي المغل الذي به تجلب المكاسب والأرباح، وإنما يعفى ما لم يكن مقصودًا للكسب من ورائه، كالأرض والمباني التي توضع فيها الماكينات الصناعية، لأن الماكينات هي المقصودة، بخلاف الأرض والمباني في العمارة والفندق والسينما ونحوها، فإن المبنى نفسه هو الذي يجلب الفائدة والمال.
(1) بداية المجتهد ج 1 ص 237 ط 1 استانبول سنة 1333هـ
(2)
يراد بها محلات تأجير الأثاث من خيام ومقاعد وأدوات في الأفراح والولائم وغيرها من المناسبات
مذهب الهادوية في المستغلات:
وفي فقه الشيعة وجدت صاحب "البحر الزخار" وهو سجل جامع لمذاهب علماء الأمصار أهل سنة وشيعة –قد نقل عن الهادوية من الشيعة الزيدية؛ أنهم ذهبوا إلى إيجاب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، لعموم قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ولأنه مال قصد به النماء في التصرف فكان كمال التجارة فيزكيه إذا بلغت قيمته نصابًا. (1)
ثم رجعت إلى "متن الأزهار" وشرحه وحواشيه، في فقه الزيدية، فوجدته يتبنى مذهب الإمام الهادي في "المستغلات" ويعنون بها: كل ما تجددت منفعته، مع بقاء عينه. فلا تجب الزكاة عندهم في الخيل والبغال والحمير والدور والضياع ونحوها، إلا أن يكون شيء منها لتجارة أو استغلال.
فكل ما يؤجر من حلية أو دار أو دابة أو غيرها إذا بلغت قيمته نصابًا من النقود طرفي الحول، تجب تزكيته زكاة التجارة.
ذكروا عن الهادي: أن من اشترى فرسًا لبيع نتاجها متى حصل، فإنه يلزمه الزكاة في قيمتها وقيمة أولادها، قال المؤيد بالله وأبو العباس وأبو طالب: ووجهه أنها تصير للتجارة هي وأولادها.
قال المؤيد بالله: وكذلك من اشترى دود القز ليبيع ما يحصل منها.
(1) البحر الزاخر ج 2 ص 147
قال الحقيني: وكذلك من اشترى الشجرة ليبيع ما يحصل منها من الثمار
وقيل: وكذا من اشترى بقرة ليبيع ما يحصل منها من السمن واللبن، أو شاة ليبيع ما يحصل من الصوف والسمن والأولاد. (1)
ودليل هذا المذهب ذكره في "البحر" وهو أمران:
1-
عموم النصوص التي أوجبت الزكاة في الأموال مطلقًا، دون فصل بين مال ومال.
2-
قياس المال المستغل على المال المتجر فيه، فكلاهما مال قصد به النماء، ولا فرق بين المعارضة في الأعيان والمعارضة في المنافع.
اعتراضات المانعين:
وقد اعترض على هذا الرأي بعض الفقهاء الذين يميلون إلى التضييق في إيجاب الزكاة، مثل الإمام الشوكاني في (الدرر البهية) وشارحها صديق حسن خان في (الروضة الندية) .
ولا يبعد ممن يقول: ليس في الخضروات ولا في البقول ولا في أموال التجارة زكاة –وهذا رأي الشوكاني وصديق- أن يقول: ليس من المستغلات كالدور والدواب التي يكريها مالكها زكاة.
وجملة ما احتج به في الروضة يرجع إلى شعبتين: إحداهما تتعلق بالمنقول من الخبر، والثانية تتصل بالمعقول من النظر.
(أ) فأما الخبر فحديث ((ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)) وهو يصرح بنفي الصدقة عن فرس المسلم نفيًا عامًا، وهذا النفي يشمل حالة استغلاله بالتجارة أو بالكراء.
وأما الشبهة الأخرى فهي أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق –كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة بدون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فضلًا عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة.
(1) انظر شرح الأزهار لابن مفتاح وحواشيه ص 450، 451، 475
وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يخرج في رأس الحول ربع عشر داره أو عقاره أو دوابه، وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المائة الثالثة؛ فقال بذلك من قال بدون دليل إلا مجرد القياس على أموال التجارة، وقد عرفت الكلام في الأصل –يعني زكاة التجارة- فيكف يقوم الظل والعود أعوج؟ مع أن هذا القياس في نفسه مختلف بوجوه، منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع، فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين. (1)
وخلاصة هذه الشبهة: أن الأصل براءة الناس من التكاليف، ولم يوجد دليل يوجب الزكاة في هذه المستغلات، حتى إن أحدًا من السلف لم ينقل عنه القول بزكاتها، فضلًا عن نص من آية أو حديث.
أما القياس على أموال التجارة وزكاتها؛ فعلى فرض التسليم بثبوت الزكاة فيها، فقد اختل القياس بوجود الفارق وهو: أن أموال التجارة وسلعها ينتفع بعينها، فتنتقل العين من يد إلى يد بالبيع والشراء، بخلاف هذه الأشياء، فإنها باقية، وإنما يستفاد من منفعتها فحسب.
(1) الروضة الدية ج 1 ص 194
تعقيب وترجيح:
أما حديث ((ليس على المسلم في عبده أو فرسه صدقة)) فالذي اخترناه أن نفي الصدقة فيهما إنما كان لأنهما من حوائجه الأصلية؛ فالعبد يخدمه، والفرس مركبه وعدته للجهاد، ومن ثم أو جب جمهور الفقهاء منذ الصدر الأول إخراج الزكاة عن العبد والفرس إذا كانا للتجارة، بل نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ولم يقف ظاهرًا هذا الحديث دون ما فهموه وأفتوا به.
وأما عدم النقل عن الصدر الأول ما يفيد إيجاب الزكاة في هذه الأشياء؛ فإنما كان لعدم شيوع الكراء والاستغلال فيها بحيث تعم به البلوى –على حد تعبير الفقهاء- ويظهر الحكم، ويتناقله الرواة، وكل عصر له مشكلاته التي تثار، ويطلب إبرام حكم في شأنها، ولم تكن هذه (المستغلات) من مشكلات تلك الأعصار. قال في (البحر) : وقد ادعى مخالفة الهادوية للإجماع، وفيه نظر؛ إذ لم يصرح السلف فيها بحكم. (1)
وفي حواشي شرح الأزهار: المختار أن قول الهادي ليس مخالفًا للإجماع؛ لأن الصحابة والتابعين إما أن يكونوا خاضوا في المسألة واختلفوا فيها، فهي خلافية، أو خاضوا وأجمعوا، فلم ينقله عنهم ناقل، أو لم يخوضوا، فلا حرج في استنباط مسألة بفكره الصائب، ونظره الثاقب. (2)
أما قياس هذه (المستغلات) على عروض التجارة؛ فربما كان له وجه عند النظرة الأولى، إذ كل من المستغلات والعروض رأس مال نام مغل، وكلا المالكين تاجر يستثمر رأس ماله ويستغله ويربح منه، وكون صاحب العروض ينتفع بإخراج عين الشيء عن ملكه، وصاحب العمارة والمصنع ينتفع بالغلة مع بقاء العين؛ ليس فرقًا يوجب الزكاة على أحدهما ويعفي الآخر.
بل قد يقال: إن المنتفع باستغلال الشيء مع بقاء عينه في ملكه –كمالك العمارة وصاحب المصنع- ربما كان أكثر ضمانًا للربح، وأمانًا من الخسارة، من صاحبه التاجر الآخر.
(1) البحر الزخار ج 1 ص 148
(2)
حاشية شرح الأزهار ج 1 ص 450
هذا ما قد يبدو لأول وهلة، ولكن عند التأمل يتبين لنا المفارقات الآتية:
أولًا: أن أصدق تعريف لعروض التجارة هو: كل ما يعد للبيع من الأشياء بقصد الربح، كما جاء في حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الزكاة مما يعدونه للبيع. وقد تقدم في زكاة التجارة.
ومما لا يخفى أن هذه العمارات والمصانع وما شاكلها كلها لا يعدها مالكها للبيع. بل للاستغلال. وإنما ينطبق هذا على التجار والمقاولين الذين يشترون العمارات أو يبنونها بقصد بيعها والربح من ورائها. فهذه تعامل معاملة عروض التجارة بلا نزاع.
ثانيًا: أننا لو جعلنا كل مالك يستغل رأس ماله ويبتغي نماءه تاجرًا –ولو كان رأس المال غير متداول وغير معد للبيع- لكان مالك الأرض والشجر التي تخرج له زرعًا وثمرًا تاجرًا أيضًا، ويجب أن يقوم كل عام أرضه أو حديقته ويخرج عنها ربع العشر زكاة، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به أحد.
ثالثًا: أن هذه المستغلات قد يتوقف في بعض الأحيان استغلالها لسبب من الأسباب، فلا يجد صاحب العمارة من يستأجرها، ولا يجد صاحب المصنع المواد الأولية اللازمة، أو الأيدي العاملة، أو السوق الرائجة.. الخ، فمن أين يخرج زكاته؟
إن صاحب العروض التجارية السائلة (المتداولة) يبيعها ويخرج زكاتها من قيمتها، بل يمكن عند الحاجة أن يدفع الزكاة من عينها –كما رجحنا ذلك- ولكن صاحب الدار أو المصنع كيف تؤخذ منه الزكاة إذا لم يكن له مال آخر؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بيع العقار أو جزء منه ليستطيع أداء الزكاة، وفي هذا عسر ظاهر، والله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.
ومن هنا تظهر قيمة الفرق بين ما ينتفع بعينه كالعروض التجارية، وما ينتفع بغلته كالعقارات ونحوها.
رابعًا: يعكر على هذا الرأي من الناحية العملية: أن العمارة أو المصنع ونحوه ستحتاج كل عام إلى تثمين وتقدير، لمعرفة كم تساوي قيمتها في وقت حولان الحول، إذ المعهود أن مرور السنين ينقص من صلاحيتها، وبالتالي من قيمتها، كما تقلب الأسعار تبعًا لشتى العوامل الداخلية والخارجية له أثره في هذا التقويم، ولا شك أن هذا التقويم الحولي تلابسه صعوبات تطبيقية، ويحتاج أول ما يحتاج إلى مختصين ذوي كفاية وأمانة قد لا يتوافرون كما أن كل هذا يقتضي جهودًا ونفقات تنتقص أخيرًا من حصيلة الزكاة.
لهذا نرى أن الأولى أن تكون العمارة والمصنع ونحوهما في غلتهما، وهذا ما اتجه إليه الرأيان الآخران، وإن اختلفا في تحديد نسبة ما يؤخذ من الغلة: أهي العشر أو نصفه كما في زكاة الزروع والثمار، أم ربع العشر كما في زكاة التجارة؟
الاتجاه الثاني: أن تزكى الغلة عند قبضها زكاة النقود:
أما الرأي الثاني الذي وجدناه لبعض الأئمة في كتبنا الفقهية، فإنه ينظر إلى هذه المستغلات نظرة أخرى، فلا يأخذ الزكاة من قيمتها كل حول، ولكن يأخذها من غلتها وإيرادها.
ما روي عن الإمام أحمد:
وقد روي عن الإمام أحمد فيمن أجر داره، وقبض كراها: أنه يزكيه إذا استفاده. كما ذكر صاحب المغني عنه. (1)
(1) المغني ج 3 ص 29، 47
قول بعض المالكية:
وفي كتب المالكية، ذكر الشيخ زروق في شرح "الرسالة": أن في المذهب خلافًا في حكم زكاة الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، كالدور للكراء، والغنم للصوف، والبساتين للغلة، وهذا الخلاف في أمرين:
الأول: في ثمنها إذا بيعت عينها.
والثاني: في غلتها إذا استفيدت.
فالقول المشهور في الأول: أن يستقبل بثمنها حولًا. كعروض القنية (الممتلكات الشخصية) إذا بيعت.
والقول الآخر، ينظر إليها كعروض التاجر المحتكر، وحكمه عند المالكية معروف، وهو أن يزكى ما يبيعه منها في الحال، إذا كان العرض قد بقي في ملكه حولًا أو أكثر.
وهذان القولان يردان في غلة هذه الأشياء وفائدتها، كما أشار إلى ذلك الشيخ زروق، وقال: انظره في المطولات. (1)
والذي يهمنا هنا هو القول الثاني، الذي يزكى فوائد "المستغلات" عند قبضها.
مذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم:
وكل من قال بتزكية "المال المستفاد" عند تملكه (بلا اشتراط حول) يقول بتزكية الإيراد الناتج عن استغلال العمارات وإنتاج المصانع وأجرة السيارات والطائرات والأجهزة وأدوات الفراشة ونحوها.
وسنرى في بحثنا عن المال المستفاد في الفصل القادم: أن هذا هو مذهب ابن عباس وابن مسعود ومعاوية والناصر والباقر وداود، كما روي عن بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري ومكحول والأوزاعي. (2)
وحجة هؤلاء عموم النص من قوله صلى الله عليه وسلم: ((في الرقة ربع العشر)) .
وزاد بعضهم هنا ما ذكره "الهادي" في قياس المال المعد للكراء والاستغلال على المال المعد للبيع. قالوا: وهو قياس قوي؛ لأن بيع المنفعة كبيع العين، وكلما كراها فكأنما باعها، إلا أن القياس يقتضي أن يقدر النصاب من الغلة التي هي الأجرة. كما ذكر صاحب "الحاصر في مذهب الناصر" حيث ذكر في الحوانيت والدور المستغلات إذا بلغ كراهًا وغلتها في السنة 200 مائتي درهم، ففيها ربع العشر، وإذا لم يبلغ ذلك، فلا شيء. (3)
(1) شرح الرسالة ج 1 ص 329
(2)
انظر: موضوع المال المستفاد في الفصل الآتي عند زكاة (كسب العمل) .
(3)
حواشي شرح الأزهار ج 1 ص 450، 451
فإذا كان الرأي الأول يجعل أخذ الزكاة من رأس المال نفسه –العمارة والمصنع- فإن هذا الرأي يجعل أخذها من الدخل والإيراد، بنسبة ربع العشر 2.5، ولا يشترط لذلك حولان الحول.
رأي معاصر: أن تزكى الغلة زكاة الزرع والثمر:
وهناك رأي آخر معاصر يوافق الرأي الثاني في أخذ الزكاة من غلة هذه الأشياء، ولكنه يخالفه في مقدار ما يؤخذ، فإنه جعل الواجب هو العشر أو نصفه، قياسًا على الواجب في الأرض الزراعية.
فإذا كان الرأي الأول قاس هذه الأشياء على عروض التجارة؛ فهذا قاسها على الأرض الزراعية، وقاس إيرادها على الزرع والثمار، إذ لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه المزروعة، ومال آخر تجبى إليه غلات مصانعه وعماراته ونحوها.
وإلى هذا الرأي –في قياس العمائر والمصانع على الأرض الزراعية- ذهب من فقهائنا المعاصرين الأساتذة: أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن –رحمهم الله في محاضرتهم بدمشق سنة 1952 عن الزكاة. (1)
فقد قسموا الأموال –نقلًا عن الفقهاء- إلى ثلاثة أقسام:
1-
أموال تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية؛ كدور السكنى لأصحابها، والأقوات المدخرة لسد حاجة المالك، وهذه لا تجب فيها الزكاة.
2-
أموال تقتنى لرجاء الربح بسببها، أو يكون من شأنها ذلك، ولكن تختزن في الخزائن، وهذا تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ومنه الأموال التي أخذ الرسول منها الزكاة، وهي الأصل الذي يقاس عليه غيره.
3-
أموال تتردد بين النماء وإشباع الحاجة الشخصية كالحلي والماشية التي تتخذ للعمل والنماء معًا، وفي حكمها اختلف الفقهاء، كما بينا من قبل.
ثم قالوا: إن تطبيق هذا التقسيم على عصرنا ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالًا في عصرنا مغلة نامية بالفعل، لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي، وذكروا من هذه الأموال نوعين:
أولًا: أدوات الصناعة التي تعتبر رأس مال للاستغلال، وهي وسيلة الاستغلال لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال هو تلك الأدوات الصناعية، فهي من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد الذي يعمل بيده، ولا أدوات النجار الذي يعمل بيده. وهكذا.. ولهذا قالوا: نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالًا ناميًا، وليس من الحاجات التي لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها. وإذا كان الفقهاء لم يوجبوا الزكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية لا تتجاوز الحاجة الأصلية لصناعته، والإنتاج لمهارته، فلم تعتبر مالًا ناميًا منتجًا، إنما الإنتاج فيها للعامل.
(1) حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية – الدورة الثالثة – ص 241، 242
أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها رأس مالها النامي، ولذلك نقول: إن أدوات الصناعة التي يملكها صانع يعمل بنفسه كأدوات الحلاق الذي يعمل بيده ونحوه تعفى من الزكاة، لأنها تعد من الحاجات الأصلية له. أما المصانع فإن الزكاة تفرض فيها، ولا نستطيع أن نقول: إن تلك مخالفة لأقوال الفقهاء، لأنهم لم يحكموا عليها، إذ لم يروها، ولو رأوها لقالوا مثل مقالتنا فنحن في الحقيقة نخرج على أقوالهم، أو نطبق المناط الذي استنبطوه في فقههم رضي الله عنهم.
وثانيًا: العمائر المعدة للاستغلال لا للسكنى الشخصية، فإننا نعدها مالًا ناميًا، ولا نعدها من الحاجات الأصلية، ولذلك نقسم الدور إلى قسمين:
أحدهما: ما أعد لسكنى المالك، وهذه لا زكاة فيها، كما قرر الفقهاء.
والقسم الثاني: ما هو معد للاستغلال، فإننا نرى أن تفرض فيه الزكاة، ولسنا في ذلك نخالف الفقهاء، وإن قرروا أن الدور لا زكاة فيه، لأن الدور في عصورهم لم تكن مستغلًا إلا في القليل النادر، بل كانت للحاجة الأصلية، ولم يلتفتوا إلى النادر، لأن الحكم للأغلب الشائع، والنادر لا حكم له في الشرائع.
أما الآن فإن الدور أصبحت للاستغلال لا للسكنى الشخصية فقط، فالعمائر تشاد لطلب الفضل والنماء، وهي تدر الدر الوفير، فالواجب أن تؤخذ منها زكاة، إذ هي مال نام مستغل، ولأننا نأخذ من نظيرها، وهو الأراضي الزراعية، فمن العدل أن نأخذ منها زكاة، وإن لم نأخذ من هذا كان ذلك تفريقًا بين متماثلين، وذلك لا يجوز في الإسلام، ونحن في هذا أيضًا نطبق أقوال الفقهاء أو نخرج على أقوالهم لتحقيق المناط الذي استنبطوه.
ومن الإنصاف أن نقول: إن الإمام أحمد – رضي الله عنه – كانت له غلة تجيئه من حوانيت يؤجرها، فكان يخرج زكاتها، مع أنه لا مورد لعيشه سواها (راجع مناقب الإمام أحمد ص 224- لابن أبي يعلى) .
" ولقد رأيناه صلى الله عليه وسلم يفرض الزكاة فى الأموال المنقولة غير الثابتة من رأس المال بمقدار ربع عشره ووجدناه يفرض الزكاة فى الأموال الثابتة المنتجة، فى الغلة لا فى الأصل، لأن الأصل لا يقبل التجزئة والأخذ منه، فانتقل الأخذ إلى الغلة، فكان الأخذ من الإنتاج بمقدار العشر أو نصف العشر.
وعلى ضوء ما قرر النبي صلى الله عليه وسلم من مقادير مفرقا بين الثابت والمنقول من حيث المأخذ والمقدار، فإنا أيضًا في الأموال المنتجة في عصرنا، نفرق بين المنقول والثابت، ففي المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال بمقدار ربع العشر، والثابت تؤخذ الزكاة من غلته بمقدار العشر أو نصف العشر.
وعلى هذا نقول: إن العمائر وأدوات الصناعة الثابتة تؤخذ الزكاة من غلاتها، ولا تؤخذ من رأس المال، وعند التقدير بالعشر أو نص العشر، إن أمكن معرفة صافي الغلات بعد التكاليف- كما هو الشأن في الشركات الصناعية – فإن الزكاة تؤخذ من الصافي بمقدار العشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة بالعشر من الزرع الذي سقى بالمطر أو العيون، فكأنه أخذه من صافي الغلة، وإن لم تمكن معرفة الصافي على وجهه – كالعمائر المختلفة- فإن الزكاة تؤخذ مها (أي من الغلة) بمقدار نصف العشر" (1) . اهـ.
هذا ما ذهب إليه ثلاثة من كبار العلماء، الذين قضوا حياتهم في دراسة الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه، وتدريسها. فاجتهادهم هنا هو اجتهاد الخبير الأصيل، لا المتطفل الدخيل. وهو اجتهاد صحيح، لأن معتمدة هو القياس، أحد الأصول والأدلة الشرعية المعتبرة عند جمهور الأمة.
أما تعليقنا على الموضوع نفسه. فنوضحه في السطور التالية:
مناقشة وترجيح:
إن الرأي الذي ذهب إليه شيوخنا الأجلاء، يوافق الاتجاه الثاني – كما ذكرنا – في أخذ الزكاة من غلة العمارات والمصانع وفوائدها – أعنى أرباحها – ولكنه يخالفه في مقدار ما يجب أخذه. فالرأي السابق يجعل الواجب ربع العشر، اعتبارًا بزكاة النقود. وهذا الرأي يجعل الواجب العشر أو نصفه، اعتبارًا بزكاة الزروع والثمار، وقياسًا لدخل العمارات والمصانع ونحوها على دخل الأرض الزراعية، وهذا الرأي هو الذي أختاره، لأنه اعتمد على أصل شرعي صحيح وهو القياس، ولكني ألاحظ عليه الأمور الآتية:
أولها: أن هذا الرأي أدخل المصانع والعمارات في الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ولكنه لم يضع ضابطًا عامًا، أو قاعدة جامعة، يندرج تحتها كل ما ماثلها من رءوس الأموال المغلة المنتجة، فلا شك أن في عصرنا مزارع للأبقار والدواجن ونحوها، تدر ربحًا وفيرًا من المنتجات الحيوانية. وفي عصرنا أموال كسيارات الأجرة الصغيرة (التاكسي) والكبيرة (أوتوبيس) وسيارات النقل، والسفن التجارية، والطائرات التجارية والمحلات التي تؤجر الأثاث في الأحفال والمناسبات، وغير ذلك كثير. وهذه الأموال الجديدة لا تدخل تحت المصانع ولا العمارات. ولهذا رأينا أن تدخل هذه الأشياء وما شابهها تحت قاعدة " المستغلات " فهي قاعدة حاصرة جامعة. سواء أكان الاستغلال بطريق كراء العين والاستفادة بأجرتها، كالعمارات والسيارات ونحوها أم بطريق الانتاج وبيع ما يحصل من نتاجه، أي الإنتاج للسوق، كالمصانع ونحوها. سواء كان مصدر الاستغلال حيوانًا كبقر الألبان والدواجن، والتي قسنا منتجاتها في الفصل السادس على عسل النحل – أم جمادًا كالأشياء الأخرى. وسواء كان المستغل عقارًا كالعمارة والمصنع أم منقولًا كالسيارة والأثاث الذي يؤجر في الأحفال ونحوها. فلا ضرورة إذن للتفرقة بين الثابت والمنقول. كما ذكر هذا الرأي، بأن تؤخذ الزكاة في رأس المال الثابت من الغلة بمقدار العشر (أو نصفه) وفي المال المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال نفسه بمقدار ربع العشر.
(1) المرجع السابق ص 249، 250
أجل، لا ضرورة لهذه التفرقة وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل وهو غلة النحل، وليس النحل من العقارات، بل هو أقرب إلى المنقولات، وخلايا النحل، يمكن نقلها بالفعل.
الثاني: إن قياس الدور المؤجرة ونحوها على الأرض الزراعية، غير مسلم. وقولهم: لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه، ومالك تجبى إليه غلات عماراته، منقوض. فإن الزكاة التي تؤخذ من الزرع ليست منوطة بملك الأرض الزراعية، بل بملك الزرع نفسه، فصاحب الزرع عليه الزكاة ولو كان مستأجرًا كما هو قول الجمهور.
والذي يصح أن يقاس عليه هو مالك الذي يكري أرضه، وتجبى إليه غلتها في صورة " أجرة " من مستأجريها، فهذا أشبه شيء بمالك العمارة الذي يكريها، وتجبى إليه غلتها كذلك.
ولهذا كان لا بد أن يسبق هذا الحكم أصل يقاس عليه، وهو القول بزكاة أجرة الأرض الزراعية، إذا قبضها مالكها، وهو ما ذهبنا إليه من قبل، ورجحناه بالأدلة. بدون هذا الأصل لا يسلم القياس المذكور.
الثالث: أن قياس العمارات ونحوها على الأرض الزراعية يمكن أن ينقض بوجود الفارق بينهما. ذلك أن الأرض الزراعية مصدر دائم للدخل، لا يعتريه توقف، ولا يلحقه بلى أو تآكل بتقادم العهد. بخلاف العمارات ونحوها فإنها مصدر مؤقت يعيش سنوات تقل أو تكثر ثم ينتهي ويتوقف، فكيف يصح القياس مع هذا الاختلاف بين الأصل والفرع والقياس يقتضي التماثل بين المقيس والمقيس عليه وإلا كان قياسًا مع الفارق.
والذي يخرجنا من هذا الاعتراض، ويصحح القياس المذكور هو الأخذ بما ذهب إليه علماء الضرائب من إعفاء مقابل الاستهلاك، فقد نادوا باقتطاع مبالغ سنوية من الدخل بحيث يؤدي تراكمها على مر السنين إلى الاستعاضة عن رأس المال - مصدر الدخل- بمصدر آخر جديد. فإذا كانت الآلة أو العقار – مصدر الدخل – يستطيع الاستمرار في الإنتاج مدة ثلاثين عامًا مثلًا، فإنه يمكن – بإدخار جزء من ثلاثين جزءًا من ثمنه كل عام – شراء مصدر آخر من آلة أو عقار، عند توقف الأول، بحيث يبقى الدخل قائمًا مستمرًا، وهذا الجزء المقتطع كل عام يجب أن يعفى من الضرائب (1) فإذا كان رجل يملك عمارة يقوم ثمنها بثلاثين ألف دينار مثلًا، وافترضنا أنها تنقص كل عام 1/30 من ثمنها، أي ألف دينار فالمفروض أن تخصم هذه الألف من غلتها السنوية، فلو كانت تؤجر في السنة بمبلغ 3000 ثلاثة آلاف – تعتبر كأنه لم تؤجر إلا بألفين فقط.
وبهذا يصح قياس العمارة والمصنع على الأرض الزراعية، فإنها مصدر باق صالح للإنتاج على مر الزمن، وما تحتاج إليه من تسميد ونحوه، فهو أشبه بنفقات الصيانة للمبنى والآلة. وهذا غير مقابل الاستهلاك الذي ذكرنا.
(1) انظر: علم المالية الدكتور رشيد الدقر ص 368
المبحث الثالث:
نصاب الزكاة في العمائر ونحوها
لم يعرض الأساتذة أصحاب هذا الرأي لموضوع النصاب الذي يجب توافره في غلة العمارة أو المصنع، كم هو؟ وكيف يقدر بقيمة نصاب الزرع، وهو خمسة أوسق (خمسون كلية مصري) ؟ وهل يعتبر أدنى الحبوب والثمار أو أوسطها أو أعلاها؟ – وقد يؤيد هذا المنزع أن نقيس غلة المصنع على غلة الأرض- أم يقدر النصاب بالنقود أي بما قيمته 85 جرامًا من الذهب، على اعتبار أن الذهب وحده التقدير في كل العصور؟
لعل هذا هو الأقرب والأيسر، فإن الشارع اعتبر من ملك هذا القدر غنيًا، وأوجب عليه زكاة، ولم يوجب على من ملك دون ذلك شيئًا من الزكاة. وما دام مالك العمارة أو المصنع يقبض غلة ملكه نقودًا؛ فالأولى أن يقدر النصاب بالنقود.
المدة التي يعتبر فيها النصاب:
وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب – لأنه الحد الأدنى للغنى في نظر الشارع – فما المدة التي يعتبر فيها النصاب؟ أيعتبر بالشهر؟ فكل غلة شهر يشترط فيها أن تبلغ نصابًا، أم يعتبر بالسنة؟ فتضم إيرادات الشهور بعضها إلى بعض، ويخرج منها الزكاة في رأس الحول إذا بلغت نصابًا. إن الاعتبار بالشهر له مزية، وهي إعفاء ذوي الإيراد القليل من أصحاب الدور المتواضعة، التي لا يبلغ كراها في الشهر نصابًا، ففيه رفق بأرباب المال.
ولكن الاعتبار بالسنة أنفع للفقراء والمستحقين، لما فيه من توسيع قاعدة الزكاة والأموال التي تجب فهيا، إذ في هذه الحالة تجب على عدد أكبر، فإن ضم دخل الشهور بعضها إلى بعض حتى تبلغ النصاب يدخل في ممولي الزكاة عددًا أكبر.
ولعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فإن دخل الفرد- كدخل الدولة أيضًا – يقدر بالسنة لا بالشهر، وقديمًا كانوا يؤجرون الدور بالسنة، ولهذا ذكرنا عن بعض الفقهاء الذين قالوا بتزكية المال المستفاد عند قبضه: إذا بلغ كراء الدار في السنة نصابًا زكي في الحال.
وفي هذا الحال تعتبر غلات الشهور كالزرع أو النخل الذي يؤتى ثماره على دفعات، فيضم بعضها إلى بعض، كما هو مذهب أحمد. قال في المغنى:(وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، سواء اتفق وقت إطلاعها وإدراكها أم اختلف، فتقدم بعضها على بعض في ذلك، ولو أن الثمرة جذت ثم أطلعت الأخرى وجذت، ضمت إحداهما إلى الأخرى، فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين، ضم أحدهما إلى الآخر)(1) .
وبذلك يكون حساب العمائر – كحساب المصانع ونحوها – حسابًا واحدًا متشابهًا، فإن المصانع إنما تصفى حسابها، وتعرف صافي إيرادها كل حول، لا كل شهر.
رفع النفقات والديون من الإيراد:
والذي أختاره هنا: أن الزكاة تجب في صافي الإيراد، أي بعد رفع ما يقابل النفقات والتكاليف من أجور وضرائب ونفقات صيانة ونحوها، وكذلك رفع ما يقابل الديون التي تثبت صحتها، ورفع قدر النفقة هو ما ذهب إليه عطاء وغيره في الزرع والثمر، قال عطاء:" ارفع نفقتك وزك الباقي"، وهو الذي أيده ورجحه ابن العربي في شرح الترمذي.
(1) المغنى ج 1 ص 733.
إعفاء الحد الأدنى للمعشية:
وهنا بحث تتم به زكاة العمائر ونحوها، وذلك هو حكم إعفاء الحد الأدنى لمعيشة المالك وعياله، إذا لم يكن له مورد يعيش منه غيرها.
فهل تجب الزكاة في صافي الإيراد السنوي، دون أن يقتطع له منه قدر ما يعيش به هو ومن يعوله في السنة، وبتعبير فقهائنا: ما يحتاج إليه في حوائجه الأصلية؟ أم تجب في جملة الإيراد دون إعفاء شيء من ذلك؟
لا ريب أن من الناس من لا مورد لرزقه غير دار يؤجرها، أو مصنع صغير يديره بنفسه، أو بمن ينوب عنه، وقد يكون هذا المصنع أو تلك الدار لشيخ كبير، أو أرملة، أو صبية أيتام.
فهل يترك لهؤلاء وأمثالهم نصيب لمعيشتهم، وما لا بد لهم منه، وتفرض الزكاة فيما بقى؟ أم تؤخذ الزكاة من جملة الإيراد كله؟
إن الذي يتفق وعدالة الإسلام أن يعفى ما يعتبر حدًا أدنى للمعيشة – في تقدير خبراء متدينين – وأن تجب الزكاة في الباقي من إيراد السنة إذا بلغ نصابًا، وهذا بالنسبة لمن ليس له إيراد آخر يكفيه حاجاته، كمعاش أو راتب أو نحوه.
ودليلنا على ذلك أمران:
الأول: أن الفقهاء اعتبروا المال الذي يحتاج إليه صاحبه حاجة أصلية كالمعدوم شرعًا، وشبهوه بالماء المستحق للعطش، يجوز التيمم مع وجوده، لأنه مع الحاجة إليه اعتبر معدومًا.
الثاني: ما جاءت به الأحاديث – التي ذكرنا من قبل- من أمر الخارصين لثمار النخيل والأعناب بالتخفيف والتيسير على أرباب الثمار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:((دعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) (أي يعفى من الزكاة هذا القدر توسعة على أرباب المال، وتقديرًا لحاجتهم إلى الأكل من الثمر رطبًا) .
وقد يكون من الأضبط والأيسر إعفاء ثلث الإيراد أو ربعه ابتداء، اهتداء بروح الأحاديث المذكورة.