المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور علي أحمد السالوس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني

- ‌كلمة معالي سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة معالي الدكتور أحمد محمد علي

- ‌كلمة معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف

- ‌كلمة سعادة الدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌زكاة الديونلفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونفضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسىوفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي

- ‌زكاة المستغلات العمارات والمصانع ونحوهافضيلة الدكتور يوسف القرضاوي

- ‌زكاة المستغلاتفضيلة الدكتور علي احمد السالوس

- ‌أطفال الأنابيبفضيلة الشيخ رجب التميمى

- ‌وثائق مقدمة للمجمعالحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعيوما يسمى بشتل الجنينالشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌بنوك الحليبفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي

- ‌بنوك الحليبالدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاشالدكتور محمد على البار

- ‌الإنعاشفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌التأمين وإعادة التأمينفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌التأمين وإعادة التأمينفضيلة الشيخ رجب التميمى

- ‌خلاصة في التأمينالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌عقود التأمين وإعادة التأمين في الفقه الإسلاميدراسة مقارنة بالفقه الغربيفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌التأمين وَإعادة التأمينالشَيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌وثائق مقدمَة للمؤتَمرالتأمين وَإعادة التأمينالشَيخ عبٌد الله بن زيد آل مَحمُود

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدفضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌أحكام التعامل في المصارف الإسلاميةالدكتور وهبة الزحيلي

- ‌أحكام التعامل في المصارف الإسلاميةفضيلة الشيخ محمد على عبد الله

- ‌بداية الشهور العربيةفضيلة الشيخ محمد على التسخيري

- ‌توحيد بدايات الشهور العربيةفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌رسالة بلغة المطالع في بيان الحساب والمطالعفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌بدايات الشهور العربية الإسلاميةلفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌حول اعتماد الحساب الفلكيلتحديد بداية الشهور القمريةهل يجوز شرعا أو لا يجوز؟مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌وثائق مقدمة المجمعاجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عاموبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكامفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور بكر أبو زيد

- ‌دراسة حول خطابات الضمانللدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور زكريا البري

- ‌‌‌خطاب الضمَانفضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة

- ‌خطاب الضمَانفضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة

- ‌آراء حَول خطاب الضمَانفضيلة الشيخ محمد على التسخيرى

- ‌جواز أخذ الأجر أو العمولةفي مقابل خطاب الضمانلفضيلة الشيخ / أحمد على عبد الله

الفصل: ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور علي أحمد السالوس

‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد

الدكتور علي أحمد السالوس

محتوى البحث

- تقديم.

- وظيفة البنك.

- ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا.

- القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي.

- القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة.

- الفرق بين القرض والمضاربة.

- الثابت والمتطور في القرض والمضاربة.

- النص والاجتهاد في المضاربة.

- ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة.

- هل البنك فقير حتى نقرضه؟

- هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟!

- المنفعة للمقرض.

- الأدلة من كتب السنة.

- دفتر التوفير.

- الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد.

- خصم الأوراق التجارية قرض ربوي.

- الخاتمة.

ص: 573

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

تقديم

الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونسأله عز وجل العون والرشاد، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل. والصلاة والسلام على الرسول المصطفى خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فمن المعلوم أن المعاملات في الإسلام تجمع بين الثبات والتطور، فالربا والغش والاحتكار من الأشياء التي حرمها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، وهي حرام إلى يوم القيامة، في كل زمان وفي كل مكان، مهما اختلفت الصور والأشكال. فليس لأحد أن يحل صورة مستحدثة أو شكلا جديدا ما دام في جوهره يدخل تحت ما حرمه الله سبحانه وتعالى.

والبيع حلال إلى يوم يبعثون، ولكن نقود اليوم ليست كنقود عصر التشريع، ومن سلع اليوم ما لم يعرفه العالم من قبل، واستحدثت أشكال يتعامل بها الناس في بيوعهم. وما دام البيع يخلو من المحظور فليس لأحد أن يقف به عند شكل تعامل به المسلمون في عصر معين.

لهذا كان من الضروري لمن يدرس فقه المعاملات المعاصرة أن يميز بين الثابت والمتطور، وأن ينظر إلى التكييف الشرعي للصور المستحدثة حتى يمكن بيان الحكم الشرعي، وأضرب هنا هذا المثال:

من أحدث ما توصلت إليه بعض البنوك الربوية أنها جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا، وحددت الراتب تبعا لمقدار ما يودع. ويعلن عن هذا النوع من التعامل في الصحف دعوة وترغيبا للناس.

وإذا تركنا هذه المؤسسة الحديثة بمشروعها المستحدث ونظرنا إلى المعاملات في العصر الجاهلي وجدنا من صور الربا صورة اشتهرت بين الناس، وهي: أن يدفع أحدهم ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله.

وإذا نظرنا إلى ما قبل العصر الجاهلي وجدنا هذه الصورة في الدولتين الإغريقية والرومانية فقد جرى العرف في كلتا الدولتين بأن الفائدة السنوية يؤديها المدين على أقساط شهرية!

(انظر دراسات إسلامية لأستاذنا الجليل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز – ص 150)

ص: 574

فودائع البنوك ذات الراتب الشهري صورة (طبق الأصل) لتعامل ربوي اشتهر بين أهل الجاهلية، وعند الإغريق والرومان.

فمن قال بتحريم فوائد هذه الودائع فقد أصاب، حيث رد الصورة إلى أصلها الجاهلي. ومن ذهب إلى التحصيل فربما لم ينظر نظرة عميقة فاحصة.

وإني إذ أتشرف بتقديم هذا البحث لمؤتمركم الموقر أرجو ألا أكون قد جاوزت الحد إذا جرى القلم بذكر بعض الفتاوى الشرعية، فإن البحث إنما قدم ليقول السادة العلماء الأجلاء كلمتهم ويصدروا فتواهم، غير أني أشير إلى فتاوى سبقت لعدد من المؤتمرات، ولمؤتمركم هذا أن يصدر ما يؤكدها ويدعمها أو يعارضها.

نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وأن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجعل هذا المؤتمر مباركا طيبا، معليا لكلمته، داحضا للباطل، مبطلا للشبه التي يثيرها المثيرون.

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}

ولله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى.

وظيفة البنك

كلمة " البنك " من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، وجاء التعريف في معجمه الوسيط بقوله:

(البنك) : مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض.

وهذا التعريف يبين وظيفة البنك، وهو يتفق مع تعريف رجال الاقتصاد.

ص: 575

عرف أحد أساتذة الاقتصاد البنك بقوله:

"يمكن تعريف البنك بأنه المنشأة التي تقبل الودائع من الأفراد والهيئات تحت الطلب أو لأجل، ثم تستخدم هذه الودائع في منح القروض والسلف ".

وتحدث أستاذ آخر عن أعمال البنوك فقال:

" يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة هي:

التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا أم مشروعات أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية. وهي التي تعرف باسم الودائع الجارية – في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون.

وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين " اهـ.

(التعريف الأول للدكتور إسماعيل محمد هاشم. انظر كتابه مذكرات في النقود والبنوك ص 43.

والأستاذ الآخر هو الدكتور محمد زكي شافعي – راجع كتابه: مقدمة في النقود والبنوك ص 197) .

البنك إذن تاجر ديون، والفوائد التي يدفعها ترجع إلى مقدار الدين. والزمن الذي يمكثه هذا الدين، ومعظم كسب البنوك من هذه الفوائد، حيث تأخذ قروضا بسعر أقل مما تقرض.

ص: 576

ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا

ذهب أكثر من تكلم عن ودائع البنوك إلى أنها تعتبر قرضا، ويشيع بين آخرين أنها وديعة، حيث يقال: نحن لا نقرض البنك وإنما نودع لديه. وذهب بعض من أراد أن يستحل فوائد البنوك إلى القول بأن هذه الفوائد تعتبر أجرا لاستعمال النقود أي أن الودائع تدخل تحت عقد الإجارة.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر ما يبين الفرق بين العقود الثلاثة كما جاء في الفقه الإسلامي: عقد القرض ينقل الملكية للمقترض، وله أن يستهلك العين، ويتعهد برد المثل لا العين. والمقترض ضامن للقرض إذا تلف أو هلك أو ضاع، يستوي في هذا تفريطه وعدم تفريطه. أما الوديعة فهي أمانة تحفظ عند المستودع. وإذا هلكت فإنما تهلك على صاحبها لأن الملكية لا تنقل إلى المستودع، وليس له الانتفاع بها، ولذلك فهو غير ضامن لها إلا إذا كان الهلاك أو الضياع بسبب منه.

والعقد الثالث وهو الإجارة: فمن المعلوم أنه لا ينقل الملكية للمستأجر وإنما يعطيه حق الانتفاع مع بقاء العين لصاحبها ويدفع أجرا مقابل هذا الانتفاع ، ولذلك يطلق على الإجارة " بيع المنافع " فتجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقاء العين بحكم الأصل، ولا تجوز إجارة ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالطعام، فلا ينتفع به إلا باستهلاكه، والإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين واستهلاكها، ومثل الطعام النقود، فلا يمكن الانتفاع بها إلا بإنفاقها في الشراء أو غيره، أي باستهلاك العين، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، أن تلفت بغير تفريط لم يضمنها.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن ودائع البنوك سميت بغير حقيقتها فهي ليست وديعة؛ لأن البنك لا يأخذها كأمانة يحتفظ بعينها لترد إلى أصحابها، وإنما يستهلكها في أعماله ويلتزم برد المثل.

وهذا واضح في الودائع التي يدفع البنك عليها فوائد، فما كان ليدفع هذه الفوائد مقابل الاحتفاظ بالأمانات وردها إلى أصحابها.

أما الحسابات الجارية فمن عرف أعمال البنوك أدرك أنها تستهلك نسبة كبيرة من أرصدة هذه الحسابات.

ص: 577

كما أن البنك في جميع الحالات ضامن لرد المثل، فلو كانت وديعة لما كان ضامنا، ولما جاز له استهلاكها.

ومن الواضح الجلي أن ودائع البنوك لا تدخل في باب الإجارة، ويكفي أن ننظر إلى طبيعة النقود، وإلى عملية الإيداع من حيث الملكية والضمان والاستهلاك.

ولم يبق إلا القرض وهو ينطبق تماما على عقد الإيداع.

وإذا نظرنا إلى القانون نجد أن تشريعات معظم الدول العربية تعتبر هذه الودائع قرضا، قال العلامة الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري في كتابه (الوسيط في شرح القانون المدني) : " ويتميز القرض عن الوديعة في أن القرض ينقل ملكية الشيء المقترض إلى المقترض على أن يرد مثله في نهاية القرض إلى المقرض، أما الوديعة فلا تنقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده بل يبقى ملك المودع ويسترده بالذات. هذا إلا أن المقترض ينتفع بمبلغ القرض بعد أن أصبح مالكا له، أما المودع عنده فلا ينتفع بالشيء المودع بل يلتزم بحفظه حتى يرده إلى صاحبه.

ومع ذلك فقد يودع شخص عند آخر مبلغا من النقود أو شيئا آخر مما يهلك بالاستعمال ويأذن له في استعماله، وهذا ما يسمى بالوديعة الناقصة.

وقد حسم التقنين المدني الجديد الخلاف في طبعية الوديعة الناقصة، فكيفها بأنها قرض. وتقول المادة 726 مدني في هذا المعنى: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا.

أما في فرنسا فالفقه مختلف في تكييف الودائع الناقصة. والرأي الغالب هو الرجوع إلى نية المتعاقدين. فإذا قصد صاحب النقود أن يتخلص من عناء حفظها بإيداعها عند الآخر فالعقد وديعة. أما أن قصد الطرفان منفعة من تسلم النقود عن طريق استعمالها لمصلحته فالعقد قرض. ويكون العقد قرضا بوجه خاص إذا كان من تسلم النقود مصرفا " (5/428- 429) وقال بعد ذلك في حديث عن صور مختلفة لعقد القرض: " وقد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصور المألوفة.. من ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا " (5/435) .

ص: 578

ويقول الدكتور علي جمال الدين عوض في كتابه (عمليات البنوك من الوجهة القانونية) :

إذا نظرنا إلى الحالة الغالبة للوديعة المصرفية وجدناها قرضا؛ لأن الوديعة تكون بقصد الحفظ والمودع لديه يقوم بخدمة للمودع، في حين أنه في القرض يستخدم المقترض مال غيره في مصالحه الخاصة، والتمييز دقيق بين كل من القرض والوديعة في العمل، فإذا وعد البنك برد النقود لدى الطلب فقد يمكن القول أن هناك وديعة؛ لأن الرد بمجرد الطلب يمنع البنك من استخدام النقود.

ولذلك فهو يقوم بخدمة لعملائه ولا يعتبر مقترضا، لكن هذا لم يعد صحيحا اليوم إلا من الناحية النظرية، فإن البنوك إذ تقبل الودائع ترد لدى الطلب أو بعد مدة قصيرة من الطلب، فإن ذلك لا يمنعها من استخدام النقود في مصالحها، اعتمادا منها على أن المودعين لن يتقدموا جميعا لطلب الاسترداد دفعة واحدة في وقت واحد، وأن سحب بعض الودائع يؤدي إلى إيداع مبالغ جديدة، وأن الودائع الجديدة تستخدم في مواجهة طلبات الاسترداد، وأنه على أي حال إذا زاد القدر المطلوب على الموجود فعلا لدى البنك فإنه يستطيع بطرق متعددة الحصول على ما يلزمه لمواجهة الطلبات الجديدة، فضلا عن أن الوديعة بالمعنى الفني الدقيق التي تهدف إلى خدمة المودع تفرض في الواقع أن البنك المودع لديه لا يعطي فائدة عنه، بل فوق ذلك يتقاضى أجرا عن هذه الخدمة؛ لأن مجانية الإيداع التي يطلبها الفرد يصعب أن يقبلها البنك، كما أن القانون المدني لا يفترض في الوديعة أجرا إلا لصالح المودع لديه، في حين أن البنك لا يتلقى أي أجر عن عمله، بل إنه يعطي فائدة للعميل مقابل إبقاء النقود لديه.

ولذلك يمكن القول بالنظر على الواقع أن الوديعة النقدية المصرفية في صورتها الغالبة تعد قرضا، وهو ما يتفق مع القانون المصري حيث تنص المادة 726 منه على ما يأتي: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. ويأخذ كثير من تشريعات البلاد العربية بهذه القرينة، أي ينص على أن البنك يمتلك النقود المودعة لديه، ويلتزم بمجرد رد مثلها من نفس النوع.

(راجع ما كتبه عن طبيعة الوديعة النقدية المصرفية ص20-28 والجزء الذي نقلناه منه بتصرف من صفحات 22، 26، 27) .

ص: 579

بعد هذا كله نقول: أن ودائع البنوك تعتبر قرضا في نظر الشرع والقانون، والاتفاق هنا بين الشرع والقانون من حيث الحكم على الودائع بأنها قرض، وبعد هذا الاتفاق يأتي الاختلاف الكبير بين شرع الله تعالى في تحريم ربا الديون بصفة عامة وبين القانون الوضعي في إباحته هذا الربا بعد أن أسماه فوائد.

ومن هنا ندرك سبب الفتوى التي أصدرها بالإجماع علماء المسلمين المشتركون في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بعد أن نظروا في الأبحاث المقدمة إليهم عن أعمال البنوك، ونص هذه الفتوى هي:

" الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام.

والإقراض بالربا محرم، لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا حرام كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، ووكل امرئ متروك لدينه في تقرير ضرورته.

وإن أعمال البنوك في الحسابات الجارية، وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.

وإن الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بالفائدة، وسار أنواع الإقراض نظير فائدة، كلها من المعاملات الربوية، وهي محرمة ".

وبعد هذا المؤتمرعقدت عدة مؤتمرات، وبحث المجتمعون هذا الموضوع، وكلهم أجمعوا على أن فوائد البنوك من الربا المحرم.

ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ونرى هذا مثلا في مقترحات وتوصيات المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي.

ونرجو أن يكون مؤتمرنا هذا دعما وتقوية للمؤتمرات السابقة.

ص: 580

القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي

في الفتوى السابقة لمجمع البحوث إشارة لعدم التفرقة بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي من حيث تحريم فوائد كلا النوعين من القروض.

وإذا كان تحريم القروض الاستهلاكية أمرا لا خلاف حوله، فإن تحريم فوائد القروض الإنتاجية يجب أن تستقر عليه الفتوى، فهي القروض الربوية التي شاعت وانتشرت في العصر الجاهلي، ثم جاء الإسلام فحرم ربا الديون جميعها.

وإذا نظرنا إلى البيئة العربية التي نزل فيها التحريم لم نكد نجد قرضا استهلاكيا، ذلك أن الربا قل أن يحتاج إلى هذا النوع من القروض:

فالعرب في الصحراء كان غذاؤهم فيها بسيطا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه في وسطه منطقة، وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال ". " ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، فكان الغني بينهم يعطف على الفقير، كثيرا ما كان يذبح إبله في سنين القحط، يطعمها عشيرته، كما يذبحها قرير العين لضيفانه الذين ينزلون به أو تدفعهم الصحراء إليه. ومن سنتهم أنهم كانوا يوقدون النار ليلا على الكثبان والجبال؛ ليهتدي إليهم التائهون والضالون في الفيافي، فإذا وفدوا عليهم أمنوهم حتى لو كانوا من عدوهم ".

(انظر كتاب: العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص68، ص78)

أما مكة في الجاهلية فكانت مدينة تجارية عظيمة، وأهلها اعتادوا القيام برحلتين تجاريتين: إحداهما إلى اليمن شتاء، والأخرى إلى الشام صيفا، وقد امتن الله عز وجل عليهم بهذا في سورة قريش كما هو معلوم.

" وعقد عبد شمس معاهدة تجارية مع النجاشي، كما عقد نوفل والمطلب حلفا مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وكذلك ازدادت مكة منعةو جاه كما ازدادت يسارا، وبلغ أهلها من المهارة في التجارة أن أصبحوا لا يدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم. كانت القوافل تجيء إليها من كل صوب، وتصدر عنها في رحلتي الشتاء والصيف، وكانت الأسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها، ولذلك مهر أهلها في النسيئة والربا، وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات "(حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل ص97) .

من هنا نرى أن مثل هذا المجتمع العربي تندر فيه القروض الاستهلاكية، وتكثر القروض الإنتاجية للتجارة.

ص: 581

القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة

إلى جانب القرض الإنتاجي الربوي الذي شاع واستشرى في الجاهلية، وجد أيضا تعامل آخر للاستثمار وهو شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في شبابه وقبل زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها تعامل بهذه الشركة عندما تاجر في مالها.

وعندما جاء الإسلام وحرم الربا، دخل القرض الإنتاجي الربوي في دائرة الحرام، وبقيت المضاربة حلالا، فتعامل بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع غيرها من طرق الاستثمار المشروعة، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي تعامل بالربا، وكان رباه أول ربا وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، تعامل أيضا بالمضاربة، وكان يشترط على المضارب شروطا، إذا خالفها فهو ضامن، ويذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع إليه شرط العباس فاجازه.

(انظر المطالب العالية 1/419، والخبر سكت عليه البوصيري، ولكن في سنده مقال) .

ومن المعلوم أن المضارب ليس بضامن إلا إذا خالف شروط العقد، أو فعل ما ليس من حقه أن يفعله، أو قصر أو فرط.

ومن الذين تحدثوا عن الودائع، وعن بعض صورها مثل شهادات الاستثمار، وجدنا من يشير إلى شركة المضاربة، ومن يعتبر هذه المعاملات عقودا مستحدثة لها بالمضاربة شبه، ولكنها تختلف عنها بما لا يخالف كتابا ولا سنة، لهذا أحب أن نميز بين القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة، وأن ننظر إلى الثبات والتطور في هذين العقدين، قبل النظر في القول المذكور آنفا.

ص: 582

الفرق بين القرض والمضاربة

القرض يحدد له فائدة ربوية تبعا للمبلغ المقترض، والزمن الذي يستغرقه القرض، كأن يكون 10 % من رأس المال سنويا، بغض النظر عما ينتج عن هذا القرض من كسب كثير أو قليل أو خسارة.

أما المضاربة، فالربح الفعلي يقسم بين صاحب رأس المال والمضارب بنسبة متفق عليها، والخسارة من رأس المال وحده، ولا يأخذ في حالة عدم وجود ربح.

والعلاقة بين صاحب القرض وآخذه ليست من باب الشركة، فصاحب القرض له مبلغ معين محدد ولا شأن له بعمل من أخذ القرض، ومن أخذ القرض يستثمره لنفسه فقط، حيث يملك المال ويضمن رد مثله مع الزيادة الربوية، فإن كسب كثيرا فلنفسه، وإن خسر تحمل وحده الخسارة.

أما المضاربة فهي شركة، فيها الغنم والغرم للاثنين معا، فالمضارب لا يملك المال الذي بيده وإنما يتصرف فيه كوكيل عن صاحب رأس المال، والكسب مهما قل أو كثر يقسم بينهما بالنسبة المتفق عليها، وعند الخسارة يتحمل صاحب رأس المال الخسارة المالية، ويتحمل العامل ضياع جهده وعمله، ولا ضمان على المضارب كما ذكرنا.

ص: 583

الثابت والمتطور في القرض والمضاربة

الإسلام لا يبيح إلا القرض الحسن، سواء أكان القرض استهلاكيا أم إنتاجيا، وكل مال يدفع في مقابل الزمن الذي يستغرقه القرض فهو من ربا النسيئة.

وإذا اتخذ القرض أشكالا مختلفة، وصورا متعددة، واستحدثت منه ما استحدث، فإنا ننظر في جوهره ومضمونه، ونلحقه بأصله، فإما أن يكون قرضا حسنا، وإما أن يكون قرضا ربويا.

وفي بداية البحث أشرت إلى الرواتب الشهرية التي تدفعها البنوك الربوية لمن يودع لديها مبلغا من النقود، ورأينا أن هذا الشكل في مضمونه يعود إلى ربا الجاهلية، بل إلى ما قبل الجاهلية.

ونضرب هنا مثلا آخر من أعمال البنوك وهو ما يعرف بالاعتماد المستندي، فالبنك يأخذ عمولة كأجر على أعماله التي يقوم بها لصالح عميله الذي يستفيد من فتح هذا الاعتماد، فالأجر هنا حلال؛ لانه في مقابل منفعة مشروعة، غير أن البنك عند فحص المستندات ودفع الثمن لمصدر السلع، قد لا تكفي الأموال التي أخذها من العميل ثمنا لهذه السلع، وعند ذلك يقوم البنك بدفع المبلغ الزائد، وهنا إذا كان البنك من البنوك الإسلامية، فإنه ينص صراحة على أن هذا المبلغ قرض حسن، أما إذا كان البنك ربويا فإنه يعتبر هذا المبلغ دينا على العميل بفائدة محددة، أي أن هذا يعتبر قرضا ربويا.

والبنوك الربوية كما تقرض قروضا تأخذ الشكل العادي المعروف، فإنها تعطي قروضا في أشكال مستحدثة مثل ما يسمى بفتح الاعتماد (غير المستندي) ، وخصم الأوراق التجارية، والسحب على المكشوف

إلخ.

فكل هذه المعاملات في جوهرها قروض ربوية، والمضاربة في الأصل كانت صورة بدائية لا تكاد تزيد عن شركة بين اثنين: صاحب رأس المال والمضارب. وكانت تستخدم في التجارة في أشياء محدودة. ورأس المال كان من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية.

ص: 584

غير أنها في جوهرها شركة، وليست علاقة دائن بمدين، ولهما شرطان مجمع علهما وهما ما أشرت إليهما في الربح والضمان. فإذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه مبلغا محددا من المال بطلت المضاربة. ومتى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهما من الخسارة، فالشرط باطل بغير خلاف.

والبنوك الإسلامية عندما أرادت أن تقدم تطبيقا عمليا للاستثمار الحلال المشروع، ابتعدت عن القرض الإنتاجي الربوي، وقامت على أساس شركة المضاربة الإسلامية، غير أن الشكل تطور دون مساس بالجوهر.

فمجموع المودعين يمثل صاحب المال، والبنك يعتبر المضارب، ورأس المال لم يعد من الذهب والفضة، فقد تطورت النقود وأصبحت ورقية، ومجالات الاستثمار تعددت وتنوعت.. كل هذا التطور لا يمس الجوهر الثابت، فلا تزال شركة فيها الغنم والغرم، تحتفظ بالشرطين اللذين أجمعت عليهما الأمة طوال أربعة عشر قرنا.

النص والاجتهاد في المضاربة

قال أحد السادة العلماء:

" لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه تكلم في موضوع المضاربة حتى قال الأئمة ورجال الحديث كالشوكاني في (نيل الأوطار) : ليس في المضاربة شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث ضعيف يقول أن فيها بركة، كما أثر عن الإمام ابن حزم أن كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ما عدا القراض (المضاربة) فما وجدنا له أصلا البتة في الكتاب والسنة " أه.

وأرى من اللازم هنا تكملة ما نقله الشوكاني عن ابن حزم حيث قال بعد الكلام السابق مباشرة:

" ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز ".

ص: 585

بعد هذا أقول: إذا لم تصل إلينا سنة قولية أفليس التقرير من السنة؟

ثم هذا الإجماع الصحيح المجرد لم يخرج عليه أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم، وأخذ به كل الأئمة المجتهدين، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا، هذا الإجماع أليس حجة ملزمة ومصدرا من مصادر التشريع الإسلامي؟

ألنا اليوم أن نهدم مثل هذا الإجماع؟

ولننظر هنا إلى ما قاله إمام دار الهجرة في الموطأ (كتاب القراض – باب ما يجوز من الشرط في القراض، وباب ما لا يجوز) :

قال رضي الله عنه في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا، واشترط عليه فيه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه: أن ذلك لا يصلح، وإن كان درهما واحدا.. إلا أن يشترط نصف الربح له ونصفه لصاحبه، أو ثلثه أو ربعه، أو أقل من ذلك أو أكثر. فإذا سمى شيئا من ذلك، قليلا أو كثيرا، فإن كل شيء سمي من ذلك حلال، وهو قراض المسلمين.

قال: " ولكن أن اشترط أن له من الربح درهما واحدا فما فوقه، خالصا دون صاحبه، وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين، فإن ذلك لا يصلح، وليس على ذلك قراض المسلمين ".

وتعبير الإمام مالك هنا " وهو قراض المسلمين مع كلمة حلال "، ثم تعبيره الآخر:" وليس على ذلك قراض المسلمين " يدل على أن القراض الحلال لا يكون فيه مبلغ محدد من المال ولو كان درهما واحدا.

والصورة التي اعتبرها الإمام مالك مخالفة لما عليه المسلمون، لا تخرج عن الشركة، لكن درهما واحدا يمكن أن يبطلها ويخرجها عن دائرة الحلال. فكيف إذن بما لا يمكن أن يكون شركة فيها الغنم والغرم، وليس إلا قرضا استثماريا ربويا!

ويرد هنا سؤال وهو أن ما ورد عن الصحابة الكرام، وأجمعوا عليه دون مخالف واحد، ألا يدخل في حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟

ص: 586

أفيمكن أن يكون هذا الاجتهاد محضا أم أنهم أخذوه وفهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم؟

أليسوا هم أدرى وأعلم بما أحل صلى الله عليه وسلم وبما حرم؟

والمضاربة ليست هي الشركة الوحيدة في الإسلام، فلننظر إلى الشركات المماثلة. قال ابن تيمية رحمه الله:

" والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنة، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ".

ثم قال: " والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، أن أخذ هذا أخذ هذا ، وإن حرم هذا حرم هذا. ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدرا معلوما، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان ، فإنهما يشتركان في الربح.

ولو شرط مال مقدر من الربح، أو غيره: لم يجز. وهذا هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخابرة، كما جاء ذلك مفسرا في صحيح مسلم وغيره، عن رافع بن خديج، أنهم كانوا يكرون الأرض، ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات والجداول، فربما سلم هذا ولم يسلم هذا.

ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم موافق لقياس الأصول؛ لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح. والشركة حقها العدل بين الشريكين فيما لهما من المغنم وعليهما من المغرم، فإذا خرجت كان ظلما محرما ".

(مجمعوع الفتاوى 30/225 – 226) .

قال ابن تيمية في موضع آخر:

" في المزارعة

يشتركان في المغنم وفي الحرمان كما في المضاربة، فإذا حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا. ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء، لا في المضاربة، ولا في المساقاة، ولا في المزارعة؛ لأن ذلك مخالف للعدل، إذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لم يحصل شيء، وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي روي فيها أنه نهى عن المخابرة، أو عن كراء الأرض، أو عن المزارعة، كحديث رافع بن خديج وغيره: فإن ذلك قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك، ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ".

(مجموع الفتاوى 25/16 – 62) .

ص: 587

قال ابن القيم رحمه الله: " المزارعة من جنس الشركة، يستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة ". وقال: " أصحاب الأرض كثيرا ما يعجزون عن زرعها ولا يقدرون عليه، والعمال والأكر يحتاجون إلى الزرع، ولا أرض لهم، ولا قوام لهؤلاء ولا هؤلاء إلا بالزراع، فكان من حكمة الشرع ورحمته بالأمة وشفقته عليها، ونظره لهم: أن جوز لهذا أن يدفع أرضه لمن يعمل عليها، ويشتركان في الزرع: هذا بعمله، وهذا بمنفعة أرضه، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا في غاية العدل والحكمة، والرحمة والمصلحة.. كما في المضاربة والمساقاة ".

(عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/259، 260 – شرح الحافظ ابن القيم الجوزية بالحاشية) .

المساقاة والمزارعة إذن شركتان كالمضاربة، فماذا جاء فيهما من النص؟

في نيل الأوطار تحت كتاب المساقاة والمزارعة جاءت عدة روايات، منها: ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع". وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم:((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) .

وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال:((لا)) . فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا.

وما ذكره البخاري تعليقا ووصله عبد الرازق عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع.

وهذه الروايات وغيرها تؤيد ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم من قبل، ولكن إذا شرط أحد الشريكين شيئا لنفسه، فما حكم العقد؟

ص: 588

بعد الموضوع السابق من نيل الأوطار نجد "باب فساد العقد إذا شرط أحدهما لنفسه التبن أو بقعة بعينها ونحو"(5 – 309) .

وتحت هذا الباب نقرأ ما يلي:

عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر الأمصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورق فلم ينهنا". أخرجاه.

وفي لفظ: "كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تنمي لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك فتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم الأرض، فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ". رواه البخاري.

وفي لفظ قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما على الماذيانات وأقبال الجداول ، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كري إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به". رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

وفي رواية عن رافع قال: "حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن ذلك". رواه أحمد والبخاري والنسائي.

وفي رواية عن رافع "أن الناس كانو يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم بالماذينانات وما يسقي الربيع وشيء من التبن، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى المزارع بهذا ونهى عنها". رواه أحمد.

(الماذيانات: هي ما ينبت على حافة النهر ومسايل المياه، وهي في الأصل مسايل فسمى النابت عليها باسمها. الجدول والربيع: أي النهر الصغير، والجمع جداول وأربعاء) .

من الروايات السابقة نرى فساد العقد إذا جعل لأحد الشريكين شيء معين، والحكمة هنا واضحة، وإن كان النص يتصل بالمزارعة والمساقاة، فكلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واضح كل الوضوح، فلعل هذا النص كان أصلا أخذ به في المضاربة. وقد أشار إلى هذه الروايات المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن تاج في بحث قدمه للمؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية، ثم قال:

"ومن هذا كله يتبين: أن اشتراط جزء معين من الخارج لصاحب الأرض في المزارعة لا يجوز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه؛ لما يترتب عليه من الظلم، وعدم العدل بين الشريكين: صاحب الأرض، والعامل فيها، لجواز ألا تخرج الأرض غير ما اشترطه الأول لنفسه، فيضيع عمل العامل وجهده، على حين ينتفع الشريك الآخر وحده. فأما كراء الأرض بالذهب، أو الفضة، أو بشيء غيرهما ومضمون في الذمة، فلا شيء فيه ".

ص: 589

هذا هو ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورواه أئمة الحديث: البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي، بألفاظ متحدة أو متقاربة، ولا يسع الفقهاء من مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا أن يتبعوه ويقولوا به في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات، فإن اشترط جزء معين من ربح ذلك وثمراته لأحد المتعاقدين، قد يؤدي إلى المعنى الذي من أجله ورد النهي، فإنه يخل بالمقصود من العقد، وهو الاشتراك في النتائج والثمرات.

وإذا كان اشتراط جزء معين من الخارج، لصاحب الأرض في المزارعة، قد حظرته الشريعة ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من الظلم والغبن بأحد الشريكين المتعاقدين على الاشتراك في الربح والخسارة، فلماذا يرد في وجه الأئمة الفقهاء قولهم بلزوم خلو العقد من ذلك الاشتراط الجائر الظالم؟ وهو لم يقولوه إلا تطبيقا للسنة الصحيحة وعملا بما تدل عليه نصوصها الصريحة! وكيف يسوغ من مطلع على نصوص الشريعة ومواردها، أن يقول اشتراط ربح محدود لرب المال في المضاربة: أنه جائز، غير مخالف لكتاب ولا سنة، وإن كان فيه مخالفة لأقوال الفقهاء؟ أو لا يكفي النص على حظر ذلك الاشتراط ومنعه في المزارعة، فيعلم أنه محظور وممنوع في المضاربة والمساقاة وغيرهما ممن فروع الشركات؟ وهل من حسن الظن بالشريعة العادلة أن يقال:" أنها تمنع من الظلم والجور في شركة المزارعة، وتبيح ذلك كله في شركة القراض " اهـ.

وقال الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الحلال والحرام "(ص262) :

"هذا الشرط المفسد للمزارعة بالنص الصريح، هو في رأيي أصل لإجماع الفقهاء على الاشتراط في المضاربة ألا يحدد نصيب لأحدهما يضمنه على كل حال، ربحت الصفقة أم خسرت. وتعليلهم فساد المضاربة هنا كتعليلهم فساد المزارعة هناك، فهم يقولون: إنه إذا شرط أحدهما دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح، واحتمل ألا يربحها. وهذا تعليل موافق لروح الإسلام الذي يبني كل معاملاته على العدالة المحكمة الواضحة ".

من هذا نرى تعدد الأدلة التي تبين بطلان عقد المضاربة إذا جعل لأي من الشريكين نصيب معلوم، فإلى جانب هذه الأحاديث الشريفة توجد السنة التقريرية والإجماع. غير أن المضاربة مع هذا الشرط الباطل لا تخرج عن كونها شركة، أما ودائع البنوك فليست من الشركة الصحيحة أو الباطلة، فعلاقة المودع والبنك لا تحرج عن كونها علاقة دائن ومدين.

ص: 590

شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة

قرأت لابن تيمية بيانا لحجية الإجماع، ومما جاء فيه (الفتاوى جـ 19 ص 192) :

الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [115: النساء] .

وبعد أن ذكر الآراء المختلفة حول دلالة الآية الكريمة قال رحمه الله:

"ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم. فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب.

فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة. وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.

وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لاسيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك. والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.

والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ، ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه، واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة فجعله مضاربة. وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده. فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة.

ص: 591

وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، ولكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس.

ونحن لا نشرط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ".

(مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/194 – 196)

هل البنك فقير حتى نقرضه؟

يعجب كثير من الناس عندما يسمعون أن ودائع البنوك تعتبر قرضا، فالقرض إنما يكون للفقير المحتاج، والمودع قد يكون هو الفقير الذي ادخر أموالا قليلة بشق الأنفس للانتفاع بها في وقت آخر، أو لأي سبب من الأسباب، فكيف يقرض البنك صاحب الملايين؟!

ويعترض بعض أهل العلم على جعل هذه الودائع من باب القرض؛ لأن القرض عقد إرفاق، والمتعاملون مع البنوك هنا إنما يريدون الإيداع والاستثمار، وليس الرفق بالبنوك والإحسان إليها!

وعامة الناس معذورون، وخاصتهم قد يعذرون وقد لا يعذرون.

وقبل أن أحاول إزالة هذه الشبهة أضع أمام القارئ المسلم ما يأتي:

بعد أن قتل الزبير بن العوام – رضي الله عنه – ترك من بعده مالا كثيرا وفيرا، ووجدوا عليه دينا كبيرا! وقد أشار إلى هذه التركة وهذا الدين الإمام البخاري في صحيحه، وكثير غيره كما ذكر الحافظ في الفتح.

قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/250) :

"وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف، فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به، ثم قسمت التركة بعد ذلك، فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم.. فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف ".

معنى هذا أن تركة الزبير رحمه الله ورضي عنه كانت كالآتي:

مجموع الديون مليونان و200 ألف.

نصيب الزوجات الأربع 4 ملايين و 800 ألف، ومن المعلوم أن نصيب الزوجة أو الزوجات (ثمن التركة) فتكون التركة المقسمة على الورثة 68 مليونا و 400 ألف، وهذا يعادل الثلثين، حيث أوصى بالثلث ومقداره 19 مليونا و 200 ألف، وبهذا تكون التركة بعد الديون 57 مليونا و600 ألف درهم وهنا يرد السؤال:

من يملك هذه الثروة الضخمة كيف يستدين هذا الدين؟

ص: 592

ولنقرأ معا ما جاء في صحيح البخاري:

" إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة ".

(راجع صحيح البخاري – كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر) مما رواه الإمام البخاري ترى أن الذين جاءوا بهذه الأموال أرادوا حفظها عند الزبير، أي أن تكون وديعة، فطلب منهم أن تكون سلفا لا وديعة وذكرنا الفرق بين الوديعة والقرض: فالوديعة لا يضمنها المودع لديه والقرض يضمنها المقترض، ولذلك قال الزبير: فإني أخشى عليه الضيعة، أي أنه طلب أن يكون ضامنا للمال باعتباره قرضا، ويقابل هذا الضمان أن يكون من حقه الاستفادة من هذا المال المقترض، فيحفظه بماله في التجارة وغيرها، أما الوديعة فتبقى كما هي لا يستفاد منها.

ونترك تركة الزبير ودينه مؤقتا ونأتي إلى حكم من الأحكام الفقهية وهو " إقراض الولي مال اليتيم":

مما جاء تحت هذا العنوان في معجم الفقه الحنبلي (2/1076) : لا يجوز للولي إقراض مال اليتيم إذا لم يكن فيه حظ له، فمتى أمكن الولي التجارة به، أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه، وإن لم يكن ذلك وكان في إقراضه حظ لليتيم جاز، ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مثلا مال يريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه لرجل ليقضيه بدله في البلد الآخر، بقصد حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو نحوهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو يكون حديثه خيرا من قديمه كالحنطة.

فإن لم يكن فيه حظ وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز، وإن أراد الولي السفر، لم يكن له المسافرة بمال اليتيم، وإقراضه حينئذ لثقة أمين أولى من إيداعه؛ لان الوديعة لا تضمن.. ولا يجوز قرضه إلا لمليء – أي غني – أمين. (وانظر المغني 4/295) .

من هذا يتضح أن الغاية من إقراض مال اليتيم الرفق باليتيم لا بالمقترض، ومصلحة اليتيم لا مصلحة المقترض، والمراد الإيداع، غير أن الوديعة لا تضمن ففضل الإقراض لغني أمين حتى يحفظ المال لصالح اليتيم لا لصالح الغني.

لعل من هذين المثلين يتضح المراد، فلم يكن الزبير فقيرا يستقرض، بل كان من أصحاب الملايين، له ممتلكات في المدينة والعراق ومصر وغيرها، وأراد المودعون حفظ أموالهم لا الرفق بالزبير، وتحول العقد من وديعة إلى قرض، فكل عقد له ما يميزه عن غيره، وإقراض مال اليتيم لحفظه أيضا، فهو لمصلحة اليتيم لا لمصلحة المليء الغني.

وما دام العقد عقد قرض فلا يحل أخذ زيادة على رأس المال وإلا كان من ربا النسيئة.

فمن أراد الإيداع لحفظ المال مع الضمان فالإيداع هنا قرض مضمون، كإقراض المودعين للزبير، وإقراض مال اليتيم للغني المليء.

ومن أراد الإيداع للاستثمار عن طريق الفائدة المحددة كودائع البنوك الربوية وشهادات الاستثمار، فالإيداع هنا عود للقرض الإنتاجي الربوي الذي كان شائعا في العصر الجاهلي.

ومن ساعد المحتاج، وفرج كربته، وأقرضه قرضا حسنا، جزاه الله سبحانه وتعالى أحسن الجزاء، وفرج عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا هو عقد الإرفاق.

إذن ليس القرض في جميع حالاته عقد إرفاق، وإنما هو في الأصل عقد إرفاق وقد يخرج عن هذا الأصل.

ص: 593

هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟

تحدث أحد السادة الأساتذة عن فوائد البنوك فقال:

"لقد تعودت الناس منذ أجيال عديدة على النظام القائم.

إن وضع المسلمين في البنوك استفادة ما دام لا يجهد المقترض (البنك) ولا يستغله. وليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المشتغلة في التجارة.

نظام التوفير ليس ربا.. مادام المتعامل قد ذهب طائعا مختارا وسلم أمواله للبنك.. كذلك نظام الوديعة ليس ربا مادام البنك هو الذي حدد الفائدة وليس المودع.. أي أنك لم ترغم البنك على سعر فائدة معين، بل هو الذي حدد هذه الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية.

الفائدة هنا أرباح في الواقع " اهـ.

وبالنظر في كلام الأستاذ الدكتور نلحظ ما يلي:

أولا: من المعلوم أن البنوك نشأت يهودية ربوية، وعندما دخلت بلاد الإسلام حملت معها طابعها اليهودي الربوي، فقد كان المسلمون في حالة من الضعف والخضوع لم تجعلهم يترددون في قبول ما هو قادم إليهم من بلاد الاستعمار وعلى الأخص أنه يتصل بالنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي فتن به الكثيرون، فإذا تعود الناس التعامل بالربا، فهل العادة تحكم النص وتخرج المسلمين من الأذان بحرب من الله ورسوله، وتجعل الربا المحرم بالكتاب والسنة حلالا طيبا؟!

ما أكثر الحرام الذي انتشر في عصرنا! أفيصبح حلالا مادام الناس قد تعودوه؟!

ثانيا: يعترف الأستاذ بأن ودائع البنوك عقد قرض، فالبنك مقترض، ومعنى هذا أن الزيادة المشروطة في العقد مرتبطة بالقرض والزمن، وهذا من ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، ولكن الأستاذ يرى أن هذا ليس من الربا المحرم لأسباب ذكرها وهي:

1 – الاستفادة وعدم إجهاد المقترض وعدم استغلاله.

2 – المقرض أقرض طائعا مختارا.

3 – المقترض هو الذي حدد الفائدة – أي الزيادة الربوية – وليس المقرض.

ولا أدري كيف أن الاستفادة تحل الحرام؟ وهل يخلو الحرام من فائدة ما؟ أن الخمر والميسر بنص القرآن الكريم فيهما منافع {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . أفلأحد أن يحلهما إذا كان فيهما استفادة؟ أن شركات الطيران التي تصر على بيع الخمر، والدول التي تبيح الخمر والمجون، تستند إلى الاستفادة، أفترى أيها الأستاذ أن هذا حلال؟

ص: 594

إن الله عز وجل عندما حرم الربا في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يستثن منه ما كان غير مجهد للمقترض وغير مستغل له، وإنما بين رسوله صلى الله عليه وسلم تحريم ربا الجاهلية كله، ومنع أي أحد من أن يأخذ درهما واحدا زيادة عن رأس المال، وحذر من بشاعة جريمة درهم واحد من الربا حتى جعله أشد من الزنا الذي تشمئز منه النفوس الطاهرة.

ولو جاز ما يقوله الأستاذ لأحل لعمه العباس أخذ القليل الذي لا يجهد ولا يستغل، ولأحل هذا أيضا للقبائل التي احتكمت إليه في خلاف حول بقايا الربا، ولنظمت حياة الناس على أساس التعامل بهذا النوع من الربا، ولكن الكتاب والسنة نطقا بغير ما نطق به الأستاذ.

وقوله بأن المقرض أقرض طائعا مختارا، فلا أدري ما الفرق بين هذا وبين التعامل الجاهلي؟ أفكانوا في الجاهلية يجبرون المقرض حتى يقرض رغم أنفه؟! نحن نعرف أثر التراضي في العقود التي لا تصح بغيره، ولكن التراضي لا يحول الحرام إلى حلال، بل أن أكثر جرائم العصر ومنكراته تفعل بالتراضي.

والقول بأن الربا يكون حلالا إذا كان المقترض هو الذي حدد الفائدة يستدعي أن يبين لنا الأستاذ أن كل من قال لغيره: أقرضني بزيادة ربوية كذا فهو حلال! وأن تجار الجاهلية الذين حددوا الفائدة ليتوسعوا في تجارتهم أجبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء الزيادة الربوية التي حددوها بأنفسهم! وأن من احتكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأله: من الذي حدد الفائدة؟ فإن كان المقرض حرمها، وإن كان المقترض أحلها!

أخبرنا يا أستاذ: أحدث شيء من هذا؟ أم ربا الجاهلية كله موضوع؟

ونقف عند ختام حديثه بأن البنك حدد الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية، وأن الفائدة هنا أرباح في الواقع.

وأقول: نحن نعرف وظيفة البنك، تاجر الديوان المرابي، فالفائدة التي يعطيها هي جزء من الربا الذي أخذه من المقرضين، فأين الدراسات والخطط الاقتصادية والأرباح نتيجة التجارة؟ أن ربا الجاهلية كان جله ناتج أرباح تجارية، وهو ما أشرت إليه عند الحديث عن القروض الإنتاجية، ومع هذا نزل التحريم، أما ربا البنوك فهو أسوأ من ربا الجاهلية، وسيأتي بيان هذا عند الحديث عن خلق النقود.

ملحظ أخير يتعلق بقوله: ليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المستغلة في التجارة، وأقول: إذا كان هذا الربح نتيجة الاتجار في الديون، فهل من الحكمة أن نأكله؟

لقد أجمعت الأمة على أن الزيادة المشروطة في مقابل القرض والزمن هي من الربا المحرم قطعا، فهذا ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، وهو واضح جلي غني عن البيان غير أني أحب أن أقف هنا أمام شيء آخر غير الزيادة المشروطة وهو مجرد المنفعة للمقرض:

ما حكمها؟

وما أدلة الحكم؟

ص: 595

المنفعة للمقرض

من الأحاديث التي اشتهرت على ألسنة الناس بالأمس واليوم ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل قرض جر نفعا فهو ربا)) وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح، فقد روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) ، وفي إسناده أحد المتروكين، وله شاهد ضعيف عند البيهقي بلفظ ((كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا)) .

نعم هناك آثار موقوفة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وقد تأخذ حكم المرفوع.

(انظر الحديث وبيان عدم صحته في سبل السلام 3/872، وكشف الخفاء للعجلوني 2/125، وانظر كنز العمال 6/123 حديث رقم 937، والحديث ضعفه السيوطي ووافقه المناوي – انظر فيض القدير 5/28)

ولننظر بعد هذا في حكم المنفعة للمقرض.

قال ابن قدامة في المغني:

"كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ". (4/360) .

وقال أيضا بعد هذا:

"إن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو على أن يهدي له هدية، أو يعمل له عملا، كان أبلغ في التحريم.

وإن فعل ذلك من غير شرط قبل الوفاء لم يقبله، ولم يجز قبوله إلا أن يكافئه أو يحسبه من دينه، إلا أن يكون شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض ".

وذكر ابن قدامة من الآثار والأحاديث ما يؤيد هذه الأحكام، ثم قال:" وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط ".

(راجع أيضا هذا الموضوع في المجموع شرح المهذب للشيرازي 12/182، وكتاب الإجماع لابن المنذر ص 95، وغيرهما من كتب الفقه) .

ص: 596

الأدلة من كتب السنة

بعد هذا البيان للأحكام المتعلقة بالمنفعة للمقرض، ننظر في كتب السنة لنرى الأدلة التي أشار إليها ابن قدامة، وغيرها مما لم يشر إليه.

أولا: في سنن ابن ماجه نجد في باب القرض من كتاب الصدقات الحديث التالي:

حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عتبة بن حميد الضبي، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)) .

وعقب الحديث الشريف علق المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي بقوله نقلا عن الزوائد: " في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات ".

" ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف حاله ".

غير أننا في ترجمة عتبة هذا في ميزان الاعتدال نقرأ ما يأتي: " قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أحمد: ضعيف، ليس بالقوي ".

وفي تهذيب التهذيب:

"قال أبو طالب عن أحمد: كان من أهل البصرة، وكتب شيئا كثيرا، وهو ضعيف ليس بالقوي، ولم يشتبه الناس حديثه. وقال أبو حاتم: كان جوالة في الطلب وهو صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات ".

أما يحيى بن أبي إسحاق فهو من التابعين، ترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب، وأشار إلى هذا الحديث فقال:

"يحيى بن أبي إسحاق الهنائي عن أنس في القرض.. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن طريق إسماعيل بن عياش، عن عتبة بن حميد، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، عن أنس. وقد رواه سعيد بن منصور في السنن عن إسماعيل بن عياش فقال: عن يزيد بن أبي إسحاق الهنائي، وكذا رواه البخاري في تاريخه من طريق إسماعيل لكن قال: ابن أبي يحيى الهنائي ".

والحديث ذكره السيوطي وحسنه، ووافقه المناوي، ولكن الشيخ الألباني ضعفه.

(انظر الحديث رقم 467 في فيض القدير 1/292، ورقم 489 في ضعيف الجامع 1/153) .

ثانيا: روى الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا، وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك في أرض – يقصد العراق – الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا ".

(انظر كتاب مناقب الأنصار – باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف وفيه: يابن أخي، إنكم بأرض تجار.. إلخ. راجع جـ 8 ص 144، وفي ص 143 أثر مثل هذا عن أبي بن كعب، وفيه.. فخذ قرضك، واردد إليه هديته) .

ص: 597

ثالثا: في مصنف عبد الرزاق نجد كثيرا من الآثار في بابين هما " باب الرجل يهدي لمن أسلفه "، و"باب قرض جر منفعة ". من هذه الآثار:

1 – أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: تسلف أبي بن كعب من عمر بن الخطاب مالا – قال: أحسبه عشرة آلاف – ثم أن أبيا أهدى له بعد ذلك من ثمرته، وكانت تبكر، وكان من أطيب أهل المدينة ثمرة، فردها عليه عمر، فقال أبي: ابعث بمالك، فلا حاجة لي في شيء منعك طيب ثمرتي، فقبلها، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ.

(8/142، وفي الصفحة تجد رواية ثانية لهذا الأثر.

ولاحظ أن القرض عشرة آلاف، وليس لفقير محتاج.

والأثر أخرجه أيضا البيهقي – انظر الحاشية للشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي. وكنز العمال 6/128 حديث رقم 967) .

2 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور والأعمشي، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا نزلت على رجل لك عليه دين، فأكلت عليه، فأحسب له ما أكلت عنده إلا أن إبراهيم كان يقول: إلا أن يكون معروفا كانا يتعاطيانه قبل ذلك. (8/142 – 143) .

3 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية كراع، ولا رعاية ركوب دابة. (8/143) .

4 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إنه كان جار سماك فأقرضته خمسن درهما، وكان يبعث إلي من سمكه، فقال ابن عباس: حاسبه، فإن كان فضلا فرد عليه وإن كان كفافا فقاصصه. (8/143 – والأثر أخرجه أيضا البيهقي: انظر الحاشية.

ومثل هذا الأثر عن ابن عباس كذلك في المطالب العالية 1/428. ورقم 4/142، وهو:

قيلويه أبو صالح، قال: كان لي على علج عشرون درهما، فأهدى إلي هدية فسألت ابن عباس، فقال: احسب من الهدية، وخذ البقية) .

5 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كل قرض جر منفعة فهو مكروه. قال معمر: وقاله قتادة. (8/145 – وكلمة مكروه عند السلف تطلق على المحرم) .

6 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: استقرض رجل من رجل خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا.

(8/145 – والأثر رواه البيهقي بطرق مختلفة – انظر الحاشية للأعظمي) .

هذا بعض ما جاء في كتب السنة، وأعتقد أننا لسنا في حاجة إلى البحث عن المزيد من الأدلة، فقي هذا القدر غنى وكفاية لمن أراد أن يتثبت من صحة ما ذهب إليه أئمتنا الفقهاء المجتهدون، ولمن أراد أن يستبرئ لدينه وعرضه.

ص: 598

دفتر التوفير

الإيداع في البنوك عن طريق فتح دفتر توفير يشبه الحساب الجاري من حيث عدم التقيد بمدة معينة للسحب من الرصيد، غير أنه يخضع لقيود لا يخضع لها الحساب الجاري. ونسبة السحب من دفاتر التوفير أقل من الحسابات الجارية، ولذلك تستخدم البنوك من أرصدة هذه الدفاتر نسبة أكبر من الحسابات الجارية، وتدفع فوائد على هذه الأرصدة بشروط معينة.

ومعنى هذا أن البنك تنتقل ملكية الأرصدة إليه، يتصرف فيها ويستفيد منها في عمليات الإقراض ومشروعاته المختلفة، ويتعهد برد المثل للمودعين، وهو ضامن في جميع الحالات.. وهذا هو عقد القرض كما بينت في البحث السابق.

ثم تأتي الفوائد، وهي النسبة الزائدة على القرض في مقابل الزمن الذي يستغرقه هذا القرض.. وهذا هو الربا المحرم. وما ذكرته عن فوائد ودائع البنوك ينطبق على ودائع دفتر التوفير، فالودائع كلها عقد قرض، والفوائد من ربا النسيئة الذي حرمه القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. وذكرت بعض الاعتراضات والشبه، وأثبت بطلانها ولله الحمد.

غير أن هذا النوع من التعامل قد يحتاج إلى وقفة خاصة نتيجة لما نشر في الصحف، فإن أحد السادة الذين تحدثوا عن شهادات الاستثمار ركز الحديث على صندوق التوفير.

ولننظر إلى كلمة السيد الكاتب من البداية. (1)

جاء في بداية مقاله ما يلي:

نقدم في بداية المقال آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا. وفيما يلي نصوص ما قالوه. يقول ابن تيمية: " إن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات أشق عليهم من الأخذ بها؛ لأن الضرر فيها يسير، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الضرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم، إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم (كأكل الميتة) فكيف إذا كانت المفسدة منفية ".

(1) هو الأستاذ الدكتور أحمد شلبي – أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم.

ص: 599

وكلام ابن تيمية هنا ليس عن الربا ولا عن المعاملات الربوية، بل كيف يتصور أن شيخ الإسلام يقول في موضوع الربا: أن المفسدة منفية؟! ولا أدري كيف ساق الأستاذ هذه العبارة ليوهم القارئ أن ابن تيمية يبيح المعاملات الربوية؟!

فالأستاذ يذكر أن ما ينقله آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا، ثم ينقل كلام ابن تيمية " أن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات.. إلخ " أي هذه المعاملات الربوية، ومعنى هذا أن ابن تيمية لا يرى تحريم المعاملات الربوية!!

وابن تيمية إنما يتحدث عما رخص فيه من بيوع الغرر – وهو الغرر اليسير – مستندا إلى السنة المطهرة، وموافقا جمهور العلماء، أما كلامه عن الربا فشيء آخر.

ولنقرأ معا شيئا مما قاله شيخ الإسلام:

قال رحمه الله: " أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه، هما: الربا والميسر ".

ثم قال: "نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع: قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر: التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء.

ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة، والملاقيح، والمضامين، ومن بيع السنين، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك كله من نوع الغرر.

أما الربا: فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

ص: 600

وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل. وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما مجرب عند الناس ".

ثم قال ابن تيمية بعد هذا:

"مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس. ومثل بيع الحيوان الحامل أو الرضيع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردا. وكذلك اللبن عند الأكثرين. وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصبح مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.

وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره ".

وقال شيخ الإسلام بعد ذلك:

"وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل، وإن كان فيه منفعة – وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رمية بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق)) صار هذا اللهو حقا.

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة.

والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء ".

ص: 601

ونختم كلام ابن تيمية بقوله:

"

فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير ".

(راجع ما كتبه تحت فصل: القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها – مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 29 ص 22 وما بعدها) .

ومن كلام شيخ الإسلام نرى من الخطأ أن ينسب إليه ما نسبه الأستاذ كاتب المقال، ولعل ما نقلته طال بعض الشيء، غير أنني حرصت على هذا لتتضح الصورة، إلى جانب أنه لا يخلو من فائدة مرجوة.

ونترك كلام ابن تيمية هنا، وننتقل إلى فتوى أخرى تعتبر نصا في موضوعنا.

سئل ابن تيمية عن إنسان يريد أن يأخذ من إنسان دراهم قرضا يعمر به ملكه، يشتري بها أرضا إلى مدة سنة، وبلا كسب ما يعطي أحد ماله، فكيف العمل في مكسبه حتى يكون بطريق الحل؟

فأجاب: " الحمد لله، له طريق بأن يكرى الملك أو بعضه، يتسلفها ويعمر بالأجرة وإذا كان بعض الملك خرابا، واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك. فهذا طريق شرعي، يحصل به مقصود هذا وهذا.

وأما إذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل، وتحيلا على ذلك ببعض الطرق، لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا". (مجموع الفتاوى 29/529) .

ولنتأمل كلام ابن تيمية هنا:

فالقرض للعمران وليس لتاجر الديون المرابي، ومع ذلك لم يحله، وبين طريقا شرعيا فيه بعد عن القرض. وواقعنا يذكرنا بنهاية ما جاء هنا:"لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا".

وفي المضاربة ذكرنا رأي ابن تيمية، وهو واضح ناصع، مؤيد بالنص والإجماع، مخالف لما أراده كاتب المقال.

وبعد أن انتهى ما نقله السيد الكاتب عن ابن تيمية قال:

"وقد عرض الإمام محمد عبده لهذه المسألة فقال: أن مثل هذا الربح لا يدخل في الربا. فليس حكم الربا كالحكم في هذه المضاربة.

ويرى الأستاذ عبد الوهاب خلاف أن اشتراط بعض الفقهاء ألا يكون هناك نصيب معين من الربح اشتراط لا دليل عليه ".

وما ذكرته في البحث السابق عن المضاربة يغني عن المناقشة هنا، غير أن كلمة " بعض الفقهاء" من كلام الأستاذ الكاتب ليست صحيحة، فأستاذنا المرحوم خلاف كان يعلم أن هذا اشتراط جميع الفقهاء لا بعض الفقهاء.

وانتقل كاتب المقال بعد ذلك إلى الحديث عن صندوق التوفير فذكر فتوى الشيخ شلتوت (1) ، والشيخ علي الخفيف، والشيخ عبد الجليل عيسى.

ولسنا في حاجة إلى أن نعد إلى المناقشة من جديد بعد البحث الذي نشر من قبل.

غير أنني أحب أن أقف هنا وقفة لننظر في تسلسل فكرنا الاقتصادي المعاصر، ولنعذر مشايخنا الأجلاء – رحمهم الله تعالى - فيما وقعوا فيه من خطأ في الفتوى.

نشأت البنوك نشأة يهودية ربوية، وظل هذا الطابع مسيطرا عليها حتى عصرنا. وصور لنا الاقتصاديون أن الاقتصاد لا يقوم بغير البنوك، وأن البنوك لا تقوم بغير نظام الفائدة المتبع، أي النظام الربوي.

(1) الفتوى تتعلق بصندوق توفير البريد

ص: 602

وانقسم علماؤنا آنذاك: فمنهم من بحث بحثا علميا مجردا، وانتهى إلى أن فوائد البنوك وما شابهها هي من الربا المحرم، ومنهم من حاول تبريرها رغبة في تحليل عقود المسلمين، فحسنت نياتهم، وسمت مقاصدهم، إلا أنهم وقعوا فيما رأيناه من الأخطاء، وعذرهم نبل الغايات مع عدم وجود البديل الشرعي.

ومشكلات العصر لا تحل باجتهاد فردي، وهذه حقيقة يسهل إدراكها، فرأي الجماعة غير رأي الفرد، ولهذا عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة، قال:((ينظر فيه العابدون من المؤمنين)) (وتأمل من الذي ينظر؟ فليس مجرد العلم يكفي للنظر) .

وكان هذا منهج سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فكما يروي المسيب بن رافع:"كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا فالحق فيما رأوا". وكان أبو بكر رضي الله عنه إن أعياه أن يجد في أمر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (راجع ما سبق وغيره من الأخبار في سنن الدارمي: باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، وباب الفتيا وما فيه من الشدة) .

وهنا نذكر ونشكر المجهود الذي بذله المرحوم الشيخ شلتوت لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وتحقق ما سعى إليه ولكن لم ير ثمرة غرسه، وعقد المؤتمر الأول للمجمع سنة 1383 هـ (1964 م)، وكان من قراراته وتوصياته:

"أن السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.

وينظم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة ".

وعقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث في شهر محرم سنة 1385 هـ (مايو سنة 1965 م) فكان هذا المؤتمر نقطة تحول في مسار فكرنا الاقتصادي الإسلامي من الناحية النظرية، حيث صدرت الفتوى الجماعية بتحريم فوائد البنوك، ونقلت نصها فيما سبق، وبعد صدور هذه الفتوى حسم الأمر، وأصبحنا في غنى عن أي رأي فردي.

ص: 603

وإلى جانب هذه الفتوى انتهى المؤتمر إلى التوصية التالية:

"لما كان للنظام المصرفي أثر واضح في النشاط الاقتصادي المعاصر، ولما كان الإسلام حريصا على الاحتفاظ بالنافع من كل مستحدث مع اتقاء أوزاره وآثامه، فإن مجمع البحوث الإسلامية بصدد درس بديل إسلامي للنظام المصرفي الحالي، ويدعو علماء المسلمين، ورجال المال والاقتصاد إلى أن يتقدموا إليه بمقترحاتهم في هذا الصدد ".

ثم كان التحول في هذا المسار من الناحية العملية التي دعا إليها المؤتمر بظهور البنوك الإسلامية، فظهر التطبيق العملي، وأثبت البديل الإسلامي إمكان قيام بنوك بدون تعامل بالفوائد الربوية.

وبذلك حسم الجانبان: النظري والعملي معا.

وبدأت الجهود الإسلامية المخلصة تتجه إلى تحسين هذا البديل ودعمه، ومحاولة إزالة العقبات من طريقه.

وعندما عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سنة 1396 هـ (1976م) وحضره الكثرة الكاثرة من فقهاء الشريعة ورجال الاقتصاد والقانون وغيرهم، لم يثر أي خلاف حول اعتبار البنوك الربوية من الربا المحرم، كلهم أجمعوا على أن هذه الفوائد من الربا الذي حرمه الإسلام، ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ولهذا جاء في المقترحات والتوصيات ما يلي:

1 – دعوة الحكومات الإسلامية إلى دعم البنوك الإسلامية القائمة في الوقت الحاضر، والعمل على نشر فكرتها، وتوسيع نطاقها.

2 – العناية بتدريب العاملين في البنوك الإسلامية لتحقيق المستوى اللائق لكفايتهم العملية.

وعقدت مؤتمرات أخرى أجمع المشاركون فيها على ما أجمع عليه هذان المؤتمران، فمن أفتى قبل هذا الإجماع فهو معذور مأجور مغفور له إن شاء الله عز وجل، ومن أراد أن نرد على أعقابنا خاسرين ونعود القهقرى، ونخالف هذا الإجماع، فلا عذر له، ونخشى أن يكون خاطئا آثما غير مغفور له.

وأذكر هنا على سبيل المثال أن أستاذنا المرحوم الشيخ علي الخفيف أفتى بحل التأمين على الحياة، وحضر مؤتمرا بعد ذلك أجمع على أن التأمين على الحياة حرام، فكان مع المجتمعين.

والشيخ شلتوت له فتاوى منسقة، وأخرى مضطربة متناقضة.

الأولى نراها في كتابه في التفسير، في حديثه عن الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران، وهي قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

ص: 604

فعند تفسيره لهذه الآية الكريمة تحدث عن الجانب الخلقي، والجانب الاقتصادي في تحريم الربا، ثم تناول شبهات " العصريين" في استباحة الربا، وأبطل هذه الشبهات، وبين أسباب لجوء هؤلاء "العصريين" لمثل هذه الشبهات.

(انظر كتابه: تفسير القرآن الكريم. الطبعة الثامنة - ص 139 وما بعدها) وتحت عنوان " بطلان الاستدلال بالآية على إباحة الربا القليل "(ص 150) ذكر كلاما أنقله هنا بتمامه. قال رحمه الله تعالى:

"بقي علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، وهو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة، وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، يحاولون أن يجدوا تخريجا للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها، ويلتمسون السبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذا قيد في التحريم لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا، تعالى الله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا، وهذا قول باطل؛ فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} توبيخا لهم على ما كانوا يفعلون، وإبرازا لفعلهم السيئ، وتشهيرا به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن، وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن، ولكنه يبشع ما يفعلونه ويشهر به، ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن، وهذا أفظع ما يصل إليه مولى مع مولاته، فكذلك الأمر في آية الربا، يقول الله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافا مضاعفة، فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا، ووعد الله بمحق الربا قل أو كثر، ولعن آكله ومؤكله وشاهديه، كما جاء في الآثار، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله، واعتبره من الظلم الممقوت، وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو كثير.

ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضروريات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفا عى أن نتعامل بالربا، وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم، فقد دخلت بذلك في قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.

وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل، وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام، وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء".

ومما قاله تحت عنوان " إباحة الحرام جرأة على الله "(ص151) :

"وخلاصة القول، أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرمه الله، أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير، بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله، وقول عليه بغير علم، وضعف في الدين، وتزلزل في اليقين

".

ص: 605

وكلام الشيخ هنا واضح كل الوضوح في تحريم المعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف، وهو يتفق مع الفتاوى الجماعية التي صدرت بعد ذلك، وأشرت إليها من قبل.

وذكره للسندات الحكومية يدل على أنه يرفض ما زعمه الزاعمون من أنه " لا ربا بين الدولة وأبنائها". وقد ثبت بطلان هذا الزعم في بحث آخر.

ونرى الاضطراب في كتابه " الفتاوى"؛ حيث أفتى بتحريم فوائد السندات، وهذا يتفق مع ما سبق، غير أنه أفتى بحل فوائد توفير البريد التي حرمها من قبل أو من بعد، وهذا التعارض بين الفتويين قد يعني أنه رجع عن إحداهما، ولكن التفرقة بين فوائد دفتر التوفير وفوائد السندات تناقض، فلا فرق بين أموال دفتر توفير لها زيادة محددة مقابل المبلغ والزمن، وأخرى لسندات لها زيادة محددة أيضا مقابل المبلغ والزمن، مع أن الشيخ نفسه نص على تحريم فوائد البنوك، ولم يعلم أنه أحلها.

وإذا كان هذا مسلك الكاتب، والفتاوى لشخص واحد، فإنا لا نعجب عندما لا يشير إلى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم بتحريم فوائد البنوك، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين قبيل الشيخ شلتوت، وتولى الإفتاء عشرين عاما، وله آلاف الفتاوى.

وأكثر من هذا أنه لم يشر إلى أي شيء مما ذكرناه عن المؤتمرات والإجماع، بل قال: فوائد البنوك حلال مائة في المائة! وقال: حلال على مسئوليتي!!

وبعد أن عرض السيد الدكتور أستاذ التاريخ الجزء الذي راقه واتفق مع هواه من تاريخ فكرنا الاقتصادي، انتقل بعد ذلك إلى الإجابة عن سؤال سأله، وهو: لماذا حرم الإسلام الربا؟

ونقل شيئا من تفسير الرازي، ثم قال: " هذه بعض الجوانب في حكمة تحريم الربا ويذكر المفكرون المحدثون جوانب أخرى ذات بال

".

ونقل كلاما لأبي الأعلى المودودي، ثم قال:"هل توجد هذه العيوب في شهادات الاستثمار والإيداع بالبنوك؟ "

ثم ختم كلامه هنا بقوله: " وهناك قاعدة فقهية تقول: أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ".

ص: 606

ولا أستطيع أن أكتب ما يجول بخاطري وأنا أقرأ ما كتبه السيد الدكتور؟ قد يعذر لأن تخصصه بعيد عن الأصول والفقه فلم يعرف الفرق بين الحكمة والعدالة، ولكنه هنا يفتي ويخالف إجماع المئات بل الآلاف من الفقهاء!

والسيد أبو الأعلى المودودي – الذي نقل عنه ما نقل من الحكمة – هو نفسه يرى أن فوائد البنوك من الربا المحرم.

والفخر الرازي لم يشهد عصرنا الربوي حتى نعرف رأيه في هذه الفوائد، غير أننا قد نستطيع أن نستشف رأيه، حيث قال في تفسيره:

" أن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله ".

سبحان الله! أليس ربا النسيئة هذا ما نراه في صورة مستحدثة أعلنت عنها بعض البنوك الربوية حيث جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا؟

إن الصورة الجاهلية التي ذكرها الفخر الرازي وبين حرمتها هي الصورة نفسها (طبق الأصل!) التي نراها في شهادات ادخار بنك مصر ذات العائد الشهري.

فلو أن الفخر الرازي رزئ بما رزئنا به، أفيمكن أن يحرم تلك ويحل هذه؟ أما وقد ضاق الصدر.. فلنترك هذا الموضوع حتى لا يشتط القلم.

ص: 607

الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد

الصور التي سبقت كان البنك فيها يقوم بعملية الاقتراض، وكان بفائدة وأحيانا بدون فائدة. والبنك ما اقترض أساسا إلا ليقرض، فهو كما عرفنا تاجر ديون مراب وعمليات الإقراض التي تزاولها البنوك تتخذ إحدى صورتين، هما:

أولا: القروض البسيطة. وهي القروض المعتادة.

ثانيا: فتح الاعتماد.

وتختلف القروض عن الاعتمادات المفتوحة في حصول المقترض على مبلغ القرض بمجرد الاتفاق، واحتساب الفوائد عن المبلغ بأكمله، وعن المدة المتفق عليها كاملة، وقد يندمج القرض في حساب جار فيضيف البنك مبلغ القرض إلى الجانب الدائن لحساب العميل بمجرد التعاقد.

أما فتح الاعتماد فعقد يلتزم البنك بمقتضاه بوضع مبلغ معين تحت تصرف عميله لمدة معينة، فيكون للعميل الحق في سحب أي مبلغ يشاء في حدود الاعتماد في غضون مدته، كما أن له إيداع ما يريد خصما على الرصيد المدين فيقل بذلك دينه. ولا تحتسب الفوائد على الأرصدة المدينة من يوم سحبها. (مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص 215) .

" ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق – غالبا – بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد سواء استخدمه أم لم يستخدمه، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل ".

(عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين ص 330 – 331) .

وإذا نظرنا فيما سبق وجدنا الفائدة التي تؤخذ زيادة على القرض في الصورتين السابقتين هي من الربا المحرم. وإذا كان البنك قد أخذ العمولة مقابل خدمته التي أداها والمنفعة التي قدمها، فإن ما يزيد على هذه العمولة في مقابل الدين هو من ربا الديون الذي تحدثنا عنه، وبينا حرمته.

وأضيف هنا بعض الحقائق عن عمليات الإقراض الربوي:

يقدم البنك القروض بنوعيها: الاستهلاكي والإنتاجي، مع أخذ الضمانات الكافية.

ص: 608

والضمان هنا لا شيء فيه، فيمكن الإقراض مع أخذ رهن، ولكن لا يحل للمقرض الاستفادة من هذا الرهن.

وقد يكون الإقراض بضمان الراتب مثلا، أو من الوسائل التي تضمن حق المقرض، وما دامت الوسائل لا يمنعها الشرع فهي حلال، ولكن الحرمة هنا في الربا.

والبنك عند الإقراض يحسب الفائدة الربوية، ثم يطرحها من القرض، ويعطي الباقي فقط، مثلا تريد امرأة أن تقترض لضرورة ملجئة، فتأخذ ما لديها من حلي، وتذهب إلى البنك تطلب قرضا، يأخذ البنك الرهن، ويتفق على إقراضها مائتين: فلو فرضنا أن النسبة المئوية للفائدة الربوية هي (20) ، فإنه يعطيها 160 جنيها فقط، مع أنه في حالة الاقتراض لا تحسب الفائدة إلا بعد المدة، فلو أنه اقترض 160 جنيها بفائدة 20 % مثلا فالقرض بعد المدة يصبح 192 جنيه، على حين أن المبلغ نفسه في حالة الإقراض يصبح 200 جنيه، أي أن الفائدة هنا 25 % وليست 20 %!

ونسمع أن البنوك تسهم في مشروعات صناعية وتجارية وعمرانية إلخ، والواقع أن إسهامها هنا عادة يكون عن طريق الإقراض الربوي لأصحاب هذه المشروعات، وليس عن طريق المشاركة الإسلامية.

إن هذه القروض كلها محرمة، سواء أكانت استهلاكية أم إنتاجية.. ويستوي في هذا الفائدة الكبيرة والفائدة المنخفضة.

والمقرض آثم لا شك.. فلا عذر له.

والمقترض آثم كذلك إلا عند الضرورة.

والضرورات تبيح المحظورات. ولكن الضرورة تقدر بقدرها، فما زاد عن حد الضرورة ظل محرما، فما الضرورة إذن في القروض الإنتاجية؟

الذي يريد أن ينشئ مصنعا، أو يبني عمارة، أو يعلي بيتا، أو يستورد سلعا أو غير ذلك من المشروعات الإنتاجية.. لا يحل له أن يأخذ قروضا ربوية، إلا إذا وجدت حالات خاصة تدخل ضمن الضرورات، وللأسف الشديد يتساهل كثير من المسلمين في مثل حالات الاقتراض هذه، وقد لا يتأثمون ولا يتحرجون، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الاثنين: آكل الربا وموكله، وجعل الآخذ والمعطي شريكين في الإثم.

روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم "أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله" وزاد مسلم وغيره: "وكاتبه وشاهديه". وقال: "هم سواء".

(راجع مثلا: فتح الباري – كتاب البيوع: باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، وباب موكل الربا. وصحيح مسلم: كتاب البيوع: باب لعن آكل الربا وموكله. واقرأ ثلاثين حديثا في الترهيب من الربا في كتاب الترغيب والترهيب 3: 3 – 14) .

وفي الإقراض الذي تزاوله البنوك يصادفنا أمر عجيب غريب يصعب تصوره، ولا يدركه إلا من ألم بأعمال البنوك.

ص: 609

أيمكن مثلا أن نتصور أن شخصا يقترض ألفا، ومن الألف يقرض بضعة آلاف، ويبقى عنده رصيد؟!

هذا ما تفعله البنوك الربوية! تخلق النقود وتقرضها!

تقرض ما ليس عندها، وما لا تملكه، وتأخذ ربا!

والأمر هنا دقيق، ولذلك أترك عرضه لرجال الاقتصاد المختصين.

تحدث أحدهم عن المرحلة الحاسمة في تطور الفن المصرفي وهي خلق النقود:

دخل الفن المصرفي في دور جديد عندما تواضع الناس على قبول التزامات البنوك بديلا عن النقود في الوفاء بالديون، سواء أكان ذلك في صورة إيصالات الإيداع أم في صورة أوامر الصرف التي كان يحررها المودعون لدائنهم على البنوك، فقد فطنت البنوك في كلتا الحالتين إلى إمكان إحلال تعهداتها بالدفع محل النقود فيما تمد به عملاءها من قروض بما يترتب على ذلك من زيادة طاقتها على الإقراض، ومن ثم على جني الأرباح. ولم يكن من العسير، ووقد تمتعت ديون البنوك بالقبول العام كأداة للوفاء بالالتزامات أن تقنع المصارف هؤلاء العملاء بملاءمة اقتضاء مبالغ القروض في ودائع جارية قابلة للسحب في الحال، أو في صورة سندات تتعهد المصارف بمقتضاها بالدفع لدى الطلب (بنكنوت) ، ولن خفى على القارئ أهمية هذا التطور الحاسم في تاريخ البنوك، فلم يكن حسب هذا الاستعمال النقدي لودائع (ديون) البنوك أن ضيق من نطاق أوامر الدفع فأدى إلى زيادة موارد الائتمان عن ذي قبل، ولكنه أدى أيضا إلى ما هو أكثر أهمية، فقد أصبح في استطاعة البنوك خلق هذه الودائع ومحوها من الوجود بما تزاوله من عمليات التسليف أو الإقراض أو التثمير. وإذ تقوم هذا الودائع مقام النقود في تسوية الديون بين الأفراد، فقد تهيأ لبنوك الودائع أن تزاول سلطانا خطيرا على عرض وسائط الدفع في النظام الاقتصادي، ولإيضاح ذلك نفترض مرة أخرى أن جملة ما أودعه الأفراد لدى البنوك من النقود القانونية مليون من الجنيهات، وأن نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تحتفظ به البنوك لمواجهة أوامر الدفع من قبل المودعين هي الربع.

ص: 610

عندئذ يمكن للبنوك، وقد أحلت تعهداتها بالدفع محل النقود في الوفاء بالقروض، أن تقدم للناس من القروض ما قيمته ثلاثة ملايين من الجنيهات دون أن يؤثر ذلك على نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تقتضي دواعي الحيطة والأمان الاحتفاظ بها لمواجهة طلبات الصرف المحتملة من قبل المودعين. ويتضح ذلك بالنظر إلى هذه الصورة المبسطة لميزانية النظام المصرفي (بصرف النظر عن حساب رأس المال) :

أصول جنيه خصوم جنيه

نقود في الخزانة 1000000 الودائع 4000000

سندات وقروض 300000 الجارية -

المبلغ 4000000 - -

وهكذا تهيأ للبنوك وقد أودع لديها مليون من الجنيهات أن تنشئ على دفاترها من الودائع ما قيمته أربعة ملايين، لا يمثل منها ما أودعه الناس بالفعل من نقود قانونية لدى البنوك سوى الربع – والربع فقط – على حين تتحصل الثلاثة ملايين جنيه الباقية في ودائع مخلوقة أنشأها النظام المصرفي بمناسبة ما قامت به مجموعة البنوك من عمليات التسليف والتثمير والإقراض.

ومن هنا يتضح لنا سذاجة الاعتقاد بأن مصدر الودائع المصرفية هو إيداع الأفراد أرصدتهم النقدية في صورة عملة قانونية لدى البنوك، فإن الودائع الأصلية التي تنشأ في ذمة البنوك التجارية على هذا النحو لا تمثل سوى قدر محدود من مجموع الودائع الثابتة على دفاتر البنوك، في حين ينشأ الشطر الأكبر منها بمناسبة قيام البنوك بعمليات إقراض أو تثمير يستوفيها في صورة ودائع قابلة للسحب لدى الطلب، ومن هنا أيضا تتحصل الخصيصة الأساسية لما تزاوله البنوك من نشاط في ميدان الإقراض فيما تهيأ لهذه المؤسسات من إقراض الناس ما ليس عندها أو بعبارة أدق، فيما توصلت إليه من خلق الموارد التي تستعملها في إقراض عملائها في غمار عملية الإقراض ذاتها.

ص: 611

(مقدمة النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص170 – 172) وفي ص 176 عرض هذا التوضيح:

الدورة رقم المبلغ المودع بالجنيهات المستعمل في الإقراض الاحتياطي النقدي

1 1000 800 200

2 800 640 160

3 640 512 128

4 512 410 102

5 410 328 82

6 328 262 66

7 262 210 52

8 210 168 42

9 168 134 34

10 134 107 27

الجملة العمومية 5000 4000 1000

وفي كتاب مذكرات في النقود والبنوك للدكتور إسماعيل محمد هاشم نجد الفصل الخامس عنوانه "خلق نقود الودائع"(ص 47) .

ومما جاء في حديث المؤلف:

وقد أثبتت الخبرة العملية أنه في ظل الظروف الاقتصادية العادية تكون نسبة المسحوبات من النقود القانونية إلى مجموع ودائع البنك ثابتة إلى درجة كبيرة، وعادة لا تتجاوز هذه النسبة 10 % من مجموع الودائع، بل إنه كثيرا ما يحدث أن تقل هذه النسبة بدرجة كبيرة عن ذلك.

ص: 612

وتعتمد هذه البنوك التجارية على هذه الحقيقة التي تعني بقاء جزء كبير من الودائع (تحت الطلب) دون سحب. ومن ثم لا تحتفظ إلا بنسبة محدودة من ودائعها في شكل نقود قانونية (في حدود10 %) لمقابلة طلبات السحب المحتملة، ما لم يلزمها القانون بالاحتفاظ بنسبة أكبر.

وفي ص 59 نجد هذا التوضيح:

رقم البنك الودائع النقدية الجديدة التي يتسلمها البنك الاحتياطي النقدي الودائع الجديدة

الأول 1000 100 900

الثاني 900 902 810

الثالث 810 81 729

الرابع 729 72.9 556.1

الخامس 656.1 65.6 590.5

بقية البنوك 5904.9 590.5 5314.4

المجموع 10000 1000 9000

من هذا كله نلحظ ما يأتي:

1 – الربا الذي يحصل عليه البنك يزيد عن ربا الجاهلية بكثير.

2 – وهو كذلك أسوأ من ربا الجاهلية؛ لأن البنك يقرض بالربا ما ليس عنده، وما لا يملكه، بل ما لا وجود له في الواقع.

3 – الحسابات الجارية التي تعتبر قروضا حسنة من المودعين تستغلها البنوك أسوأ استغلال، فتقرض أضعافها قروضا ربوية.

ومن هنا ندرك حرمة هذا التعامل مع البنوك الربوية إلا إذا دعت الضرورة.

4 – نقطة أشير إليها دون خوض فيها، وإنما أتركها لأهل الاختصاص، وهي علاقة خلق النقود بالتضخم وزيادة الأسعار.

ص: 613

خصم الأوراق التجارية قرض ربوي

الأوراق التجارية عبارة عن صكوك تضمن التزاما بدفع مبلغ من النقود يستحق الوفاء عادة بعد وقت قصير، وتقبل البيئة التجارية على التعامل بهذه الأوراق كأداة لتسوية الديون نظرا لسهولة تحويلها إلى نقود قبل حلول أجل الوفاء للخصم لدى البنوك.

ويقصد بالخصم (1) . (أو القطع) دفع البنك لقيمة الورقة قبل ميعاد استحقاقها بعد خصم مبلغ معين يمثل فائدة القيمة المذكورة عن المدة بين تاريخ الخصم وميعاد الاستحقاق، مضافا إليها عمولة البنك ومصاريف التحصيل.

ويلاحظ أنه كثيرا ما تحرر السندات الإذنية (2) التي تخصمها البنوك لأمر البنك الذي يقوم بعملية الخصم، بحيث لا يعدو الأمر أن يكون عملية تسليف متخذة صورة عملية خصم. وتفضل البنوك هذا الوضع لاقتطاع الفوائد مقدما. والإفادة من الضمانات القانونية التي يحيط بها القانون الأوراق الجارية. (3)

ومن هذا نرى أن خصم الأوراق التجارية عملية ربوية واضحة، ولو أن البنك اكتفى بأخذ العمولة لكان هذا أجرا نظير قيامه بالتحصيل، وكان دفع القيمة قبل الموعد من باب القرض الحسن الذي لا تعرفه البنوك الربوية.

أما الفائدة التي يأخذها البنك فهي نظير الإقراض، ولذلك تختلف تبعا لقيمة الورقة التجارية، ولموعد الاستحقاق، فإن افترضنا أن الورقة التجارية قيمتها ألف جنيه، وموعد السداد بعد شهر، واحتاج صاحبها إلى قيمتها في الحال، فإن البنك يعطيه مثلا تسعمائة وخمسين محتسبا فائدة قدرها خمسون جنيها، فكأنه أقرضه تسعمائة وخمسين، ويسترد البنك دينه بعد شهر بزيادة خمسين، وهي بلا شك زيادة ربوية محرمة.

هذه بعض أمثلة للقروض الربوية، وقد ذكر الدكتور عبد الرازق السنهوري صورا مختلفة لعقد القرض نثبتها هنا كما ذكرها في كتابه الوسيط (5/437) .

(1) من تعريفات الخصم ما يلي: (أ) أن الخصم اتفاق يعجل به البنك الخاصم لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية أو سند قابل للتداول أو مجرد حق آخر، مخصوما منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة أو السند أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله. (ب) خصم السندات عقد يعجل المصرف بمقتضاه إلى حامل سند مالي على الغير لم يحل أجله دفع قيمته بعد اقتطاع الفائدة، على أن تنتقل ملكية السند إلى المصرف مقيدة بشرط استيفاء الدين عند حلول الأجل. (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين – ص 496) ويلاحظ في التعريفات وجود الفائدة نظير إقراض قيمة الورقة التجارية، فهي إذن قرض ربوي

(2)

السند الإذني من الأوراق التجارية، ويعرف بأنه "مكتوب وفقا لأوضاع حددها القانون ويتضمن تعهد شخص معين يسمى المحرر، بدفع مبلغ معين من النقود من تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخص آخر يسمى المستفيد ".انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 214.

(3)

انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 212 – 214.

ص: 614

قال رحمه الله: قد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصورة المألوفة.

من ذلك أن تصدر شركة أو شخص معنوي عام سندات، فهذه السندات قروض تعقدها الشركة أو الشخص المعنوي مع المقرضين، ومن اكتتب في هذه السندات فهو مقرض للشركة أو الشخص المعنوي بقيمة ما اكتتب به.

ومن ذلك تحرير كمبيالة أو سند تحت الإذن أو سند لحامله، فهذه الأوراق قد تكون قروضا يعقدها من حررها وهو المقترض لمصلحة من حررت له وهو المقرض.

ومن ذلك فتح اعتماد في مصرف لعميل، فالعميل يكون مقترضا من (المصرف) مبلغا حده الأقصى هو الاعتماد المفتوح.

ومن ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا.

ومن ذلك تعجيل مصرف مبلغا من النقود لعميل لقاء أوراق مالية مودعة في المصرف، فالمصرف يكون قد أقرض العميل هذا المبلغ الذي عجله في مقابل رهن هو الأوراق المالية المودعة في المصرف.

هذه هي الصور التي ذكرها، وقد أشرنا لبعضها، وكل قرض من هذه القروض يأخذ البنك أو غيره زيادة على رأس المال، فهي من الربا المحرم.

فإذا أردنا أن تزكو أموالنا وتطهر، لا أن تمحق وتسحق، فلنبحث عن الحل الإسلامي، فلا حل غيره ما دمنا مسلمين.

ولعل البنوك الإسلامية في عمرها القصير قد قدمت تطبيقا عمليا يمكن الاستفادة منه.

ص: 615

الخاتمة

بعد هذا البيان لودائع البنوك، وبعض الصور الأخرى لعقد القرض في معاملاتنا المعاصرة، أحب أن أقول: أن واجبنا كمسلمين أن نخضع معاملاتنا للإسلام، لا أن نخضع الإسلام لمعاملاتنا، فبدلا من أن نأتي إلى أعمال البنوك الربوية ونحاول تبريرها، ونبحث عن مخرج للحكم بحلها، فلنطالب بتطهير أموالها من الربا، وبتحويل البنوك كلها إلى بنوك إسلامية، ما الذي يمنع بنوكنا وشركاتنا من أن تصبح إسلامية أفليس الحلال الطيب الذي يأتي عن طريق الشركات التي أباحها الإسلام خيرا من الاتجار في الديون والتعامل بالربا؟

إن الدين عند الله الإسلام، فهل الإسلام عقائد وعبادات فقط؟ لقد شكلت لجان لبحث تطبيق الشريعة، فعلينا أن ننادي بتطبيق الإسلام في المعاملات، والمساعدة في بيان كيفية التطبيق لا أن نحل الأوضاع الربوية القائمة.

إن الصالح لمعاملاتنا هو تطبيق الإسلام حتى يتطهر مالنا ويزكو ويبارك فيه، بدلا مما نراه من المحق والسحق وذهاب البركة وغير ذلك من بعض مظاهر حرب الله لنا، ليس الصالح نابعا من عقيدتنا فحسب، بل أن النظر إلى الاقتصاد المجرد يثبت هذا وقد بين هذا الجانب كثير ممن كتب في الاقتصاد الإسلامي.

وأشير هنا على سبيل المثال إلى ما جاء في محاضرة لمدير أحد البنوك الربوية.

تحدث المدير عن مشكلة المدخرات النفطية، وذكر أن هذه المدخرات وصلت سنة 1975 إلى خمسين (مليارا) في البنوك الأجنبية وعندما أضيفت إليها الفوائد وصلت سنة 1978 إلى خمسة وستين.

ثم قال: أن ارتفاع الأسعار خلال السنوات الثلاث وصل إلى الضعف، أي أن المدخرات مع فوائدها قيمتها الحقيقية هي 32.5 فقط، ولو أن هذه المدخرات استثمرت بالفعل في مشروعات إنمائية لكانت القيمة الحقيقية للخمسين هي مائة. وقال بأن دولة واحدة – وهي السودان – يمكن أن تستوعب هذه المدخرات جميعها في مشروعاتها.

وهنا قال أحد رجال الاقتصاد الإسلامي:

هذا دليل اقتصادي على تحريم الربا، وعلى أن مصلحة المسلمين في الاستثمار بالطريق التي أحلها الإسلام. فقال مدير البنك: أن هذا لم يخطر ببالي من قبل!

من هذا نرى أن المصلحة الاقتصادية ذاتها ليست في التعامل بنظام الفائدة، وإنما في المشاركة في التنمية والاستثمار، غير أن هذه ليست مصلحة فقط، وإنما هي عقيدة ودين.

فلنتعاون جميعا في الدعوة إلى تطبيق الإسلام في معاملاتنا، بدلا من أن نثير شبها تكون عونا وسندا للمرابين.

ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة.

ص: 616