الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بداية الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد على التسخيري
أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبني نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى.
ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير.
ثالثًا: من المعلوم أن هناك حالات يخرج فيها القمر من المحاق، ولكنه لا يمكن أن يرى في بعض المناطق تبعًا لعوامل طبيعية متعددة:
ومنها: أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربي قليلًا، ثم يختفي تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة.
ومنها: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة.
ومنها: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة.
وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا تمكن رؤيته، حينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين:
أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض.
والآخر: أن تمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكي الطبيعي.
وقد قلنا سلفًا أن إمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك.
كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
حالة اختلاف البلاد في الرؤية:
قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما الحكم؟
وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلا شك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر.
وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة.
ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي.
وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعي واحد لا يتكرر، لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبي.
فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان كافيًا لاعتبار الأرض كلها دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟
وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف.
فمثلًا وردت رواية نقلها الوافى عن التهذيب، عن سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن عمير، عن هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين يومًا:"إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين – على رؤية – قضى يومًا".
ورواية أخرى عن الشيخ الطوسى، عن القاسم، عن أبان، عن عبد الرحمن، عن الصادق عليه السلام قال:"لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وهناك روايات أخرى متفاوتة (راجع الملحق رقم 1) .
وكما قلنا فإن نقطة الخلاف تكمن في انصراف لفظ (البلد الآخر) إلى البلد القريب وعدمه، فلو تم الإطلاق كان ذلك يعنى أن رؤية شرعية ما في بلد تشكل حجة شرعية على كل الأقطار بدخول الشهر، أما لو أدى الإنصراف إلى تقييد الإطلاق فالقاعدة هي وحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط. ولسنا نقصد فعلًا البحث عن المسألة بقدر ما نريد من تجلية الخلاف وذكر بعض الأقوال في ذلك لنصل إلى النتيجة المطلوبة (راجع الملحق رقم 2) .
وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمر لا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا- ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإنه بمراجعة الملحق نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد.
ومن الطبيعي والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا نؤمن به شرعًا، فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟
خامسًا: ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة –أحيانًا- بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة.
سادسًا: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (ال رأى العام العالمي) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها.
وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكيد على الأمر.
ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم.
[المحرر]
الملحق رقم 1
بعض النصوص بالإضافة لما ذكر
يقول الإمام عليه السلام كما جاء في (فقه الصادق ج 2 ص 45) :
"الفطر يوم فطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".
وجاء في وسائل الشيعة قول الحر العاملي:
"وتقدم في المواقيت قولهم عليهم السلام: إنما عليك مشرقك ومغربك وليس على الناس أن يبحثوا".
"أقول هذا محمول على البلد البعيد لاتحاد المشارق والمغارب ولما تقدم".
وجاء في الوسائل أيضا (الجزء السابع ص 208)
"سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان، فقال: لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر".
وفيه أيضًا:
"أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يومًا".
وفيه أيضًا:
"إذا رأيتم الهلال، فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين".
وفى الوافى نقلًا عن التهذيب: عن محمد بن عيسى، قال:"كتب إليه أبو عمرو: أخبرنى يا مولاي أنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، فلا نراه، ونرى السماء فيهاعلة، فيفطر الناس، ونفطر معهم، ويقول قوم من الحُساب قبلنا أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس، فهل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا، فقال عليه السلام: لا تصومن الشك أفطر لرؤيته وصم لرؤيته".
وكذلك؛ سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:" فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا".
وكذلك عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصم".
وعلق المرحوم الفيض الكاشانى بقوله: " من جميع أهل الصلاة يعنى أي مذهب كان من ملل أهل الإسلام.
وكذلك عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حتى يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت".
وجاء في التهذيب عن أبي جعفر: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".
ملحق رقم 2
بعض الأقوال والنصوص في هذا المورد:
نقل المرحوم (مغنية) في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى ثبتت رؤية الهلال بقطر، يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال".
وقال الإمامية والشافعية: " إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا، وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص".
وجاء في كتاب روائع البيان (تفسير آيات الأحكام) للشيخ محمد الصابوني الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة قوله:
الحكم العاشر: هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد، وجب الصوم على بقية البلاد، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا.
وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا تكفى رؤية البلد الآخر، والأدلة تطلب في كتب الفروع، فارجع إليها هناك (الجزء الأول ص 211) .
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين ج 1 ص 232) .
"وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ".
ونقل العلامة الفيض الكاشانى في كتابه (الوافى ص 2) الرواية التالية: عن البصرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال:"لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخرى أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) .
إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله:
"الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعى بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟
والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد".
ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) :
"سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟
الجواب:
فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.."
نظرة أكثر تفصيلًا عن بدايات الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك نقاط تلقى ضوءًا على الموضوع المبحوث عنه وهي:
أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبنى نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى.
ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير.
ثالثًا: يبدأ الشهر بخروج القمر من موضعه بين الأرض والشمس (والذى يكون فيه وجهه المظلم مواجهًا للأرض فلا يرى) يبدأ بخروجه من هذا الموضع حيث تبدو حافة النصف المضئ بشكل هلال (ويسمى هذا بدء الحركة الاقترانية) وكلما ابتعد عن المحاق زادت مساحة الجزء الظاهر لنا حتى نواجه النصف المضئ كله بشكل (بدر) وتكون الأرض بينه وبين الشمس.
ويكون ظهور الهلال عند أول الشهر عند غروب الشمس ولا يلبث غير قليل فوق الأفق ثم يختفى ولهذا قد تصعب رؤيته أو قد لا تمكن من قبيل:
أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربى قليلًا، ثم يختفى تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة.
أو: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة.
أو: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة.
وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا يمكن رؤيته، وحينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين:
أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض.
والآخر: أن يمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا فقد يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكى الطبيعى.
وإمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك.
كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
حالة اختلاف البلاد في الرؤية:
قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما هو الحكم؟
وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة يكون لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلاشك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر.
وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة.
ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي.
وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعى واحد لا يتكرر، (تبعًا لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبى) .
فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان ما كافيًا لاعتبار الأرض كلها قد دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟
وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف.
رأى علماء الإمامية:
اتفق علماء الإمامية على أن رؤية الهلال في بلد كافية لثبوته في غيرها من البلدان القريبة منها باعتبار العلم بأن عدم رؤيته فيه إنما يستند – لا محالة إلى مانع يمنع من ذلك.
أما البلدان المتباعدة (ذات الأفاق المتفاوتة) فقد نقل أنه لم يقع التعرض لهذه المسألة من قبل العلماء الماضين أما بالنسبة للعلماء المتأخرين فالرأى المشهور هو عدم كفاية الرؤية في بلد ما للقول بدخول الشهر القمري الشرعي لكل الأرض في حين اختار البعض من العلماء والمحققين الكفاية.
فقد نقله العلامة الحلي في كتاب (التذكرة) عن بعض العلماء واختاره هو بكل صراحة في كتابه (المنتهى) واحتمله الشهيد الأول في كتاب (الدروس) واختاره بصراحة المحدث الكاشانى في كتابه (الوافى) ونقل الرواية التالية: عن البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال:"لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخري أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) .
إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله:
"الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعي بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟
والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئى الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد".
وأيده صاحب الحدائق في (حدائقه) ومال إليه صاحب جواهر الكلام وإن لم يصرح باختياره وكذلك النراقى في (المستند) والسيد أبو تراب الخونساري في شرح (نجاة العباد) والسيد الحكيم في مستمسكه: إذا قال ما نصه "فمع العلم بتساوى البلدين في الطول لا إشكال في حجية البينة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر، وكذا لو رئي في البلاد الشرقية، فإنه تثبت رؤيته في الغربية بطريق أولى، أما لو رئي في الغربية فالآخذ بإطلاق النص غير بعيد (إلا أن يعلم بعدم الرؤية إذا لا مجال حينئذ للحكم الظاهري) ودعوى الانصراف إلى المتقاربين غير ظاهرة". (1) وقال بهذا القول السيد الخوئى في منهاج الصالحين إذ صرح قائلًا: " وهذا القول- أي كفاية الرؤية في بلد ما لثبوت الهلال في بلد آخر ولو مع اختلاف أفقهما هو الأظهر ". (2) كما استظهر المرحوم السيد محمد باقر الصدر في فتاواه الواضحة (3) ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) :
"سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟
الجواب:
فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.."
إلا أن الرأى المشهور هو عدم الكفاية وقد صرح الإمام الخمينى به قائلًا: "لوثبت الهلال في بلد آخر دون بلده فإن كانا متقاربين أو علم توافق أفقهما كفى وإلا فلا"(4) .
(1) المستمسك، ج 8، ص 471
(2)
منهاج الصالحين، ج 1، ص 274
(3)
الفتاوى الواضحة، ص519.
(4)
تحرير الوية، ج1ن ص 297.
رأى العلماء غير الإمامية:
نقل العلامة مغنية في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى تبينت رؤية الهلال بقطر يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال"، وقال الإمامية والشافعية:" إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص"(1)
إلا أننا رأينا اختلاف الإمامية أيضا وإن كان ما ذكره هو المشهور لديهم.
وقال حجة الإسلام الغزالى في كتابه إحياء علوم الدين (2) :
"وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ".
أدلة القائلين بكفاية الرؤية في بلد ما:
وقبل كل شئ ذكروا سورة القدر الدالة على أن ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم من آفاقهم ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة وهذه الليلة هى ليلة القدر وهي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم وهذا يعم بقاع الأرض.
وبعد هذا تذكر الروايات ومنها:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) فإنه خطاب عام لجميع الأمة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا.
2-
صحيحة هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام أنه قال: " فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا".
3-
صحيحة أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضى أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه".
4-
صحيحة اسحق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال:"لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه".
5-
صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال:"لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
6-
واستشهدوا بروايات أخرى من قبيل ما جاء في التهذيب عن الباقر عليه السلام "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".
وما عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت".
كما ذكروا مستشهدين ما جاء في الدعاء المروى في قنوت صلاة العيد " أسألك بهذا اليوم الذى جعلته للمسلمين عيدًا".
وما جاء في الدعاء عن المعصومين "وجعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحدًا".
وختمت استدلالاتهم بالاستشهاد بسكوت الروايات بأجمعها من اعتبار اتحاد الأفق في هذه المسألة فلم يرد ذكرها حتى في رواية ضعيفة.
(1) الفقه على المذاهب الخمسة.
(2)
ج 1، ص 232
أدلة النافين لهذه الكفاية:
والذى يبدو من أقوالهم هو التركيز منذ البدء على عنصر الانصراف العرفى لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) بشكل يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق والمتقارب من حيث خطوط الطول والعرض، وحينئذ فإن القاعدة تقضى بوحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط ويتأكد هذا الإنصراف العرفى إذا لاحظنا:
(أ) استبعاد أن يكون النظر في عبارة (بلد آخر) إلى البلاد الواقعة في أقصى الأرض مثلًا.
(ب) تأكد العرف من اختلاف المطالع القمرية قياسًا على المطالع الشمسية المختلفة رغم بطلان هذا القياس واقعًا إلا أنه على أي حال يصرف الظهور إلى الشكل الذى يلزم معه التصريح بعدم الفرق بين القريب والبعيد لو كان هو المراد ومع عدمه يعنى ذلك إقرار الفهم العرفي المنصرف إلى القريب.
أما الاستدلال بسورة القدر فلعله يجاب عنه بأن الليلة في علم الله تعالى وحده واحدة وهذا يختلف في مسألة الحكم الظاهرى لهذا البلد عن ذاك.
وكذلك لعله يجب الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) بأن الحكم وإن كان عامًا إلا أنه ينحل بمقدار تعدد الأفراد والبلدان خصوصًا مع ملاحظة الإنصراف الآنف.
وهذا ما يجاب به على الاستشهادات بالاضافة لما فيه من ضعف في السند.
أما ما قيل من سكوت الروايات عن اعتبار وحدة الأفق فإنه بنفسه يقال بطرح مسألة سكوتها عن بيان عدم الفرق بين البعيد والقريب رغم ما هو المتعارف من وجود هذا الفرق لو كانت تقصده.
وعلى أي حال:
فإن المسألة تعود للإستظهار وحينئذ فلا يمكن إقامة البرهان القاطع بعد أن لم يكن هناك تصريح نصي به.
وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمرلا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا – ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإننا باستعراض الآراء نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد.
ومن الطبيعى والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا تؤمن به شرعًا فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟
ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة – أحيانًا – بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة.
وأخيرًا نقول: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (الرأى العام العالمى) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها.
وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكد من الأمر.
ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم.