الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه، توجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها.
ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفق ما يصفه به خلقه.
أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به.
وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.
وأستغفره لما أزلفت وأخرت. استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (1) . أما بعد: ففي أحد اجتماعات هيئة الرقابة الشرعية دار حوار حول خطابات الضمان، ومما يلتزم به المصرف عند تقدير الأجر. ورأيت أن الأجر يكون في مقابل عمل المصرف وجهده، أما الكفالة ذاتها فهي عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع. ورأي غيري من السادة الأجلاء أن العمل وحده لا يكفي، وإنما ينظر أيضا إلى عنصر الخاطرة التي يتحملها المصرف.
(1) من مقدمة رسالة الإمام الشافعي.
ونتيجة لهذا قمت بكتابة بحث عنوانه "أجور خطابات الضمان من الوجهة الشرعية" ثم رأيت أن أعطي وقتا لدراسة تجمع فقه الكفالة وتطبيقاتها المعاصرة وتمت بحمد الله تعالي وعونه وفضله هذه الدراسة في المذاهب الفقهية الإسلامية، والقانون الوضعي الذي يحتكم إليه عند الخلاف.
وفي مقدمة الكتاب قلت: أن مثل هذا البحث يمكن أن يكون نواة لمؤتمر ضخم، يبحث هذه المشكلة وغيرها مما اختلف فيه، ليخرج برأي يرتضيه الفقهاء، ويسهم في حل مشكلات العمل الإسلامي.
وقبل إتمام طبع الكتاب بلغتني الدعوة الكريمة لكتابة بحث عن خطاب الضمان.
فكنت سعيدا كل السعادة، وأسأل الله جلت قدرته أن يمد هذا المؤتمر بعونه وتوفيقه ليخرج برأي سديد يرضيه عز وجل، ويحسم الخلاف في مشكلة كثر النقاش حولها وتباينت الآراء، وظهر أثر الخلاف واضحا في التطبيق العملي.
والله المستعان، نعم المولي ونعم النصير، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام علي خاتم الرسل الكرام وعلي آله وصحبه، ومن اهتدي بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
الباب الأول
الكفالة في الكتاب والسنة
الفصل الأول
تعريف الكفالة
أولا: الكفالة في اللغة
قال ابن منظور في لسان العرب:
…
الكافل: العائل، كفله يكفله وكفله إياه، وفى التنزيل العزيز:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . (1) ، وقد قرئت بالتثقيل ونصب زكريا، وذكر الأخفش أنه قرئ: وكفلها زكريا بكسر الفاء. وفى الحديث: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة له ولغيره)) (2)
(1) آل عمران: 37
(2)
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: كافل اليتيم له ولغيره أنا وهو كهاتين في الجنة، وأشار مالك - أي الراوي - بالسبابة والوسطى. (انظر كتاب الزهد - فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين اليتيم) . وفى باب فضل من يعول يتيما من كتاب الأدب في صحيح البخاري نجد الحديث الشريف: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. وشرحه ابن حجر في الفتح غير أنه لم يذكر رواية مسلم مع ذكره لروايات غيره، وذكره السيوطي في: الجامع الصغير (حديث 2710) ، وأشار مع البخاري إلى أحمد وأبى داود والترمذي فقط، فقال المناوي في شرحه:"وظاهر صنيع المصنف أن ذلك مما تفرد البخاري عن صاحبه، وليس كذلك، بل رواه مسلم "(انظر فيض القدير 49/3) . وقال النووي في شرح حديث مسلم: كفالة اليتيم: القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية هو غير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية. وأما قوله: له أو لغيره، فالذي له أن يكون قريبا له، كجده وأمه وجدته وأخيه وأخته وأمه وخاله وعمته وخالته وغيرهم من أقاربه، والذي لغيره أن يكون أجنبيا".
والكافل: القائم بأمر اليتيم المربى له، وهو من الكفيل الضمين، والضمير في له ولغيره راجع إلى الكافل، أي أن اليتيم سواء كان الكافل من ذوى رحمه وأنسابه أو كان أجنبيا لغيره تكفل به، وقوله: كهاتين إشارة إلى إصبعيه السبابة والوسطى، ومنه الحديث: الراب كافل (1) .: الراب: زوج أم اليتيم لأنه يكفل تربيته وبقوم بأمره مع أمه. وفى حديث وفد هوازن: "وأنت خير المكفولين "(2) .، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي خير من كفل في صغره وأرضع وربى حتى نشأ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر.
(1) لم أجد هذا الحديث الشريف فيما رجعت إليه من كتب السنة، ولم أجد له ذكرا أو إشارة في الكتب التالية: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومفتاح كنوز السنة، والجامع الصغير وشرحه فيض القدير، كنز العمال، والجامع الأزهر في حديث النبي الأنور، وكشف الخفاء، والمقاصد الحسنة. ومعلوم أن لسان العرب ضم ما جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، فرجعت إليه، فوجدت في باب الراء مع الباء (81/2) :"الراب كافل"، ونقل ابن الأثير هذا القول من كتاب "المغيث في غريب القران والحديث" للحافظ أبي موسي محمد بن أي بكر المديني الأصفهاني، المتوفى سنة 581هـ، وقد جمع فيه ما فات الهروي من غريب القران والحديث. (انظر النهاية 1/9)
(2)
أشار البخاري إلى الحديث في أكثر من موضع، ولكن لم يذكر هذه العبارة، وفى الفتح (8/33) في كتاب المغازي - باب قول الله تعالى ويوم حنين..) أشار إلى رواية ابن إسحاق، وفيها "وأنت خير مكفول "، وفى سيرة ابن هشام ذكر رواية إسحاق بالتفصيل، وفيها "وأنت خير المكفولين "(4/488)
ووالكافل والكفيل: الضامن، والأنثى كفيل أيضا، وجمع الكافل كفل، وجمع الكفيل كفلاء، وقد يقال للجمع كفيل كما قيل في الجمع صديق. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . أي ضمنها إياه حتى تكفل بحضانتها، ومن قرأ:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . فالمعنى ضمن القيام بأمرها.
وكفل المال وبالمال: ضمنه، وكفل بالرجل يكفل ويكفل كفلا وكفولا وكفالة وكفل وكفل وتكفل بدينه تكفلا. أبو زيد: أكفلت فلانا المال إكفالا إذا ضمنته إياه، وكفل هو به كفولا وكفلا، والتكفيل مثله. قال الله تعالى:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (1) . الزجاج: معناه اجعلني أنا أكفلها وانزل أنت عنها. ابن الأعرابي: كفيل وكافل وضمين وضامن بمعنى واحد، التهذيب: وأما الكافل فهو الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه. وفى الحديث: ((الربيب كافل)) "وهو زوج أم اليتيم كأنه كفل نفقة اليتيم.
ثانيا: الكفالة في الفقه:
اختلف في تعريف الكفالة شرعا تبعا لاختلاف آراء الأئمة الإعلام.
قال صاحبا المغنى والشرح الكبير:
الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، واشتقاقه من الضم، وقال القاض: هو مشتق من التضمين، لأن ذمة الضامة تتضمن الحق.
ويقال: ضمين، وكفيل، وقبيل، وحميل، وزعيم، وصبير، بمعنى واحد. (2)
ويتضح من هذا التعريف أن ضم الذمة إلى الذمة ليس في مجرد الطلب، وإنما في ثبوت الحق أيضا، فتشغل ذمتا الكفيل والأصيل بالحق المكفول به.
والمالكية والشافعية يرون كذلك أن الالتزام بالحق. (3)
أما الحنفية فيرون غير هذا، فعرفها صاحب كنز الدقائق بقوله: الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. وقال صاحب البحر الرائق في شرحه لهذا القول: الكفالة معناها شرعا قد اختلف فيه، وقد أشار إلى الأصح بقوله: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. (4) .
(1) 23: سورة (ص)
(2)
انظر الكتابين5 /70-71
(3)
انظر بلغة السالك 2/155 وزاد المحتاج 2/223.
(4)
البحر الرائق 6/ 321.
وفى الهداية قال: قيل هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين، والأول أصح. (1) .
وجاء ابن الهمام في فتح القدير فشرح ما سبق، وبين الخلاف بعد أن أشار إلى مفهوم الكفالة لغة، فقال: وأما في الشرع فما أشار إليه من قوله (ثم قيل هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة، وقيل في الدين. قال: والأول أصح فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل خلافا للشافعي ومالك وأحمد في رواية. فيثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل. ولم يرجح في المبسوط أحد القولين على الآخر. وما يخال من لزوم صيرورة الألف للدين الواحد ألفين كما ذكره بعض الشارحين قال في المبسوط: وليس من ضرورة ثبوت المال في ذمة الكفيل، مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب زيادة حق الطالب، لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل فالاستيفاء لا يكون إلا من أحدهما، كالغاصب مع غاصب الغاصب، فإن كلا ضامن للقيمة، وليس حق المالك إلا في قيمة واحدة، لأنه لا يستوفى إلا من أحدهما، واختياره تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر، فكذا هنا، يريد باختياره التضمين القبض منه لا مجرد حقيقة اختياره، لأنه يتحقق بمرافعة أحدهما، وبمجرد ذلك لا يبرأ الآخر. ومما يدل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صح، ويرجع به الكفيل على الأصيل، مع أن هبة الدين من غير من عليه الدين لا تجوز. وكذا لو اشترى من الكفيل بالدين شيئا يصح، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح. والحاصل أن ثبوت الدين في الذمة اعتبار من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، إنما يمتنع في عين ثبت في زمن واحد في ظرفين حقيقيين. ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد الطلب لا الدين، لأن اعتباره في الذمتين -وإن أمكن شرعا - لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب، لأن التوثق يحمل بالمطالبة، وهو لا يستلزم ولابد من ثبوت اعتبار الدين في الذمة، كالوكيل بالشراء يطالب بالثمن وهو في ذمة الموكل. وأما الجواب عن تسليم الهبة والدين فإنا جعلناه في حكم الدينين تصحيحا لتصرف صاحب الحق، وذلك عند وقوعه بالفعل، وقبله لا ضرورة، فلا داعي إلى ذلك. (2) .
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 6/283
(2)
انظر شرح فتح القدير 6/283-284
ولعل التعبير بكلمة الحق أولى من كلمة الدين، ولذلك استدرك ابن الهمام قائلا:
" ثم الوجه أن تطلق المطالبة من غير تقييد بالدين، فان الكفالة كما تكون بالديون، تكون بالأعيان المضمونة بنفسها، وهو ما يجب تسليمه بعينه، فإن هلك ضمن مثله أن كان له مثل، وبقيمته أن لم يكن له مثل (1)
وقال صاحب زاد المحتاج: " الضمان شرعا التزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عين مضمونة. (2) .
والتعريف هنا فيه إشارة إلى كفالة الأبدان أيضا، وفيه تفصيل عند الشافعية.
والحنفية بعد التعريف السابق قالوا: والكفالة ضربان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال.
والحنابلة كذلك ذكروا هذين الضربين.
أما المالكية فيرون أن الضمان ثلاثة أنواع هي: ضمان المال، وضمان الوجه: أي البدن، وضمان الطلب، فجعلوا تعريفه شاملا للثلاثة (3) .. ومن الفقهاء من خالف جمهور الأئمة، فلم ير الكفالة ضم ذمة إلى ذمة، وإنما نقل الحق من ذمة إلى ذمة، أي أنهم لم يفرقوا بين الكفالة والحوالة. وقد ذهب إلى هذا ابن حزم، وقال:"قال ابن أبي ليلي، وابن شبرمة، وأبو ثور، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا، كما قلنا من أن الحق قد سقط جملة عن المضمون عنه، ولا سبيل للمضمون له إليه أبدا، وإنما حقه عند الضامن، أنصفه أو لم ينصفه، روينا من طريق ابن أبي شيبة، أن حفص بن غياث، عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمران، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، قالا جميعا: الكفالة والحوالة سواء"(4) ..
(1) انظر شرح فتح القدير6/284
(2)
ج 2 ص 23 2
(3)
انظر بلغة السالك، والشرح الصغير معه 2/155
(4)
المحلى 8/527
ثالثا: الكفالة في القانون:
القوانين المدنية نجد بعضها أخذ التعريف من الفقه الإسلامي، مثل القانون المدني العراقي، فالمادة (1008) نصها:"الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة بتنفيذ التزام". ونجد بعضها الآخر يتفق مع هذا التعريف كالقانون المدني المصري، حيث تنص المادة (772) على ما يأتي:"الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن بأن يفي بهذا الالتزام إذا لم يفي به المدين نفسه"(1) بشرح الدكتور السنهوري المادة السابقة فيقول:
"يؤخذ من هذا التعريف أن الكفالة هي عقد بين الكفيل والدائن، أما المدين الأصلي فليس طرفا في عقد الكفالة، بل أن كفالة المدين تجوز بغير علم المدين، وتجوز أيضا رغم معارضته. والذي يهم في الكفالة هو التزام هذا المدين أما إذ أن هذا الالتزام هو الذي يضمنه الكفيل، فيجب أن يكون مذكورا في وضوح ودقة في عقد الكفالة. وهذا الالتزام المكفول أكثر ما يكون مبلغا من النقود، وقد يكون إعطاء شيء غير النقود، كما قد يكون عملا أو امتناعا عن عمل. فإذا لم يكن الالتزام المكفول مبلغا من النقود- ضمن الكفيل ما عسى أن يحكم على المدين الأصلي من تعويض من جراء إخلاله بالالتزام بإعطاء شئ غير النقود، أو من جراء إخلاله بالالتزام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
فالكفالة إذن تفترض وجود إلزام مكفول، وهذا الالتزام يفترض وجود مدين أصلى به ودائن، كما تفترض الكفالة وجود عقد بين الكفيل والدائن بالالتزام الأصلي المكفول بموجبه يفي الكفيل بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين الأصلي. فالكفالة ترتب التزاما شخصيا في ذمة الكفيل، والتزام الكفيل هذا تابع للالتزام الأصلي" (2) .
(1) أنظر ما سبق، وما يتصل بقوانين بعض البلاد الأخرى، في الكتاب القيم: الوسيط في شرح القانون المدني للعلامة المرحوم الدكتور عبد الرازق السنهوري 10/18-19.
(2)
المرجع السابق 10/19-20.
الفصل الثاني
الكفالة في القران الكريم
ورد الفعل (يكفل) في القران الكريم بمعنى يتعهد الصغير ويرعى شئونه، ولم يأت بمعنى يضمن.
ففي سورة ال عمران (الآية 44) نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ..
وفى سورة طه (الآية40) : {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} .
وفى سورة القصص (الآية12) : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} .
وورد الفعل (كفل) - بالتشديد- بمعنى جعله كافلا له راعيا، جاء هذا في سورة آل عمران (الآية 37) حيث يقول عز وجل:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وضمير كفل يعود إلى "ربها ".
ولم يرد الفعل في غير هذا الموضع، فلم يأت إذن بمعنى جعله ضامنا للمال. والفعل (أكفل) جاء مرة واحدة، وهى في قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (23: سورة ص) .
والمعنى: كافلا لها، راعيا لشئونها، أو أعطني إياها لأرعاها.
فلم يرد الفعل بمعنى جعله ضامنا لمال.
وكلمة (كفيل) ذكرت مرة واحدة، وهى في قوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . (91: سورة النحل) ، أي مهيمنا ورقيبا.
لم يرد في القران الكريم كلمة من مادة (كفل) تفيد معنى الضمان، ولكن جاء المعنى من مادة أخرى هي مادة (زعم) .
قال تبارك وتعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . (72: سورة يوسف) . والزعيم هنا هو الكفيل الضامن، ولذلك يستدل بهذه الآية الكريمة على جواز الكفالة.
وهذه الكلمة جاءت في موضع آخر، وهو قوله عز وجل:{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . (40: سورة القلم) .
وفى سورة الإسراء (الآية 92) وردت كلمة قبيل، قال تعالى:{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} .
قال الفراء: (قبيلا) أي كفيلا (1) .
وقال الزمخشري: (قبيلا) كفيلا بما تقول شاهدا لصحته، والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا كقوله:
كنت منه ووالدي بريا وإني وقير بها لغريب
أي مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه (2) .
وقال ابن منظور: (3) ..
القبيل: كل جمع من شئ واحد، وكل جيل من الجن والناس، والجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا، وجمع القبيل قبل، واستعمل سيبوبه القبيل في الجمع والتصغير وغيرهما من الأبواب المتشابهة.
(1) معاني القرآن 2/131
(2)
الكشاف 2 /466
(3)
انظر مادة قبل في لسان العرب
وفى معجم ألفاظ القران الكريم الذي ألفته لجنة من مجمع اللغة العربية، جاء تفسير القبيل في الآية الكريمة بقولهم:
"جماعة جماعة، أو كفلاء يشهدون بصحة دعواك". وذكروا أن معنى القبيل: الجماعة، والكفيل، وقبيل الرجل: عشيرته وأعوانه.
وقال الكاسانى: القبالة بمعنى الكفالة، يقال: قبلت به أقبل قبالة، وتقبلت به، أي كفلت. قال تعالى:{أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} أي كفيلا (1) .
والآية الكريمة لا يستدل بها على مشروعية الكفالة، وإنما يؤخذ منها جواز استعمال القبيل بمعنى الكفيل في صيغة الكفالة التي يصح بها الإيجاب.
ومما جاء قريبا من معنى الكفالة بالنفس قوله تعالى في سورة يوسف (الآية 66) : {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .
فالموثق - وهو العهد المؤكد- أخذه يعقوب عليه السلام على بنيه لضمان عودة أخيهم معهم.
ولعل في هذا ما يسترشد به على جواز الكفالة بالنفس.
(1) بدائع الصنائع 7/3405.
الفصل الثالث
الكفالة في السنة المطهرة
حظيت الكفالة بالكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكر منها ما يأتي، مع الإشارة إلى شئ من الفقه:
أولا: روى أحمد، وأصحاب السنن عدا النسائي، والدارقطني، وغيرهم بطرق مختلفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الزعيم غارم)) (1)
وهذا الحديث الشريف يستفاد منه ما ذهب إليه الفقهاء من أن الكفالة من عقود التبرع، فالأصل فيها الغرم لا الغنم. لهذا يشترط في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض. ولذلك لا تصح الكفالة من الصغير، ولا من المجنون، ولا من المبرسم الذي يهذي. ولا تصح كذلك من المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء. وقال القاض أبو يعلى الحنبلي: تصح الكفالة ويتبع بها بعد فك الحجر عنه، أي أنه اعتبر عدم الحجر لسفه شرط نفاذ لا شرط انعقاد. وقد رفض الحنابلة أنفسهم هذا الرأي وبينوا بطلانه (2) .
(1) انظر سن إلى داود كتاب الببوع - باب تضمين العارية، وسنن الترمذي: كتاب البيوع - باب ما جاء أن العارية مؤداة، وسنن ابن ماجه: كتاب الصدقات باب الكفالة - الحديث رقم 2405، وسنن الدارقطني 3/41 - كتاب البياع.. الخ. وراجع نصب الراية 4/57-58، وعون المعبود - شرح الحديث رقم 5548ج 9 ص 478 - 479، وتحفة الأحوذي في الموضع السابق من سنن الترمذي. واقرأ قول الخطابي في معالم السنن (3/177) : "الزعيم الكفيل، والزعامة الكفالة، ومنه قيبل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
(2)
انظر المغنى5/78.
وذهب الرافعي من الشافعية إلى أن الضمان بإذن الولي كالبيع يحتمل الوجهين: الصحة وعدمها، قال النووي في بيانه لفساد هذا الرأي: أن البيع إنما صح على وجه لأنه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة (1) .
ويرى الجمهور أن الصبي المميز لا تصح منه الكفالة سواء أذن الولي أو لم يأذن، وفى رواية عند الحنابلة: تصح مع إذن الولي، وهى خلاف الصحيح من المذهب، والقياس على البيع يرده ما ذكر انفا. أما المحجور عليه لفلس وإن لم تنفذ الكفالة حال الحجر غير أنها تصح، وتنفذ بعد فك الحجر، فعدم الحجر لفلس شرط نفاذ لا شرط انعقاد.
واختلف في الحرية: أهي شرط نفاذ أم شرط انعقاد؟ ولا حاجة لمناقشة هذا الرأي، فلا يوجد رق الآن يبيحه الإسلام، وبهذا أفتى مجمع البحوث الإسلامية. أما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح، وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله. وخالف المالكية جمهور الفقهاء في كفالة المرأة، حيث فرقوا بينها وبين الرجل، ولهم في هذا التفصيل الآتي:
الجارية البكر بعد بلوغها المحيض تعتبر كالولد الصغير في الكفالة، فلا تصح منها الكفالة حتى مع إذن الولي.
(1) انظر روضة الطالبين 4/242
والمرأة ذات الزوج تصح الكفالة منها في حدود الثلث فقط، فإن زادت على الثلث اعتبر هذا اضرارا بالزوج فلا تصح الكفالة إلا إذا كانت بموافقة الزوج نفسه، وكانت مرضية أي في تصرفها غير سفيهة في حالها.
أو إلا أن تكون إنما زادت الدينار أو الشيء الخفيف، فهذا يعلم أنها لم ترد به الضرر، فهذا يمضى.
وتصح كفالتها عن زوجها وإن بلغت جميع مالها بإذنه.
أما المرأة الأيم غير ذات الزوج إذا كانت لا يولى عليها فهي التي تكون بمنزلة الرجل في الكفالة (1) .
ورأي المالكية ينبنى على أصل الحجر على مال الأنثى، فالبكر ليست من أهل التبرع، فلا تجوز كفالتها لأن الكفالة معروف. وذات الزوج "محجورة عن جميع مالها وكذلك المريض قد حجر عليه جميع ماله، وإنما يجوز له من ماله الثلث، والكفالة معروف، فإنما يجوز ذلك في ثلثه، كما يجوز للمرأة ذات الزوج معروفها في ثلثها عند مالك"(2)
"قال مالك: كل معروف تصنعه الزوجة ذات الزوج فهو في ثلثها. والكفالة عند مالك من وجه الصدقة، لأن مالكا قال في بيع المرأة ذات الزوج دارها أو خادمها أو دابتها: جائز على ما أحب زوجها أو كره، إذا كانت مرضية في حالها وأصابت وجه البيع. قال مالك: وأرى أن كان فيه محاباة كان في ثلث مالها". (3) . وذكر سحنون ما يؤيد ما ذهب إليه الإمام مالك فقال: " ألا ترى أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها؟ أو لا ترى أن شهادة الزوج لا تجوز لها ومالها غير ماله، ورأي أهل العلم من أهل الحجاز أن تبلغ بعطيتها الثلث بغير أمر الزوج؟ ". (4) .
(1) راجع رأي المالكية في المدونة 5/283-278
(2)
المدونة 5/277
(3)
5/284المدونة
(4)
المدونة 5/286
ولعل رأي الإمام مالك ومن وافقه يحتاج إلى مزيد من الأدلة، فلا يكفي القول بالحجر دون دليل يثبت هذا القول ومنع الضرر يمكن أن يجاب عنه بأنه لا ضرر هنا مادامت تتصرف في ملكها الخاص وهى مرضية غير سفيهة.
والحديث الشريف يمكن أن يذكر بأن المراد منع المرأة من التصرف في مال زوجها إلا بإذنه لأنه صاحب المال، وليس منعها من التصرف في مال هي مالكته إلا بإذن من لا يملكه وهو الزوج، وهذا واضح في العطايا اليسيرة. (1)
وفى معالم السنن (3/174) جاء التعقيب على الحديث الشريف بما يأتي: "قال الشيخ (أي الخطابي) : هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك، إلا أن مالك بن أنس قال: ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج.
قال الشيخ: ويحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد، وقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: تصدقن، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يتلقاها بكسائه، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن". وننتقل بعد هذا إلى القانون الوضعي فنراه يجيز الكفالة بأجر خلافا لما أجمع عليه الفقهاء.
وفى أهلية الكفيل يفرق بين الكفالة بأجر وبدون أجر: فالكفيل المتبرع يجب أن تتوافر فيه أهلية التبرع، فلا بد أن يكون بالغا سن الرشد، غير محجور عليه. وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل الغير متبرعا، وإذا كفل كانت الكفالة باطلة، بل لا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد باسم القاصر أو المحجور عليه كفالة تبرعية، حتى بإذن المحكمة.
أما إذا كانت الكفالة بمقابل فتجب في الكفيل أهلية التصرف لا أهلية التبرع. وذلك قياسا على المقترض بفائدة، وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل لأنه لا يملك أهلية التصرف وقد يملك أهلية الإدارة، ولكن الكفالة من أعمال التصرف لا من أعمال الإدارة، وإذا كفل كانت الكفالة قابلة للإبطال إلى أن تجاز، ولكن يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد كفالة بمقابل باسم القاصر أو المحجور عليه على أن يكون ذلك بالنسبة إلى الجد أو إلى الوصي أو إلى القيم بإذن المحكمة. (2) .
(1) يؤيد هذا الاحتمال إحدى روايات الإمام أحمد ونصها: "لا تنفق المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها. فقيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا" - (5/267)، ولكن يبعد هذا الاحتمال رواية أخرى نصها: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" - (انظر الرواية رقم 7058 من المسند ج 12 بتحقيق الشيخ شاكر، وهنا يأتي كلام الخطابي.
(2)
انظر الوسيط 10/80-81
ثانيا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري نجد في بدايته "باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها". وتحت الباب ما يأتي:
1-
وقال أبو الزناد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه:"أن عمر رضي الله عنه بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفلا، حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة ".
2-
وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم، فتابوا وكفله عشائرهم.
3-
قال أبو عبد الله: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى.. " الخ.
هذا ما ذكره الإمام البخاري، وواضح أن الأخبار الثلاثة جاءت معلقة، فبين ابن حجر في الفتح أصل كل من الخبرين الأول والثاني والطرق الموصلة للحديث الشريف. وقال بعد الخبر الأول:"استفيد من هذه القصة مشروعية الكفالة بالأبدان، فإن حمزة بن عمرو الأسلمي صحابي، وقد فعله ولم ينكر عليه عمر مع كثرة الصحابة حينئذ".
وقال في شرحه للخبر الثاني: "قال ابن المنير: أخذ البخاري الكفالة بالأبدان في الديون مع الكفالة بالأبدان في الحدود بطريق الأولى، والكفالة بالنفس قال بها الجمهور ولم يختلف من قال بها أن المكفول بحد أو قصاص إذا غاب أو مات إلا حد على الكفيل بخلاف الدين، والفرق بينهما أن الكفيل إذا أدى المال وجب له على صاحب المال مثله".
وقال في شرحه للحديث: "وجه الدلالة منه على الكفالة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقريره له وإنما ذكر ذلك ليتأسى به فيه، وإلا لم يكن لذكره فائدة "(1) .
ثالثا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري أيضا نجد "باب من تكفل عن ميت دينا فليس، له أن يرجع، وبه قال الحسن". ويضم الباب حديثين: أحدهما: عن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه ثم أتى بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم قال: فصلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه" والآخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا هكذا، فلم يجيء مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أودين فليأتنا، فأتيته فقلت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا. فحثى لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة؟ وقال خذ مثليها". وبعد الحديثين قال ابن حجر:
قوله (باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن) يحتمل قوله " فليس له أن يرجع " أي عن الكفالة بل هي لازمة له " وقد استقر الحق في ذمته، ويحتمل أن يريد فليس له أن يرجع في التركة بالقدر الذي تكفل به، والأول أليق بمقصوده. ثم أشار إلى الحديث الأول وقال:
ووجه الأخذ منه أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المديان حتى يوفي أبو قتادة الدين لاحتمال أن يرجع، فيكون قد صلى على مديان دينه باق عليه فدل على أنه ليس له أن يرجع. واستدل به على جواز ضمان ما على الميت من دين ولم يترك وفاء، وهو قول الجمهور خلافا لأبى حنيفة وقد بالغ الطحاوي في نصرة قول الجمهور، ثم أورد فيه حديث جابر.
(1) راجع فتح الباري 4/470 - 472
وقال عن الحديث الثاني:
ووجه دخوله في الترجمة أن أبا بكر لما قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بما كان من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي جميع ما عليه من دين أو عدة " وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد، فنفذ أبو بكر ذلك (1)
رابعا: في الكتاب نفسه من صحيح البخاري حديثا في باب الديات، عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (2)
وبعد شرح الحديث الشريف قال ابن حجر (4/478) :
قال ابن بطال: قوله "من ترك دينا فعلي" ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله فعلى قضاؤه أي مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه..
(1) انظر فتح الباري 4/474 – 475
(2)
راجع تخريج الحديث في نصب الراية 4/58 - 59
خامسا: في كتاب الحوالة والضمان من نيل الأوطار نجد " باب ضمان دين الميت المفلس "(5/267) ويضم الباب حديثين:
أحدهما حديث سلمة بن الأكوع، ولكن بلفظ غير ما سبق، ويقول صاحب منتقى الأخبار بعد الحديث: رواه أحمد والبخاري والنسائي. وروى الخمسة إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة، وصححه الترمذي، وقال فيه النسائي وابن ماجه: " فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به وهذا صحيح في الإنشاء لا يحتمل الإخبار بما مضى.
والحديث الثاني عن جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتى بميت فسأل: عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما على يا رسول الله، فصلى عليه، فلما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته ".
قال مجد الدين ابن تيمية عقب الحديث: رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وقال الشوكاني: حديث جابر أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم.
ثم قال: وعن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أودينا فكله إلى ودينه على. ثم قال: وأحاديث الباب تدل على أنها تصح الضمانة عن الميت، ويلزم الضمين ما ضمن به، وسواء كان الميت غنيا أو فقيرا. وإلى ذلك ذهب الجمهور وأجاز مالك للضامن الرجوع على مال الميت إذا كان له مال. وقال أبو حنيفة: لا تصح الضمانة إلا بشرط أن يترك الميت وفاء دينه وإلا لم يصح..
سادسا: ويلي الباب السابق " باب في أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه "(نيل الأوطار5/269) وفيه حديث واحد، هو عن جابر قال: توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة. فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن بردت عليه جلده ". وعقب مجد الدين على الحديث بقوله: رواه أحمد، وإنما أراد بقوله " والميت منهما بريء" دخوله في الضمان متبرعا لا ينوي به رجوعا بحال.
وقال الشوكاني:
الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم.
ثم قال: قوله الآن بردت عليه فيه دليل على أن خلوص الميت من ورطة الدين وبراءة ذمته على الحقيقة ورفع العذاب عنه، إنما يكون بالقضاء عنه لا بمجرد التحمل بالدين بلفظ الضمانة، ولهذا سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أبي قتادة في اليوم التالي عن القضاء. (1)
(1) انظر نيل 5/269 - 270، وراجع الحديث في مسند الإمام أحمد 3/330، واللفظ فيه بعض الاختلاف، واقرأ الحديث. وتعقيب ابن حجر وشرح الصنعائى في سبل السلام 3/888 - 890. وراجع سنن النسائي-كتاب الجنائز: الصلاة على من عليه دين ج 4 ص 65- 66.
سابعا: روى مسلم وأبو داود وغيرهما عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال:" أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ". قال: ثم قال: " يا قبيصة أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك (1)
…
"
وهذا الحديث الشريف كما يدل على جواز الكفالة يدل أيضا على أنها واجبة على من تحملها، ليس له أن يرجع عن التزامه.
ثامنا: روى ابن ماجه في باب الكفالة من كتاب الصدقات بسنده عن ابن عباس، أن رجلا لزم غريما بعشرة دنانير، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيكه. فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضينى أو تأتينى بحميل. فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " فقال: شهرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحمل له ". فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا " قال: من معدن، قال: " لا خير فيها " وقضاها عنه.
وروى أبو داود الحديث الشريف -مع شيء من الاختلاف - في باب استخراج المعادن من كتاب البيوع. والحديث كما يدل على جواز الكفالة، يدل أيضا على جواز ملازمة الغريم، ومنعه من التصرف حتى يؤدى ما عليه من الحق، وعلى جواز ضمان الدين الحال مؤجلا.
(1) صحيح مسلم -كتاب الزكاة: من تحل له المسألة - وانظر سنن أبي داود-كتاب الزكاة: بباب تجوز فيه المسألة. والحمالة: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن يقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه. (النهاية لابن الأثير1/442) . وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حنى ترتفع تلك الفتنة الثائرة. (عون المعبود5/50) .
الباب الثاني
الفصل الأول
خطاب الضمان في البنوك الربوية
تعريف خطاب الضمان:
من الكفالات المعاصرة ما تقوم به المصارف بما يسمى إصدار خطابات الضمان. وخطاب الضمان يمكن تعريفه بأنه عبارة عن تعهد كتابي، يتعهد بمقتضاه المصرف بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملق على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة.
وتتعدد خطابات الضمان تبعا لتعدد الأغراض المستعملة فيها:
منها خطابات الضمان الابتدائية أو المؤقتة، وهى خاصة بالعطاءات التي تقدم للجهات الحكومية وما في حكمها.
ومنها خطابات الضمان النهائية، وهى خاصة بضمان حسن تنفيذ العقود المبرمة مع تلك الجهات.
ومنها خطابات الضمان للتمويل (عن دفعات مقدمة) : يصدرها المصرف لضمان مبالغ تصرف مقدما من بعض الجهات للمقاولين أو الموردين، أو لضمان مبالغ تحت الحساب عن أعمال مقدرة لم يتم حصرها.
وهناك أنواع أخرى من خطابات الضمان.
وللخطابات شروطها، ويقوم المصرف بإجراءات وأعمال مختلفة تستلزمها هذه الخطابات. (1) .
(1) انظرعلى سبيل المثال: الباب التاسع من الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 2/309-336
موقف البنوك الربوية من خطابات الضمان
البنوك الريوبة عندما تصدر خطابات الضمان تأخذ من عملائها ما يقابل هذا الإصدار، وتراعي في تحديد العمولة الأعمال والإجراءات التي تقوم بها، وقيمة الدين الذي تضمنه، ومدة هذا الضمان. وهي عادة تقدر نسبة مئوية تحسب على أساس هذا الدين ومدته.
فإذا قام البنك بدفع أي مبلغ ضمنه حسب دينا على العميل بالفائدة الربوية المتعارف عليها، والتي يلتزم بها المدين قانونا، والبنك تاجر ديون مراب، وكما يقول أحد رجال الاقتصاد:
"يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة، وهى: التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا، أم مشروعات، أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية- وهى التي تعرف باسم الودائع الجارية- في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون.
وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها، وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين ". (1) .
ولهذا فالبنوك الريوية ترحب بخطابات الضمان، حيث تدر عليها ربحا وفيرا، وتتصل بنشاطها الربوي. وهى كما تقوم بالإقراض العادي، تقوم كذلك بالإقراض عن طريق ما يسمى بفتح الاعتماد. أما خطاب الضمان فيقول عنه الدكتور على البارودى بأنه صورة من صور إقراض التوقيع (2) .
(1) مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعى ص 197
(2)
راجع خطاب الضمان في كتابه: القانون التجاري ص 532
ويتحدث آخر عن الكفالات المصرفية فيقول:
" قد يحتاج عميل المصرف، في بعض الأحيان، إلى نوع من الاعتماد، لا يريد منه الحصول على مبلغ من المال - سواء بصورة آنية فورية أو مستقبلية- بل تقديم ضمانه للأشخاص الذين يتعاملون معه لتنفيذ الالتزامات التي تعهد بها تجاههم. ففي هذه الحالة، يتدخل المصرف لتقديم هذه الضمانة عن طريق الكفالة، فالغاية من الكفالة المصرفية هي إذن إفساح المجال أمام المعتمد له لعدم دفع المبالغ التي يطلب إليه دفعها ضمانا لتنفيذ تعهداته.
على أن الكفالة المصرفية إذا كانت لا تقتضى المصرف دفع المال المكفول به بصورة آنية فورية، فإنها -كالاعتماد بالقبول - قد تتحول إلى التزام بالدفع الفعلي، وذلك عندما يحل أجل الدين أو التعهد المكفول، ثم يمتنع المتعهد، أو يعجز عن الوفاء به (1) .
(1) الحسابات والاعتمادات المصرفية للدكتور رزق الله انطاكي- 309
الفصل الثاني
خطاب الضمان في المصارف الإسلامية
إذا كانت البنوك الربوية ترحب بخطابات الضمان لأنها تتصل بنشاطها الربوي، فالأمر مختلف بالنسبة للمصارف الإسلامية، فما قامت إلا لتطهير أموال المسلمين من الربا، فلا يمكن أن تأخذ زيادة ربوية. وإذا كانت القوانين الوضعية أباحت الربا عينه، فلا عجب أن تبيح الكفالة بأجر، أما الشريعة الغراء فقد نصت على أن الزعيم غارم، وأجمعت الأمة على أن الكفالة من عقود التبرع.
غير أن المصارف الإسلامية تأخذ أجرا مقابل إصدار خطابات الضمان، فعلى أي أساس تحدد هذه الأجور؟ وبم تستحقها شرعا؟
اختلفت النظرة والفتوى، فاختلف التطبيق العملي.
التكييف الشرعي لخطاب الضمان.
خطاب الضمان إذا كان غير مغطى من العميل فمن الواضح أنه يعتبر عقد كفالة، فالكفالة ضم ذمة إلى ذمة، فضمت ذمة المصرف إلى ذمة طالب الإصدار لمصلحة الطرف الثالث، وعلى هذا فالكفيل هو المصرف، والمكفول هو العميل، والمكفول له هو الطرف الثالث.
أما إذا كان العميل أودع لدى المصرف ما يغطى الخطاب فإن العلاقة بينهما علاقة وكالة، حيث وكل العميل المصرف ليقوم بالأداء، فلا توجد كفالة بين الطرفين، غير أنها تكون بين المصرف والطرف الثالث، فالطرف الثالث يقبل خطاب الضمان من المصرف باعتبار المصرف كفيلا لا وكيلا.
وما جرى عليه العرف المصرفي غالبا هو قيام العميل بالغطاء الجزئي لا الكلي، وفى هذه الحالة تكون علاقة المصرف بالعميل علاقة وكالة وكفالة معا، فهو وكيل بالنسبة للجزء المغطي وكفيل مراعاة للجزء المتبقي.
ما ياخذه المصرف مقابل إصدار الخطاب.
من المعلوم في الفقه الإسلامي أن الوكالة تجوز بأجر وبغير أجر، وأن الكفالة من عقود التبرع، فهي من أعمال البر التي لا يجوز أخذ أجر عليها. وهى إما أن تكون عقد تبرع ابتداء وانتهاء، وذلك إذا لم يرجع الكفيل على المكفول بما يتحمله نتيجة الكفالة، أو تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا أدى الكفيل عن المكفول على أن يعود عليه بما قد يتحمله.
والحالة الأولى لا ينطبق عليها خطاب الضمان، فالمصرف ليس متبرعا في النهاية، بل يأخذ على الطالب من الضمانات ما يجعله مطمئنا إلى أنه لن يغرم شيئا، والبنوك الربوبة لا تعود على المكفول بالدين الذي تدفعه فحسب وإنما تأخذ كذلك الزيادة الربوية، والقانون يعطيها هذا الحق غير المشروع.
والمصارف الإسلامية تأخذ أجرا لإصدار خطابات الضمان، فبم تستحق هذا الأجر؟
في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي صدر القرار التالي:
"خطاب الضمان يتضمن أمرين: وكالة وكفالة.
ولا يجوز أخذ أجر على الكفالة، ويجوز أخذ أجر على الوكالة. ويكون أجر الوكالة مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف حسب العرف المصرفي. وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية متعلقة بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع.
وتقدير ذلك الأجر متروك للمصرف بما ييسر على الناس شئون معاملاتهم وفقا لما جرى عليه العرف التجاري ".
اختلاف في التطبيق:
من الفتوى السابقة يتضح أن الأجر يرتبط بالوكالة دون الكفالة، وهو في مقابل العمل الذي يقوم به المصرف، والمجهود الذي يبذله.
ولكن ما موقف المصرف إذا كان الخطاب غير مغطى، فهو كفالة، ولم يوكله طالب الإصدار للقيام بعمل ما؟ أليس المصرف شركة تجارية لا مؤسسة خيرية؟
وهل يستوي خطاب الضمان لمبلغ زهيد مع آخر بآلاف الآلاف؟
وإذا كان الضمان لمدة وجيزة فهل نجعله كالضمان لمدة طويلة؟
وهل يمكن عند تقدير الأجر النظر إلى ما قد يتحمله المصرف من المخاطرة؟
أسئلة تنوعت إجاباتها، فاختلف التطبيق في المصارف الإسلامية، وإن وجدنا أكثرها قد أخذ بفتوى المؤتمر المذكور، حيث أبيح أخذ الأجر على الوكالة دون الكفالة.
ولكن هذا قد يعنى أن المصرف لا يأخذ أجرا إلا إذا كان الخطاب مغطى كليا أو جزئيا حيث توجد الوكالة، وفى حالة عدم الغطاء لا يأخذ أي أجر، وهذا خلاف الواقع:
فبعض المصارف تأخذ أجرا محددا ثابتا لأي خطاب ضمان مهما كان نوعه، أو قيمته، أو مدته.
وبعض هيئات الرقابة الشرعية فرقت بين المغطى وغير المغطى، فرأت أن الأول يجوز أخذ أجر عليه على أساس الوكالة، وقالت في الثاني:
" لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرا في هذه الحالة إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان، لأنه يكون قد أخذ أجرا على الكفالة، وهو ممنوع، لأن الكفالة من عقود التبرعات".
ثم قالت:
" أما إذا كان الأجر الذي يأخذه البنك نظير ما قام به من خدمة ومصاريف تتطلبها إجراءات إكمال خطاب الضمان فلا مانع شرعا ".
ثم جاء في خلاصة الفتوى:
"ترى الهيئة جواز أخذ أجر على إصدار خطابات الضمان شريطة أن يكون هذا الأجر نظير ما يقوم به البنك من خدمة لعملائه بسبب إصدار هذه الخطابات، ولا يجوز أن يأخذ البنك أجرا لمجرد كونه ضامنا للعميل. والله أعلم ".
ولعل خلاصة الفتوى تكاد تسوي بين الحالتين من حيث ربط الأجر بالخدمة التي يقوم بها البنك.
ووجدنا من يذهب إلى رأي آخر يخالف ما سبق، حيث ذهب إلى ربط الأجر بالعمل والمخاطرة معا، معنى هذا أن يرتبط الأجر -إلى جانب العمل - بالجزء غير المغطى، غير أنه جعل هذا من باب الجعالة لا الإجارة حيث قال:
"يجوز حصول المصرف على جعل نظير إصدار خطابات الضمان مقابل ما يتحمله المصرف من الجهد والمخاطرة المترتبة على ذلك.
ويتم تحديد هذا الجعل على أساس نسبة من المبلغ غير المغطى من خطابات الضمان المصدرة بغض النظر عن مدة تلك الخطابات. كما يجوز للمصرف أن يتقاضى مبلغا مقطوعا لتجديد هذه الكفالات نظير ما يتحمله المصرف من مصروفات إدارية ".
وهذا الرأي لا يزال محل دراسة. (1) .
وهناك رأي آخر بدا كأنه غير مخالف حين ذكر أن الأجر مرتبط بالوكالة، والواقع أنه أكثر مخالفة مما ذكر آنفا، حيث يقول:
"يقدم البنك الإسلامي هذه الخدمة لعملائه على أساس الوكالة بالأجر، ويكون له أن يتقاض الأجور المتعارف عليها بين البنوك وذلك فيما عدا الفوائد المتحققة بين تاريخ دفع قيمة المطالبة (إن حصلت) وبين تاريخ تسديد هذه القيمة من قبل العميل".
(1) عارضت أن يكون للمخاطرة في الكفالة جعل، وكان هذا من الأسباب الرئيسية لكتابة هذا البحث. وبحمد الله تعالى تم مناقشة الموضوع، وانتهينا إلى رأي يأتي ذكره في الفصل التالي ص
وهذا الرأي وإن كان قد أبعد البنك الإسلامي عن الربا، إلا أنه قرنه بالبنوك الربوية في تحديد الأجر، وهذه البنوك لا تنظر إلى الوكالة وحدها، وإنما تنظر أساسا إلى الكفالة، فعندما يودع العميل لديها ما يغطي خطاب الضمان تأخذ منه أجرا يسيرا، بل قد لا تأخذ منه أي أجر لأنها تستفيد من المبلغ المودع لديها. أما إذا كان الخطاب غير مغطى فإنها تحسب العمولة على أساس قيمة الكفالة ومدتها، فتأخذ نسبة مئوية تبعا لمبلغ الكفالة ومدتها.
فهذا الرأي كسابقه نظر إلى الكفالة ذاتها في تحديد العمولة، غير أنه أكثر مخالفة حيث لم يكتف بالنظر إلى المبلغ غير المغطى، بل نظر كذلك إلى مدة ضمانه.
هل من ضابط؟
لقد سعدت بقرار مجلسكم الموقر بحث هذا الموضوع، وأحب أن أضع ما يلي أمام السادة الفقهاء الأجلاء المشاركين في هذا المؤتمر:
أولا: الكفالة تبرع ابتداء وانتهاء حين لا يرجع الكفيل على المكفول بما أدى عنه، وقد تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا رجع على الكفيل، فتكون هنا مثل القرض. والحالة الأولى التي كانت شائعة في المجتمع المسلم، مجتمع التكافل، لا ينطبق عليها خطاب الضمان، وإنما ينطبق على الحالة الأخرى الشبيهة بالقرض، حيث يعود المصرف على المكفول بما أدى عنه:
ولا خلاف بين الأئمة في أن الكفالة لا تجوز بجعل فضلا عن الأجر.
والخروج عن هذا الإجماع قد لا يجد ما يبرره.
ثانيا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} . (115: سورة النساء) .
وذكر الآراء المختلفة دلالة الآية الكريمة، ثم قال: " ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك.
وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضى أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به
…
".
ثم قال: " لا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص، وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك.. ".
وقال: " استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة "(1) .
ثالثا: هما يستدل به على مشروعية الكفالة ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزعيم غارم)) . وذكرت ما يتصل بهذا الحديث الشريف من قبل عند بحث الكفالة في السنة المطهرة.
فإذا كان الأصل في الزعامة -أي الكفالة - أنها غرم، فكيف تتحول في عصرنا إلى غنم؟
ولذلك كان الإمام مالك يرى أن الكفالة من وجه الصدقة. (2)
وقال الإمام الشافعي: " الكفالة استهلاك مال لكسب مال ". (3)
وحكى عنه النووي أن الضمان تبرع أو قرض محمض. (4)
وقال الإمام النووي: " الضمان غرر كله بلا مصلحة ". (5)
وقال الكمال بن الهمام: "الكفالة عقد تبرع كالنذر، لا يقصد به سوى ثواب الله، أو رفع الضيق عن الحبيب "(6) .
وقال الدردير: " الضامن كالمسلف، يرجع بمثل ما أدى "(7)
وقال ابن قدامة: الضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما. واعتبر الكفالة كالنذر (8)
ولهذا كله اشترط الفقهاء في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض، لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء، فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض (9) ، وتحدثت عن هذا من قبل.
(1) انظر مجموع الفتاوي 19/192-196.
(2)
انظر المدونة 5/284.
(3)
الأم. 3/205
(4)
انظر روضة الطالبين. 4/241
(5)
انظر روضة الطالبين 4/242
(6)
شرح فتح القدير 6/298
(7)
الشرح الصغير مع بلاغة السالك 2/157 وللصاوي مثل قول الدردير في الصفحة ذاتها.
(8)
انظر المغني 5/94
(9)
راجع ما كتب عن الكفيل الفصل الثاني من الباب الثاني
رابعا: قال ابن حزم: " لا يرجع الضامن على المضمون عنه، وعلى ورثته أبدا بشيء مما ضمن عنه أصلا- سواء رغب إليه في أن يضمنه عنه أو لم يرغب إليه في ذلك - إلا في وجه واحد، وهو: أن يقول الذي عليه الحق: اضمن عنى ما لهذا على، فإذا أديت عني فهو دين لك علي. فهنا يرجع عليه. بما أدى عنه لأنه استقرضه ما أدى عنه فهو قرض صحيح "(1)
قال في موضع آخر: " لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه "(2)
وما ذكره ابن حزم من عدم رجوع الضامن على المضمون عنه يخالف ما عليه جمهور الفقهاء، ولا حاجة إلى تفصيل هنا، فهذه الحالة لا ينطبق عليها خطاب الضمان وإنما ينطبق على الحالة الأخرى التي يرجع فيها الضامن على المضمون عنه، ولا خلاف في هذا الرجوع.
والذي يعنينا هنا هو ما بينه ابن حزم من أن هذه الحالة تعتبر استقراضا.
ونجد مثل هذا البيان عند غيره أيضا:
جاء في الهداية: فان كفل بأمره رجع بما أدى عليه لأنه قضى دينه بأمره. وفى الشرح جاء في فتح القدير: إذا كان قضاء من جهة الذي أمر صار كما لو قال: اقض عنى، ويتضمن ذلك استقراضا منه. وفيه أيضا: والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظة عنى (3)
وقال الكاساني: " الكفالة بالأمر في حق المطلوب استقراض، وهو طلب القرض من الكفيل، والكفيل بأداء المال مقرض من المطلوب، ونائب عنه في الأداء إلى الطالب، والمقرض يرجع على المستقرض بما أدى. وإذا كانت الكفالة في هذه الحالة تعتبر استقراضا، فما يؤخذ في مقابلها زيادة على الدين ألا يدخل من باب الربا المحرم؟ وإذا أدى المضمون عنه دينه فبم يستحق الضامن هذه الزيادة؟
وقد بين سبب المنع أكثر من فقيه:
جاء في المغنى والشرح (4/365) بعد ذكر أقوال لأحمد:
" قال: ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو قال: اكفل عني ولك ألف لم يجز، وذلك لأن قوله: اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط ولك عشرة. وأما الكفالة فان الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز".
(1) المحلي 8/522
(2)
المحلي 8/531
(3)
انظر فتح القدير 6/304
وقال الدردير في أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك:
وعلة المنع أن الغريم إن أدى الدين لربه كان الجعل باطلا، فهو من أكل أموال الناس بالباطل. وإن أداه الحميل لربه ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة.
وقال الصاوي في شرحه بلغة السالك: (1)
وقوله: كان من السلف بزيادة، أي كان دفعه الدين وأخذه سلفا والزيادة هي الجعل الذي أخذه، وقال: وحاصل ما في الشارح أن الجعل إذا كان للضامن فإنه يرد قولا واحدا.
وقال أيضا: علة المنع موجودة، وهى السلف الذي جر نفعا (2) .
وقال ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق (6/242) :
الجعل باطل لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب، وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا.
خامسا: المخاطرة التي يتعرض لها المصرف نتيجة الإقراض الفعلي أكبر من الخاطرة التي يتعرض لها تبعا لإقراض - قل أن يحدث - ناتج عن خطاب الضمان.
ولو جاز الجعل في مقابل المخاطرة بإصدار الخطاب لكان جوازه في الإقراض أولى.
(1) بدائع الصنائع 7/3424
(2)
انظر بلغة السالك 2/160
سادسا: لا أدرى كيف يباح جعل العمولة تبعا للمبلغ غير المغطى ومدته؟
أن البنوك الربوبة تقوم بهذا لاحتمال الإقراض، فإذا تم الإقراض كانت الفائدة الربوية المعلومة. فن امتنع عن أخذ الزيادة الربوية لإقراض تم بالفعل كيف يأخذ زيادة في مقابل زمن لإقراض محتمل؟
سابعا: لم يكن الضمان من قبل بعيدا عن النشاط التجاري، ونذكر هنا:
ا - ضمان العهد أو ضمان الدرك:
من الكفالات التجارية التي كانت شائعة، وأجازها الأئمة، مع الخلاف في بعض التفصيلات، ضمان الثمن للبائع والمشتري.
فالبائع الذي يبيع آجلا، قد يطلب كفيلا يضمن الثمن الذي في ذمة المشتري، وفى البيع الحال، ومع قبض الثمن، قد يظهر أن النقود مغشوشة " أو معيبة، لذا كان يطلب بعض البائعين كفيلا يضمن لهم سلامة الثمن، وقد تكون النقود سلمت من الغش أو العيب ولكن يظهر لها مالك غير المشتري، كالمغصوب أو المسروق مثلا، ومن هنا كانت الحاجة إلى كفيل يلتزم بأداء الثمن في هذه الحال.
والمشترى قد يطلب كفيلا يلتزم برد الثمن إذا ظهر أن المبيع به عيب يستوجب الرد، أو أن أحدا يستحقه غير البائع، كأن يعرف له مالك آخر، أو أن أحدا أحق به من المشترى، كأن يكون لغيره حق الشفعة.
وهذا كما نرى ضمان للثمن، وقد يكون لجزء منه كأرش العيب: وهو ما يسترد من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب ورضي المشتري استبقاءه.
ويسمي أيضا ضمان الدرك: قال ابن منظور في لسان العرب: " الدرك: اللحق من التبعة، ومنه ضمان الدرك في عهدة البيع ". وفى المعجم الوسيط: " الدرك: التبعة يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه، ومنه ضمان الدرك في الفقه ".
وقد نال هذا الضمان حظه الوافر في كتب الفقه، ويطول
االكلام كثيرا إذا أردنا أن نعرض ما جاء في تلك الكتب مفصلا، فلعل ما سبق يكفى لبيان حقيقته.
وتجد في تلك الكتب ذكرا لسبب إجازتهم هذا الآن، ويكاد ينحصر في أن الحاجة تدعو إلى الوثيقة، والوثائق ثلاثة:(1)
الشهادة والرهن والضمان: فأما الشهادة فلا يستوفي منها الحق، وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع، لأنه يؤدي إلى أن يبق أبدا مرهونا، حيث يلزم حبس الرهن إلى أن يؤدي، وهو غير معلوم، فلم يبق إلا الضمان، فلو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها.
فهم أجازوه إذن لجلب المصلحة، ومنع الضرر.
2-
ضمان السوق:
ومن الكفالات التجارية ما عرف باسم ضمان السوق، قال ابن تيمية:
" ضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، ضمان صحيح، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، وذلك جائز عند جمهور العلماء، كمالك، وأبى حنيفة، وأحمد بن حنبل، وقد دل عليه الكتاب. كقوله {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . والشافعي يبطله، فيجوز للكاتب والشاهد أن يكتبه ويشهد عليه، ولو لم ير جوازه، لأنه من مسائل الإجتهاد، وولي الأمر يحكم بما يراه من القولين "(2)
وفى مجلة الأحكام الشرعية، تنص المادة 1094 على ما يأتي:
" يصح ضمان السوق مثلا، لو ضمن ما يلزم التاجر، أو ما يبقى عليه للتجار، أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان ".
وذكر ابن عابدين أن صاحب الفتاوى الحامدية سئل فيما إذا قال زيد مخاطبا لجماعة معلومين من أهل سوق كذا:
ما باعيتم عمرا أنتم وغيركم، فهو علي، فهل يلزم زيدا دين من خاطبهم دون غيرهم؟
فأجاب: نعم (3)
(1) انظر على سبيل المثال: المغنى5/76 - 78، روضة الطالبين 4/245 - 249، والأم 3/204، والأشباه والنظائر: لسيوطى 490، وبدائع الصنائع 7/3420-3421، والمدونة 5/269، ومطالب أولى النهى 3/303 - 4 30.
(2)
فتاوي ابن تيمية 29/549
(3)
العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1/285 وصاحب الفتاوى هو حامد العمادي، مفتي دمشقه الشام. واثني ابن عابدين عليه في المقدمة ص2
3-
ضمان نقص المكيل أو الموزون أو المذروع:
وهذا الضمان أيضا يتصل بالنشاط التجاري، حيث تنص المادة 1091 من المجلة السابقة على مايأتي:
"يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلا:
لو اشترى موزونا فشك في نقص الصنجة، أو مكيلا فشك في نقص المكيال، أو مذروعا فشك في نقص الذراع، فضمن شخص النقص، مع ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص، والقول له بيمينه ".
هذه نماذج لكفالات تجارية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الكفالات المصرفية، والمصارف تأخذ لنفسها من الضمانات ما يجعل المخاطرة أقل مما كان يتعرض له الكفلاء سابقا، وما أباح عالم أخذ أجر أو جعل مقابل أي من تلك الكفالات التجارية، فكيف أصبحت المخاطرة في الكفالة لها ثمنها في عصرنا؟!.
وربما تبادر إلى الأذهان هنا ما دار من نقاش في عصرنا حول القروض الاستهلاكية والقروض الإنتاجية، ومحاولة التفرقة بين الاثنين من حيث الحرمة والحل لفوائدها، وما انتهى إليه الفتوى من أن فوائد النوعين كليهما من الربا المحرم.
ثامنا: العمل عنصر من عناصر عقد الإجارة وعقد الجعالة، فكل أجر أو جعل يقابله عمل ما، غير أن العمل في الجعالة يختلف عن الإجارة.
ويحدث ابن تيمية عن العمل الذي يقصد به المال فيقول:
" العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع:
أحدهما: أن يكون العمل مقصودا معلوما، مقدورا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة.
الثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة وهى عقد جائز ليس بلازم، فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد، فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة. فان عمل هذا العميل استحق الجعل وإلا فلا.
ويجوز أن يكون جعل فيها إذا جعل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم، مثل أن يقول أمير الغزو من دل على حصن فله ثلث ما فيه، ويقول للسرية التي يسريها: لك خمس ما تغنمين أو ربعه.
ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برأ، فأخذوا القطيع. فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه، فهذا أو نحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة.
وأما النوع الثالث فهو مالا يقصد فيه العمل بل المقصود المال، وهو المضاربة، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر.. الخ (1)
ويذكر ابن رشد الجد أن العمل الذي لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة نوعان:
أحدهما: مالا يجوز للمجعول له فعله.
والثاني: ما يلزمه فعله (2)
فما دام العمل الذي يقوم به المصرف ليس من هذين النوعين صحت العمولة مقابل العمل، وقد تكون جعلا لا أجرا إذا روعيت شروط الجعالة.
بل من الأعمال الواجبة ما أجاز الفقهاء أخذ الأجرة عليه:
قال الإمام السيوطي:
"قاعدة: لا يجوز أخذ الأجرة على الواجب، إلا في صور:
منها: الإرضاع.
ومنها: بذل الطعام للمضطر
ومنها: تعليم القران.
ومنها: الرزق على القضاء وهو محتاج حيث تعين.
ومنها: الحرف حيث تعينت.
ومنها: من دعي إلى تحمل شهادة تعينت عليه، بخلاف ما إذا جاءه المتحمل، وبخلاف الأداء، فإنه فرض توجه عليه، وهو أيضا كلام يسير لا أجرة لمثله. نعم له أخذ الأجرة على الركوب، ويجوز أخذها على فروض الكفاية، إلا الجهاد وصلاة الجنازة " (3)
تاسعا: أفتى الإمام النووي فيمن حبس ظلما فبذل ما لا لمن يتكلم. في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة، تم قال: وفى ذلك كلفة تقابل بأجره عرفا (4) .
(1) انظر مجموع الفتاوى 20/506-507
(2)
انظر مقدمات ابن رشد ص636.
(3)
الاشباه والنظائر ص497
(4)
راجع كتاب المجموع 14/10
وفى تحفة المحتاج ذكر ابن حجر الهيثمي بعض ما يباح فيه الجعل، ومما قاله: وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصه وإن تعين عليه على المعتمد: أن خلصتنى فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا، وأركانها: عمل، وجعل وصيغة، وعاقد.
وفى حاشية الشروانى على تحفة المحتاج (365/6) جاء ما يلي:
(قوله على المعتمد) عبارة النهاية: أفتى المصنف بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة. وذكر صاحب مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى جواز أن يجعل أحد جعلا لمن يقرضه من غير بجاهه، وقال: لأن الجعالة في مقابلة ما بذله من جاهه من غير تعليق له بالقرض (1)
هذه الأعمال وغيرها من أعمال البر، قد لا يوجد من يتبرع للقيام بها، مع وجود الحاجة إليها، ولذا جاز الجعل شريطة ارتباطه بالعمل.
وإصدار خطاب الضمان يتطلب القيام بأعمال مختلفة، والمصرف منشأة تجارية، فمن حقه أن يأخذ عمولة مقابل عمله وجهده، ولكن لا ترتبط هذه العمولة بكفالة الدين ذاتها، وإلا لكانت سحتا أو ربا.
ومما هو قريب من موضوعنا ما ثار من جدل في عصرنا حول جواز أخذ المصرف أجرا من المقترض يقابل الأعباء الإدارية الناشئة المتعلقة بالقرض، والذين أجازوه اشترطوا أن يتم ربط الأجر بوجود خدمة فعلية، أو منفعة مقصودة ومتقومة في النظر الشرعي، وألا يؤخذ نظير المنفعة غير المعتبرة في نظر الشرع في مجال الاقتراض أو الوعد به، ولذا قالوا: ينبغي أن يكون على أساس مبلغ مقطوع وليس على أساس شئ من قيمة القرض، لأن الجهد الذي يبذله المصرف في إعداد عقد القرض لا يختلف باختلاف قيمة القرض. فمفرق الطريق في اعتبار هذه المبالغ أجرا وليست ربا هو وجود الخدمة التي تقابل هذه المبالغ، وكون مقدار المبلغ محددا بما يبذله من جهد، أو يؤدى من خدمة، دون ربط ذلك بمقدار الدين أو مدته (2)
(1) انظر المرجع المذكور 4/208، واقرأ مثله في المغني والشرح 4/365
(2)
انظر الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 1/29-31
الفصل الثالث
استثمار الغطاء النقدي
عندما يكون خطاب الضمان مغطى كليا أو جزئيا فإن المصرف يضم الغطاء النقدي إلى ما لديه من ودائع غير مخصصة، وحسابات جارية، وأموال نقدية لحساب المساهمين، فالودائع المخصصة لاستثمارات معينة توجه لتلك الاستثمارات، أما غيرها فيضم بعضه إلى بعض، ويؤخذ منه لاستثمارات المصرف. ولا يستطيع المصرف أن يعين صاحب أي مبلغ محدد موجه لمشروع معين، حيث تختلط النقود المودعة. ويتعذر التمييز. غير أنه كمضارب غير ضامن لما لديه من ودائع استثمارية، وضامن للحسابات الجارية كمقترض لها، فمتى استثمرت فالربح له، والخسارة عليه. وينظر المصرف إلى حجم المشروعات الاستثمارية، ومدة بقاء الأموال المستثمرة خارج حيازته، في ضوء النقود المودعة لديه، وأنواع الإيداعات، والنظر إلى الظروف الخاصة التي يقدرها المصرف. وتحسب الأرباح والخسائر، ويتم التوزيع بنسب يحسبها المختصون، ويقرها هيئات الرقابة الشرعية.
وتفصيل هذا يحتاج إلى شرح يطول ذكره، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن الغطاءات النقدية لخطابات الضمان تودع في حساب خاص، وتختلط بباقي النقود، وبذلك لا يمكن تمييزها عند قيام المصرف بعمليات الاستثمار، أي أن هذه الغطاءات يكون لها أثر في الاستثمار.
أفمن حق المصرف الاستفادة من هذه النقود؟
يمكن أن يقال: أن المصرف ضامن لهذا المال، فله حق الاستثمار: والربح له والخسارة عليه ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((الخراج بالضمان)) ويمكن -أيضا- أن يقال: ليس للمصرف حرمان صاحب المال من الاستفادة من ماله مدة سريان خطاب الضمان، فلطالب الإصدار أن يكون لنقوده ما للودائع الاستثمارية من الحقوق، ولاضمان على المصرف حينئذ.
ولعل الأولى أن يخبر المصرف طالب الإصدار، مادام كل من الأمرين يؤدى الغاية من الغطاء النقدي.
وإذا كانت المصارف الربوية تستفيد من الغطاء بطريقة غير مشروعة، فإن مثل هذا التخيير يؤدي إلى تأصيل الفوارق بينها وبين المصارف الإسلامية. وقد تحدث الفقهاء عن ضمان الكفيل لمال الكفالة إذا قبضه:
ففي أقرب المسالك "وضمانه أن اقتضاه لا أرسله به ".
وشرح الدردير العبارة السابقة بقوله:
وضمنه الضامن أن اقتضاه من الغريم ليوصله لربه، سواء طلبه منه أو دفعه له الغريم بلا طلب، لكن على وجه البراءة منه، ولو تلف منه بغير تفريط أو قامت على هلاكه بينة.. لا أن أرسله المدين به إلى رب الدين فضاع منه، فلا ضمان حيث لم يفرط، لأنه صار أمينا بالإرسال، ومثل الإرسال لو دفعه على وجه التوكيل عنه في توصيله لربه، أو هو إرسال حكما، فلا ضمان على الضامن (1)
أما الحنفية فلم يكتفوا بالحديث عن هذا الضمان، وإنما فصلوا القول في بيان حق الكفيل في استثمار مال الكفالة، وفرقوا بين النقود وغيرها.
فأجمعوا على أن مال الكفالة متى كان نقودا، وقبضها الكفيل على وجه الاقتضاء لا الإرسال، واستثمرها وربح، فالربح حلال.
أما غير النقود فالروايات عن الإمام مختلفة، والمهم هنا بيان ما يتصل باستثمار النقود، فهو موضوع البحث. وإذا قبض الكفيل المال على وجه الإرسال، فهو أمين غير ضامن، وليس له أن يستثمر المال، فإذا استثمره خالف ما يجب فيما يعد أمانة، وأصبح كالغاصب، فإن ربح فلا يطيب له هذا الربح عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه استفاده من أصل خبيث، وخالفهما أبو يوسف مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان))
ولنثبت هنا بعض ما جاء في كتب الحنفية.
(1) انظر الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 20/159
قال صاحب الهداية (6/319-321) :
" من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها، لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة، لأنه تمحض أمانة في يده.
وإن ربح الكفيل فيه فهو له لا يتصدق به، لأنه ملكه حين قبضه: أما إذا قضى الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه، وثبت له حق الاسترداد، لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء، فنزل منزلة الدين المؤجل، ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه إلا أن فيه نوع خبث (1) نبينه فليعمل مع الملك فيما لا يتعين "
. وقال ابن الهمام في شرح ما سبق:
(من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه) أي قضى الرجل المكفول عنه الكفيل (الألف) التي كفل بها (قبل أن يعطيه) أي قبل أن يعطي الكفيل الألف (صاحب المال) وذكر ضمير (يعطيه) على تأويل المال أو المكفول به اللازم من قوله: كفل عن رجل، و (صاحب المال) مفعول أول (ليعطي) ، والمفعول الثاني هو ضمير المال المقدم في يعطيه (فليس له) أي ليس للرجل المكفول عنه (أن يرجع فيها) وهو للشافعي وجه آخر، وله أن يرجع، وهو قول مالك وأحمد بناء على أنه أمانة عنده ما لم يقض الأصيل، ونحن نبين أنه يملكه، وأن الأمانة ما إذا كان دفعه إلى الكفيل على وجه الرسالة إلى الطالب. (2)
(1) حيث الربح في غير النقود كما سيتضح
(2)
ما ذكر عند المالكية من قبل يبين أنه لا خلاف حول ضمان الكفيل إذا أخذ المال من المكفول عنه على وجه الاقتضاء لا الرسالة، فالخلاف إذن في المكفول عنه في رد المال الذي أعطاه الكفيل إذا كان الكفيل لم يعط المكفول له.
وإذا ملكه كان الربح له (إلا) أي لكن استثناء منقطع (فيه نوع خبث) على قول أبي حنيفة (نبينه) عن قريب (فلا يعمل مع الملك فيما يتعين) وهو الألف التي قضاه إياها لأن الدراهم لا تتعين (1)
وقال البابرتى في شرح العناية على الهداية:
"إذا قبضه على وجه الرسالة فالربح لا يطيب له في قولي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأنه ربح من أصل خبيث، وفى قول أبي يوسف: يطيب لأن الخراج بالضمان (2) .
وقال صاحب الدر المختار:
" وإن ربح الكفيل به طاب له لأنه نماء ملكه حيث قبضه على وجه الاقتضاء، فلو على وجه الرسالة فلا، لتمحضه أمانة، خلافا للثاني، وندب رده على الأصيل "(3)
وقال ابن عابدين:
(قوله: خلافا للثاني) : أي أبي يوسف، فعنده يطيب له، كمن غصب من إنسان وربح فيه، يتصدق بالربح عندهما لأنه استفاده من أصل خبيث، ويطيب له عنده مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان)) .
(وقوله: وندب رده) : مرتبط بقوله بعده فيما يتعين بالتعيين، أي أن قوله: طاب له - أي الربح - إنما هو فيما لو كان المؤدى للكفيل شيئا لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير (4)
(1) انظر فتح القدير 6/319-321
(2)
العناية مع فتح القدير 6/378
(3)
الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/278
(4)
من المعلوم في عصرنا أن النقود لا تتعين بالتعيين، فمثلا من أخذ ألف ريال من أحد لإعطائها غيره فلا يشترط إعطاء الأول الأوراق ذاتها التي تسلمها وهي التي تحمل أرقام كذا هو إنما تبرأ ذمته بإعطاء ألف ريال تحمل أي أرقام. ومن اشترى سلعة معينة فليس للبائع أن يبدلها مادامت قد تعينت، أما المشتري فله أن يدفع الثمن المحدد دون تعيين أوراق نقدية بعينها: فلو اخرج مثلا عشر ورقات، كل ورقة قيمتها مائة ريال، ثم رأي أن يستبقي هذه الورقات النقدية ويعطي البائع - بدلا عنها - ورقتين من ذات الخمسمائة، فليس للبائع أن يعترض وهذا الذي نراه واضحا في عصر النقود الورقية، وهو ما أشار إليه الحنفية في عصر النقود السلعية، فالدنانير والدراهم لا تتعين بالتعيين، ومثلها الفلوس الرائجة، حيث قالوا: إنها أمثال متساوية، فلا تتعين بالتعيين، فأى فلس يقوم مقام غيره (انظر: النقود واستبدال العملات ص 73، 101) .
فإن الخبث لا يظهر فيها، فخلاف ما يتعين كالحنطة ونحوها، بأن كفل عنه حنطة، وأداها الأصيل إلى الكفيل: وربح الكفيل فيها، فإنه يندب رد الربح إلى الأصيل. قال في النهر: وهذا هو أحد الروايات عن الإمام، وهو الأصح، وعنه أنه لا يرده، بل يطيب له، وهو قولهما، لأنه نماء ملكه، وعنه أنه يتصدق به (1) .
من هذا نرى أن الربح يطيب للكفيل إذا كان مال الكفالة نقودا، والمصرف غطاء الضمان عنده من النقود، ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن الكفيل ليس له مطالبة الأصيل قبل الأداء، على حين نجد المصرف لا يصدر خطاب الضمان إلا بعد قيام العميل -وهو المكفول عنه - بإيداع الغطاء النقدي المتفق عليه. وطبيعة المعاملات في عصرنا قد تستلزم وجود مثل هذا الغطاء، فالمصرف يدفع المبلغ المكفول كله عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة. وإذا تأخر العمل في إعطاء المصرف ما أداه عنه، فإن المصرف الإسلامي لا يستطيع أن يسلك طريق الربا، ويتوقف استثمار هذه الأموال. فإذا كان من اللازم وجود مثل هذا الغطاء، فمن اللازم أيضا عدم حرمان العميل من استثمار أمواله بغير رضاه، ومن هنا جاء ترجيح القول بتخيير العميل: فأما أن يختار الاستثمار، أو إبقاء الغطاء في ضمان المصرف كما يلجأ أصحاب الحسابات الجارية.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(1) حاشية ابن عابدين "رد المحتار علي الدر المختار" 4/278-279
الخاتمة
بعد هذا البحث يتبين أن الكفالة عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع والواقع العملي للمسلمين مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، ومعاملاتنا المعاصرة في حاجة إلى مجهود أكبر، وتفرغ أكثر من فقهاء العصر حتى يسهموا في حل مشكلاتها حلا يتلاءم مع طبيعة هذه المعاملات، دون خروج على نص ثابت، أو إجماع معتبر، أو تعارض مع مقاصد التشريع الإسلامي.
والاجتهاد الجماعى كان سنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بأن نعض عليها بالنواجذ، فقد كانوا يجمعون رءوس الناس وخيارهم فيستشيروهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضوا به. بل روى الدارمي في سننه بسنده عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة فقال:" ينظر في العابدون من المؤمنين ". ويمكن لأبحاث الأفراد، وآراء الجماعات الصغيرة، أن تمهد الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، ولعل هذا البحث يقوم بهذا الدور الممهد.
وأحب أن أشير هنا إلى اجتماع لم يضم أكثر من بضعة أفراد، كان من فقهاء الشريعة فضيلة الدكتور حسين حامد حسان، وفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وكان من المسئولين عن أعمال مصرفية إسلامية السيد الأستاذ أحمد أمين فؤاد رئيس مجلس إدارة المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار بالقاهرة، والسيد الأستاذ قاسم محمد قاسم مدير مصرف قطر الإسلامي، وغيرهما، وكان بأيدينا هذا البحث، ودار حوار حول الكفالة، بدأناه ونحن مختلفون في الرأي، واستمر الخلاف فترة ثم انتهى بحمد الله تعالى، وخرجنا بحل ارتضيناه فقها وعملا، وبيانه كما يأتي:
نظرنا في الغطاء النقدي، ورأينا أن المصارف الربوية تهدف إلى الانتفاع به عن طريق الحصول على الفوائد الربوية، أما المصارف الإسلامية فتريد الاطمئنان إلى أن ما يطلب منها للمكفول له تستطيع أداءه من الغطاء نفسه لا من أموال المودعين المستثمرين، فيقع الضرر من توقف استثمار هذه الأموال، فقلنا:" إذا كان لعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثمارية في الأرباح ".
وهذا كما يعطي الاطمئنان للمصرف فإنه يسمح لطالب الكفالة - إذا شاء - باستثمار أمواله دون تعطيل لها، وبالتالي يؤدى إلى قلة الكفالات غير المغطاة.
وأذكر أن قانون الكفالة في الإمارات العربية المتحدة، الذي حاول واضعوه استمداده من الفقه الإسلامي، نصت المادة " 1079 " على ما يأتي:" يجوز أن تكون الكفالة مقيدة بأداء الدين من مال المدين المودع تحت يد الكفيل، وذلك بشرط موافقة المدين ".
ودار الحديث عن الكفالة المجردة، والضمان إذا كان ضمن عقد آخر:
فمن المعلوم أن الشركات في الإسلام تقوم على المال والعمل والضمان، ومعنى ذلك أن الضمان له ما يقابله، وشركة الوجوه تنبنى أساسا علي الضمان، ويؤكد هذا المعنى الحديث الشريف ((الخراج بالضمان)) فن المتفق عليه أن الضمان غير المجرد، أي الذي يكون في عقد آخر غير عقد الكفالة، يمكن أن يكون له ما يقابله من الغنم، وقد يؤدى إلى الغر م كذلك.
أما الضمان المجرد، وهو عقد تبرع، فلا يجوز أن يكون له أجر أو جعل، وهذا الحكم مستمد من النص، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، فليس لنا أن نترك النص، ونخرج على هذا الاجماع المستقر. وهنا أثيرت نقطة لتأييد جواز الجعل مقابل المخاطرة في الكفالة، وهذا يعنى أن القول بالاجماع غير صحيح!
قال القائل: لننظر إلى ضمان السوق عند الحنابلة: فيجوز أن يجعل لشخص ما أجر مقابل تعهده بحماية ما في السوق، وضمانه له.
فكان الرد بالإشارة إلى ضمان السوق الذي سبق الحديث عنه، وهو تبرع خالص لا أجر له. أما ما ذكر هنا فهو عقد إجارة أو جعالة وليس كفالة. فالأجر أو الجعل مقابل حراسته للسوق، فهو أجير عام وليس كفيلا. فالضمان إذن جاء في عقد آخر، وهو ما تناولناه في بداية الحوار، فالإجماع إذن صحيح لم ينقض. وذكر أن المصارف الإسلامية يمكن أن تستفيد من هذا، كأن تجعل كفالتها مع اشتراكها بنسبة يتفق عليها مع العميل، ويكون الاشتراك في الغنم والغرم:
مثال هذا: أن يأتي عميل لفتح اعتماد مستندي، والغطاء جزئي، لاستيراد سلعة معينة، فيشاركه المصرف بنسبة 2 % مثلا، ويشترك معه في الكسب أو الخسارة بهذه النسبة، بدلا من أن يأخذ أجرا أو جعلا مقابل الجزء غير المغطى. فالضمان هنا ليس كفالة مجردة، وإنما أصبح داخلا في عقد شركة.
وفى خطاب الضمان كذلك يمكن أن ينظر إلى المشروع الذي طلب له الخطاب، ويشترك المصرف بنسبة ضئيلة.
وبعد الحوار اجتمع رأينا على ما يأتي:
أولا: الكفالة المجردة لا أجر عليها، وإنما الأجر على العمل المصاحب لها. ويجوز أن يكون للضمان ما يقابله إذا دخل في عقد آخر.
ثانيا: بالنسبة للغطاء النقدى: إذا كان للعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثماربة في الأرباح.
هذا ما انتهينا إليه، والله أعلم بالصواب. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .