الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدايات الشهور العربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعملوا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن دراسة بدايات الشهور العربية - أي القمرية الإسلامية - دراسة فقهية ليست بالعمل الهين، بل البحث فيها وفيما تثبت به وكيف يمكن توحيدها بداية ونهاية أمر يحتاج إلى عالم متخصص في علمي الأصول: أصول الفقه والحديث، وعلمي الهيئة والميقات، متوفرة لديه أمهات الكتب: الحديث والفقه من جميع المذاهب، فأنى لي هذا، وأنا لست من ذلك في شيء يذكر.
ولكني لما رأيت هذا الموضوع - موضوع " توحيد بداية الشهور العربية " أول موضوع مدرج في جدول مواضيع الفقه المطلوبة بحثا ودراستها في هذا العام - كما اقترحته شعبة التخطيط، أعجبني ذلك العنوان الفريد، وجذبني إلى النظر والبحث من مظانه سيمة التفرق والانقسام بين الأمة المسلمة في شتى الميادين، وحتى في مواسم الأعياد ومواقيت العبادة وحثني إلى انتقائه الحب فيما يقرب ويوحد مواقيت مشاعر الموحدين، فاخترت هذا الموضوع للبحث والكتابة، قدر ما سنحت لي الفرصة ووسعت هذه العجالة، وسميتها (توحيد بدايات الشهور الإسلامية) .
وأجتهد قدر وسعي أن تكون رسالة وجيزة ليس فيها إلا آيات القرآن الكريم، وأحاول أن ألا أذكر فيها من الآيات والأحاديث والآثار والأقوال إلا ما له علاقة متينة بموضوع الرسالة، وأن لا أشرح كلمات ما سأكتبه من آية وحديث إلا ما يتصل به غرض من أغراض الرسالة أو خفي معناه، لضيق الوقت.
وسأقسم كلامي عن هذه الرسالة إلى:
1-
الشهور العربية جاهلية وإسلاما
2-
الأمور المرتبطة بالأشهر القمرية
3-
أدلة بداياتها وأقوال الفقهاء فيها
4-
حكم اختلاف المطالع وأقوال الفقهاء
5-
خاتمة في خلاصة.
هذا وأسأل الله الكريم أن يوفقني فيما أكتب إلى ما فيه الحق والخير والسداد، إنه ولي التوفيق
(1)
الشهور العربية جاهلية وإسلاما:
تمهيد:
إن الإنسان فكر قديما في تقسيم السنة إلى فصول طبيعية.. وسلكوا في تحديد تلك إلى طريقين: استخدام مراحل الشمس، واستخدام منازل القمر
من هؤلاء المفكرين الأمم البائدة التي عاشت في الشرق الأوسط، كالمصريين القدماء والبابليين والسومريين..
فقد استخدم المصريون تقويما شمسيا ابتدعوه سنة (4236) قبل الميلاد اعتبروا السنة في تقويمهم هذا (365) يوما، وقسموها إلى (12) شهرا، طول كل شهر (30) يوما وأضافوا إليها (5) خمسة أيام آخر كل سنة، استحدث السومريون تقويما قمريا، استحدثوه منذ سنة (3500) قيل الميلاد، جعلوا أيام السنة (354) يوما.
واستحدث العرب الجاهليون شهورا قمرية سموها بأسماء لا وجود لها في نظر الشريعة، مثل الأسماء التالية:
" المؤتمر - ناحر - خوان - بصان - ختم - زياد - الأصم - عادل - ناتق - وعل - هواغ - برك".
ثم أحدثوا شهورا أخرى - شمسية - برجية - سموها كالآتي:
" ربعي - دفئى - ناتق - ناحر- آحر - بخباخ - حرقى - وسمى - برك - شيبان - ملعان - رنة "
وهذه الشهور البرجية والتي قبلها شهور عربية قلما تسمعها الآن؛ لأنها شهور جاهلية قديمة، لم يأتها الإسلام وهي حية فلا يتعلق بها شيء من العمل الإسلامي.
أما الشهور العربية الإسلامية التي يذكرها الله تعالى في كتابه وربط بها كثيرا من أعمال الإسلام، هي التي استخدم بها عرب الجزيرة في الجاهلية الأولى وهم سموها بأسمائها المعرفة لدى جميع المسلمين، وهي الشهور العربية الإسلامية القمرية الاثنا عشر، التي ذكرها الله بقوله الحكيم:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} صدق الله العظيم.
هذه الأشهر قد سمتها العرب بأسمائها الحالية بمناسبات كانت وقت التسمية، وبعض المناسبات منها باقية كما في الآية وهي - أي أسماء الشهور العربية القمرية الاثنا عشر المذكورة في الآية السابقة هذه:
1 " محرم ": سمي بذلك الاسم؛ لأنه من الأشهر الحرم.
2 " صفر ": سمي به لأن ديار العرب كانت تخلو من أهلها وقت التسمية، بعد خروجهم إلى الحرب بعد المحرم.
3-
4 " ربيع الأول " و " ربيع الثاني" سميا به لأنهما وقعا في الربيع وقت التسمية.
5-
6 " جمادى الأولى" و" جمادى الآخرة " سميا به لوقوعهما وقت التسمية حين يجمد الماء.
7 " رجب " سمي به لأنهم كانوا يعظمونه بترك القتال فيه.
8 " شعبان " سمي به تشعب القبائل فيه للغارات بعد قعودهم عنها في رجب.
9 " رمضان " من الرمضاء سمي به لأن التسمية وقعت عند اشتداد الحر.
10 " شوال " سمي به لأن الإبل كانت ترفع فيه أذنابها وقت التسمية طلبا للقاح.
11 " ذو القعدة " سموه بهذا الاسم لقعودهم فيه عن القتال.
12 " ذو الحجة " سمي به لأنهم كانوا يقيمون فيه الحج.
وإن هذه الأشهر الاثني عشر تستغرق من الزمن حوالي: (354) يوما، أو (355) يوما؛ لأن الشهر قد يكون (30) يوما، وقد يكون (29) يوما، وقد قيل أن طول الشهر القمري بالدقة يستغرق (29) يوما و (12) ساعة، و (44) دقيقة، و (3) ثوان، والله أعلم.
وهو ما كتبه الدكتور إحسان هندي في مجلة الفيصل، عدد (44) صفر (1401هـ) :" أن تلك الشهور الاثني عشر هي التي خلدها الله في كتابه في الآية السابقة، فأصبحت إسلامية بأوصافها التي سميت".
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أسماء الأشهر الحرم التي أجملتها الآية الكريمة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال:((ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذوالحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) . رواه أحمد، وأخرجه البخاري في التفسير.
فحقا إنها هي الشهور الإسلامية القمرية، وهي التي يدور عليها فلك الأحكام الشرعية، وقد حفظها الله تعالى في كتابه المكنون في اللوح المحفوظ، فلا تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص.
وإن بداية الشهر ونهايته يكونان بتقدير من الله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل - أنزل القمر منازل متعددة، ولله الحكمة البالغة في خلقه، جعل القمر متنقلا طول الشهر من منزل لآخر، ليعلمنا عدد شهور السنة وأيامها، وما خلق الله ذلك القمر المنير المتنقل في منازله إلا بالحق، ولكن لا يفهم تلك الحقيقة إلا العالمون.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} صدق الله العظيم.
الله خلق الشمس وجعلها ضياء وهاجا لترسل أشعتها إلى الكون الفسيح فتبدد الجليد والثلوج وخلق القمر وجعله نورا يهتدى به في ظلمات البر والبحر، وقدر له منازل ينزل كل يوم منها منزلا، فيتغير نوره حيث يبدو أول الشهر ضئيلا ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يصير بدرا منيرا ثم ينقبض رويدا رويدا إلى أن يعود إلى ما كان عليه فيصبح كعرجون النحل معوجا ضعيفا، فسبحان من خلق ذلك وقدره تقديرا، وقال:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} صدق الله العظيم.
هذه وقد قدر الله ذلك وأتقنه ليعلمنا كيف نحسب الزمن، فنؤدي كل وقت ما أناط من عمل.
2-
الأعمال المرتبطة بالأشهر القمرية:
قد علمنا فيما سبق أن الشهور القمرية هي التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية الزمنية، لا الشمسية؛ وذلك لظهور علامتها، وسهولة معرفتها لجميع الطبقات؛ من بدوي ومدني.
ولفظ الشهر والسنة إذا إطق في عرف الشريعة الإسلامية فإنه يقع على القمرية، فالتأجيل في الشهور والسنين هلالية عند الإطلاق؛ لذا ربط الله بها أعمالا كثيرة، كحرمة القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
ومنها: كفارة الظهار، إذا كانت صوما، قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
ومنها: عدة الوفاة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
ومنها: عدة الآئسة المطلقة، قال تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
ومنها: أداء الحج، فإنه لا يصح إلا في أشهر ثلاثة قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
وهي: شوال، ذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة فالجمع للتغليب، وقد بينته السنة النبوية الشريفة.
ومنها: الصيام المفروض علينا في رمضان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} إلى آخر الآيات
…
وغير ذلك من الأعمال المرتبطة بالشهور أو بالسنين، كالأجل للديون، وغيرها من المعاملات.
فكل هذه الأعمال وغيرها من الأعمال المربوطة بالشهور والسنين تحتاج إلى ظروفها الخاصة وتعداد أشهرها القمرية. وقد قيل: " أن حول الزكاة الحولية من هذه الأعمال التي تتعلق بالسنة القمرية فلو عاش غني مسلم في غناه (33) عاما شمسيا وأخرج زكاة تجارته سنويا بالعام الشمسي فإنه بقي في ماله زكاة عام آخر؛ لأن كل (33) عاما شمسيا يكون (34) عاما قمريا.
وهذا مما يفرض على المسلمين أن يعتنوا بالمحافظة على الشهور القمرية بصفة عامة، وبالمحافظة على الأشهر التي تعلقت بعينها أحكام محدودة بصفة خاصة - كالأشهر الحرم وأشهر الحج ورمضان والتي قبلها - وهي: سبعة أشهر متوالية: رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم؛ لأن ثبوت رمضان في حالة الغيم ونحوه يكون بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما - كما سيأتي - وأن ذلك التعداد لا يمكن إلا بثبوت بداية أشهر الحج، ونهايتها بداية الأشهر الحرم وهلم جرا
…
إلى نهاية شهر محرم؛ لأن به بداية الأشهر التي يباح فيها بدء قتال الأعداء، ولا تنس التشويش والشكوك التي أثار المشركون غبارها حول قتل الحضرمي.
3-
بداية الشهر وأقوال الفقهاء فيها وأدلة كل:
بداية شهر رمضان: إما برؤية الهلال، وإما بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وليس هناك خلاف معتبر في اعتبار هاتين عند الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في نصاب الشهادة المقبولة في الرؤية إلى قولين:
(أ) فقال فريق منهم بقبول شهادة العدل الواحد، ومن هذا الفريق: الشافعي وأحمد بن حنبل، وبه قال المؤيد بالله.
ودليلهم على ذلك القول الأحاديث الصحيحة مثل حديث ابن عمر:
1-
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه". رواه أبو داود، والحاكم، وابن حبان، وصححاه.
وقالوا: " أن هذا الحديث ينص بقبول شهادة رجل عدل واحد، وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قبل تلك الشهادة، والأمة تابعة له في هذا..وهو نص صريح كما قالوا.
2-
وعن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. فقال: أتشهد أن محمدا ورسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا)) . (رواه الخمسة إلا أحمد) .
وقالوا: إن هذا ينص بوضوح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الرجل واحد من الأعراب لا يعرف من أعماله الإسلامية شيئا إلا الشهادتين فعدالته مستورة لذا قالت الشافعية: أن العدالة المستورة مقبولة في شهادة رؤية الهلال، وهو نص صريح كما قالوا.
3-
وروى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه برؤية هلال رمضان، فصام، وأمر الناس أن يصوموا".
وهذا الحديث يبين أن عليا - وهو الخليفة الرابع - قبل شهادة رجل واحد لا يدري عدالته من شيء. وهو نص صريح على قبول شهادة الواحد.
(ب) وقال الفريق الآخر: أن الشهادة المقبولة في رؤية هلال رمضان شهادة شاهدي عدل فأكثر ومن هذا الفريق: الإمام مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والأحناف، والهادوية. واستدلوا على مذهبهم بحديثين هما:
عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه، فقال: " ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا لرؤيته وأفطروا)) . رواه أحمد والنسائي ولم يقل (مسلمان) .
2-
وعن أمير مكة - الحرث بن حاطب - أنه قال: " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما ". رواه أبو داود، والدارقطني.
ومحل شاهد قول الفريق هو لفظة ((أنسكوا لها)) أي للرؤية في الحديث الأول، ولفظة " أن ننسك للرؤية " في الحديث الثاني، ومعناهما: الاهتمام للرؤية اهتماما أكثر من الاهتمام لإكمال العدة.
وهناك شاهد أقرب إلى المراد، وهو قوله في الأول:((فإن شهد شاهدان فصوموا)) . وقوله: " فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما".
فمن هنا أخذوا أن شهادة الاثنين لا بد منها لإثبات رمضان بالرؤية وليس لهم دليل في هذا إلا في مفهومه التقديري.
هذه أدلة الفريقين في قبول شهادة رؤية الهلال كما ترى فإذا قارنا فيما بينهما مقارنة بسيطة يتبين لنا الأقوى منهما.
لقد استدل الفريق الأول بالأحاديث الثالثة السابقة وهي ظاهرة الدلالة؛ لأن الحديث الأول يدل دلالة واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة عدل واحد، وهو ابن عمر رضي الله عنه.
وأن الحديث الثاني يدل مثل دلالة الأول على أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة أعرابي مجهول العدالة لا يدري من أخلاقه شيئا إلا أنه شهد عند النبي الشهادتين.
وأن الحديث الثالث يدل ما دل الحديثان السابقان من شهادة الرجل الواحد والقبول بها.
ولهذا الفريق أحاديث أخرى، نذكر منها حديثين هما:
1-
حديث لابن عمر وابن عباس معا من طريق طاووس قال " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف باتفاق، وإنما أوردنا هذا الحديث لأن فيه شبه حظ لكل من الفريقين.
2-
وروى الشافعي في كتاب " الأم ": أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين:(أن رجلا شهد عند علي رضي الله عنه على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا..) .
وأما ثبوت الهلال: بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فليس فيه خلاف معتبر، ودليل ثبوته بالإكمال هو حديث أبي هريرة الصحيح وما شاكلته من كل حديث جمع بين رؤية الهلال وإكمال العدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) . رواه البخاري ومسلم.
وذلك لأن هذا الحديث وأمثاله كما دل بأوله أن الرؤية أثبتت الشهر فإن إكمال عدة شعبان يثبت الشهر أيضا. فلذلك وغيره يدل دلالة واضحة على ثبوت رمضان برؤية الهلال في حالة الصحو، وفي حالة الغيم بإكمال شعبان ثلاثين يوما.
وفي ثبوت شهر شوال:
اعلم أن ثبوت شوال كثبوت رمضان إما برؤية الهلال وإما بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما.
فأما ثبوته بإكمال رمضان: فإنه ليس فيه خلاف، إلا ما قالت الحنابلة: من استثناء ما إذا كان ثبوت رمضان بشهادة عدل واحد، فإنهم قالوا: إذا لم ير هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين من بداية الصوم، فإنه تنقض الشهادة الأولى، ويصام تلك الليلة وتنقض الشهادة الأولى.
وأما ثبوته برؤية الهلال: فإنهم اختلفوا فيه كاختلافهم في رمضان إلى قولين:
فقال فريق من الفقهاء: لا تثبت شهادة هلال شوال إلا بشاهدي عدل أو أكثر ومنهم الحنفية، والمالكية والحنابلة ومن وافقهم من العترة كما في كتاب " البحر".
ودليلهم عل هذا القول الحديثان الآتيان:
1-
عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختلف الناس في آحر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان، فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النس أن يفطروا)) رواه أحمد، وأبو داود وزاد ((وأن يغدوا إلى مصلاهم)) وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح وجهالة الصحابي غير قادحة قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
2-
وعن عبيد الله أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له: ((أن ركبا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنعم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم)) . رواه أبو داود وغيره.
فأول هذين الحديثين يدل دلالة واضحة أن الصحابيين الجليلين أمرا الوالي أن يجيز شهادة رجل واحد مستور العدالة مسندين أمرهم هذا إلى ما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث في سنده راو ضعيف الرواية بالاتفاق قلا يقيد لهم ولا لغيرهم شيئا لضعفه، والحديث الثاني يدل ما دلت عليه الأحاديث السابقة.
وهنك أثر آخر هو من أدلة الفريق فنذكره نافلة وهو ما رواه أحمد في سنده حديثا يزيد بن هارون: أنبأنا ورقاء عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " كنت مع البراء بن عازب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في البقيع ننظر إلى الهلال فأقبل راكب فتلقاه عمر، فقال: من أين جئت؟ قال: من المغرب. قال: أهللت؟ قال: نعم. قال عمر: الله أكبر، إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد". قيل: أن عبد الأعلى هذا متكلم فيه.
فإن صح هذا الأثر من عمر فإنه يدل ما دلت عليه أحاديث الفريق.
وقالوا عن الحديثين اللذين استدل بهما الفريق الآحر ما يلي: أن التصريح بالاثنين في كلا الحديثين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد المفهوم، وأحاديثنا تدل على قبول الواحد بالمنطوق، وإن دلالة المنطوق أقوى وأرجح من دلالة المفهوم.
وأما احتمال شهادة ثان وثالث مع شهادة الواحد الذي استدللناه فتعسف وتجويز، ولو صح اعتبار مثله لكان مفضيا إلى طرح أكثر الشريعة.
أما الفريق الثاني القائل: شهادة العدل الواحد عير مقبولة) فقالوا: أن دليلنا على ذلك الحديثان السابقان ومحل الشاهد في الحديثين كما قلنا سابقا كلمتي: ((أنسكوا لها)) أي: الرؤية، " أن ننسك للرؤية " وقوله:" فإن شهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما " فكأنهم فهموا منه (فإن لم نره - ونحن الأمراء - ولم بشهد عندنا شاهدا عدل لا ننسك بشهادة واحد ولا نصوم بها) لكنه مفهوم لا يوافقه الظاهر.
وأجابوا عن أدلة الفريق الأول أنه يحتمل أن يشهد عند النبي صلى الله عليه وسلم غير ابن عمر في الحديث لأنه قال أولا: تراءى الناس الهلال " فلا نستبعد أن أحدا - من الذين رأوا الهلال - ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ابن عمر.
وما جاز احتماله في حديث ابن عمر جاز في غيره، انتهى.
ومن هذه المقارنة البسيطة نعلم أن الدليل الأقوى والأظهر مع الذين يقولون بقبول شهادة العدل الواحد في هلال رمضان.
ومحل الشاهد للقوم في هذين الحديثين، في الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة أعرابيين عند اختلاف الناس في ثبوت الهلال وفي الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ركب شهدوا برؤية الهلال، وأنت ترى أنه ليس في الحديثين ما يمنع شهادة العدل الواحد، لأننا لا نفهم ما يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم منع بشهادة رجل واحد
…
وهناك حديث آخر استدلوا به لقولهم، وهو أوضح دليلا من السابقين أن صح وهو الذي مر بنا وأشرنا أن فيه حظا لكلا الفريقين وهو هذا
3-
عن طاووس قال: " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف بالاتفاق.
وأنت ترى أن هذا الحديث ضعيف.
وقال الفريق الآخر من الفقهاء: " أنه لا فرق بين هلال رمضان وشوال، فرؤية هلال شوال كرؤية هلال رمضان من حديث ثبوته وهم: الشافعية، ومن وافقهم في هذا القول، ومنهم أبو ثور وأبو بكر بن المنذر وأهل الظاهر كما قاله ابن رشد هم يقولون بقبول شهادة العدل الواحد.
ودليلهم على هذا القول الأحاديث التي مرت بنا في ثبوت رمضان، مثل حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين.
1-
فعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..)) . البخاري ومسلم.
2-
وكحديث ابن عمر رضي الله عنه السابق قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه سلم - يقول ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) . البخاري.
فإن كلتا الرؤيتين في هذين الحديثين متساويتان، فرؤية الإفطار طبعا هي رؤية هلال شوال
…
والرؤية تصدق برؤية عدل واحد من المسلمين / كما لا يخفى، وهو كما قالوا.
وكذلك القياس على أدلة ثبوت رمضان التي تبين قبول شهادة الواحد مثل حديث الأعرابي، لعدم الفرق بين الهلالين.
وأجابوا عن الحديثين اللذين استند إليهما الفريق الأول من الفقهاء أن الحديثين لم يشترطا لثبوت الشهر بشهادة رجلين وغاية ما فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة رجلين وقتا، وقبل شهادة ركب مرة أخرى، ولم نفهم واحدا منهما أنه شرط القبول الاثنين.
وقد احتج أبو بكر بن المنذر بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن بكون كذلك في دخول الشهر وخروجه إذ كلاهما علامة نفصل زمان الفطر من زمان الصوم. انتهى. وهو صادق في قوله واحتجاجه.
شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه خبر العدل الواحد قياسا على الاكتفاء به في الصوم. وقال أيضا: التعبد بقول خبر الواحد لا بدل على قبوله في كل موضوع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخير واحد كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور. انتهى.
4-
حكم اختلاف المطالع والبلدان المتباعدة:
(أ) ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع في مسألة ثبوت الهلال. فقالوا: إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع البلدان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
لأن الخطاب فيه عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم - في أي مكان كان - رؤية مسائية فرؤيته رؤية لهم جميعا.
وقد قال عمر رضي الله عنه قولته السابقة كما في مسند الإمام أحمد: " الله أكبر إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد ". وذلك بعدما شهد عنده راكب واحد برؤية هلال رمضان.
(ب) وذهب عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم، وإسحاق، وقول للأحناف، وقول مختار للشافعية: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، واستدلوا على ذلك بحديث كريب، ونصه: عن كريب، أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال:" قدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل رمضان وأنا بالشام في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ يعني هلال رمضان، فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقال: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه يوم السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. " رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
وقد استدل بهذا الحديث كل من قال: لا يلزم أهل بلد رؤية أهل بلد آخر، ولكنهم اختلفوا في ذلك على مذاهب كما ذكرها صاحب الفتح:
1-
قال قوم منهم: يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا تلزمهم رؤية غيرهم، حكاه ابن المنذر عن كل من: عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. وحكاه المناوي وجها للشافعي، ولعل أن هذا القول حديثا آخر.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل قوم هلالهم)) .رواه مسلم نقلناه من (شرح كتاب النيل وشفاء العليل) للشيخ محمد بن يوسف فإن صح هذا الحديث فليس أدل لمرادهم من حديث كريب.
2-
وقال قوم منهم: لا ليلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد لأن حكمه نافذ في الجميع. قاله ابن الماجشون.
3-
وقال فريق منهم: أن تقاربت البلاد كان الحكم واحد وإن تباعدت فوجهان:
الوجه الأول: لا يجب، قاله بعض الشافعية.
الوجه الثاني: يجب عليهم، اختار هذا الوجه أبو طيب، وطائفة، وحكاه البغوي عن الشافعي.
وفي ضبط البعد أوجه:
1-
أولها: مسافة القصر، وبه قطع البغوي، صححه الرافعي من الشافعية واستدلوا له القياس؛ حيث قالوا:" أن الشرع علق بمسافة القصر كثيرا من الأحكام".
2-
ثانيها: اختلاف المطالع، وبه قطع العراقيون، والصيدلاني، وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب والمنهاج.
وردوا على من استدل لمسافة القصر قولهم: " أن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر".
3-
ثالثها: اختلاف الأقاليم، وبه حكاه الحافظ في الفتح.
4-
رابعها: يلزم أهل كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض كأهل البلدان الغربية عن بلد الرؤية وبه حكى السرخسي.
5-
خامسها: لا يلزم أهل بلد غير بلد الرؤية إلا إذا ثبتت الرؤية عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم وبه قال ابن الماجشون
6-
سادسها: لا يلزم إذا اختلفت الجهات، ارتفاعا وانحدارا، أو كل بلد في إقليم وبه حكاه المهدي في "البحر" عن الإمام يحيى والهادوية.
وحجة أصحاب هذه الأقوال الستة حديث كريب السابق ووجه استدلالهم به كالتالي: " أن ابن عباس رضي الله عنه لم يعلم برؤية أهل الشام، وأنه قال في آخر حديث: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلزم أهل بلد برؤية أهل بلد آخر. انتهى.
وأنت ترى كثرة اختلافهم في تحديد المسافة، والأولى أن لا يختلف المسلمون مثل هذا الاختلاف في مثل مسألة كهذه، وأرى أن القول القريب إلى الحق وإلى الوحدة واجتماع كلمة المسلمين عقلا ونقلا هو قول الجمهور المار بنا آنفا.
فلا بد أن نلاحظ ونناقش استدلال الفرق بحديث كريب
ملاحظة بسيطة حول الاستدلال بحديث كريب السابق:
اعلم يا أخي القارئ أن الحجة في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس.
والمشار إليه بقوله " هكذا أمرنا رسول الله " في آخر الحديث هو قوله " فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه".
ففي أي وقت سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي أي حديث صرح به ابن عباس هذا المرفوع؟ وأين الأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أشار ابن عباس؟ هذه التساؤلات تحتاج إلى أجوبة.
وقد قال الشوكاني: " أن الأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
وهذا - كما نرى - لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب عام لكل من يصلح له من المسلمين.
فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم، أهل البلدان الأخرى أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم.
ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر، لكان عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع - وليس بين الشام والحجاز ذلك البعد وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد، وليس بحجة.
ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك عالم أن الأدلة العقلية والنقلية قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها، وسواء كان بين البلدين أو القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أو لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل.
ولو سلمنا صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص - على سبيل الفرض والتقدير- لكان الأولى أن يقتصر على محل النص، أن كان النص معلوما، أو على المفهوم منه أن لم يكن معروفا لوروده على خلاف القياس.
وابن عباس لم يأت بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمعنى لفظه - في هذا الخبر - حتى ننظر في عمومه وخصوصه، وإنما جاء بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة، هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام أن سلمنا أن ذلك هو المراد ولا نفهم منه غير ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك المفهوم. انتهى.
أما الاستدلال بالحديث الثاني ((إن لكل قوم هلالهم)) :
فقد عبر ((القوم)) لا البلاد ولا المسافة مما نحن بصدده، وإن سلمناه على ظاهره، فإن كريبا الذي سأله ابن عباس رؤية الهلال هناك وأجابه بقوله:" نعم رأيته" هو من قومه من أهل المدينة فلماذا لم يقبله إن أسند هذا الحديث لعدم قبوله؟
فمن هذا نعلم أن ابن عباس لم يسند هذا الحديث لعلمه، ولا حديث الشيخين، بل اجتهد، والمجتهد يصيب ويخطئ ومن هذا كله يتأكد لنا صدق القول الآتي: " أن بداية الشهر- رمضان - وشعبان - وشوال- وغيرها يثبت برؤية عدل موثوق به في حالة صفاء السماء، وبإكمال عدة الشهر ثلاثين، وأن ثبوت الشهر بهذا في بلد إسلامي يعم جميع البلدان إذا بلغ.
5-
الخاتمة
أخي القارئ، أن قرأت ما في هذه الرسالة من مواضع دراسة الشهور العربية القمرية الإسلامية وفهمت ما فيها من أعمال مرتبطة بها، وما احتوته من أقوال الفقهاء وأدلتهم في ثبوت بداية الشهر، وحكم اختلاف المطالع وأوقفت على مقارنتي المتواضعة بين أقوالهم وأدلتهم، والتمست استخلاص القول المؤيد بالأدلة القوية فلا تنس أن تقرأ هذه الخاتمة لأنها خلاصة ما مر بنا في الأبواب السابقة.
فيها خلاصة القول السديد فيما مر بنا من بداية الشهر وحكم المطالع.
اعلم يا أخي المسلم القارئ أنه قد مر بنا في هذه الرسالة المتواضعة أمور لا بد لنا أن نستخلصها ونكتبها منفردة في هذا المكان.
فقد علمنا أن الشهور العربية الإسلامية في عرف الشريعة هي الشهور القمرية الاثنا عشر المعروفة، وأنها هي التي يقع عليها كل حكم استند إلى زمن وعبر به اسم الشهر ما عدا مواسم الزراعة والحرارة البرودة.
وأن من تلك الشهور ما تعلقت بها أحكام وأعمال إسلامية خاصة كحرمة القتال في أشهر منها، وكأداء الحج في أشهر، وكالصيام المفروض أصالة.
وأنها هي المقصود من قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهي أشهر قديمة المقدار، وخالدة الحرمة والتوقيت، فمنها أشهر حرم، لا تؤخر لحرمتها إلى غيرها ولا تنسوا لأن الله هو الذي يقول:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}
وإن تلك الأشهر هي المقصودة بقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقوله جل وعلا {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقوله سبحانه {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
وأنها هي المراد في قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} لأن الأهلة جمع هلال والهلال هو القمر ما لم يكتمل نوره ولكن العرب تعبر الهلال عن الشهر كما تعبر الشهر عن الهلال.
والشهر القمري هو المراد بقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
وأن حرمة الأشهر الحرم تتعلق بأشهر قمرية.
وأن أشهر العدة – للمطلقة والمتوفى عنها – إذا أطلق فهي أشهر قمرية، وأن صيام رمضان معروف بتعلقه بالشهر القمري لا غير، وكذلك أداء أعمال الحج لا تنعقد في غير أشهره القمرية؛ فلهذا يجب علينا أن نعتني ببداية الأشهر القمرية.
وإليك القول المختار للأخذ به من بين الأقوال التي مرت بنا في كل من بداية الشهر وحكم اختلاف المطالع: القول القوي من حيث الدليل المختار من المبدأ الموحد، هو أن بداية الشهر تثبت برؤية شاهد عدل واحد، وأنه لا فرق في ذلك بين رمضان وغيره، وأنه إذا لم تكن السماء صافية فإنه يثبت بإكمال الشهر الذي سبق منه، ولا فرق في هذا الحكم بين الشهور.
وأن القول القوي عقلا ونقلا في مسألة اختلاف المطالع أن لا عبرة باختلاف المطالع، ولا بعد المسافة بين بلد الرؤية وغيره من البلدان الإسلامية فاتحاد الشهور العربية القمرية أمر لا مانع له في نظر الشريعة الإسلامية. فإذا رأى رجل عدل واحد رؤية ليلة تكون رؤيته رؤية جميع المسلمين؛ لأن المؤمنين أمة واحدة، فحكم ثبوت الهلال يعم بجميع أفرادها، فلا تفرق بينهم الحدود المصطنعة ولا البحار والصحاري في هذا الحكم.
وتلك الضرورة هي التي تسببت - قديما وحديثا – إلى انقسام العالم الإسلامي في بداية شهر الصوم ونهايته.
وكانت تلك الضرورة – أي عدم سماع خبر الرؤية – محتمة في الزمن القديم بحيث لا تمكن إزالتها ولا معالجتها وذلك لبعد المسافة وانعدام المواصلات اللازمة، أما في هذا العصر فإن إزالة تلك الضرورة ممكنة لتوافر طرق المواصلات السلكية واللاسلكية المرئية وغير المرئية ولكن العالم الإسلامي يحتاج لتوحيد بدايات الشهور القمرية عمليا، إلى اختيار مركز فضائي وإعلامي واستعلامي في أن واحد، بحيث يستقطب ذلك المركز الأخبار - أعني أخبار رؤية الهلال - من أقطار العالم الإسلامي شرقيه وغربيه فيحكم الثبوت بالخبر الذي يرى أنه عدل ثم يبث هذا الحكم إلى جميع الأقطار الإسلامية في أسرع وقت ممكن
…
فيا حبذا لو اختير لهذا الأمر " أم القرى " مركزا؛ لأنها قبلة الأمة، مولد الرسالة المحمدية وفيها أول بيت وضع للناس وهي التي أذن الله أن يؤتى إليها كل الثمرات، وأن يأتي الناس رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق.
وإلى هنا أوقفت كلمتي المتواضعة، راجيا من الله القوي العزيز الكريم أن يتقبل مني هذا العمل في البدء والختام وأن يلهم غيري من الأكفاء إلى تكميله وتهذيبه حتى يكون هذا الجهد بداية ما يحمد عقباه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا وقد بدأت كتابة تلك الرسالة " توحيد الشهور القمرية " في يوم الخميس 20 من شهر ذي القعدة سنة 1405 هـ وفرغت من كتابتها يوم السبت 8 من شهر ذي الحجة المحرم سنة 1405 هـ من الهجرة النبوية العطرة بحمد الله وتوفيقه.
مراجع البحث
1-
القرآن الكريم.
2-
مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (169)
3-
في ظلال القرآن للسيد قطب، الجزء الثالث صفحة (245)
4-
صفوة التفاسير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (534)
5-
تفسير آيات الأحكام للصابوني، الجزء الأول، صفحة (210 - 211)
6-
مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الثاني، صفحة (140 - 142)
7-
تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الأول، صفحة (225)
8-
جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري، اجزء الثاني صفحة (108) الطبعة الأولى (1323 هـ)
9-
فقه السنة للسيد سابق المجلد الأول، صفحة (435 - 437)
10-
نيل الأوطار للشوكاني الجزء الرابع صفحة (258 - 269)
11-
نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي، الجزء الثاني صفحة (437 - 445)
12-
شرح صحيح مسلم للنووي، الجزء السابع صفحة (197)
13-
صحيح ابن خزيمة الجزء الثالث صفحة (201 - 203) و (205 - 206)
14 -
سبل السلام للأمير الصنعاني الجزء الثاني صفحة (151 - 153)
15-
مغني المحتاج للخطيب الشربيني الجزء الأول صفحة (420 - 422)
16-
شرح كتاب النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش، الجزء الثالث صفحة (317 - 319)
17 -
المذاهب الأربعة للجزائري الجزء الأول صفحة (548 - 554)
18 -
روح الدين الإسلامي لعفيف الدين الطبارة صفحة (257)
19 -
الموسوعة الفقهية، وزارة العدل الكويت، الجزء الثاني صفحة (34)
20 -
مجلة الفيصل عدد (44) صفر 1401 هـ صفحة ()
21 -
في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد صالح البنداق صفحة (233)