الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور زكريا البري
الافتتاحية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الإسلام، المبعوث رحمة للعالمين، والذي اتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
والمدعو له بالرضا الالهي هم الصحابة والتابعون وتابعوهم باحسان إلى يوم الدين.
التابعون الذين تابعوا الصحابة في فهم النصوص الشرعية، وفى فقه معانيها وأحكامها وعللها وحكمها ومقاصدها، وفى معرفة أدواء الأمة الإسلامية وشعوبها، وفى وضع الدواء الدائم أو المؤقت لعلاج هذه الادواء.
وقد يكون هذا العلاج في تشريع حكم المصلحة الدائمة أو الوقتية أو في ارتكاب محظور جزئي استحسانا واستثناء من القواعد الأصلية والكلية، استنادا إلى القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تستمد شرعيتها، من قوله -جلت حكمته -:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
كما قد يكون هذا العلاج بدواء وقتي واستثنائي، قصدا إلى رفع الحرج والعنت والمشقة، استنادا إلى قاعدة شرعية، ذكرها الفقهاء وهي الحاجات تنزل منزلة الضرورات المأخوذة من قوله - وسعت رحمته -:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .
وبذلك جميعه يحققون لعباد الله المصالح الضرورية، التي لا تتحقق الحياة إلا بها، والمصالح الحاجية التي ترفع عن الناس الحرج والضيق والعنت، والتي نوه القرآن الكريم بها، حيث أمتن على عباده بذلك، في قوله -سبحانه -:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
يحققون جميع المصالح الاجتماعية والفردية، المصالح العامة والمصالح الخاصة، مع تقديم الأولى لأهميتها على الأخرى عند التعارض.
ويمنعون من قبل ذلك جميع المفاسد من الحياة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن لم يتيسر ذلك، أفتوا بارتكاب مفسدة جزئية صغرى، دفعا لمفسدة كلية كبرى أو مفاسد اجتماعية أكبر.
ولذلك يضعون دين الله وشريعته أمام الناس وإماما لهم، ويحرسون دين الله، ويسوسون به دنياهم.
ويضعون المسئولية الدينية والدنيوية في عنق أولى الأمر من الحكام ومعاونيهم، ويطالبونهم بسن التشريعات اللازمة، بتنفيذ ما ينتهي إليه الرأي عند الفقهاء، وهم أولو الأمر، وأهل الذكر، وأصحاب الاختصاص، في فهم الأحكام والحكم من النصوص الإلهية، ثم يطالبون الأمة بامتثال هذه الأحكام، استجابة وخضوعا لأمر الله عز وجل في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
هؤلاء الفقهاء الذين يقومون بذلك الواجب الديني، من غير افتيات على النصوص بالتحربف وسوء التأويل، ومن غير افراط ولا تفريط، ولا تضييع للمصالح الدنيوية، ودون التزام بما لا يلزم من أقوال الأئمة وفقهاء السلف الصالح العظيم، وآراء المذاهب الإسلامية، التي تحمل تراثا عظيما، هو محل فخرنا واعتزازنا، ومحل اعتزاز المنصفين من غير المسلمين في داخل البلاد العربية والإسلامية وخارجها، والتي تجمع الأمة - مع ذلك - على أنها ليست دينا ملزما للأمة ولفقهائها، إلا بمقدار دليلها وصحته ومدى حجيته. ثم المرجو لحاضر الأمة ولمستقبلها هم الفقهاء المتخصصون الذين أنعم الله عليهم بفقه النفس، وسلامة الحس وأمانة الضمير الديني، في كل مصر، وفى كل عصر.
أولئك الذين يستطيعون بالشرع وما فيه من نور الهي، وحكمة نبوية، ويفهمونه بعقل سليم واع، جامعين بين صريح المنقول، وصحيح المعقول بين النوريين (نور علي نور) .
أولئك الذين لا يقلدون غربا ولا شرقا، وإنما يتجهون إلى الحكمة، وهى ضالة المؤمن " وهو أحق بها أن وجدها.
هؤلاء الذين يستفيدون بالعرف السليم الصالح والمصلح، هذا العرف الذي قد يتغير بتغير الزمان أو المكان، والذين يقاومون الأعراف الفاسدة، والمفسدة مهما كثر أتباعها عن جهل أو تقليد.
ومن جهل زمانه وأحواله فقد جهل، ثم قاموا بذلك خلفا بعد سلف، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
التمهيد:
أما قبل، فاني أقدم وأمهد لرأيي بهذه المقدمة الأصولية والفقهية، المشتملة على القواعد التالية: أولا - الأصل في الأشياء - ومنها العقود والشروط والتصرفات - هو الإباحة والجواز والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه (1)
هذه القاعدة وهذا الأصل الذي ذهب إليه بعض الأصوليين والفقهاء المحققين، والذي انطلق منه الإمام العظيم، والفقية الحنبلي المجتهد: ابن تيمية، إلى حرية التعاقد والاشتراط، مستندا في دعم رأيه، الذي رفع به الحرج عن المسلمين، وبصفة خاصة في العصر الحاضر، الذي استحدثت فيه الحياة عقودا وشروطا غير مسبوقة: إلى ما يأتي:
(أ) ما جاء في القرآن الكربم من الأمر بالوفاء بالعقود بصفة عامة، ومن ذلك قوله -جل ثناؤه -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وقوله -جلت حكتمه -: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . وقول - سبحانه -: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}
فكل عقد أو شرط في عقد، ورد به نص أو لم يرد، هو التزام وعهد من العاقدين يجب الوفاء به.
(1) وقد أخذ بهذه القاعدة فقهاء المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية والذي انعقد في البنك الإسلامي بدبي، ثم في المؤتمر الثاني لهذه المصارف، والذي انعقد في بيت التمويل الكويتي بالكويت، ثم في ندوة البركة التي انعقدت في المدينة المنورة.
والقول بعدم جوازه وعدم صحته من غير دليل مخالفة لهذه الآيات القرآنية العامة.
(ب) ما جاء في السنة النبوية الصحيحة، من الأمر بالوفاء بالوعد وبالعهد، والتحذير من العذر، مثل قوله عليه الصلاة والسلام:"أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها".
ولو كان الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل الخاص على الحل، لم يذم الرسول إخلاف الوعد بهذا الإطلاق، ولم يذم الغدر بنقض العهد بصفة عامة، كما جاء في الحديث.
(ج) أن التعاقد والاشتراط فيه مباح بحسب الأصل، والمباح إذا أوجبه الشخص على نفسه لغيره، صار واجبا عليه، لتعلق حق الغير به.
(د) أن العقود والشروط من الأفعال والمعاملات العادية، وليست من العبادات التي لا تجوز ولا تصح إلا بالتلقي عن الله جل جلاله.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهذا التفصيل يعم الأفعال والتصرفات، فإذا لم يكن العقد أو الشرط حراما بتحريم الشارع، فإنه لا يكون باطلا، لأن البطلان إنما يترتب على التحريم.
(هـ) أن الأصل في العقود والشروط قيامها على التراض بين العاقدين، وتترتب آثارها عليها تبعا لهذا التراضي.
وفى ذلك يقول الله - تعالى -: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ويقول في المهر:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
فقد أحلت الآيتان الأموال فيهما بناء على الرضا في الآية الأولى، وطيب النفس في الآية الثانية، ما لم يكن هناك دليل خاص لتحريم عقد خاص أو شرط خاص.
(و) أن العقود والشروط التي تتم بين الناس أمور مقصورة لهم، يرون فيها مصلحتهم التي لا تلحق الضرر بغيرهم، ولولا حاجتهم إليها ما عقدوها ولا اشترطوها. (1) .
فيجب رفع الحرج والضيق والعنت عن الناس بتجويزها وتصحيحها وترتيب الآثار عليها ومنع عقد أو شروط من غير دليل شرعي- مع هذه المصلحة وتلك الحاجة للمتعاقدين- يؤدي إلى الحرج والضيق والعنت، الذي رفعه الشارع الإسلامي، في مثل قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما جعل وما شرع ما يحرج عباده كما جاء في الآية الأولى، يريد أن يجعل فيشرع باسمه سبحانه ما يحرج عباده وهو العليم الحكيم، الرؤف الرحيم. (ز) أن العقود والشروط المقترنة والمرتبطة بها لا يخلو حكمها من أحد أحكام ثلاثة:
- ألا تحل إلا بدليل خاص من كتاب أو سنة أو دليل يستند إليهما، فإذا حلت بهذه الصورة وجب الوفاء بها.
(1) وإذا كان المذهب الحنبلي-كما يعبر عنه ابن تيمية- قد قرر من أول النظر الفقهي حرية العاقدين في التعاقد والاشتراط، فان المذهب الحنفي ينتهي إلى نحو ذلك عن طريق العرف، حيث أجاز كل شرط يجرى به العرف المحقق لمصالحهم
- أو لا تحل إلا بدليل عام.
- أو أن تحل من غير دليل عام ولا خاص، مادام لم يوجد دليل على التحريم
والفرض الأول غير صحيح، لإ جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه.
والفرض الأول غير صحيح، لا جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه.
فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم المال الثابت في العقود الربوية، وأبطل شرط الربا في هذه العقود، وقال:((ربا الجاهلية موضوع)) أي أسقطه وألغاه المشرع الإسلامي.
أما الغرض الثاني فإنه يشهد للحل، ويترتب عليه الوفاء بكل عقد أو شرط غير منهي عنه بدليل خاص، للأمر العام بالوفاء بالعقود.
وكذلك الغرض الثالث يشهد للحل.،هذا ما نراه
ثم أما بعد.
فإنه لا يوجد في أخذ الأجر على هذا الضمان المصرفي لتنفيذ أعمال مشروعة، نص محرم من كتاب أو سنة، ولا دليل محرم.
فلا يوجد له نظير يقاس عليه في التحريم، لاشتراكهما في علته.
ثم لا يوجد عرف صحيح يحرمه ويمنعه، ولا توجد فيه مفسدة، كما لا توجد مصلحة في تحريمه، بل أن المصلحة في إباحته وحله وصحيته، وفي إلزام المضمون به (1) .
(1) وفي مثله يقول ابن القيم في أعلام الموقعين ج 2: "في المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما الجواز، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع جواز ذلك، ولا يقتضى تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ولا وقوعًا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ولا مفسدة في ذلك بوجه ما أفلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها"
وإذا قيل: أن البعض كتب المذاهب الفقهية قد صرحت بتحريمه، فإنى أقول: أن الدليل الذي استندوا إليه هو أن الضمان لم يشرع إلا على سبيل التبرع، وهو صورة من صور المصادرة، لأن نفس الدعوى هي نفس الدليل، كأنهم يقولون: أن أخذ الأجر غير مشروع، لأنه غير مشروع. (1)
وإذا قيل: أن الإمام ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة والحل، قد ذهب إلى عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، قلت: إني مع قاعدته العظيمة، لقيام الأدلة عليها، ولست معه في عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، إذا كان رأيه بالمنع يشمل الضمان المصرفي التجاري، للأسباب التي بينتها وأبينها.
والظاهر أن هذه الفتوى المروية عنه لا تشمل الكفالات بهذه الصورة التجارية الجديدة التي تعاملت بها المصارف العامة، وتتعامل بها بعض المصارف الإسلامية.
(1) يقول الحطاب: "ولا خلاف في منع ضمان بجعل، لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت" انظر مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ج 4 ص 242 أما ما ذكره ابن عابدين من أن الكفيل مقرض، فإذا شرط له الجعل على كفالته، فمعنى ذلك اشتراط الزيادة على مقدار القرض، فيكون باطلًا، لأنه ربا (انظر منحة الخالق على البحر الرانق ج 6 ص 342) فإن هذا التعليل مقبول في ضمان القرض، أما في ضمان العطاءات فلا "وانظر فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامى السوداني" حيث انتهت إلى المنع.
فقد كانت الكفالة في العصور الماضية تتم ضمانا لمحتاج يستدين، وقد لا يجد من يسلفه إلا بضمان من ملىء، لضعف ذمة المستدين المالية، ونحو ذلك فيضمنه الغني، تفريجا لكربه، ورجاء لثواب الآخرة.
وفي مثل هذا يقول الرسول الرحيم: ((من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) ،أما الآن فإن هذه الضمانات تتم لشركات مالية كبرى، ولتجار أغنياء، ولابد في قبول العطاءات من هذه الشركات وهؤلاء الأغنياء من تقديم الضمان المصرفي.
وهذه العطاءات التي تقدمها الشركات والتجار للالتزام بأعمال معينة، يتوقف قبولها-كما قلنا- على هذه الضمانات، وهذه الأعمال تتوقف عليها تنمية المجتمع تنمية اقتصادية واجتماعية وعسكرية، بل أن البنية الأساسية للمجتمع من طرقات مواصلات ومرافق مياه وصرف صحي وكهربة تتصدر هذه الأعمال.
وامتناع المصارف الإسلامية عن القيام بهذه الضمانات، لأنها لا تستفيد منها ماليًا وتجاريًا، يؤدي إلى لجوء المحتاجين إليها إلى البنوك الربوية في الحصول على هذه الضمانات، وفي ذلك دعم كبير لها، يجر المحتاجين إليها إلى التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها.
فإذا سادت المصارف الإسلامية –وهذا هدف أساسي- استحال على هذه المصارف القيام بهذه الضمانات، مادام أخذ الأجر غير مشروع، لأنها إما أن تقوم بها مجانًا، وفي ذلك تعريض أموال المؤسسين والمسهمين فيها للضياع، من غير فائدة تعود عليهم وإما أن تقوم بها بأجر، ولا يرى الفقهاء جواز ذلك.
ويتعين –بناء على ذلك- القيام بهذه الضمانات، وأخذ المناسب عليها، من غير وكس ولا شطط ومغالاة، وفي ذلك كشف لمغالاة البنوك الربوية، يدعو إلى الإحجام عن التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها، وفيه من المصلحة ما فيه.
ولقد أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الأجر على تحفيظ القرآن الكريم، وإمامة الصلاة، بناء على أنهما يدخلان في العبادات والطاعات، التي لا يجوز أخذ الأجر المادي عليها في الدنيا، والتي يستحق فاعلها الجزاء والثواب الأوفى في الآخرة، والآخرة خير وأبقى.
وقد جرى المجتمع الإسلامي على ذلك حينا من الدهر، ثم اقتضت التطورات الاجتماعية تخصيص مسلم مؤهل للقيام بهذه الأعمال، بحيث يتفرغ التفرغ اللازم والمناسب لها.
ووجد المتأخرون زمانًا من فقهاء هذه المذاهب، أن القول بعدم جواز أخذ الأجر في ذلك وفي أمثاله، يؤدي إلى ضياع حفظ القرآن حفظًا سليمًا، وإلى ترك إمامة الصلاة لمن لا يحسنها، نظرًا لعدم التفرغ لهذه الأعمال الدينية، اشتغالًا بكسب العيش، وأفتوا بأخذ الأجر.
وعلى ذلك جرى ويجري العمل الآن في جميع البلاد الإسلامية.
- وإذا كان مقتضى هذا الضمان المصرفي إلزام المصرف بالمغارم التي تترتب على هذا الضمان، تنفيذًا لالتزامه، فلم لا يكون له غنم من المضمون، يؤديه للمصرف الضامن، نتيجة الاتفاق والرضا به.
ومن القواعد الفقهية العادلة أن الغرم بالغنم، جرى عليها التعليل الفقهي في مثل وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني الموسر، مغرما في حالة فقر القريب، مقابلة للمغتنم بميراثه في حالة يساره.
- وإذا كان الأصل منع الأجر عند بعض الفقهاء، فلم لا يجوز أخذه استحسانًا واستثناء من القواعد الأصلية، استنادًا إلى المصلحة العامة والخاصة.
وإذا قيل: أن في إمكان الضامن "المصرف "والمضمون أن يشتركا في نفس العمل الذي يضمنه المصرف، قلت: أن هذا ممكن إذا رأي الطرفان مصلحتهما فيه.
ولكن قد يريان أو يرى أحدهما أن المصلحة في انفراد المصرف بالضمان واستحقاق الأجر عليه، وانفراد المضمون بنتيجة العمل ربحًا أو خسرًا.
- كما أن المجتمع الإسلامي كان يجرى على أن الوكالة عن الغير في عمل من الأعمال تكون مجانًا، وخدمة اجتماعية، ثم تطورت الأحوال تطورًا حضاريًا، ووجد المتخصصون الذين لا يقبلون الوكالة إلا بالأجر، كما في توكيل المحامي، وتوكيل السمسار، وكل منهما يتفرغ لهذا العمل، ويكسب قوته من هذا الأجر.
وأختم كلمتي بأن الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع الرائد يعلمون أنه يستوي في الأثم تحريم الحلال، وتحليل الحرام من غير دليل. والله سبحانه وتعالى يقول {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وأقول: هذا رأيى الذي أعرضه على حضراتكم، فإن يكن صوابًا فمن الله، وبتوفيقه، وأن يكن خطأ، فمنى، ومن الشيطان، وأستغفر الله، وأتوب إليه، وأول درجات التوبة رجوعي عنه. والمجتهد يخطئ ويصيب.
ولعل الرأي الذي ينتهي إليه المجمع بالإجماع أو بالأكثرية يصلني مع أدلته ومناقشاته، والله ولي التوفيق.