الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توحيد بدايات الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
حضرات الأساتذة المحترمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بداية الشهر القمري عني بها فقهاء المسلمين، وفى كل مذهب نجد آثار هذه العناية بما خلفوه من خصب الاجتهاد الذى تفرع عنه أحكام عديدة في كثير من القضايا المرتبطة بذلك.
ولكن قضية الأهلة قد فرضت نفسها على ساحة الفكر الإسلامي في عصرنا هذا فرضًا تجاوز ما عرف من قبل، يبدو ذلك في عديد المؤتمرات واللقاءات التي خصصت لبحث هذا الموضوع في شرق العالم الإسلامي وغربه. كما يعود ذلك إلى بروز معطيات جديدة ما كانت موجودة من قبل.
أولًا: سرعة وسائل الاتصال الإعلامي فما يثبت الشهر في بلد من بلدان العالم الإسلامي حتى يبلغ الخبر أطراف الأرض في نفس اللحظة التي يبلغ فيها أبناء البلد المثبت.
ثانيًا: أن سرعة الاتصال هذه فرضت تصورًا جديدًا في القاعدة الشعبية الإسلامية هي ضرورة الاتحاد بين المؤمنين في الأعياد.
ثالثًا: أن غزو الفضاء قد فتح آفاقًا واسعة في مجال المعرفة الإنسانية تجاوزت الحساب النظري المجرد إلى تطبيقه على واقع الكون في أبعاد الفضاء.
رابعًا: اختلاف الأمة الإسلامية في وسائل إثبات الشهور القمرية أفضى إلى اختلاف في تعيين مبدئها ونهايتها. إذ أخذت أمم بالرؤية والآخذة بالرؤية اختلف فيما بينها في الشروط التي تثبت بها الرؤية فبعضها يكتفي بعدلين والبعض يشترط الاستفاضة.
وأخذت أمم أخرى بالحساب. وسنحاول في هذه الكلمة تتبع القضية من أصولها ثم في مذاهب المجتهدين ثم نختم بالرأى الذى نطرحه للنقاش.
القرآن الكريم:
1-
تحدث القرآن عن الأهلة قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ففي هذه الآية صرف للسائلين عن طلب بلوغ الحقائق العلمية التي تتوقف استبانتها على مقدمات معرفية في سلسلة مترابطة ومتساوية، صرفهم عن طلب بلوغها بالتلقين، إذ أن ذلك ليس سبيل المعرفة، وتوجيههم إلى ما ينبغى لهم طلبه وهو ما يمكن أن يستفيدوه من الظاهرة الكونية وليس ذلك منعًا لهم من بلوغ ما أرادوا علمه فالجواب يتضمن تأجيل الجواب لأن السائل لم يتهيأ بعد لإدراك ما يريد إدراكه ومع هذا فقد بين ارتباط التوقيت والمناسك بالأهلة.
2-
تحدث القرآن عن انتظام سير القمر، كبقية الكواكب قال تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . فكان انتظام هذا السير سبيلًا لتحديد السنوات وحساب الزمن.
3-
تحديد توزيع السنة على الأشهر: قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
4-
ربط بعض العبادات بوقت معين من حساب الشهور {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وربط أحكامًا أخرى بمطلق العد من الأشهر كقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
إن تتبعنا للآيات الكريمة الواردة في هذا المقام نتبعه بالملاحظات الآتية:
1-
أن حركة الأفلاك حركة دقيقة ثابتة لم تختلف عبر العصور فهي تسير على نسق منتظم من يوم خلق السماوات والأرض.
2-
أن الزمن مرتبط بهذه الحركة وأنه اثنا عشر شهرًا في السنة ولا يجوز الزيادة عليها.
3-
أنه لا توجد آية صريحة تبين طريقة التعرف على بداية الشهور.
4-
أن آية الصوم التي ورد فيها لفظ شهد، حمله بعضهم على الحضور كقولهم شهد بدرًا وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهين ذلك بما جاء في مقابل الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ليكون وازنه، وحمله بعضهم على معنى (علم) أخذا من قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي علم حلول الشهر وليست شهد بمعنى رأى لأن فعلها شاهد لا شهد.
5-
أنى أرجح أن يكون معنى شهد علم لأن ما وقع به توجيه حملها على الحضور من التوازن هو مفقود في الحقيقة إذ الطرف الثاني لم يقصر على السفر. فلو كان نص الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان على سفر فعدة من أيام أخر) لكان التوازن واضحًا، أما الشطر الثاني فهو قد جمع بين المرض وقد قدم السفر فالتوازن مختل، ولكن يصبح صدر الآية دالًا على أن من علم الشهر وهو حاضر صحيح وجب عليه الصوم، ومن كان مريضًا أو على سفر عند علمه فعدة.
6-
أن وظيفة السنة أن تبين طريقة المعرفة..
السنة النبوية: ورويت أحاديث كثيرة تعالج موضوع ثبوت الشهر، فروي عن عبد الله بن عمر، وهو أكثر من روي عنه وروي عن أبي هريرة وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن جابر، وعن ابن عباس وعن سعد بن أبي وقاص وعلي بن علي المنذري الحنفي، وهذا ما جمعته وقد يكون لغيرهم أحاديث مروية في كتب الحديث، كلها تدور حول ربط الصوم برؤية الهلال أو لا، حتى أن الحديث الذى أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر لم تقبله عائشة وعلقت أنه وقع في وهم أو خطأ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرتين وقبض إبهامه، فذكروا ذلك لعائشة فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن أنه وهل إنما هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا فنزل لتسع وعشرين فقالوا يا رسول الله إنك نزلت لتسع وعشرين فقال: أن الشهر يكون تسعا وعشرين.)) آهـ.
فكون الشهر تسعًا وعشرين ليس قاعدة وإنما هو مرتبط بالرؤية ومجمل الحديث عندي أن اليمين تحمل على الأرفق وأقل المحامل إذا احتملت أكثر من مستوى. وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر كما قالت عائشة فالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت باللفظ: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) ووردت بالإشارة ((الشهر هكذا وهكذا وعقد أصبعه في الثالثة)) وإذا لم ير الهلال فالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف لفظه فروي ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) . وروي ((فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي رواية ((فإن عفي عليكم فاكملوا العدد)) وفي رواية ((فإن عمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن اغمي عليكم فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن غبي عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) .
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا)) .
الروايات كلها متقاربة وحداتها الأصلية.
1-
إن رؤية الهلال عند غروب شمس يوم التاسع والعشرين توجب تمام الشهر وبداية الشهر الجديد إذ أن اليوم يبدأ من غروب الشمس.
2-
أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين وَرَدَ الأمر باتمام العدد مرة وباتمام ثلاثين يومًا في بعض الأحاديث وبقوله ((فاقدروا له)) .
3-
أنه ربط في بعض الروايات بين هذا الضبط وطريقة إثبات الشهر وبين المستوى العلمي الذي كان عليه أهل الجزيرة العربية في قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية)) وفي رواية البخاري ((إنا أمة أمية)) وما حمله عليه بعضهم من أنه يعني نفسه موجهين ذلك بقوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أن هذا المحمل بعيد إذ ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عن نفسه نحن. ولأنه ما كان يبين حكمًا خاصًا به وإنما كان يبين حكمًا يعم صحابته رضوان الله عليهم إذ طريقة معرفة دخول الشهر حكم يشمل كل المسلمين.
أقوال الفقهاء في طريقة ثبوت الشهر
مذهب الحنفية:
عبارة صاحب الكنز: " ويثبت رمضان برؤية هلاله أو بعد شعبان ثلاثين يومًا ومن رأى هلال رمضان أو الفطر ورد قوله صام فإن أفطر قضى وقيل بعلة خبر عدل ولو قنا أوانثى لرمضان وحرين أو حر وحرتين للفطر، وإلا فجمع عظيم والأضحى كالفطر ولا عبرة باختلاف المطالع."
الملاحظات:
1-
أن مذهب أبي حنيفة التفرقة بين هلال الصوم وهلال الفطر وحالة السماء من صحو أو غيم فالحالات أربع.
الحالة الأولى: أن يكون بالسماء غيم أو مانع وهو المعبر عنه بالعلة ليلة الثلاثين من شعبان فواحد ثقة عدل كاف ولو كان عبدًا أو امرأة والعدل هو مستور الحال أي الذي لم يثبت فسقه حسبما افتى به البزازى وهو خلاف ظاهر الرواية. ابن عابدين ج 2 ص 90 والبحر الرائق ج 2 ص 286.
وعلل ذلك الكاساني بجواز انشقاق قطعة من الغيم ص 985.
الحالة الثانية: أن يكون بالسماء غيم أو مانع ليلة الثلاثين من رمضان فيشترط في ذلك نصوب الشهادة على الأموال، رجلان توفرت فيهما صفة العدالة أو رجل وامرأتان فالاتفاق على عدم قبول المستور في هلال الفطر.
أن تكون السماء مصحية: في الصوم والفطر فيشترط لقبول الرؤية ثبوتها عن جمع كثير يحصل به العلم أو الظن الغالب وروي عن أبي حنيفة الاكتفاء بشهادة عدلين وروى الحسن عن أبي حنيفة الاكتفاء بالواحد. الكاساني ج 2 ص 985.
الجمع الكثير لم يقدر الحد الأدنى للجمع الكثير في ظاهر الرواية وقدره أبو يوسف بخمسين رجلًا قياسًا على القسامة وعن خلف بن أيوب خمسمائة ببلخ قليل وقيل ينبغى أن يكون من كل مسجد جماعة واحد أو اثنان. الكاساني ج2 ص986.
2-
أن هلال ذى الحجة قد اختلف فيه فرواية أنه كهلال الفطر وهو المذهب وروي أنه كهلال الصوم وصححه صاحب التحفة البحر ج 2 ص 290.
وأما بقية الأشهر فقد ذكر الاسبيجابي في شرح مختصر الطحاوى الكبير: "وأما في هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة فإنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين كما في سائر الأحكام وناقشه ابن عابدين في المفهم البحر ج 2 ص 290.
3-
إذا ثبت في بلد فهل يتعدى الحكم سائر الأقطار؟
إذا ثبتت الرؤية في بلد فإنه يجب الصوم على كل بلد يثبت عندهم بطريق صحيح رؤية البلد الآخر ويصوم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وهذا ظاهر الرواية وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى لكن في البحر والأشبه اعتبار اختلاف المطالع فلا يلزمهم برؤية غيرهم كما في التبين ويقول الكاساني في بدائع الصنائع " أما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم البلد الآخر" وقاسه أبو عبد الله الضرير على فطر القائم على المنارة وفطر أهل البلد.
4-
اكمال الشهر ثلاثين يومًا: إذا ثبت دخوله بعدلين رئي الهلال ولم ير في صحو أو غيم.
وإن ثبت دخول الشهر برؤية واحد فإن كان بغيم تم الشهر وإن كان صحوًا فخلاف ويرى محمد تمام الشهر بذلك لأنه حكم بالفطر تبعًا وضمنًا لا استقلالًا ورجح في غاية البيان ما ذهب إليه محمد بن الحسن الشيباني.
5-
أعتماد الحساب: يقول صاحب الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب قال في الوهبانية وقول أولى التوقيت ليس بموجب وقيل نعم والبعض أن كان يكنز آهـ علق عليه ابن عابدين يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم.
وقد حكي في القنية الأقوال الثلاثة فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار صاحب جمع العلوم بأنه لا بأس بالاعتماد على قولهم ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخس أنه بعيد وعن شمس الإئمة الحلواني: أن الشرط في وجوب الصوم والافطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي على أنه لا اعتماد على قولهم.
وفي جعل الحساب ميزانًا لصحة الشهادة وهو ما ذهب إليه السبكي نقل ابن عابدين عن الشهاب الرملي أن المعول عليه الشهادة لا الحساب.
بناء على ما تقدم فالخلاف في اعتماد الحساب في ثبوت دخول الشهر وفي رد الشهادة أن جاءت على خلافه الخلاف ثابت والراجح عدم الأخذ بالحساب واعتمادهم على قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) .
مذهب المالكية:
وذهب المالكية إلى أن الشهر:
1-
يثبت بالرؤية
والرؤية رؤية عدلين ممن يقبل قولهما في الشهادة قال في المدونة: " ولا يصام رمضان ولا يفطر فيه ولا يقام الموسم إلا بشهادة رجلين حرين مسلمين عدلين." وذهب ابن مسلمة إلى قبول رجل وامرأتين، وأشهب إلى قبول رجل وامرأة.
ولا يفرقون بين هلال رمضان وهلال شوال وغيره من الأهلة.
ونقل ابن عبد الحكم أنه رأى أهل مكة لا يقبلون في شهر ذى الحجة إلا خمسين رجلًا ولا يفرقون بين الصحو والغيم.
وذهب سحنون إلى أن الرؤية أن كانت في صحو والمدينة كبيرة ولم يشهد بذلك إلا عدلان فذلك ريبة في شهادتهما توجب ردها قال: "وأى ريبة أكبر من هذا." ولم يحدد العدد الذي يراه حدًا أدنى لقبول الشهادة.
وكما يثبت برؤية عدلين فكذلك يثبت بالرؤية المستفيضة والرؤية المستفيضة تتقوى بكثرة الرائين فلا يشترط عدالة المخبرين. وتحقيق الاستفاضة أن يكون الخبر يبلغ عند السامع درجة الظن القوي بصدقه أو اليقين.
أما بخبر الواحد فلا تثبت الرؤية لا في صحو ولا في غيم ويصوم الرائى وكذا أهله ولا يفطرون برؤية هلال شوال ويقف يوم عرفة حسب رؤيته. البيان والتحصيل ج 2 ص 351.
ملاحظة: إذا ثبت الشهر بشهادة شاهدين ثم كانت السماء صحوًا ليلة الحادي والثلاثين ولم ير الهلا كذب الشاهدان قال مالك "هما شاهدا سوء ولو انفردا بالشهادة على الرؤية ليلة الحادي والثلاثين لم تقبل شهادتهما للتهمة" وحرر ابن عبد السلام ما يترتب على هذا أنه إذا لم ير هلال ذى القعدة وجب قضاء يوم وإذا كانت الشهادة على هلال ذى الحجة ولم ير الهلال المحرم ليلة الحادي والثلاثين فسد الحج. مواهب الجليل ج2 ص383.
2-
ثانيًا: ببلوغ الشهر ثلاثين يومًا حسب الضوابط السابقة.
3-
ثالثًا: الحساب قال ابن الحاجب " ولا يلتفت إلى حساب المنجمين وإن ركن إليه بعض البغداديين" ورووه عن مالك قال ابن برزيزة وهي رواية شاذة في المذهب وقد ذكر ابن العربي في العارضة قال: "كنت رأيت للقاضي أبي الوليد الباهلي رحمة الله أن بعض الشافعية يقول أن يرجع في استهلال الهلال إلى حساب المنجمين وانكرت ذلك عليه لأن فخر الإسلام أبا بكر الشاشى وأبا منصور محمد بن محمد الصباغ حدثاني بمدينة السلام عن الشيخ الإمام أبي نصر الصباغ بباب الرحمن منها قال ولا يؤخذ في استهلال الهلال بقول المنجمين خلافًا لبعض الشافعيين وكذلك أخبرني أبو الحسن بن الطبوري عن القاضي أبي الطيب الطبري عن إمام الشافعية أبي حامد الاسفراييني إمام الشافعية في وقته مثله ثم نقل عن أبي العباس بن شريح أن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) أي منازل القمر لمن خصه الله بهذا العلم وقوله ((فاكملوا العدة ثلاثين)) . خطاب العامة. قال ابن العربي: "وهذه هفوة لا مرد لها وعثرة لا لعًا منها وواصل هجومه إلى أن بلغ من التشنيع أن قال أن فهمه هذا فرق أمة محمد لأمتين أحدهما عددية والثانية عامة الناس عارضة الأحوذى ج3 ص208. ثم نقل عن ابن نافع عن مالك أن الإمام إذا كان يصوم بالحساب أو يفطر أنه لا يقتدي به. ج3 ص211.
وقعد القرافي لعدم الأخذ بالحساب قاعدة ذكرها في الفرق الثاني والمائة بين اعتماد الحساب في أوقات الصلوات وعدم اعتماده في ثبوت الشهر بأن الله ربط الصوم والفطر بالرؤية لا بالخروج من شعاع الشمس خروجًا يمكن من مشاهدته بينما أوقات الصلوات ربطها بزوال الشمس وبلوغ الظل وغروب الشمس ومغيب الشفق ج2 ص129.
رابعًا: تعميم الرؤية على جميع الأقطار: نقل ابن عرفة عن أبي عمر بن عبد البر الاجماع على عدم لحوق حكم رؤية ما بعد الأندلس من خراسان.
وأما ما لم يبعد جدًا فيتعدى حكم ثبوت الشهر إلى غير بلد الرؤية. مواهب الجليل ج2 ص384 البناني ج2 ص192.
مذهب الشافعية:
وذهب الشافعية إلى أن الشهر يثبت دخوله:
1-
بالرؤية، ويشترط في الرؤية أن تكون بعد الغروب وأن تكون بمجرد النظر لا بواسطة مرآة كالمرآة المقربة والبلور الذي يقرب البعيد ويكبر الصغير.
ويكتفى فيها بشهادة عدل واحد على الرؤية إذا قبله القاضي واثبت بذلك دخول الشهر ويشترط فيه العدالة ويخفف في ضوابط العدالة فيقبل حتى مستور الحال وهو الذي يلابس ما يخرم المروءة ولا يقبل شهادة امرأة ولا عبد وقيل لا بد من عدلين ومنهم من فرق بين الصوم وغيره فيقبل في الصوم الواحد وفي غيره اثنان فإن لم يقبل القاضي الشهادة وجب على الرائي الصوم.
وإذا لم ير الهلال في تمام الثلاثين افطروا.
2-
بالخبر المتواتر ولو كان من كفار. التحفة ج3 ص372.
3-
تمام الشهر ثلاثين ومن أتم الشهر على روايته المرفوضة فقد تم الشهر بالنسبة له.
4-
بقول منجم وحاسب: لا يقبل قول منجم وحاسب ولا يجوز لأحد تقليدهما وإنما يعملان به لأنفسهما واختلف في إجزائه وصححه الشرواني نقلًا عن الأمهات.
وذكر ابن قاسم العبادي أن قياس قولهم أن الظن يوجب العمل أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه.
تعدى الرؤية إلى غير محل الرؤية
إذا ثبت في بلد لزم البلد القريب. القرب: = ضبطه بعضهم بمسافة القصر لأن الشارع ربط بها جملة من أحكام العبادات واعتبار المطالع محوج إلى تحكيم النجوم.
وضبطه بعضهم باختلاف المطالع لأن الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ولأن المناظر تختلف باختلاف المطالع والعروض فكان اعتبارهما أولى.
وقدر التاج التبريزى اختلافها بأربعة وعشرين فرسخًا.
وحصل في المجموع أن الأقوال ستة 1- أهل الأرض2- أهل الإقليم 3- بلد الرؤية وماوافقها في المطالع وهو أصحها 4- كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض 5- من دون مسافة القصر 6- بلد الرؤية فقط.
وذهب الحنابلة: إلى أن الشهر يثبت دخوله أن كان هلال رمضان:
1-
برؤية عدل ذكرًا كان أو انثى حرًا أو عبدًا ولا يشترط فيه أيقول: أشهد، ولو انفرد الرائى وسط جمع كثير فإن ذلك لا يكون ريبة.
2-
بتمام شعبان ثلاثين يومًا والسماء صحو.
3-
إذا كان ليلة الثلاثين غيم يمنع الرؤية فنقل الخرقي أنه يجب الصوم أن كانت السماء ليلة الثلاثين مغيمة ونقل عن أحمد أيضا أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، وروى عنه رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان. ج3 ص89.
تعدى الرؤية:
إذا ثبتت الرؤية في بلد تعدت إلى سائر البلدان ولا عبرة باختلاف المطالع. ج3 ص88.
برؤية عدلين في بقية الشهور، إذا صام الناس بشهادة اثنين فلم يروا الهلال بعد ثلاثين يومًا أفطروا في الصحو والغيم وإذا استندوا في صومهم إلى شهادة واحد وكانت ليلة الحادي والثلاثين صحوًا لم يفطروا.
لقد حاولت أن ألخص المذاهب الفقهية لأن ذلك يمثل في نظري قاعدة أساسية للبحث الذي هو توحيد الأشهر الإسلامية أو القمرية.
إن المذاهب الإسلامية قد اختلفت في أمر ثبوت دخول الشهر ونهايته اختلافًا بينًا مما يدل على أن الحديث المستند إليه ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) حديث مجمل والاجمال جاء من نواح عديدة:
1-
أن فاعل المصدر محذوف فقدروه واحدًا مستور الحال وواحدًا عدلًا واثنين وجماعة كثيرة من المسلمين وأدخلوا فيه التواتر عن غير المسلمين.
2-
هل أن رؤيته الأولى ((صوموا لرؤيته)) هي كرؤيته الثانية ((وافطروا لرؤيته)) ؟ فمن قائل بالاتحاد ومن قائل بالاختلاف.
3-
هل الخطاب للمسلمين كافة إذا ثبت الصوم في ناحية وجب على الباقين العمل بما ثبت أولًا؟
4-
هل الصوم والفطر بعد الثبوت هو وضع نهائى أو أن الصوم والفطر يستأنى به؟
5-
هل تغلب الرؤية أو نلغى الرؤية ونأخذ بالأحوط كما هو الحال ليلة الغيم التاسعة والعشرين من شعبان.
6-
وقت الرؤية هل يشترط أن يكون بعد غروب أو يثبت الشهر ولو كانت الرؤية قبل الغروب؟
7-
هل يفطر من رأى هلال شوال ولم تقبل شهادته أو لايفطر؟
إن الاجمال دفع المجتهدين إلى البحث عن البيان فبين كل واحد الحديث حسبما بلغه اجتهاده وهذا يفضي قطعًا إلى اختلاف الأمر لا بين الأمة الإسلامية بل بين العائلة الواحدة حسب ارتباط المقلد بالمجتهد.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه حتى في المذهب الواحد لم يصل الاحتياط في فهم الحديث وتطبيقه إلى منهج مأمون فقد استبان كذب الشهود أو خطؤهم. وقد يكون الأمر مما يمكن تداركه كرمضان إذ غاية ما يترتب عليه أن يصوم الناس واحدًا وثلاثين يومًا أو أن يقضوا يومًا أما في ذى الحجة وبعد أن يقف الناس يوم عرفة ثم يتبين كذب الشهود في نهاية الشهر فإن حج الأمة الإسلامية كلها يكون باطلًا.
ومن ناحية ثالثة في البلدان التي قلما يصحو فيها الجو إذا اعتمدنا الرؤية وحدها فهل نأخذ بقاعدة أنه لا يتوالى إلى أكثر من أربعة أشهر على التمام فيكون الخامس ناقصًا وعلى هذا فقد ألغينا الحديث صوموا لرؤيته أو نستمر على التمام حتى إذا ظهر الهلال ليلة خمس وعشرين قضي الصائمون خمسة أيام وافطروا.
بعض الوقائع:
يقول ابن نجيم: "وقع في زماننا سنة خمس وخمسين وتسعمائة أن أهل مصر افترقوا فرقتين فمنهم من صام ومنهم من لم يصم وهكذا وقع لهم في الفطر بسبب أن جمعًا قليلًا شهدوا عند قاضي القضاة الحنفي ولم يكن بالسماء علة فلم يقبلهم فصاموا وتبعهم جمع كثير على الصوم وامروا الناس بالفطر وهكذا في هلال الفطر حتى أن بعض المشايخ الشافعية صلى العيد بجماعة دون غالب أهل البلدة وانكر عليه ذلك لمخالفة الإمام " البحر الرائق ج2 ص289.
ذكر ابن عابدين: "وقعت هذه الحادثة في دمشق سنة 1239 ثبت رمضان بدمشق ليلة الجمعة بعد شعبان ثلاثين وكان في السماء علة في تلك الليلة ثم استفاض الخبر عند أهل بيروت وأهل حمص أنهم صاموا الخميس لكن استفاض الخبر عن عامة البلاد سوى هذين البلدين أنهم صاموا الجمعة مثل دمشق فهل تعتبر الاستفاضة الأولى في مخالفتها للثانية أم لا؟ بناء على أن الظاهر يقتضي غلط أهل تلك البلدتين نظير ما مر فيما لو كانت السماء مصحية ورأى الهلال واحد لا يعتبر لأن التفرد بين الجم الغفير ظاهر في الغلط مع أنه ليس بين تلك البلاد بعد كثير بحيث تختلف به المطالع لكن ظاهر الاطلاق يقتضي لزوم عامة البلاد ما ثبت عند بلدة أخرى فكل من استفاض عندهم خبر تلك البلدة يلزمهم اتباع أهلها.. إلخ "(منحة الخالق على البحر الرائق ص290.)
قال ابن ناجي في شرح المدونة: "جلس شيخنا أبو مهدي لرؤية هلال شوال بجامع الزيتونة ليلتين ولم ير وانحرف على قاضي القيروان في تسرعه لقبول الشهادة ولو كانت تثبت ما وقع في مسألة. وقال مالك في شهودها ما قال ولم يقع في عصرنا قط ولا بلغنا أنها وقعت في غيره." مواهب الجليل ج2 ص383.
قال الحطاب: " وقد اخبرني والدي رحمه الله أنه وقع لهم في سنة من السنين أن جماعة شهدوا بمكة بهلال ذي الحجة ليلة الخميس حرصًا على أن تكون الوقفة يوم الجمعة ثم عدّ الناس ثلاثين يومًا من رؤيتهم ولم ير أحد الهلال ولكن الله لطف بالناس ولم يفسد حجهم بسبب أنهم وقفوا بعرفة يومين فوقفوا يوم الجمعة ثم دفع كثير منهم حتى خرجوا من بين العلمين ثم رجعوا وباتوا بها ووقفوا بها في يوم السبت ويقع بمكة في مثل هذا الحال أعني إذا وقع الشك في وقفة الجمعة خباط كثير غالبًا" ج3 ص383.
ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: "كنت بالمهدية وكان الوالي نجوميًا فاقتضى حسابه عنده أن الليلة بالهلال وأراد العمل به فلم يكن حتى عضد نفسه بكتاب جاء من البادية أن الهلال استهل البارحة وأخذ المقيمين بها فاتفقوا على انه لا يعمل عليه إلا واحد كان ممن يداخل دولته وينظر في شئ من الحساب فأفتاه بالعمل بذلك الكتاب وعظم ذلك على الناس ولكنهم سلموا الحكم لحكم الله وكان شيخنا أبو القاسم بن أبي حبيب يلعن المفتى بذلك" عارضة الأحوذى ج3 ص211.
نقل الشيخ عبد الباقي الزرقاني عن الشيخ أحمد الزرقاني "إذا لم ير الهلال بالصحو ليلة الحادي والثلاثين يكذبان ولو حكم بشهادتها حاكم وهو ظاهر حيث كان الحاكم به مالكيًا وأما لو حكم به من لا يرى تكذيبهما كالشافعي فإنه يجب الفطر لأن مقتضى حكمه أن لا يراعي إلا العدد خاصة دون رؤية الهلال قاله بعض شيوخنا واعترض عليه بقول خليل فأجاب بما قدمناه فاعترض بأن الشهود قد ظهر فسقهم فينقض الحكم المترتب على شهادتهم فأجاب بأنه لم يظهر فسقهم عند الحاكم بهم بل عند غيره والفسق المضر هو المتفق على كونه فسقًا وقد وقع هذا بالبلاد المصرية سنة ثمان وستين وتسعمائة وافطر شيخنا المتقدم وتبعه غالب الجماعة وامتنع بعض الجماعة من الفطر ذلك اليوم" عبد الباقي ج2 ص192.
أنه لا يمكن توحيد العالم الإسلامي في أعياده وصومه وفطره مطمئنين إلا إذا أخذنا بالحساب إلا أن الحساب الذي قال به مطرف بن الشخير وابن سريح وبعض البغداديين وابن قتيبة والسسبكي في هذا الاتجاه رفضه الفقهاء بقوة وعنف ورأوا فيه مصادمة لنص ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) هذا النص الذي عمل القرافي على جعله قاعدة يختلف بها أمر الصوم عن الصلاة وسكوت ابن الشاط قوى ثقة من جاء بعده على صحة قاعدة القرافي مع أن من المذاهب الرافضة للحساب من ألغى العمل بنص الحديث كأحمد ليلة الغيم ومع أن قصر الرؤية البصرية لم يستطع القرافي أن يؤكده ومع أن مفهوم الرؤية البصرية وحدودها لم يكشف عنه.
كما رأوا فيه مصادمة لقوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة وأرسل بعد ذلك في الثالثة)) .
نعم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وأن التعبير بالأميين على صحابته صلى الله عليه وسلم هو تعبير عن غالب أحوال أشخاصهم من الأمية فهل تبقى الأمية ملصقة بالمسلمين إلى يوم يبعثون؟ الواقع يشهد أن هذه الأمة خرجت من الجهل إلى العلم بفضل توجيه هذا الدين وأن الإسلام دخلت فيه أمم ليست أمية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا إنما هو يكشف عن وضع خاص، هو وضع الأمة الإسلامية وقت البعثة وأن هذا الوصف قد ارتفع قطعًا بعد ذلك يوم أصبح العالم الإسلامي قائد الحضارة البشرية.
كما اعترضوا بأن الأخذ بالحساب لا يتمكن منه كل الناس وهذا أمر لا تختلف فيه الرؤية عن الحساب فكما أن الهلال في أول ليلة هو دقيق لا يتمكن من رؤيته إلا من كان حاد البصر بموقعه لا يتيه بصره في السماء فكذلك الحساب لا يقوم به إلا العالم ولا فرق بين النقص الخلقي والعلمي وقد رأينا أن معظم فقهاء الإسلام يرون في شهادة عدلين برؤية الهلال ما يكفي لثبوت دخول الشهر وشمول هذا الحكم لما لم يبعد جدًا على معنى أن الذين يلزمون بالصوم هم عشرات الملايين من المؤمنات والمؤمنين وأن طريقة الثبوت لم تبلغ إلا من عدد محدود فأي فرق بين هذا وذاك.
على أن الحكم من الصوم والفطر والوقوف بعرفة وما يتقدمه وما يتبعه والنذر وغير ذلك لم يتعلق أي واحد منها بالرؤية وإنما ارتبط الحكم بظرفه الزماني الذي لابد من وجوده لتحقق الامتثال من المكلف للطلب المتعلق بذمته. وهو دخول الشهر. الذي أمارته الحقيقية وضع الهلال في الأفق وضعًا يمكن أن يشاهد وهذا الوضع لم يكن من سبيل من التيقن منه عند البعثة وفي البيئة العربية التي نزل فيها القرآن لم يكن من سبيل إلى ذلك إلى الرؤية وما سوى الرؤية من ذلكم العهد وما تلاه من العهود إلى النصف الأول من القرن العشرين لم يكن بالغًا من الدقة مبلغًا يطمأن إليه أما بعد أن استطاع العقل البشري أن يتخلص بمعداته من جاذبية الأرض وأن يتجاوزها إلى مسابح الكواكب وأعيانها وبما تقوم به الحاسبات الإلكترونية فإن مكان القمر في كل لحظته من بين المجموعة الشمسية أصبح يقينًا إلى درجة قدرت بجزء من ثلاثين ألفًا من الثانية.
إن وسيلة معرفة دخول الشهر هي كوسيلة بلوغ البيت الحرام لأداء فريضة الحج يقول الله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فوسيلة بلوغ البيت الحرام حسب النص القرآني هي أحد أمرين أما المشى على الأقدام أو الركوب على الدواب المهيأة للبلاغ فهل يقبل من أي فقيه أن يقول أن القرآن حصر الأمر في هذين والحاج بالطائرة أو الباخرة أو الصاروخ يكون حجه لاغيًا لأن الله حدد الوسيلة {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ولو أراد مطلق الوصول لقال وأذن في الناس بالحج يأتوك من كل فج عميق.
أنه لابد من أن نعرف الأسباب التي جعلت معظم الفقهاء يقفون من الحساب مواقف مختلفة أن ذلك يعود في نظري إلى أمور.
أولًا: عدم تدقيق المراد من الحساب: قال الحطاب: "ظاهر كلام أصحابنا أن المراد بالمنجم بالحساب الذي يحسب قوس الهلال ونوره، ورأيت في كلام الشافعية أن المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم العلاني والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر." ج2 387. ونقل الأبي عن النووى أنه قال: "عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما تعرف به القبلة ووقت الصلاة." ج3 ص222.
فكلام الفقهاء قد اختلط فيه الحاسب المنجم وقد عطف أحدهما على الآخر في بعض التآليف وانفرد أحدهما عن الآخر في أخرى.
وضبط المراد أول خطوة من خطوات البحث فالمنجم الذي يربط بين طلوع نجم وظهور الهلال ويستدل بالنجم على وجود الهلال هو قد حول الاعتماد من الهلال إلى النجم ومن حق الفقهاء أن يرفضوا ذلك وإذا أخذنا بأن المنجم هو الذي يحسب قوس الهلال ونوره فإنه أيضا مما يتحتم رفضه وذلك لما رواه مسلم عن أبي البختري قال: "خرجنا للعمرة فنزلنا ببطن نخلة: قال تراءينا الهلال فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال: أي ليلة رأيتموه؟ فقلت: ليلة كذا وكذا فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمده للرؤية فهو لليلة التي رأيتموه)) فهذا نص في عدم اعتبار حساب قوس الهلال ونوره.
وما ذكره النووى من عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين. هو حق فلا يؤخذ بقول من اعتمد التخمين والحدس، وألغى طرق المعرفة التي قبلها الشرع وهي الخبر الصادق والحس والدليل العقلي.
ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
يقول الزرقاني في شرحه على الموطأ: "وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله ((فاقدروا له)) فقال الإئمة الثلاثة والجمهور: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا. يقول: قدرت الشئ وأقدرته وقدرته بمعنى التقدير، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يومًا كما جاء مفسرًا في الحديث اللاحق ولذا أتى به الإمام للإشارة إلى أنه مفسر. ولذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا يعني روايته عن عبد الله بن عباس ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) " ج2 ص86.
فالحديث الثاني هو مفسر للحديث الأول لا تعارض بينهما. وذهب الطحاوي إلى أن الحديث الثاني ناسخ للحديث الأول أي أن بينهما خلافًا وأن العمل بالثاني وأن الأول قد بطل العمل به. قال الطحاوى: "معنى التقدير أن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر في الليلة الثانية فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع الساعة علم أنه من تلك الليلة وإن غاب لمنزلتين علم أنه من الليلة الماضية فقضوا اليوم. فمعنى التقدير هو الانتظار اضبط سقوط الهلال في الليلة القادمة."
وقال ابن رشد في المقدمات: "إنه ينظر إلى هذا الذي غم الهلال عند آخره من الشهور فإن كان توالى منها شهران أو ثلاثة كاملة عمل على أن هذا الشهر ناقص فأصبح الناس صيامًا، وإن كانت توالت ناقصة عمل على أن هذا الشهر كامل فأصبح الناس مفطرين إذ لا تتوالى أربعة أشهر كاملة ولا ناقصة على ما علم مما أجرى به الله العادة ولا ثلاثة أيضا ناقصة ولا كاملة إلا في النادر. وإن لم يتوال قبل هذا الشهر الذي غم الهلال في آخره شهرًا، فأكثر كاملة ولا ناقصة احتمل أن يكون هذا الشهر ناقصًا وكاملًا احتمالًا واحدًا يوجب أن يكمل ثلاثين يومًا كما في الحديث الآخر فيكون على هذا الحديثان جميعًا مستعملين كل واحد منهما في موضع غير موضع صاحبه وهذا في الصوم وأما في الفطر إذا غم هلال شوال فلا يفطر بالتقدير الذي يغلب فيه على الظن أن رمضان ناقص" آهـ. مواهب الجليل ج2 ص389.
وهنا أريد لفت النظر إلى الملاحظات التالية:
1-
هو أن هذا النص الذي نقله الحطاب عن ابن رشد في المقدمات لم أجده في المقدمات.
2-
أن هذا النص فيه جواذب لصاحبه تدعوه إلى اعتبار ما أجرى الله عليه العادة وسنته في الخلق وأنها سنن ثابتة مطمئن إليها مكتشفها.
3-
أن الإستثناء ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) هو في الحديث قد ورد بعد قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم..)) فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع نص حديثه الصوم والفطر فتفريق ابن رشد بين الصوم يؤخذ في الصوم بالتقدير ولا يؤخذ في الفطر بالتقدير تفريق لا ينسجم مع نص الحديث.
ثالثًا: المستوى العلمي الذي بلغته البشرية قبل النصف الثاني من القرن العشرين، نعم أن علماء الفلك بذلوا جهودًا جبارة خلال القرون الماضية لمعرفة سير الكواكب ولكنهم لم يبلغوا الدقة والضبط إلا بعد صعود الإنسان إلى القمر فإن توجيه الإنسان الأول إلى القمر لم يكن مجازفة وإنما سبقه يقين بموقع القمر وقد كشفت التجربة عن صحة حساب الفلكيين ولو كان حسابهم مبنيًا على التقريب لضاع المسبار في فضاء الله ولا أمل في رجوعه.
الخلاصة:
من هذا الذي قدمناه يتبين لنا أن طريق ثبوت الشهر:
أولًا: الرؤية البصرية للهلال بعد غروب الشمس: وهذه الرؤية لا تفيد اليقين وذلك لأمور:
1-
احتمال الكذب وإن ما ظهر من العدالة والصدق هو رداء زائف وإن المخبر لا يتورع عن الكذب.
2-
احتمال خداع النظر نتيجة حديث النفس السابق والاقتناع بامكان الرؤية وهذا يقع فعلًا كثيرًا ما يتصور أمام ناظر العين ما لا وجود له إلا في عقل الرائى.
3-
احتمال خداع النظر من حالة العين فمن الأمراض التي تصيب العين أن تحدث شرارات يدركها النظر بعد حدوثها من الداخل ولا وجود لها في الخارج.
وأن الوقائع التي ذكرتها فيما سبق هي كاشفة عما يدخل الرؤية من احتمال الخطأ أو التخطئة.
وليس معنى هذا أن الرؤية لا يجب أن تعتمد بحال فهذا لا يقوله مؤمن ولكن الرؤية البصرية وسيلة اثبات لها حظها من الصحة وليست يقينية ونحن مطالبون بالعمل بالظن كلما تعذر اليقين فإن الظن لا يغني من الحق شيئًا.
ثانيا: الحساب: والحساب اليوم هو غير التنجيم وهو يقيني لا مجال للخطأ فيه إلا أن الحساب يجب أن يضبط بما جاء في الحديث الشريف وهو الرؤية فلا يثبت دخول الشهر بانفلات القمر بعد الاقتران وإنما يثبت دخول الشهر إذا بلغ الهلال بعد خروجه درجة تمكن رؤيته فيها وهي ثمان درجات حسبما يؤكد علماء الفلك والبصر.
ثالثًا: تبين بالتجربة الطويلة أن اعتماد الرؤية تسبب عنه اختلاف الأمة الإسلامية في مواعيد أعيادها ثم تعدى الخلاف إلى أهل البلد الواحد ثم استفحل الأمر أكثر فبلغ الشقاق أعضاء الأسرة الواحدة.
إن ما كان يسع أهل العصور السابقة من الاختلاف بينهم في هذا الأمر هو لا يقبل منا اليوم ذلك أن وسائل الاتصال زادت سرعتها فوحدت العالم كله في العلم بالأخبار.
إن اعتماد الرؤية كانت آثاره غير معقولة فسوريا ابتدأت الصيام هذه السنة يوم الأحد وهي تعتمد الرؤية والسعودية يوم الإثنين وهي تعتمد الرؤية والمغرب يوم الأربعاء وهي تعتمد الرؤية ومعلوم يقينيًا أنه لا يسبق أهل المشرق أهل المغرب والعكس هو الصحيح.
فتأخر المغرب إلى يوم الأربعاء وسبق سوريا بيوم الأحد ظاهرة غير مقبولة لها اثرها في نفس الشباب وتفضي حتمًا إلى أنواع الرفض أو السخرية والاستهزاء.
لذا فإني أقترح على أعضاء المجلس الموقر لمؤتمر الفقه الإسلامي أن يقرروا قرارًا واضحًا بينًا أن الحساب وسيلة يقينية لثبوت دخول الشهور القمرية ونهايتها وأن العبرة بوضع القمر وضعًا تمكن رؤيته. وإن كل دعوى رؤية تخالف الحساب هي دعوى مرفوضة يكذب صاحبها شأن الشهادة بما يخالف الواقع وأن القصد هو العمل على توحيد المسلمين في أعيادهم وفي صومهم ونسكهم.
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.