الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنوك الحليب
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فلا ريب أن الهدف الذي من أجله أنشئت "بنوك الحليب" كما عرضها السؤال هدف خير نبيل يؤيده الإسلام الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أيًا كان سبب ضعفه، وخصوصًا إذا كان طفلًا خديجًا لا حول له ولا قوة.
ولا ريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن، وعمل به المسلمون.
ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقوم بتجميع هذه "الألبان" وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمي " بنك الحليب " مشكورة مأجورة أيضًا.
إذن ما المحذور الذي يخاف من وراء هذا العمل؟
المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابًا في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته، وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاع وهو لا يدري، لأنه لا يعلم من رضع معه من هذا اللبن المجموع.
وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَن من النساء شاركت بلبنها في ذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها من النسب ومن الرضاع، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها من غيرها –على رأي جمهور الفقهاء- لأنهن إخوته من جهة الأب، إلى غير ذلك من فروع أحكام الرضاع.
ولابد لنا هنا من وقفتين، حتى يتبين الحكم جليًا:
1-
وقفة لبيان معنى "الرضاع" الذي رتب عليه الشرع التحريم.
2-
وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع.
معنى الرضاع:
أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم، فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة ابو حنيفة ومالك والشافعي، كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه، مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط!
وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره، ومثله الظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط.
الأولى وهي أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور، وهي أن التحريم يثبت بهما أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم فأشبه الإرتضاع.
وأما السعوط، فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع كالفم.
الرواية الأخرى: أنه لا يثبت بهما التحريم لأنهما ليسا برضاع.
قال في المغني: وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه.
ورجح صاحب المغني الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عن أبي داود ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) .
والحديث حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم وهو ما كان له تأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفي الرضاع القليل وغير المؤثر في التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا، فالحديث إنما يثبت التحريم، الرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولًا وقبل كل شيء.
ثم قال صاحب المغني: ولأن هذا يصل به اللبن حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلًا للتحريم كالرضاع بالفم.
ونقول لصاحب المغني رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفلها يحرمها عليه ويجعلها أمه، لأن التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن، ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .
والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو "الأمومة المرضعة، كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء الآية 23] .
وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، تعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.
فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا، وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة واضح صريح، لأنها تعني إلقام الثدي والتقامه وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة.
ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا فقد وقف عند مدلول النصوص، ولم يتعد حدودها، فأصاب المحز ووفق للصواب.
ويحسن بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيها من قوة الإقناع ووضوح الدليل، قال:
"وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط، فأما من سقى لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلغه أو أطعمه بخبز أو طعام أو صب في فمه أو في أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاؤه دهره كله"، برهان ذلك قول الله عز وجل {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} النساء: 23، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) ، فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع والرضاعة، والرضاع فقط.
ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا، ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة.
وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيئًا منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وإسقاء وشرب، وأكل وبلع وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا.
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في هذا فقال الليث بن سعد "لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء، لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي".
هذا نص قول الليث وهذا قولنا وهو قول أبي سليمان –يعني داود إمام أهل الظاهر- وأصحابنا، يعني الظاهرية.
ورد على الذين احتجوا بحديث: ((إنما الرضاعة من المجاعة)) فكان مما قاله: "إن هذا الخبر حجة لنا، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة، ولم يحرم بغيرها شيئًا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل أو شرب أو وجور أو غير ذلك، إلا أن يكون رضاعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ".
وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليه القلب، هو ما يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع ومعناهما معروف لغة وعرفًا.
كما يتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنها تتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى.
ومعلوم أن الرضاع بهذا المعنى في حالة "بنوك الحليب" غير موجود، إنما هو الوجود الذي ذكره الفقهاء، فلا يترتب عليه حينئذ التحريم.
الشك في الرضاع
على أننا لو سلمنا برأي الجمهور في عدم اشتراط الرضاع والامتصاص لكان هنا مانع آخر من التحريم.
وهو أننا لا نعرف من التي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ وهل أخذ من لبنها ما يساوي خمس رضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دل عليه الأثر، ورجحه النظر، به ينبت اللحم، وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهل للبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟
ففي مذهب الحنفية قول أبي يوسف –وهو رواية عن أبي حنيفة - أن لبن المرأة إذا اختلط بلبن امرأة أخرى، فالحكم للغالب منهما، لأنها منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب، وهنا لا يدرى غالب من مغلوب.
والمعروف أن الشك في أمور الرضاع لا يترتب عليه التحريم، لأن الأصل هو الإباحة فلا ننفيها إلا بيقين.
قال العلامة ابن قدامة في المغني:
"وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده".
وفي "الاختيار" من كتب الحنفية:
امرأة أدخلت حلمة ثديها في فم رضيع، ولا يدري: أدخل اللبن في حلقه أم لا؟ لا يحرم النكاح.
وكذا صبية أرضعها بعض أهل القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية، يجوز، لأن إباحة النكاح أصل، فلا يزول بالشك.
قال: ويجب على النساء ألا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه، أو يكتبنه احتياطًا".
ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعًا في الحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة، وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغير معين، وهو مختلط بغيره.
والاتجاه المرجح عندي في أمور الرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق، وللتوسيع في كليهما أنصار.
الخلاصة:
أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من "بنوك الحليب"، مادام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها، آخذين بقول من ذكرنا من الفقهاء، مؤيدًا بما ذكرنا من أدلة وترجيحات.
وقد يقول بعض الناس: ولماذا لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف، والأخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات.
وأقول:
عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوط والأورع، بل قد يرتقي فيدع ما لا بأس حذرًا مما به بأس.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة.
ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقًا بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر خاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.
على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأوفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة "أحوطيات" تجافي روح اليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بعثت بحنيفية سمحة)) ، ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) ، والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين الملتزمين والمتهاونين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل