المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حول اعتماد الحساب الفلكيلتحديد بداية الشهور القمريةهل يجوز شرعا أو لا يجوز؟مصطفى أحمد الزرقاء - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني

- ‌كلمة معالي سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة معالي الدكتور أحمد محمد علي

- ‌كلمة معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف

- ‌كلمة سعادة الدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌زكاة الديونلفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الديونفضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسىوفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي

- ‌زكاة المستغلات العمارات والمصانع ونحوهافضيلة الدكتور يوسف القرضاوي

- ‌زكاة المستغلاتفضيلة الدكتور علي احمد السالوس

- ‌أطفال الأنابيبفضيلة الشيخ رجب التميمى

- ‌وثائق مقدمة للمجمعالحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعيوما يسمى بشتل الجنينالشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌بنوك الحليبفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي

- ‌بنوك الحليبالدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاشالدكتور محمد على البار

- ‌الإنعاشفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌التأمين وإعادة التأمينفضيلة الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌التأمين وإعادة التأمينفضيلة الشيخ رجب التميمى

- ‌خلاصة في التأمينالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌عقود التأمين وإعادة التأمين في الفقه الإسلاميدراسة مقارنة بالفقه الغربيفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌التأمين وَإعادة التأمينالشَيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌وثائق مقدمَة للمؤتَمرالتأمين وَإعادة التأمينالشَيخ عبٌد الله بن زيد آل مَحمُود

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدالدكتور علي أحمد السالوس

- ‌حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائدفضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌أحكام التعامل في المصارف الإسلاميةالدكتور وهبة الزحيلي

- ‌أحكام التعامل في المصارف الإسلاميةفضيلة الشيخ محمد على عبد الله

- ‌بداية الشهور العربيةفضيلة الشيخ محمد على التسخيري

- ‌توحيد بدايات الشهور العربيةفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌رسالة بلغة المطالع في بيان الحساب والمطالعفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌بدايات الشهور العربية الإسلاميةلفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌حول اعتماد الحساب الفلكيلتحديد بداية الشهور القمريةهل يجوز شرعا أو لا يجوز؟مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌وثائق مقدمة المجمعاجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عاموبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكامفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور بكر أبو زيد

- ‌دراسة حول خطابات الضمانللدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌خطاب الضمانفضيلة الدكتور زكريا البري

- ‌‌‌خطاب الضمَانفضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة

- ‌خطاب الضمَانفضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة

- ‌آراء حَول خطاب الضمَانفضيلة الشيخ محمد على التسخيرى

- ‌جواز أخذ الأجر أو العمولةفي مقابل خطاب الضمانلفضيلة الشيخ / أحمد على عبد الله

الفصل: ‌حول اعتماد الحساب الفلكيلتحديد بداية الشهور القمريةهل يجوز شرعا أو لا يجوز؟مصطفى أحمد الزرقاء

‌حول اعتماد الحساب الفلكي

لتحديد بداية الشهور القمرية

هل يجوز شرعا أو لا يجوز؟

مصطفى أحمد الزرقاء

لا أجد في اختلاف آراء علماء الشريعة المعاصرين اختلافا يدعو إلى الاستغراب، بل إلى الدهشة أكثر من اختلافهم في جواز الاعتماد شرعا على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، في عصر ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني، وأصبح من أصغر إنجازاتهم النزول على القمر ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محددة حول الأرض لأغراض شتى علمية وعسكرية تجسسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأهداف والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغلاف الجوي الذي يغلف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، وسحب بعض الأقمار الصناعية الدوارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء ولتصحيح مدارها إذا انحرفت عنه.

وإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟ ولعل قائلا يقول: أن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية ليبنى عليه ما يتعلق بها من عبارات في الإسلام ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية، بلسان رسولها صلى الله عليه وسلم قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديثه الثابت المشهور عن ابن عمر رضي الله عنهما ((صوموا لرؤيته - أي الهلال - وأفطروا لرؤيته، فإذا غم عليكم فاقدروا له))

وفي رواية ثابتة أيضا: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .

وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم:((فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)) ، وهي تفسير معنى التقدير الوارد في الرواية الأولى.

ص: 741

وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما)) . فجميع الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد والقدر أو التقدير الوارد عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر معناه إكمال الشهر القائم - شعبان أو رمضان - ثلاثين يوما، فلا يحكم بأنه تسع وعشرون إلا بالرؤية وهذا من شئون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة.

هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية لأجل العبادات المرتبطة شرعا بها ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم علمه ووسائله.

ونقول نحن بدورنا: أن كل ذلك مسلم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة فأما إذا ورد النص نفسه معللا بعلة جاءت معه من مصدره فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودا وعدما في التطبيق ولو كان الموضوع من صميم العبادات.

إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر ليس هو النص الوحيد في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم توضح علة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بانقضاء الشهر القائم، وحلول الشهر الجديد الذي نيطت به التكاليف والأحكام، من صيام وغيره.

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها في كتاب الصيام من صحيحه (باب: الصوم لرؤية الهلال) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما)) .

وأخرج أيضا بعده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين)) اهـ.

ومفاد هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أشار (أولا) بكلتا يديه وبأصابعه العشر ثلاث مرات، وطوى في الثالثة إبهامه على راحته لتبقى الأصابع فيها تسعا وعشرين وتارة ثلاثين.

ص: 742

هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر (رواه النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي ج 4 ص / 138 و 140) .

وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع فالرواية التي أكملت الصورة وأوضحت العلة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن بعضها ببعض هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا)) يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة وبيت القصيد في موضوعنا هذا فقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 4/127) : ((لا نكتب ولا نحسب)) (وبالنون فيهما) والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم..لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير..) (1)

والعيني في عمدة القاري قد علل تعليق الشارع الصوم بالرؤية بعلة رفع الحرج في معاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر ونقل العيني عن ابن بطال في هذا المقام قوله: " لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم.

(1) أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلا: " واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا " اهـ. وسنناقش هذه العبارة الأخيرة عن بن حجر ومفهومها فيما بعد

ص: 743

وذكر القسطلاني في إرشاد الساري شرح البخاري (ج 3 ص 359) مثل ما قال ابن بطال.

وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: " أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية

".

(سنن النسائي بشرح السيوطي ج 4/140) .

وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك أي أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.

ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل ولا تتخلف ولا تختلف حتى يعرفوا مسبقا بالحساب الفلكي. وكذا لو كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمأن معها إلى صحته.

وهذا حينئذ - ولا شك - أوثق وأضبط في إثبات رؤية الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو - أي طريق الحساب الفلكي - هو أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد حينما يكون الجو غير صاح والرؤية عسيرة كما عليه بعض المذاهب في هذه الحال.

ص: 744

وواضح أيضا لكل ذي علم وفهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإتمام عدة الشهر القائم ثلاثين حين يغم علينا الهلال بسبب حاجب ما للرؤية من غيم أو ضباب، ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يوما، بل قد يكون الهلال الجديد متولدا وقابلا للرؤية لو كان الجو صحوا، وبالتالي أن اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطر فيه ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبتها حالة الجو ولا نملك وسيلة سواها، فإننا نكون معذورين شرعا إذا أتممنا شعبان ثلاثين وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصم أول يوم من رمضان إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بنص القرآن العظيم.

هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلا وفقها، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية واللاحق وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.

وما دام من البديهيات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت وكانت هي الوسيلة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أميتها هي العلة في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني الذي يعرفنا مسبقا بموعد حلول الشهر الجديد فنعلم به، ولا يحجب علمنا غيم ولا ضباب؟

ص: 745

رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب وسببه

إن الفقهاء الأقدمين وشراح الحديث يرفضون التعويل على الحساب دون الرؤية لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهاياتها للصيام والإفطار ويقررون أن الشرع لم يكلفنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربط التكليف في كل ذلك بعلامات واضحة يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم كما نقلناه سابقا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم.

ولكن يحسن أن ننقل تعليلاتهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا.

وصرح العلامة ابن حجر في فتح الباري بأن تعليق حكم الصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعد من يعرف بالحساب، وقال:" أن الحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم "(الفتح ج 4 ص 127) .

ثم نقل ابن حجر أيضا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظن غالب ".

ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزمن مجرد حدس وتخمين لا قطع فيه وأن نتائجه مختلفة، ولذلك بين أهله فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع بين المكلفين.

ص: 746

ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (ج 2 ص/ 154) عن النووي قوله: " أن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت".

وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال:" وهذا الحديث - أي حديث - ((لا نكتب ولا نحسب)) - ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه وعن تكلفه "(ر: العيني ج 10 / 287) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: " أن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما

ولم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريب " (الفتاوى ج 25/ 183)

وقال في مكان آخر: " وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة "(المرجع نفسه ص / 181)

وقد أكد هذا المعنى في مواطن عديدة من الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع.

هذا ويبدو من كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوئل الشهور القمرية من قبيل عمل العرافين وعمل المنجمين الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقترانها فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: " فالقول بالأحكام النجوبية باطل عقلا ومحرم شرعا، وذلك أن حركة الفلك وإن كان لها أثر ليست مستقلة بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض.."

ثم قال: " والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظا وإما معنى وقال صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) . رواه أبو داود وابن ماجه فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضا متعذر في الغالب

وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، فنبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام (1) من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك

" (الفتاوى ج 25/ 198 - 201) .

(1) مراده أحكام النجوم أي تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ

ص: 747

وقد اشتد شيخ الإسلام رحمه الله على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة، وشنع عليه، وقال: " فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين (الفتاوى 25 / 165- 174) .

الرأي الذي أراه هذا الموضوع:

يتضح من مجموع ما تقدم بيانه ما يلي:

1-

أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أي ليس لديهم علم وحساب يعرفون متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يوما وتارة ثلاثين.

وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية.

بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة، حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم والإفطار بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما حصل في هذا العام، وفي معظم الأعوام الماضية.

ص: 748

2-

أن الفقهاء الأوائل الذين نصوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار بديلا من الرؤية البصرية، وسموه حساب التسيير قالوا إنه قائم على قانون التعديل وهو ظني مبني على الحدس والتخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعيني والقسطلاني) قد بنوا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك (الذي كان يسمى علم الهيئة وعلم النجوم أو علم التسيير أو التنجيم) قائما على رصد دقيق بوسائل محكمة، إذ لم يكن آنذاك المراصد المجهزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية التي تقرب الأبعاد الشاسعة التي يصعب على العقل تصورها والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم وتسجلها بأجزاء من الثانية الواحدة وتقارن بين دورتها بهذه الدقة ولذا سموه بالتسيير الذي يقوم على قانون التعديل حيث يأخذ المنجم الذي يحسب سير الكواكب عددا من المواقيت السابقة ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها ويبني عليه حسابه (وهذا معنى قانون التعديل كما يشعر به كلامهم نفسه) من هنا كان حسابهم حدسيا وتخمينيا كما وصفه أولئك الفقهاء الذين نفوا جواز الاعتماد عليه. وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم (مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظم خطورة من الصوم بإجماع الفقهاء وأشد وجوبا وتأكيدا) كما نقلنا آنفا كلام ابن بطال بأن " لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان

".

3-

أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضا مشكلة خطيرة في عصرهم وهي الارتباط الوثيق حينئذ بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة وبين حساب النجوم. (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى.

ص: 749

فيبدو أن كثيرا من حساب النجوم كانوا أيضا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة التي نهت عنها الشريعة أشد النهى، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:

(الأولى) أنه ظني من باب الحدس والتخمين لا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة - رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات.

(والثانية) وهي الأشد خطورة والأدهى هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم وترهاتهم وشعوذتهم.

وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النكير الشديد الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على من يلجئون إلى الحساب حساب النجوم في أهلال الأهلة بدلا من الرؤية واعتبارهم من قبيل العرافين والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظهم بحركات النجوم وسموا من أجل ذلك بالمنجمين وأتى بشاهد على ذلك الحديث النبوي الآنف الذكر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) .

فلا يعقل أن ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن علم يبين نظام الكون وقدرة الله تعالى وحكمته وعلمه المحيط في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي رغم أنه لم يكن قد نضج وبلغ في ذلك والوقت مرتبة العلم والثقة

4-

أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح، عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة والكهانة واستطلاع الحظوظ من زعم حركات النجوم وأصبح علم الفلك قائما على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة والحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد حركات الكواكب بأجزاء من الثانية وأقيمت بناء عيه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة تستقبل مركبات تدور حول الأرض إلخ فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية؟

ص: 750

ملاحظة مهمة:

نقلنا سابقا أن العلامة ابن حجر رحمه الله في فتح الباري عندما بين أن حساب التسيير أي علم النجوم وسيرها لا يعول عليه في الحكم ببدايات الشهور القمرية لأنه ظني قائم على الحدس والتخمين قال بعد ذلك:علق الشارع الحكم بالصوم وغيره بالرؤية" لرفع الحرج عنهم واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك

بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا" اهـ.

فنقول: أن رأينا اليوم بجواز اعتماد الحساب الفلكي ليس معناه (تعليق الحكم في الصيام وغيره بهذا الحساب أصلا) بل إننا نقول بأن حكم الشريعة باعتماد الرؤية البصرية باق إلى يوم الدين على أنه هو الأصل ذلك لأن الشرع الإسلامي الأخير الخالد لا يمكن أن يربط حكما شرعيا بأمور تتوقف على علم قد يوجد وقد لا يوجد وقد تفقد قواعده وعلماؤه بعد الوجود فمن يتصور هذا التصور يكون من أجهل الجاهلين بخطة الإسلام ونهجه في بناء الأحكام.

وإنما مرادنا بإمكان اعتماد الحساب الفلكي اليوم هو أنه جائز لا مانع منه شرعا - بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الدقة المدهشة واليقينية - طريقا مقبولا لا يحقق ما تحققه الرؤية، بصورة أيسر وأبعد عن الخطأ مع بقاء الرؤية هي الأصل بمعنى أنه إذا فقد هذا العلم بسبب عام أو في بعض البلاد بقيت الرؤية مستندا في الحكم. فكثيرا ما يمكن في الشرع اللجوء إلى بديل عن أصل مع بقاء ذلك الأصل ومن أمثلة ذلك أن الأصل أن يكون الإنسان ملتزما بنتائج ما بصدر عنه من تصرفات باشرها بنفسه فيما يتعلق بحقوقه والتزماته ولكن تقبل الوكالة بديلا من تصرفه بنفسه للحاجة مع بقاء الأصل وهكذا في كثير من الأحكام الشرعية.

فتصور أن قبول الحساب الفلكي في موضوعنا يستلزم أن يكون ذلك هو الأصل في حكم الصوم والإفطار دون الرؤية خلافا للحديث النبوي هو تصور غير وارد.

ص: 751