الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد
فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
للوقوف على الحكم الشرعي للتعامل المصرفي المعاصر بالفوائد، يبدو لي أنه يلزم النظر المتأمل في عدة أشياء لتجلية معانيها وتوضيحها بصورة لا لبس فيها ولا غموض بقدر الإمكان؛ ليكون ذلك مدخلا إلى الغرض المطلوب.
من ذلك كلمة (الربا) ومدلولها العرفي الذي يفهمه العربي عند إطلاقها؛ لأهمية ذلك في تحديد الربا الجاهلي الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم، وهل يتناوله ذلك التعامل المصرفي المعاصر، أم لا؟..
ومنها كلمة (الفائدة) وتحديد معناها اللغوي والاصطلاحي القديم والمعاصر وهل يتفق ذلك مع المفهوم العرفي لكلمة (الربا) أم يختلف عنه؟.. وفي ضوء ذلك يمكن إدخالها في نوع الربا القرآني، أو استبعادها منه، ومن ثم يسهل الوصول إلى الحكم الشرعي لها. وإذن فلنتكلم عن كل من هذين الأمرين حسب الترتيب أعلاه..
معنى الربا
ما هو مدلول كلمة الربا في لغة العرب؟ وما هو مدلولها في عرفهم؟ وما هو معناها في الاصطلاح الشرعي؟
أولا: في اللغة – الربا في اللغة معناه الزيادة مطلقا من غير اختصاص شيء معين – من ربا الشيء يربو ربوا – أي زاد، ومنه قوله تعالى:{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي زائدة، وقوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي زادت.
ثانيا: في الاصطلاح:
الربا في الاصطلاح جاء على نوعين: -
النوع الأول: ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن الكريم في عدد من الآيات، منها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلخ. (2)
وهذا النوع من الربا له صورتان في مفهوم العرب، عرف بهما عندهم وتعاملوا به فيما بينهم وصار بهما حقيقة عرفية عندهم.
1 – الصورة الأولى: الزيادة على أصل الدين عند حلول الوفاء، وتأجيله مدة أخرى للعجز عن الوفاء.
2 – الصورة الثانية: الزيادة على دين القرض عند العقد ابتداء.
وهاتان الصورتان لمفهوم الربا في الجاهلية واللتان يتناولهما النص القرآني في عدد من الآيات ذكر كلا منهما عدد من المفسرين صراحة، وإن كان بعض المفسرين قد اقتصر على الصورة الأولى منهما، ربما لشهرتهما وكثرة جريانها عند العرب.
والذي يؤكد الصورة الثانية بما لا يقل عن الصورة الأولى شهرتها لدى اليهود على مدى التاريخ، وقد كانوا مستوطنين يثرب – المدينة المنورة – قبل الإسلام وفي مطلعه قبل إجلائهم، ولا يعقل أن تكون ممارستهم للربا بهذه الصورة، خافية على جيرانهم العرب على الأقل، أن لم يكونوا قد مارسوها مع اليهود أو فيما بينهم بعد أن تعلموها منهم.
وهذا ما يجعل تناول النص القرآني لها أمرا مؤكدا في مفهوم العرب آنذاك وما جرى به عرفهم.
(1) سورة آل عمران الآية (130)
(2)
سورة البقرة – الآيات 275 – 280.
أقوال المفسرين
وإليك بعض ما قاله المفسرون عن هاتين الصورتين للربا الجاهلي المحرم بالقرآن:
عن الصورة الأولى: قال ابن جرير الطبري: " قال قتادة: أن ربا الجاهلية، يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه. وعن زيد بن أسلم قال: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضي أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، أن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين – الذهب والفضة – يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فيكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يعضه ". (1) وقال: عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا نزيدكم وتؤخرون، فنزلت:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (2) ويكاد يكون جميع المفسرين بعد ابن إسحاق قد تكلم بهذا المعنى عن هذه الصورة لربا الجاهلية.
أما الصورة الثانية لربا الجاهلية – المتمثلة في ربا القرض فقد ذكرها عدد من المفسرين عند تعرضهم لتفسير آيات الربا ونوردها فيما يلي نقلا عن كتابنا (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) ص (261) وما بعدها، (قال أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن عند تفسيره لقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} قال: والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استعرض على ما يتراضون به، هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى:{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فأخبر أن تلك الزيادة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة القرض) .
(1) ابن جرير الطبري، جامع البيان، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف.
(2)
ابن جرير الطبري، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف.
ثم قال: ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل، مع شرط الزيادة. (1)
وقال الفخر الرازي في تفسيره: أن ربا النسيئة، هو الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء، زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا يتعاملون به (2)
ومثل ما قاله الفخر الرازي ذكره ابن حجر الهيثمي فقال: " وربا النسيئة هو ما كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره – أي إلى أجل – على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله، فإذا حل الأجل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل، ثم قال: وتسمية هذا بنسيئة – مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا – لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا ". (3)
(1) أحكام القرآن ج 1 ص 465
(2)
مفاتيح الغيب – المشهور بالتفسير الكبير ج 2 ص 529
(3)
الزواجر عن اقتراف الكبائر ج 2 ص 222 طبعة مصطفى الحلبي
أقوال الفقهاء
تلك كانت أقوال المفسرين في ربا الجاهلية الذي تناولته آيات القرآن ومنه القرض بزيادة مشترطة عند العقد، فإذا انتقلنا إلى أقوال الفقهاء، فإنا نجد عددا منهم يعتبر القرض بزيادة عند العقد صورة أخرى من صور ربا الجاهلية المحرم بالقرآن، قال الكمال ابن الهمام:" الربا: يقال لنفس الزائد، وفيه قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} أي الزائد في القرض والسلف على المدفوع.. ويقال لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . أي حرم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع ". (1)
وهذا كلام صريح بأن الزيادة في القرض عند العقد هي من ربا الجاهلية المحرم بنصوص القرآن الكريم.
ربا الديون، وربا البيوع
ونجد ابن رشد الحفيد يقسم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع – فيقول:" اتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيوع، وفيما تقرر في الذمة، من بيع أو سلف أو غير ذلك ". (2) وهو تقسيم دقيق، اتجه إليه أغلب العلماء في هذا العصر، ويدخل في ربا الديون إحدى صور ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن – وهو ربا النسيئة – أي الزيادة في الدين في نظير الأجل، سواء نشأ ربا الدين عن قرض بزيادة مشترطة عند العقد، أو بيع مؤجل أعيد تأجيله بربا للعجز عن الوفاء عند الأجل الأول، وعلى ذلك فربا الديون هذا قاصر على النساء فقط ولا يدخله ربا الفضل.
أما ربا البيوع فهو شامل لربا الفضل، وربا النسيئة كل على حدة – حسب التقسيم القديم المعهود، وقد يجتمعان معا في وقت واحد كما في بيع الربوي بجنسه مع التفاضل – كبيع أوقية من الذهب بأوقية وربع الأوقية، إلى أجل شهر مثلا.
ونعود إلى ابن رشد فنجده يستطرد قائلا: " فأما الربا الذي تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية: الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة، وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك. وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: ((ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب)) . (3) فابن رشد يجعل السلف بزيادة من صنف ربا الجاهلية المنهي عنه بالقرآن الكريم – وهو القرض بزيادة، وهو كما يقول صنف متفق عليه.
ويقول ابن قدامة: "وكل قرض شرط أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن السلف إذا شرط على المستلف زيادة أم هدية، فأسلف على ذلك: أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". (4)
(1) فتح القدير على الهداية ج 5 ص 274 الطبعة الأميرية.
(2)
بداية المجتهد ج 2 ص 128 – طبعة دار المعرفة.
(3)
بداية المجتهد – طبعة دار المعرفة.
(4)
المغني لابن قدامة ج 4 ص 360.
ومن أقوال المفسرين والفقهاء التي سردناها يتبين بجلاء أن القرض بزيادة مشترطة عند العقد هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن والذي كان مفهوما لدى العرب ومعلوما لهم من كلمة الربا عند إطلاقها، وهو من ربا الديون، وليس من ربا الفضل الذي حرمته السنة المطهرة، والذي لا يكون إلا المبيعات، ولا يدخل في ربا الديون بحال.
ولقد حاول بعض العلماء المعاصرين إدراج ربا الفضل المشترط فيه الزيادة عند العقد ربا الفضل، للوصول بذلك إلى إباحته للحاجة الملحة، على أساس أن ربا الفضل من باب سد الذرائع كما يقول ابن القيم وما كان من هذا الباب يجوز عند الحاجة الملحة (1) ، كما يقولون.
وهذا الرأي غير صحيح لما تقدم من اعتبار ربا القرض المشترطة فيه الزيادة من ربا الديون، والذي هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن ونهى عنه وليس هو من ربا البيوع – الذي يدخل ضمنه ربا الفضل.
ولأن الزيادة مع الأجل ليست فضلا وإنما هي عوض الزمن الإضافي ومقابل له، ولا يكون الفضل إلا حيث لا مقابل – فالزيادة تكون فضلا إذا كان تبادل العوضين حاضرا – أما مع الأجل فهي نساء في مقابل الأجل وليست فضلا.
(1) رسالة الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ رشيد رضا ص 15 وفتاويه ج 2 صفحات 607، 608.
النتيجة المنطقية
فهذه النصوص المختلفة فيما نقل من فعل أهل الجاهلية بشأن القرض، توضح أنهم كانوا يفعلون ذلك في الغالب – على الأقل – بزيادة مشروطة في العقد – أي بما نسميه الآن في المصارف بالفائدة – وقد يكون في بعض الأحيان قرضا حسنا حسبة للمعوزين.
فكيف يقال: أن الزيادة التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل "ربا" – سواء أكان أصل الدين قرضا أم ثمن سلعة – أما الزيادة التي زيدت على المستلف في مبدأ الإقراض، والثانية التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل، وبهذا يتناسق التشريع – كما هو الشأن في تشريعات الإسلام – والأمر الثاني: أن يقع في التناقض – وحاشا لله، وهو أمر مستحيل) (1) فلم يبق إلا التسوية بين الزيادتين في الحكم واعتبار النص القرآني متناولا لهما معا، وإجراء حكمه عليهما.
ومن جهة ثانية، فما دمنا كلنا متفقين على أن القرض الجاهلي كان بعضه حسنا وبعضه الآخر بالزيادة المشروطة في أصل العقد وهذه الزيادة مماثلة للزيادة اللاحقة بعد الاستحقاق والتأجيل مرة أخرى. فلا مفر من التسوية بينهما في الحكم، إلا بدليل يخصص إحداهما بالحكم دون الأخرى. وليس بين يدينا هذا الدليل، فتكون التفرقة بينهما في الحكم تحكمًا.
(1) ربوية الفوائد المصرفية، للشيخ عثمان صافي المكتب الإسلامي – 28 بيروت.
ربا البيوع
ذكرنا فيما مضى تقسيم الربا – كما جرى حديثا- إلى ربا ديون وربا بيوع، وأن هذه الطريقة أوضح وأبين من الطريقة القديمة – التى كانت تقسم إلى ربا نسيئة وربا فضل، لأن الأخيرة فيها كثير من الخلط وعدم الوضوح.
وتكلمنا عن ربا الديون، وكيف أن ربا الجاهلية المحرم بالقرآن هو من هذا القبيل، ومنه ربا القرض المشترط فيه الزيادة عند العقد.
وننتقل الآن للحديث عن ربا البيوع في شئ من الإيجاز لبيان صورته المقابلة لربا الديون – بالرغم من قلة حاجتنا إليه في بيان (حكم التعامل المصرفى بالفوائد) الذى هو موضوع بحثنا – حيث يقع في نطاق ربا الديون – كما سيأتى إن شاء الله.
فنقول: أن ربا البيوع: هو الذى حرمته السنة النبوية الشريفة بقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عبادة بن الصامت قال:((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن ماعدا الترمذى. وما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجر)) .. متفق عليه (2) . فهذان الحديثان الصحيحان وأحاديث أخرى مثلهما في هذا الباب جاءت بتحريم نوع معين من البيوع وسمته ربا – وهو ما يطلق عليه ربا الفضل تغليبا للفضل على ربا النسيئة – وهو في الواقع يشمل ربا الفضل وربا النسيئة كما قدمنا..
ولم يكن هذا النوع من البيوع معروفا لدى العرب في الجاهلية بكونه ربا، وإن كانوا يتعاملون به، ولكنه لم يكن معروفا عندهم بكونه ربا، لا لغة ولا عرفا (3) ، وإنما أصبح ربا بالسنة النبوية التى أوردناها في الأحاديث السابقة، وكله متعلق بالبيوع سواء كان بيع النقدين أو غيرهما من الأصناف الربوية التى وردت في الأحاديث النبوية الصحيحة، أو ما قيس عليها من الأموال الأخرى لدى القائلين بالقياس من الفقهاء.
وهذا النوع من الربا مجمع على تحريمه كالنوع الأول المتعلق بالديون والمحرم بالقرآن – ماعدا ما نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما من إنكار لربا الفضل، استنادا إلى حديث أسامة بن زيد (لا ربا إلا في النسيئة) . وقد قيل أن ابن عباس رجع عن إنكاره لربا الفضل (4) .
(1) نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 300
(2)
نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 297
(3)
أبوبكر الجصاص، أحكام القرآن ج 1 ص 464، ومحمد أبو زهرة، بحوث في الربا ص33
(4)
تكملة المجموع، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 31-34
أساس تقسيمات الربا ودليل كل نوع
والأساس الذى قام عليه تقسيم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع. وأن الأول ثابت بالقرآن الكريم – وهو ربا الجاهلية. والثانى ثابت بالسنة الصحيحة ولم يكن معروفا بكونه ربا عند العرب في جاهليتهم.
هو أن الألف واللام في كلمة (الربا) التى وردت في القرآن إنما هى للعهد على الأصح وليست للعموم والاستغراق، كما أنها ليست مبهمة بحيث تحتاج إلى بيان بأمر آخر، كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين (1) . بأكثر من ثمن الأصل، وكالصوف واللبن وتمر النخيل، إذا كانت أصولها للقنية – فهذه كل فائدة مستفادة (2) فمعنى الفائدة في الاصطلاح الفقهى أخص من المعنى العام اللغوي لهذه الكلمة، أما معنى الفائدة في الاصطلاح المصرفي فهو (الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) ، وهو بعيد عن معناها في الاصطلاح الفقهى ولكنه يدخل في المعنى اللغوي العام للكلمة.
معنى الربح: فإذا انتقلنا إلى وجه آخر من وجوه الكسب المشروعة وهو الربح، فإنا نجد الفقهاء يعرفونه بأنه:(زائد ثمن مبيع تجر – أي تبادل تجاري – على ثمنه الأول ذهبا أو فضة)(3) أي أن الربح هو الزائد عن ثمن السلعة المشتراه منذ البداية بنية بيعها تجاريا، أما إذا لم يكن الزائد عن ثمن سلعة مشتراه بغرض ونية الاتجار بها فإنه لا يسمى ربحا، وقد يسمى فائدة كما مر، أو قد يسمى غلة على ما سيأتى، ولابن قدامة الحنبلى قول في معنى الربح يطابق تعريف المالكية له، وذلك في معرض كلامه عن زكاة نماء عروض التجارة قال:" أن الزكاة لا تجب إلا في مال نام.. وإن النماء. "
(1) انظر الودائع المصرفية، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 274- 279
(2)
جواهر الإكليل – شرح الرسالة، للشيخ صالح الأبى ص 338، وحاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 1 ص 431
(3)
شرح الخرشي على خليل ج 2 ص 183
معنى الفائدة المصرفية
ذكرنا في التمهيد: أننا لكي نصل إلى حكم سليم للتعامل المصرفي بالفائدة لابد لنا من توضيح مفاهيم كلمة الربا وكلمة الفائدة توضيحا كاملا لنتمكن بذلك من عقد المقارنة بينهما ثم نرى ما إذا كان بينهما التقاء كلي أو جزئي أم لا، فإن التقيا التقاء تاما أخذت الفائدة المصرفية حكم الربا الذى شرحناه. وإلا، أصبحت آخر ويأخذ حكما مختلفا.
ولقد أوفينا كلمة (الربا) حقها بعض الشئ، من الشرح والتوضيح وننتقل الآن لشرح وتوضيح كلمة الفائدة، في اللغة العربية، وفى الاصطلاح الفقهي، وفى الاصطلاح المصرفي. ولزيادة الإيضاح نذكر معانى بعض الكلمات الشبيهة بالفائدة من حيث كونها أسماء لبعض وجوه الكسب.
كالغلة، والربح، لمعرفة ما إذا كانت الفائدة تمثل واحدة منهما. ونبدأ بالفائدة فنقول:
1-
الفائدة في اللغة: جاء في تاج العروس: " أن الفائدة ما افاء الله تعالى العبد من خير يستفيده ويستحدثه "(1) وقال في ترتيب القاموس " الفائدة: ما استفدت من علم أو مال جمع فوائد "(2) وهذا معنى عام يشمل المال وغيره وسواء أكان المال مشروعا مكتسبا بوجه مشروع أم لا.
2-
أما الفائدة في الاصطلاح الفقهي فهي: " ما تجدد – أي نتج – لا عن مال كميراث وعطية، أو عن مال غير مزكى كالزائد من ثمن عروض القنية – إذا بيعت في الغالب في التجارة إنما يحصل بالتقليب "(3) والنماء – أي – الزيادة التى تحصل من تقليب التجارة بيعا وشراء، - هو الربح دون شك، فالربح إذن عند ابن قدامة كما هو عند فقهاء المالكية هو ما نتج عن عملية تبادل تجاري، تقلب فيه النقود إلى عروض تجارية، ثم تباع هذه العروض التجارية بثمن أزيد من ثمن شرائها، فهذه الزيادة عن الثمن الأول تسمى في الاصطلاح الفقهي ربحا.
3-
معنى الغلة: الغلة في المصطلح الفقهي هي: " ما تجدد – أي نتج – من سلع التجارة قبل بيع رقابها، كالصوف واللبن وتمر النخيل المشترى للتجارة، وكزيادة المبيع في ذاته، إذا اشتراه للتجارة صغيرا بعشرين، ثم باعه بعد كبره بخمسين مثلا"(4) فهذه الزيادة لا تسمى ربحا، وإنما تسمى غلة.
(1) تاج العروس من ظواهر القاموس ج 8 ص 517
(2)
ترتيب القاموس المحيط ج 3 ص 478
(3)
المغنى ج 3 ص 34
(4)
المغني ج3 ص34
اختلاف المعنى العرفي المصرفي
للفائدة عن المعنى الشرعى لها
ومن الشرح المتقدم لبيان معانى بعض أوجه الكسب المشروع يتبين لنا أن المعنى الاصطلاحي للفائدة المصرفية يختلف عن معنى هذه الكلمة في الاصطلاح الفقهي كما يختلف عن غيره من أوجه الكسب المشروع الأخرى لأنها كما تقدم.
(هى الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) أي مقابل اقتراضها بزيادة لأجل محدد. فهي لا تتفق مع معنى الربح الشرعي، ولا مع معنى الغلة الشرعية في المصطلح الفقهي.
انطباق معنى الربا على الفائدة المصرفية
وإذا كان معنى الفائدة المصرفية التى يجرى التعامل المصرفي بها في الوقت الحاضر لا ينطبق على مفهوم الفائدة، ولا الغلة ولا الربح في الاصطلاح الفقهي فهل ينطبق معناها على الربا الشرعى المتقدم ذكره، ويأخذ حكمه في الشرع، أم يختلف عنه كما اختلف مع تلك الأشياء؟
لقد ذكرنا من قبل أن تعريف الفائدة المصرفية الذى يقول (إنها الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) معناه أنها الزيادة مقابل إقراض النقود إلى أجل – وهذا معنى القرض بزيادة مشروطة عند العقد والذى بينا من قبل أنه إحدى صورتي ربا الديون المعروف في الجاهلية والذى حرم بنص القرآن الكريم في عدد من الآيات.
يتضح ذلك بجلاء إذا علمنا أن المبالغ المالية التى تستخدمها – المصارف – أي تقدمها في عمليات الإقراض المباشر وغير المباشر للمتمولين – أي طالبى التمويل من التجارة وأصحاب الأعمال الأخرى، وتأخذ مقابل ذلك مبالغ محددة سلفا، زيادة على أصل المبلغ تسمى (بالفائدة) هذه المبالغ ما هي في الغالب إلا الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار.
وهذه الودائع المذكورة متفق على أنها قروض في فقه القانون وفي التشريعات القانونية بل وفي تخريجها الشرعي.
كما أن البنوك نفسها تدفع لأصحاب هذه الأموال التى يودعونها لديها مبالغ عائدة على أصلها عند ردها لأصحابها – مشروطة تلك المبالغ الزائدة عند استلامها باعتبارها قروضا مباشرة (بالفائدة) .
فالفائدة إذن ما هى إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالتى الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار، ويدل على ذلك عدم وجودها في الودائع الجارية – أي تحت الطلب – مع كونها معتبرة قروضا أيضا في الفقه القانون والتشريع.
كما أن الفائدة زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة البنك في حالة إقراضه للمتمولين الآخرين.
فهي على هذا الوجه أو ذلك زيادة مشروطة في قرض مؤجل، وبذلك تلتقى تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد، وتمثل بذلك إحدى صورتي ربا الجاهلية الذى حرم تحريما قاطعا بنص القرآن الكريم، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية، حتى أن أبا بكر الجصاص بالغ في توكيدها حتى قال " ولم يكن تعاملهم – أي عرب الجاهلية – بالربا إلا على هذا الوجه الذى ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة (1)
(1) أحكام القرآن ج 1 ص 465
شاهد من أهلها
والفائدة المدفوعة كثمن لاستعمال النقود، كانت تعتبر (ربا) عند أصحابها الغربيين انفسهم، ولكن التطور التجاري والصناعي والحاجة إلى الائتمان لمواجهة هذا التطور جعلهم يتنازلون عن تشددهم على أخذ الفوائد، ويقصرون اسم الربا على ما زاد الذى سمح به عن القدر القانون أو العرف (1) .
بل أن بعض كبار علماء الغرب من لا يزال يسمى الفائدة المصرفية مهما قلت (ربا) ينقل في ذلك الدكتور عيسى عبده عليه رحمة الله عن اللورد كينز أحد أعمدة الاقتصاد الغربي قوله " وحين تتوافر رؤس الأموال المتاحة للتوظيف في صورة مدخرات خاصة أو جماعية فإن سعر الفائدة يهبط بطبيعته إلى الصفر، ولا يبقى مجال يعيش المستثمر المتبطل على حساب المجتمع بما يقتضيه من فائض ربوي في صورة فائدة، أو ربح فاحش"(2) .
(1) د. سامى حسن محمود، تطوير الأعمال المصرفية ص 294
(2)
وضع الربا في بناء الاقتصاد الإسلامى ص 185-186
ربا القرض ليس قاصرا على الأموال الربوية
كما ذهب بعض آخر من الكتاب إلى أن (الفوائد) التى يتعامل بها الناس في النظام المصرفى المعاصر تجرى في نوع من المال الذى يعتبر من نوع الفلوس وليست من نوع الذهب والفضة – والفلوس فيما يرى ليست أثمانا كالذهب والفضة حتى يجري فيها الربا (1) .
ومع اختلافنا مع هذا الفريق في قوله بعدم ربوية الفلوس والنقود الورقية المعاصرة، فإننا نقول إنه فرض صحة هذا الرأى، فإن هذا لا ينطبق على ربا القروض. ذلك أن (الربا) القرض يسرى في جميع الأموال ما كان منها ربويا في الأصل كالأصناف الستة الواردة بالأحاديث النبوية الشريفة كالذهب والفضة والبر والشعير.. إلخ، وما كان منها غير ربوي في الأصل –على رأي هذا الفريق – كالفلوس المصنوعة من الحديد والنيكل والبرونز، والأوراق النقدية في الوقت الحاضر، فبمجرد قرض شئ من هذه الأشياء تصبح الزيادة فيه (ربا) لأن القرض يجب أن يرد كمثله دون زيادة مهما كان نوعه من الأموال، باتفاق العلماء. قال ابن حزم في كتابه المحلى " الربا لا يكون إلا في بيع أو سلم أو قرض.. وهو في القرض، في كل شئ فلا يحل إقراض شئ ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلا، لكن مثل ما اقرضت في نوعه ومقداره.. وهذا إجماع مقطوع به"(2) وقال " وأما القرض فجائز في الأصناف الستة التى ذكرناها وغيرها، وفى كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك، ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد فقط وهو اشتراط أكثر مما أقرض، أو أقل مما أقرض، أو أجود مما أقرض، أو أدنى مما أقرض، وهذا مجمع عليه"(3) ولذلك كله فإن الفوائد المصرفية باعتبارها قرضا بزيادة مشترطة تظل ربا محرما بأى نقد كانت.
(1) د. أحمد صفى الدين، في كتابه "بحوث في الاقتصاد الإسلامى" ص 37 وما بعدها.
(2)
المحلى ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى
(3)
المحلى، ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى
وضوح القضية
من المسار المتقدم أصبح أمر الفوائد المصرفية جلى وواضح بدرجة فيما نعتقد لا لبس فيها ولا غموض – وهو أنها نوع من ربا الديون الناشئة عن قروض بزيادة مشترطة في أصل العقد، ومتفق عليها منذ البداية بين طرفيه، وهى والحال هكذا أمر لا ريب في حرمتها حرمة مغلظة باعتبارها صورة لربا الجاهلية الذى شجبه القرآن وحرمه وأنذر متعاطيه بحرب من الله ورسوله، وهو أشنع أنواع الوعيد.
وكان بعض الزملاء بمعهد البحوث الإسلامية بالبنك الإسلامى يرى أن موضوع (حكم التعامل المصرفي بالفوائد) أصبح أمرا معلوم الحرمة لدى الرأي العام الإسلامي باعتباره ربا، ولم تعد هناك حاجة لإنفاق الوقت في دراسته دراسة جديدة.
ولكن يبدو أن هؤلاء الإخوة لم يطلعوا على وجهات نظر بعض المهتمين بالكتابة في هذه المسائل والذين لم يصلوا إلى القناعة التى يشير إليها الإخوة المعترضون على دراسات جديدة في هذا الموضوع وقد أشرنا فيما تقدم لبعض وجهات نظر هذا الفريق (1) .
فكان لابد أن تقوم بعض المعاهد المختصة بهذه المسائل، وخاصة مجمع الفقه الإسلامي بتقديم دراسات علمية مستوفاة تستنفر لها ما تيسر لها الوصول إليهم ممن تأنس فيهم المقدرة على أداء هذه المهمة من علماء المسلمين ثم تبنى على ذلك قرارات تكون هى المرجع والممثل لوجهة النظر العامة للمسلمين في هذا الموضوع.
(1) انظر ص 7
هل الفائدة المصرفية من باب السلم
من جهة أخرى ذهب بعض الباحثين إلى أن الفائدة المصرفية ليست فضلا – أي زيادة في قرض: -
1-
لأن الأموال التى تسلمها البنوك أو تدفعها بأجل للمقترضين ليست هى في الحقيقة قرضا، لأنها مؤجلة، والأجل لا يجوز في القرض عند الشافعية.
2-
وأن تلك الأموال تدخل في عقد السلم، لأن السلم يجوز فيه الأجل عند الشافعية.
3-
أن الربا في السلم لا يقع في الأموال غير الربوية – الذهب والفضة، والبر، والشعير.. إلخ.
وبما أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية – كمثل الفلوس – في مذهب الشافعية، فإنه يرى الفائدة المصرفية ليست من ربا البيوع وعلى ذلك فإن الفائدة حلال.
وهذه القضية كما طرحها صاحبها غير صحيحة، وإليك نقضها فيما يلى:
المسألة المسارة بين الفقهاء حول الأجل في القرض – والتى بنى عليها هذا الباحث رأيه في جعل الأموال التى تتداولها البنوك أخذا أو عطاء مع عملائها، نوعا من السلم- هى: هل الأجل في القرض ملزم أم لا- بمعنى أنه يلزم المقترض رد القرض وقتما يطلب ذلك منه المقترض ولو كان له أجل مضروب ولم يحل وقته؟ قال الفقهاء كلهم الشافعية وغيرهم ما عدا المالكية، قالوا: " نعم يلزم رد القرض بمجرد طلبه بصرف النظر عن الميعاد المضروب لرده، لأن القرض إرفاق وإحسان، وما على المحسنين من سبيل، وقال المالكية: لا بل الأجل لازم ولا يجب على المقترض رد القرض إلا في الأجل المحدد له، لأن عدم لزوم الأجل قد يترتب عليه إلحاق ضرر بالمقترض، وهذا أمر يتنافى مع غرض مشروعية القرض – وهو الإرفاق بالمقترض لا إعناته والإضرار به.
وسواء أصح ما ذهب إليه المالكية – كما نرى – أم ما ذهب إليه غيرهم فإنهم جميعا المالكية وغيرهم متفقون على أن لزوم – اشتراط الأجل، أو عدم لزومه في القرض، لا يؤثر في صحة عقد القرض، ولا يبطله، أو يخرجه عن ماهيته، ويحوله إلى عقد آخر – كعقد السلم – كما يقول الباحث.
وقوله: أن اشتراط الأجل لا يجوز عند الشافعية، قول غير صحيح لأن قضية الأجل عند الشافعية وغيرهم هي حول لزومه، وعدم لزومه كما ذكرنا، لا بخصوص جوازه أو منعه، وفرق كبير بين جواز الشرط وبين لزومه.
وعليه فإن القرض مع الأجل يظل صحيحا وتترتب عليه آثاره باتفاق جميع الفقهاء، ولا يتحول إلى عقد سلم سواء قلنا بلزوم شرط الأجل فيه أم لا.
ومن جهة أخرى، فإن السلم لا ينعقد إذا كان رأس مال السلم والمسلم فيه نقدا – أي الثمن والمثمن، حتى ولو كان النقد من نوع (الفلوس) ، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض أو – السلف فينعقد حينئذ قرضا حتما، أما سلما فلا ينعقد إطلاقا.
فقد جاء في حاشية الصاوى على الشرح الصغير الآتى:
" قوله: إلا أن يكونا طعامين أو نقدين إلخ، فلا يجوز أن تقول لآخر: أسلمتك أردب قمح في أردب قمح
…
، ولا أسلمك دينارا في قدر من فضة أو دينار، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض – أو السلف، وإلا، جاز. وعلم أن الفلوس الجدد هنا كالعين، فلا يجوز سلم بعضها" (1) .
وجاء في رد المحتار: " الدراهم والدنانير لأنها أثمان، فلم يجز فيها سلم " وعلق على ذلك ابن عابدين بقوله: " لكن إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير أيضا، كان العقد باطلا اتفاقا "(2) .
وبناء على ما أوضحنا تصبح دعوى تحويل الأموال المتبادلة بين المصارف وعملائها داخلة في عقد السلم – وليست قروضا، وبالتالى تصبح الفوائد عليها حلالا لأن السلم لا يدخله الربا إذا كانت الأموال المستعملة فيه ليست من الأموال الستة الربوية – كالنقود الورقية والفلوس، أقول: تصبح هذه الدعوى منقوضة من أساسها، لعدم صحتها كما بينا.
(1) ج 3 ص 366 طبعة دار المعارف بمصر.
(2)
حاشية ابن عابدين من ج 5 ص 209-210. ولمزيد من الاطلاع في هذه المسألة: انظر كتابنا (الفوائد المصرفية، والربا) صفحة 28-32، الناشر الاتحاد الدولى للبنوك.
أنواع التعامل المصرفى الذى تدخله الفائدة
فيما مضى بينا معنى الربا تفصيلا، ومعنى الفائدة المصرفية وانتهينا إلى أنهما يمثلان شيئا واحدا ولا خلاف بينهما إطلاقا، وبناء على ذلك يجب أن تأخذ الفائدة حكم الربا تماما، فما هى إذن أنواع التعامل المصرفى الذى تدخل فيه الفائدة؟
الإجابة على ذلك فيما يلى: أن الأعمال – أو التعامل المصرفي الذى يمثل الوظيفة الأساسية للمصارف ينقسم إلى نوعين:
الأعمال الخدمية
النوع الأول: يتعلق بالنواحى الخدمية التى يقدمها المصرف لزبائنه والمتعاملين معه بالأجر، وهو ليس من باب الأعمال التى تدخلها الفائدة في العادة، ويشمل الأعمال التالية:
1-
قبول الودائع الجارية – تحت الطلب – وحفظها لأصحابها، وهو في الغالب يأخذ على هذه الخدمة أجرة، وخاصة إذا كانت المبالغ المودعة قليلة، أما إذا كانت المبالغ كبيرة فهو في العادة لا يأخذ عليها أجرة، لأنه كما هو واقع الحال، يستفيد منها في استخداماته لها، وهي في الغالب تمثل أكبر موارد المصارف.
2-
حفظ الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ.
3-
بيع الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ.
4-
تحصيل الأوراق التجارية – الكمبيالات – مثلا.
5-
إصدار خطابات الضمان – المغطاة – أما المكشوفة فالحديث حولها ما زال مطروحا في اللقاءات العلمية.
6-
الاعتمادات المستندية التى لا يقدم المصرف فيها مبالغ نقدية.
7-
ويلحق بهذا قيام المصرف بعمليات الصرافة، أي بيع وشراء العملات المختلفةبعضها بالبعض الآخر.
هذه أبرز الأعمال التى تقوم بها المصارف في باب الخدمات.
أعمال الإقراض والتسليف
النوع الثانى: من التعامل المصرفي الذى تدخله الفائدة وهو من أعمال الإقراض والتسليف في الغالب – أي ما يطلق عليه منح الائتمان في العرف المصرفي، وقلنا في الغالب لأن هناك من القروض والسلف ما قد يكون حسنا، حسبة لله تعالى بدون (فائدة) . وفيما يلى أغلب أنواع هذا النوع وأظهرها:
1-
الفوائد المدفوعة من المصارف، على المبالغ المودعة لديها، خاصة في شكل حسابات بأجل – أيا كان الأجل، شهرا أو عدة شهور، أو سنة وقد تقدم تعريف الفائدة فلا داعي لتكراره.
2-
الفائدة على القرض النقدى المباشر – وهو واضح وبسيط ولكنه لا يمثل إلا قدرا محدودا في العادة من النشاط المصرفي، لارتباطه بقضاء حاجات محدودة للمتعاملين مع المصارف.
3-
الاعتمادات المصرفية – والاعتماد المصرفي كما يعرفه د. محمد شفيق هو: " عقد بين بنك وعميل، يتعهد فيه البنك بوضع مبلغ معين تحت تصرف العميل، خلال مدة معينة " ولأنه عقد يضع البنك بموجبه مبلغا محددا من المال تحت تصرف العميل بحيث يسحبه العميل دفعة واحدة أو على عدة دفعات متعددة، أثناء المدة الزمنية المقررة لسريانه، فإنه والحال هذه، بالإضافة إلى كون هذا المبلغ المسموح للعميل بسحبه بموجب هذا العقد لا تستحق عليه فوائد إلا فيما يسحب منه بالفعل ومن تاريخ السحب، فإنه لهذين الأمرين يمثل الوسيلة الملائمة للعمل التجاري بعكس القرض المباشر الذى تستحق عليه فوائد من حين أخذه، ولو لم يستفد منه في وقته.
4-
الفائدة –على خصم الأوراق التجارية – الكمبيالات- وسندات الإذن، القابلة للتداول، وقد عرفوا الخصم بأنه " اتفاق يعجل به البنك الخاصم، لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية، أو سند قابل للتداول، أو مجرد حق أخر مخصوم منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية، حتى استيفاء قيمة الحق عند أجل الورقة، أو السند، أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك، وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله"(1) . والفائدة على خصم الأوراق التجارية تدخل في هذا الباب على اعتبار أن عملية الخصم هى على القول الراجح في تكييفها الشرعى من قبيل القرض بفائدة. وليست من قبيل حوالة الحق لعدم تساوى الدين المحال به والمحال عليه – وذلك شرط لصحة الحوالة.
كما أنها ليست من قبيل بيع الدين الثابت بالأوراق المخصومة لأن بيع الدين لغير من عليه الدين يلزم فيه التقايض، وعدم التفاضل.
تلك هى أظهر وأوضح أنواع التعامل المصرفى المعاصر التى تدخلها الفائدة – التى هى ربا محرم كما تبين لنا بوضوح من هذا المسار على صفحات هذا البحث، وهناك أنواع أخرى ثانوية في تضاعيف بعض العمليات المصرفية لا تخفى حقيقتها عند النظر.
(1) د. على جمال الدين عوض، عمليات، البنوك من الوجهة العملية ص469، وباقر الصدر، البنك اللاربوى ص155.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 3 بشأن
حكم التعامل المصرفى بالفوائد
وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر.
وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التعامل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، إلى الإقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر:
أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذى حل أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا.
ثانيًا: أن البديل الذى يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التى يرتضيها الإسلام – هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية.
ثالثًا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التى تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامى لتغطى حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
والله أعلم