الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة بلغة المطالع في بيان الحساب والمطالع
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛
فهذه رسالة وجيزة في قضيتين اثنتين؛ قضية المطالع، وقضية الأخذ بقول أهل الحساب في إثبات الشهور القمرية، وقد أقمتها على فصلين وخاتمة، جمعت فيها من النقول النفيسة والأقوال الراجحة الصحيحة ما تلذ له النفوس وتطرب له القلوب، فكان هذا الجمع مقدمة للمقارنة والموازنة من جهة ولذكر ترجيح بعض الفقهاء المعاصرين من جهة أخرى، ثم ثنيت بذكر ما ذهبت إليه في هاتين المسألتين راجيًا المولي تبارك وتعالى أن يجعل لها القبول لدى العلماء والباحثين وعباده الصالحين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
خادم العلم الشريف بدمشق الشام
دمشق يوم عرفة 9 ذو الحجة سنة 1405 هـ د. محمد عبد اللطيف الفرفور
محط الرسالة
تشتمل هذه الرسالة على فصلين وخاتمة، ودونك التفصيل:
الفصل الأول: النقول من المذاهب الفقهية الكبرى في قضيتي المطلع والحساب، وفيه مباحث:
1-
المبحث الأول؛ تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا، وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم (المطالع) .
2-
المبحث الثانى؛ الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين في قضية المطالع.
3-
المبحث الثالث؛ مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة.
الفصل الثانى: ما ذهب إليه المؤلف بدليله في كل من المطالع والحساب وفيه مبحثان:
المبحث الأول؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية المطالع.
المبحث الثانى؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية الحساب.
خاتمة الرسالة.
الفصل الأول
النقول من المذاهب الفقهية الكبرى
في قضيتي المطالع والتوقيت بالحساب
1-
تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم.
2-
الموازنة والمقارنة والترجيح.
3-
القول بالتوقيت والحساب وعدمه.
المبحث الأول
تحقيق قضية اختلاف المطالع وأقوال المذاهب
الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم
(أ) كلام الشيخ محمد بخيت المطيعي؛
اختلاف المطالع لا خلاف فيه لأحد من العلماء لأنه من الأمور الثابتة بالمشاهدة، وقد وافق الشرع العقل على ذلك أيضًا، كما أنهما متفقان على الدوام ألا ترى أن الشارع بنى على اختلاف المطالع كثيرًا من الأحكام فبنى عليه اختلاف أوقات الصلاة ووقت الحج فإن العبرة بمطلع أهل مكة فيه. وبنى عليه أيضا معرفة من تقدم أو تأخر موته في المواريث وغير ذلك كثير وكل ذلك متفق عليه. وإنما اختلفوا بعد ذلك في اعتبار وعدم اعتباره بالنظر لرؤية هلال رمضان وشوال ووجوب الصوم والفطر
…
الأقوال:
1-
فقالت المالكية: متى ثبتت رؤية الهلال بجماعة مستفيضة عم الثبوت جميع البلاد قريبًا وبعيدًا ولا يراعى في ذلك مسافة قصر ولا اتفاق المطالع ولا عدم اتفاقها، فيجب الصوم على كل من بلغه ثبوته بنقل عدلين وبالأولى يجب الصوم على من بلغه بنقل عدلين حكم الحاكم بثبوت الهلال بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة خلافًا لعبد الملك فإنه يقتصر الوجوب على من في ولاية الحاكم.
وقال ابن عبد البر: أن النقل سواء كان عن حكم أو عن رؤية العدلين أو الجماعة المستفيضة إنما يعم البلاد القريبة لا البعيدة جدًا وارتضاه ابن عرفة، ويمكن أن يكون مراد من قال ولو بعيدًا البعد لا جدا فيكون موافقًا لقول ابن عبد البر كذا يؤخذ من شرح خليل وحواشيه فقد اختلف المالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
2-
وقالت الحنفية: كما في الكنز وشرحه للزيلعي ولا عبرة باختلاف المطالع، وقيل يعتبر ومعناه أنه إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بلدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قول من قال: لا عبرة باختلاف المطالع، وعلى قول من قال باعتباره ينظر فإن كان بينهما تقارب بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث تختلف لا يجب.
وأكثر المشائخ على أنه لا يعتبر والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم.
والدليل على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "قدمت الشام وقضيت حاجتها واستهل علىّ شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال لكنا رآيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." قال في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. آهـ
3-
وقالت الحنابلة: لا عبرة باختلاف المطالع.
4-
وقالت الشافعية: كما في النهاية وغيرها: وإذا رؤى ببلد لزم حكمه البلد القريب دون البعيد في الأصح، والبعيد مسافة القصر، وقيل باختلاف المطالع قلت: هذا أصح، والقول الثاني أنه يلزم البعيد أيضا واستدلوا على القول الأصح من اعتبار اختلافهما بمثل ما تقدم عن الزيلعي، وقالوا: لا ينظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع عدم اعتبار قولهم لأنه لا يلزم من عدم اعتبار قولهم في الأصول والأمور العامة عدم اعتباره في الفروع والأمور الخاصة.
وقال القرافي في فروقه: "إن الحق اعتبار اختلاف المطالع وشنع على من قال بعدم اعتباره." وأنت إذا رجعت إلى الواقع ونفس الأمر تجد أن اختلاف المطالع معلوم بالضرورة واختلاف الأوقات باختلافها مشاهد معاين فإن سكان البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة يشاهدون ذلك وكذلك كل من ذهب إلى بلادهم يشاهد ذلك وكذلك صار من المعلوم بالضرورة أن الشمس تظهر ستة أشهر وتختفي ستة أشهر لدى سكان جهة القطب فهل يمكن إذا رأى أهل مصر هلال رمضان وقت الغروب عندهم أن نلكف هؤلاء بالصوم برؤية أهل مصر كما أنه صار من الضرورى التخالف في الأوقات بيننا وبين أهل أمريكا فهل يمكن أن نكلفهم بالصوم برؤية أهل مصر للهلال بعد الغروب مع أن هذا الوقت عندهم ربما كان وقت طلوع الفجر أو وقت شروق الشمس وبالجملة فالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع مخالف للمعقول والمنقول.
أما مخالفته للمعقول فلما علمته من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات وأن النهار عند قوم قد يكون ليلًا عند آخرين.
وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلى آخره. وقول كريب بعد ذلك أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية. أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب والناس وصومهم وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم. ولاشك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز وقد وجد بينهما مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع واحتمال عدم الرؤية فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله كذا قال الإمام الأسنوي. لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيد جدًا لا يلتفت إليه. فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع. فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية أن هذا يرى وهذا لا يرى بل المراد أن رؤية هذا الهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر لأنه غروب ولا هلال في بلدة وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول.
قال الخضري الكبير الدمياطي في شرح اللمعة آخر الفصل العاشر في الكلام على رؤية الهلال: "وعلم أن اختلاف الرؤية في البلاد لا يكون إلا باختلاف المطالع البلدية، واختلاف المطالع البلدية لا يكون إلا باختلاف العرض ثم قال: وأما اختلاف الطول فلا يظهر به كبير فرق." آهـ.
وعرض كل بلدة هو بعدها عن خط الاستواء كما نصّوا في علم الميقات. وأما قول السبكي في العلم المنشور بعد ذكر تلك الاحتمالات الثلاثة فلا إشكال على شئ من الأقوال المتقدمة إلا على قول من يقول إذا رؤى في بلد يلزم سائر البلاد فيمكن أن يجاب عنه بأنه قد يكون في المدينة صحو ليلة الثلاثين. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت بشاهدين وصمنا ثلاثين ولم نر الهلال هل نفطر أو نصوم واحدًا وثلاثين لأن عدم رؤيته مع الصحو يقين وقول الشاهد ظن فلا يترك اليقين بالظن فلعل ابن عباس كان يرى هذا المذهب وهذا هو الوجه الثانى مما يحتمله كلام ابن عباس ويحتمل أن يكون ابن عباس أقام كريبا مقام شاهد واحد على هلال شوال وهلال شوال لا يثبت إلا بشاهدين عند جمهور العلماء فذلك رده لعدم شاهد آخر معه وهذا هو الوجه الثالث مما يحتمله كلام ابن عباس وقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أنه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم:((إذا رأيتموه فصوموا)) الحديث.
ويحتمل أن يكون عنده حديث آخر ونص خاص في مثل هذه الواقعة والحاصل أنه لا معارضة فيه لما تقدم آهـ.
ففيه أن ابن عباس قال: "فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه" فهذا صريح في أن مذهب ابن عباس أن الفطر معلق بالرؤية أو إكمال العدد ثلاثين فقط وأن المشار إليه بقوله: هكذا، هو عدم الإكتفاء برؤية معاوية سواء كان ذلك لحديث:((إذا رأيتموه فصوموا)) أو لغيره وليس ذلك لرد ابن عباس شهادة كريب لأنه شاهد واحد فإن كان كريبا قال لابن عباس: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقد شهد ونقل شهادة الناس وحكم معاوية بالصوم وأما ما تمسك به القائلون بعدم اعتبار اختلاف المطالع من تعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث:((صوموا لرؤيته)) . فمسلم لكنهم لا ينكرون أن الخطاب إنما تعلق عاما بالرؤية بعد الغروب لا مطلقًا فلا يعم إلا بكل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب بل وقت الغروب عند من رأوه هو وقت طلوع الشمس عند الآخرين فكيف نوجب عليهم الصوم ولم يوجد عندهم سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب فعلم أن الحديث عام في كل قوم تحقق بالنسبة إليهم رؤية الهلال بعد الغروب فلا يدل على عدم اعتبار اختلاف المطالع ولذلك قال الزيلعي: والأشبه أنه يعتبر. واقتصر عليه في البدائع، فإنه بعد أن ذكر أن الهلال إذا رآه أهل بلد يلزم أهل البلدة الأخرى قال: هذا إذا كانت المسافة بين البلدتين قرييبة لا تختلف فيها المطالع فأما إذا كانت بعيدة لا يلزم أهل أحد البلدين حكم الآخر لأن مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة مختلفة فيعتبر في كل أهل بلد مطلع بلدهم دون البلد الآخر وإن كان قوله عند المسافة الفاحشة ليس بقيد بل المدار في الحكم على اختلاف المطالع وهو باختلاف عرض البلدين بلا مدخل لبعد المسافة وقربها ولذلك اتفقوا على اعتبار اختلاف المطالع في وجوب الحج فاعتبروا مطلع مكة، وفى الأضحية أوجبوا على كل قوم الأضحية في يوم النحر وهو العاشر من شهر ذى الحجة على حسب ما يرى هلاله عندهم فلا معنى للاختلاف بعد ذلك في الصوم دون سائر أوقات العبادات وبالجملة فالواجب التوفيق بما وفقت به المالكية فيحمل قول من قال بعدم اعتبار اختلاف المطالع على ما إذا كان اختلافها لا يؤدى إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدي إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبني على اختلاف عروضها وأن عرض كل بلد هو بعدها عن خط الاستواء وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف في رؤية الهلال بين البلدين بعد الغروب وإنما يتفاوت مكث الهلال بعده في أفقهما وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك.
وهذا هو الذى يتعين المصير إليه حملًا لكلامهم على السداد لأن المشرع لا يأتي بالمستحيلات. والله الموفق لما فيه الصواب (1) .
قلت: وجاء في الرسالة العلم المشهور في إثبات الشهور للإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي ابن السبكي (2) . ما خلاصته:
"وقد يكون محل خلاف إذا رؤي في بلد دون بلد وبينهما إما مسافة القصر أو اختلاف المطالع فقد اختلف العلماء في ذلك" وبعد أن عدّ الأقوال قال " وإلزام البلاد إذا رؤي في بلد ضعيف جدًا " ثم قال " وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم فكذلك الهلال بالقياس عليه وبأن ما يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم" ثم قال "واعتبار كل بلد لا يتصّور خفاؤه عنهم جيدٌ" آهـ.
(ب) كلام العلامة ابن عابدين في ردّ المحتار؛ " (قوله واختلاف المطالع) جمع مطلع بكسر اللام موضع الطلوع بحر عن ضياء الحلوم (قوله ورؤيته نهارًا الخ) مرفوع عطفًا على اختلاف ومعنى عدم اعتبارها أنه لا يثبت بها حكم من وجوب صوم أو فطر فلذا قال في الخانية فلا يصام له ولا يفطر وأعاده وأنه علم مما قبله ليفيد أن قوله لليلة الآتية لم يثبت بهذه الرؤية بل ثبت ضرورة إكمال العدة كما قررناه، فافهم.
(1) إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة، ص283 وما بعدها للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي من مجموع رسائل
(2)
أنظر (العلم المشهور في إثبات الشهور) لتقي الدين ابن السبكي، ص3 وما بعدها من مجموع رسائل
(قوله على ظاهر المذهب) اعلم أن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه بمعنى أنه قد يكون بين البلدتين بعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في احدى البلدتين دون الأخرى وكذا مطالع الشمس لأن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم كما في الزيلعي. وقدر البعد الذي تختلف فيه المطالع مسيرة شهر فأكثر على ما في القهستاني عن الجواهر اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام فإنه قد انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبينهما شهر آهـ.
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال وفي شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا آهـ فليحفظ.
وإنما الخلاف في اعتبار اختلاف المطالع بمعنى أنه هل يجب عل كل قوم اعتبار مطلعهم ولا يلزم أحدًا العمل بمطلع غيره أم لا يعتبر اختلافها بل يجب العمل بالأسبق رؤية حتى لو رؤي في المشرق ليلة الجمعة وفي المغرب ليلة السبت وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق فقيل بالأول واعتمده الزيلعي وصاحب الفيض وهو الصحيح عند الشافعية لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة وأيده في الدرر بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما وظاهر الثاني وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث ((صوموا لرؤيته)) بخلاف أوقات الصلوات. وتمام تقريره في رسالتنا المذكورة.
تنبيه: يفهم من كلامهم في كتاب الحج أن اختلاف المطالع فيه معتبر فلا يلزمهم شئ لو ظهر أنه رؤي في بلدة أخرى قبلهم بيوم وهل يقال كذلك في حق الأضحية لغير الحجاج لم أره والظاهر نعم لأن اختلاف المطالع إنما يعتبر في الصوم لتعلقه بمطلق الرؤية. وهذا بخلاف الأضحية فالظاهر أنها كأوقات الصلوات يلزم كل قوم بما عندهم فتجزئ الأضحية في اليوم الثالث عشر وإن كان على رؤيا غيرهم هو الرابع عشر والله أعلم.
(قوله فيلزم) فاعله ضمير يعود إلى ثبوت الهلال أي هلال الصوم أو الفطر وأهل المشرق مفعوله؛ أو يلزم بضم الياء من الالزام مبني للمجهول وأهل المشرق نائب الفاعل وبرؤية متعلق بيلزم.
(قوله بطريق موجب) كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي أو يستفيض الخبر بخلاف ما إذا اخبرا أن أهل بلدة كذا رأوه لأنه حكاية ح.
(قوله كما مر) أي عند قوله أشهد أنه شهد ح" (1) .
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار ج2 ص96 والإشارة ح إلى كتاب (حاشية الحلبي على الدر) مصادر المحتار.
في بيان حكم اختلاف المطالع
(ج) كلام العلامة ابن عابدين في مجموع رسائله:
"اعلم أن مطالع الهلال تختلف باختلاف الأقطار والبلدان فقد يُرى الهلال في بلد دون آخر كما أن مطالع الشمس تختلف فإن الشمس قد تطلع في بلد ويكون الليل باقيًا في بلدٍ آخر وذلك مبرهن عليه في كتب الهيئة وهو واقع مشاهد.
(وفي) فتاوى المحقق ابن حجر صرح السبكي والأسنوي بأن المطالع إذا اختلفت فقد يلزم من رؤية الهلال في بلد رؤيته في الآخر من غير عكس إذ الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في الغربية فيلزم عند اختلافها من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي من غير عكس وأما عند اتحادها فيلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر.
ومن ثم أفتى جمع بأنه لو مات أخوان في يوم واحد وقت زواله وأحدهما في المشرق والآخر في المغرب ورث المغربي المشرقي لتقدم موته. وإذا ثبت هذا في الأوقات لزم مثله في الأهلة، وأيضًا فالهلال قد يكون في المشرق قريب الشمس فيستره شعاعها فإذا تأخر غروبها في المغرب بعد عنها فيرى. انتهى.
(لكن) اعترض قوله أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخلوله في البلاد الغربية بأنه ليس على إطلاقه لا من محل القبلية إذا اتحد عرض البلدين جهة وقدرًا أي جهة الجنوب والشمال وقدرًا بأن يكون قدر البعدين عن خط الاستواء سواء. انتهى.
تنبيه: قال في شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد رحمه الله والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا. انتهى.
(قلت) وذكر القهستانى عن الجواهر تحديده بمسيرة شهر فصاعدًا اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام قال فإنه انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبين كل منهما مسيرة شهر. انتهى.
وفي دلالة القصة على ذلك نظرٌ فالأول أولى لأن الظاهر من قوله لا يمكن إلخ أنه قدره بالقواعد الفلكية ولا مانع من اعتبارها هنا كاعتبارها في وقت الصلاة كما سيأتي.
(فتلخص) تحقق اختلاف المطالع وهذا مما لا نزاع فيه وإنما النزاع في أنه هل يعتبر أم لا؟
(قال) الإمام فخر الدين الزيلعي في شرحه على الكنز إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قوله من قال لا عبرة باختلاف المطالع وعلى قول من اعتبره ينظر أن كان بينهما تفاوت بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث يختلف فأكثر المشايخ على أنه لا يعتبر حتى إذا صام أهل بلدة ثلاثين يومًا وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين يومًا يجب عليهم قضاء يوم والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس كلما تحركت درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم.
وروي أن أبا موسى الضرير الفقيه صاحب المختصر قدم الأسكندرية فسئل عمن صعد على منارة الأسكندرية فيرى الشمس بزمان طويل بعد ما غربت عندهم في البلد أيحل له أن يفطر فقال: لا، ويحل لأهل البلد إذْ كلٌ مخاطب بما عنده.
(والدليل) على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال: "قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. انتهى.
(وما) أختاره من اختلاف المطالع هو المعتمد عند الشافعية على ما صححه الإمام النووي في المنهاج عملًا بالحديث المذكور (قال) الرملي في شرحه عليه: ولا نظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع اعتباره في التوابع والأمور الخاصة. انتهى.
(قلت) على أن عدم اعتباره فيما مر إنما هو لمخالفته نص الحديث المعلق وجوب الصوم والفطر على الرؤية دون الحساب ولا مخالفة هنا فيه لنص بل هو موافق النص المذكور عن ابن عباس وللنص المعلق فيه الوجوب على الرؤية بناءً على اعتبار الوجوب في حق كل قوم برؤيتهم كما في اعتباره في أوقات الصلاة فهذا مؤيد لما اختاره الزيلعي من اعتبار اختلاف المطالع.
(لكن) المعتمد الراجح عندنا أنه لا اعتبار به هو ظاهر الرواية وعليه المتون كالكنز وغيره.
(وهو) الصحيح عند الحنابلة كما في الإنصاف. (وكذا) هو مذهب سائر المالكية ففي المختصر وشرحه للشيخ عبد الباقي وعم الخطاب بالصوم سائر البلاد إن نقل ثبوته عن أهل بلد بهما أي بالعدلين والرواية المستفيضة عنهما أي عن الحكم برؤية العدلين أو عن رؤية مستفيضة. انتهى.
(قال) العلامة المحقق الشيخ كمال الدين بن الهمام في فتح القدير وإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب. وقيل يختلف باختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم للرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر والمغرب دون أولئك. ووجه الأول عموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا)) معلقًا بمطلق الرؤية في قوله ((لرؤيته)) وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به من عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت تعلق عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع والله تعالى أعلم. انتهى.
(قلت) ولو تعلق عموم الخطاب بمطلق مسمى الأوقات لزم الحرج العظيم بتكررها كل يوم بخلاف الهلال فإنه في السنة مرة (ثم أجاب المحقق ابن الهمام عن الحديث المار بقوله وقد يقال إن الإشارة في قوله هكذا إلى نحو ما جرى بينه وبين رسول أم الفضل وحيث لا دليل فيه لأن مثل ما وقع من كلامه لو وقع لنا لم نحكم به لأنه يشهد على شهادة غيره ولا على حكم الحاكم (فإن) قيل إخباره عن صوم معاوية يتضمنه لأنه الإمام (يجاب) لأنه لم يأت بلفظة الشهادة ولو سلم فهو واحد لا يثبت بشهادته وجوب القضاء على القاضي والله تعالى أعلم والأخذ بظاهر المذهب أحوط. انتهى.
(قال) في الفتاوى التتارخانية وعليه فتوى الفقيه أبي الليث وبه كان يفتي الإمام الحلواني وكله يقول لو رآه أهل المغرب يجب الصوم على أهل المشرق. انتهى.
(وفي) الخلاصة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى (قال) في فتح القدير ثم إنما يلزم متأخري الرؤية إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب حتى لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا وهذا اليوم ثلاثون بحسابهم ولم ير هؤلاء الهلال لا يباح فطر غد ولا تترك التراويح هذه الليلة لأن هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ولا على شهادة غيرهم وإنما حكوا رؤية غيرهم.
ولو شهدوا أن قاضى بلدة كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما جاز لهذا القاضى أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به. انتهى.
قلت: لكن قال في الذخيرة البرهانية ما نصه قال شمس الإئمة الحلواني رحمة الله تعالى الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى أن الخبر إذا استفاض وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم هذه البلدة. انتهى.
ونقل مثله الشيخ حسن الشرنبلالي في حاشية الدرر عن المفتي وعزاه في الدّر المختار إلى المجتبى وغيره مع أن هذه الاستفاضة ليس فيها حكم ولا شهادة لكن لما كانت الاستفاضة بمنزلة الخبر المتواتر وقد ثبت بها أن أهل تلك البلدة صاموا يوم كذا لزم العمل بها لأن المراد بها بلدة فيها حاكم شرعي كما هو العادة في البلاد الإسلامية فلا بد أن يكون صومهم مبنيًا على حكم حاكمهم الشرعي فكانت تلك الاستفاضة بمعنى نقل الحكم المذكور وهي أقوى من الشهادة بأن أهل تلك البلدة رأوا الهلال يوم كذا وصاموا يوم كذا فإنها مجرد شهادة لا تفيد اليقين فلذا لم تقبل إلا إذا شهدت على الحكم أو على شهادة غيرهم لتكون شهادة معتبرة وإلا فهي مجرد إخبار. أما الاستفاضة فإنها تفيد اليقين كما قلنا ولذا قالوا إذا استفاض وتحقق الخ. فلا ينافي ما تقدم عن فتح القدير ولو سلم وجود المنافاة فالعمل على ما صرحوا بتصحيحه والإمام الحلواني من أجل مشايخ المذهب وقد صرح بأنه الصحيح من مذهب أصحابنا. وكتبت فيما علقته على البحر أن المراد بالاستفاضة تواتر الخبر من الواردين من تلك البلدة إلى البلدة الأخرى لا مجرد الاستفاضة لأنها قد تكون مبنية على إخبار رجل واحد فيشيع الخبر عنه ولا شك أن هذا لا يكفي بدليل قولهم إذا استفاض الخبر وتحقق فإن التحقيق لا يكون إلا بما ذكرنا والله تعالى أعلم.
وقد تلخص مما حررناه، وتحصل مما قررناه، من المسائل المتفرقة والمجتمعة، في هذه الفصول الأربعة، أن المعول عليه، والواجب الرجوع إليه، في مذاهب الإئمة الأربعة المجتهدين، كما هو المحرر في كتب اتباعهم المعتمدين، أن ثبات هلال رمضان، لا يكون إلا بالرؤية ليلًا أو بإكمال عدة شعبان، وأنه لا تعتبر رؤيته في النهار، حتى ولو قبل الزوال عن المختار، وأنه لا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعى ذي العمل الزخار، ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكر ابن حجر وارتضاه، وقال لأنه صار من رمضان عندنا بموجب ذلك الحكم ومقتضاه" (1) .
(د) كلام الباحث السيد يوسف مروّة في كتابه (العلوم الطبيعية في القرآن) :
وجه المؤلف رسالة حول رصد الأهلة إلى كل من أصحاب السماحة: الشيخ حسن خالد مفتى الجمهورية اللبنانية (بيروت)، والمجتهد السيد موسى الصدر في صور (لبنان) وآية الله السيد محسن الطباطبائى الحكيم المجتهد الأكبر في (النجف الأشرف) والشيخ حسن مأمون شيخ الجامعة الأزهرية في (القاهرة) جاء فيها ما يلى: "والملاحظ يا صاحب السماحة أن المسلمين، وعلى رأسهم رجال الدين في هذا العصر، يقدمون على استخدام جميع وسائل ومخترعات ومكتشفات العلم الحديث بدون أي خشية أو تحفظ من أن هذه الوسائل والمخترعات قد تكون خاطئة في المهام الحياتية التي تستخدم لأجلها، فنحن نستخدم السيارة والهاتف والبرق والمذياع والتلفزيون (2) الخ.. كوسائل صالحة وصادقة في النقل والمواصلات والاتصالات، ونستعمل العدسات المحدبة والمقعرة في توضيح الرؤيا، ولكن ما بال رجال الدين لا يقبلون على استخدام المرقب الفلكى (التلسكوب) في إثبات هلالي رمضان وشوال المباركين؟
(1) رسائل ابن عابدين ج2 ص49-53، رسالة تنبيه الغافل والوسنان إلى إثبات هلال رمضان
(2)
أرى أن يعرب هذا الجهاز إلى (الرائى) أو (التلفاز) ، وقد جئت بكلام المؤلف بنصه
إن الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية تقترح على دار الإفتاء، في كل بلد إسلامي، شراء تلسكوب فلكي من الحجم المتوسط، حيث ينصب في دار الإفتاء وبواسطته يمكن لسماحتكم ولجميع رجال الدين أن يستخدموه في هذه المناسبات الدينية وسواها، التي يكثر فيها الخلاف بين المسلمين حول إثبات الأهلة، فالبعض يرى الهلال والبعض الآخر لا يراه، وجماعة تفطر وأخرى تبقى صائمة، ولكل جماعة مقاييسها في هذا الموضوع.
فهذا لا يجوز بعد اليوم في ديار المسلمين، ولا ننسى بأن علماء المسلمين هم أول من استخدم المرقب (الاسطرلاب) أيام ازدهار الدول الإسلامية، ولم ير هؤلاء العلماء الأوائل أي ضرر في استخدام وسيلة علمية للرؤيا إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم، إذ من المعروف أن شهر الصيام المبارك يصادف أثناء فصل الشتاء في بعض السنوات ولا يمكن للعين المجردة أن ترصد الهلال، فما المانع إذا من استخدام المرقب كوسيلة للرصد والرؤيا؟
إن علم الفلك يؤكد وجود فوارق مختلفة بين بلد وآخر، حسب الموقع الجغرافي لكل بلد بالنسبة لخطوط الطول الجغرافية، وبما أن العالم الإسلامي شاسع واسع يمتد من أندونيسيا شرق جنوب آسيا إلى المغرب شمال غرب إفريقيا أي على 160 خطًا من خطوط الطول الأرضية، إذ أن حدود جزر أندونيسيا هي خط الطول 142 درجة شرقًا وحدود البلاد الإسلامية الإفريقية 18 درجة غربًا لذلك لابد من تقسيم العالم الإسلامي إلى ثلاث مجموعات جغرافية:
الأولى تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و20 درجة غربًا وتضم: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالى والنيجر والتشاد ونيجيريا والكامرون والداهومى وغانا وغينيا وشاطئ العاج والسنغال وليبيريا وسيراليون وجميع البلدان الواقعة بين هذين الخطين.
والثانية، تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و80 درجة شرقًا وتضم: مصر والسودان والصومال وتنزانيا والسعودية واليمن والأردن ولبنان وسوريا والعراق والكويت وبلدان الخليج وإيران وتركيا وأفغانستان الغربية وقسم من الهند.
والثالثة تقع بين خطى طول 80 درجة شرقًا و14 درجة شرقًا وتضم: باكستان الشرقية وبورما وتايلاند والصين وماليزيا وأندونيسيا.
ولا يمكن حسب مقتضيات علم الفلك والفيزياء الفلكية أن يولد هلال رمضان المبارك أو سواه من الأهلة في جميع هذه البلدان في أن واحد ولذلك فالقاعدة الشرعية يجب أن تكون كما يلى: (إذا ولد الهلال في بلد، لا يعني ذلك بالحتم والضرورة ولادته في جميع البلدان) وليس كما هو متبع اليوم لدى الكثير من رجال الفقه الذين يتمشون على القاعدة القائلة:
(إذا ولد الهلال في بلد فهو مولود في جميع البلدان)
لذلك أقترح على سماحتكم أن تبدأوا أولًا باتباع الطريقة العلمية العملية العقلية وتوحدوا الوسائل في بلدكم ومن ثم تنطلقوا لتنظيم العالم الإسلامي بأسره على نفس الأسس العلمية.
والجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية على استعداد لإعطاء دروس نظرية وعملية للسادة رجال الدين في كيفية استخدام المرقب الفلكي وطرق الحساب والمقاييس المتبعة في علم الفلك التجريبي، حسب ما ورد في القرآن الكريم من دعوة للتفكر في أجرام الكون ونجومه وكواكبه.
بكل إخلاص واحترام وتقدير. (1)
يوسف مروّة
مؤسس الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية
(1) ص11 و 12
في اختلاف المطالع
جاء في كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي من الفقهاء المعاصرين ما نصه:
"اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر أو اختلاف المطالع ففي رأى الجمهور: يوحّد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع، وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة، ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89كم) .
هذا مع العلم بأن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن الحاكم يرفع الخلاف وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جدًا كالأندلس والحجاز وأندونيسيا والمغرب العربي.
وأذكر أولًا عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.
قال الحنفية: اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أن أهل بلدة كذا رأوه، لأنه حكاية.
وقال المالكية: إذا رئي الهلال، عم الصوم سائر البلاد، قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، أن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.
وقال الحنابلة: إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريبًا كان أوبعيدًا لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.
وأما الشافعية فقالوا: إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا.
وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أن يوافقهم وجوبًا في الصوم آخرًا، وإن كان قد أتم ثلاثين، لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحدًا منهم، فيلزمه حكمهم، وروى أن ابن عباس أمر كريبا بذلك كما سيأتي.
ومن سافر من البلد الآخر الذى لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية عيد معهم وجوبًا، لأنه صار واحدًا منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يومًا، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تامًا عندهم وقضى يومًا أن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح معيّدًا، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلد بعيدة أهلها صيام، فالأصح أنه يمسك بقية اليوم وجوبًا لأنه صار واحدًا منهم.
الأدلة
أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول:
1-
السنة: استدلوا بحديثين أولهما حديث كريب، وثانيهما حديث ابن عمر:
(أ) حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألنى عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية فقال لكنا رآيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ب) حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية ولكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض.
2-
القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة.
3-
المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعًا لاختلاف البلدان.
أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس:
أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) فهو يدل على إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية والمطلق يجرى على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة.
وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكم، لا تعتمد على دليل، هذا
…
وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع.
وقال الصنعاني: والقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التى على سمتها أي على خط من خطوط الطول: وهى ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعد التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض.
وقال الشوكاني: أن الحجة إنما هى في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذى فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله:"هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله "فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين" والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمين، فيلزم غيرهم ما لزمهم. (1)
(1) الفقه الإسلامى وأدلته ج2 ص605 وما بعدها
المبحث الثانى
الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين
جاء في كلام الدكتور الزحيلي:
" والذى ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها.
وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيدًا للعبادة بين المسلمين، ومنعًا من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار. والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هي نحو 9 ساعات فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقيًا أو هاتفيًا.
والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءًا من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى " (1) .
(1) الفقة الإسلامى وأدلته للدكتور وهبة الزحيلى ج2 من ص606-610
المبحث الثالث
مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة وعدمه
كلام العلامة ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر:
" (ولا عبرة بقول الموقتين) أي في وجوب الصوم على الناس بل في المعراج، لا يعتبر قولهم بالاجماع. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه. وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الايضاح وللإمام السبكي الشافعي تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي آهـ.
ومثله في شرح الوهبانية: قلت: ما قاله السبكي رده متأخر وأهل مذهبه ومنهم ابن حجر والرملي في شرح المنهاج وفي فتاوى الشهاب الرملي الكبير الشافعي سئل عن قول السبكي: لوشهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية.
وأطال في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان فهل تقبل الشهادة أم لا؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصًا يغيب ليلة أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ فأجاب بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين وما قاله السبكي مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهرهكذاوهكذا)) . وقال ابن دقيق العيد:
الحساب لا يجوز الاعتماد عليه في الصلاة. انتهى.
والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات. آهـ.
(قوله وقيل نعم الخ) يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم وقد حكى في القنية الأقوال الثلاثة أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قولهم.
ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخسي أنه بعيد.
وعن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط في وجوب الصوم والإفطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم.
ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أنه لا اعتماد على قولهم" (1) .
(1) رد المحتار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين ج2 ص93
في بيان حكم قول علماء النجوم والحساب
وجاء في كلام ابن عابدين في مجموع رسائله ما نصه:
" فنقول: قد صرح علماؤنا وغيرهم بوجوب التماس الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإن رأوه صاموا وإلا أكملوا العدة فاعتبروا الرؤية أو إكمال العدة اتباعًا للأحاديث الآمرة بذلك دون الحساب والتنجيم.
وقد اتفقت عبارات المتون وغيرها من كتب علمائنا الحنفية على قولهم يثبت رمضان برؤية هلاله وبعد شعبان ثلاثين.
ومن المعلوم أن مفاهيم الكتب معتبرة فيفهم منها أنه لا يثبت بغير هذين ولهذا بعد ما عبر في الكنز بما مر قال صاحب النهر في شرحه ما نصه:
وحاصل كلامه أي كلام الكنز أن صوم رمضان لا يلزم إلا بأحد هذين فلا يلزم بقول الموقتين أنه يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح قال مجد الإئمة وعليه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي. وفسر في شرح المنظومة الموقت بالمنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى النجم هنا.
وللإمام السبكى الشافعى تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي.
انتهى كلام النهر.
وسيذكر أن المتأخرين من الشافعية ردوا كلام السبكي.
وفي الأشباه والنظائر قال بعض أصحابنا: لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين.
وعن محمد بن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد قولهم بعد أن يتفق على ذلك جماعة منهم ورده الإمام السرخسي بالحديث ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) . انتهى
قال العلامة نوح في حاشية الدرر والغرر والحديث أخرجه أصحاب السنن والحاكم وصححه بلفظ ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد)) وأخرجه أبو ليلى بسند جيد ((من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا)) . والكاهن من يخبر بالشئ قبل وقوعه كما في الجامع وفي المحكم هو القاضي بالغيب. وفي مختصر النهاية للسيوطي هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار.
وفي القاموس العرّاف كشدّاد الكاهن. وقال الخطابي هو الذي يتعاطى مكان المسروق والضالة ونحوهما. وفي المغرب هو المنجم. انتهى.
والمنجم هو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه. وفي شرح العقائد النسفية إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن انتهى ما ذكره العلامة نوح وقد أطال في ذلك إطالة حسنة.
لكن اعترض بعض محشى الأشباه الاستدلال هنا بالحديث المذكور بأنه لا يبعد أن يقال أن المراد منه النهى عن تصديق الكاهن ونحوه فيما يخبر به عن الحوادث والكوائن التى زعموا أن الاجتماعات والاتصالات العلوية تدل عليها وهو المسمى علم الأحكام وحكمها لا يصح وإن ادعوا الجزم بها كفروا أما مجرد الحساب مثل ظهور الهلال في اليوم الفلاني ووقوع الخسف في ليلة كذا فلا تدخل في النهي بدليل أنه يجوز أن يتعلم به ما يعلم مواقيت الصلاة والقبلة. انتهى.
فالأولي الاستدلال بالأحاديث الدالة على اعتبار الرؤية لا العلم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وقال ((فإن غم عليكم فاكملوا العدة)) ولم يقل فأسألوا أهل الحساب بل قال ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) (وما ذكره) محشي الأشباه قد رايت نحوه منقولًا في أواخر فتاوى الكازروني قال: وفي الجامع الكبير في معالم التفسير في قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قال الفقيه رضي الله عنه أن ما يخبر به المنجم لا يكون غيبًا فلا يناقض قوله تعالى {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وهو على وجهين أن كان المنجم يقول أن هذه الكوائن مخلوقات الله مسخرات بأمره وهي دليل على بعض الأشياء فإنه لا يكون كفرًا وإن جعلها مختارات فاعلات بنفسها لا يكون غيبًا لأن ما يعرف بالحساب لا يكون غيبًا كما أن صبرة من المكيلات أو الموزونات أو المعدودات لو عرف مقدارها بالكيل والوزن والعدد لم يكن ذلك علمًا بالغيب. فكذلك ما يعرف بالرمل ولأنه قول بالظن وغالب الظن ليس علمًا بالغيب لأن المحققين من المنجمين مجمعون على أنه علم بغلبة الظن لأن هذه الأجرام العلوية يحتاج الحاسب إلى مساحتها ومعرفة سيرها ومطرح شعاعها وإنما يعرف ذلك بطريق التقريب لا على الحقيقة فمنهم مخطئ ومصيب.
وأما الحديث فإن ثبت فهو محمول على كهّان العرب والعرافين فإنهم كانوا مشركين يزعمون أن التأثير للفلك الأعظم وأنه الفاعل نفسه ومن قال مثل قولهم وصدقهم فيه فهو كافر وأما إذا صدق بالحساب والكواكب مع اعتقاده بأنها أمارات وأسباب فلا. هذا هو أصل المذهب فاحفظه. انتهى ملخصًا.
(رجعنا) إلى أصل المسألة فنقول الحاصل أن للمتأخرين ثلاثة أقوال نقلها الإمام الزاهدي في القنية (الأولى ما قاله القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين (الثاني) ما نقله عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم (الثالث) ما نقله عن شرح الإمام السرخسي أن الرجوع إلى قولهم عند الاشتباه بعيد لحديث ((من أتى كاهنًا)) ثم نقل أيضا عن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط عندنا في وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال ولا يؤخذ فيه بقول المنجمين. ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أن لا اعتماد على قول المنجمين في هذا.انتهى.
(وقد) ذكر الأقوال الثلاثة ابن وهبان في منظومته جازمًا بالراجح منها قال (وقول أولي التوقيت ليس بموجب. وقيل نعم والبعض أن كان يكثر) . (وفي) الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب انتهى. (وفي) البحر في غاية البيان من قال يرجع فيه إلى قولهم فقد خالف الشرع انتهى. (وفي) معراج الدراية ولا يعتبر قول المنجمين بالإجماع ومن رجع إلى قولهم فقدخالف الشرع وما حكي عن أنهم قالوا يجوز أن يجتهد في ذلك ويعمل بقول المنجمين غير صحيح لحديث ((من أتى كاهنًا)) والمروي عنه صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي بإكمال العدة كما جاء في الحديث كذا في المبسوط. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه وللشافعي رحمه الله وجهان انتهى (وقد) نقل في التتارخانية ما مر من الأقوال. ثم نقل عن تهذيب الشافعية أنه لا يجوز تقليد المنجم في حسابه لا في الصوم ولا في الإفطار وأن في جواز العمل بحساب نفسه وجهين. ومقتضى سكوته عليه أنه ارتضاه ولا مانع من جواز عمله به لنفسه إذا جزم به لما صرحوا به من جواز التسحر والإفطار بالتحري في ظاهر الرواية. وكذا لو أخبره عدل أن الشمس غربت ومال قلبه إلى صدقه له أن يعتمد على قوله ويفطر في ظاهر الرواية كما في التتارخانية أيضًا. وكذا الأسير في دار الحرب يتحرى في دخول الشهر ويصوم وعليه فيمكن التوفيق بين الأقوال الماضية بحمل القول بالعمل به على الجواز لنفسه أو لمن صدقه والقول بعدمه على الوجوب فلا يلزم الأخذ بقوله ولا يثبت به الهلال اتفاقًا. هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم.
(وأما عند المالكية) ففي مختصر الشيخ خليل أنه لا يثبت بقول المنجم قال شارحه الشيخ عبد الباقي لا في حق نفسه ولا في حق غيره ولو كأهله ومن الاعتناء لهم بأمره والمنجم الحاسب الذ لا يحسب قوس الهلال ونوره وفي كلام أنه الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى والحاسب هو الذى يحسب سير الشمس والقمر. وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو نفسه على ذلك وحرم تصديق منجم ويقتل أن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة. انتهى
(وأما الشافعية) ففي الأنوار (للاردبيلي) ولا يجب معرفة منازل القمر لا على العارف بها ولا غيره. انتهى.
(وفي ينابيع الأحكام ولا عبرة بقول المنجم مطلقًا فلا يصوم وإن علم بالحساب أنه أهل على الأظهر إذْ تحكيمه قبيح شرعًا.) انتهى.
وفي شرح المنهاج لابن حجر: لا قول منجم أولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يعتمد النجم وحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره ولا يجوز لأحد تقليدهما. نعم لهما العمل لعلمهما ولكن لا يجزيهما عن رمضان كما صححه في المجموع وإن أطال جمع في رده. انتهى.
(وفي) شرحه للرملي: وفهم من كلامه أي كلام المنهاج عدم وجوبه بقبول المنجم بل لا يجوز. نعم له أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه وقياس قولهم أن الظن يوجب العمل أن يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه والحاسب في معنى المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى. انتهى ملخصًا.
وفي حاشية الشبراملسي على الرملي عند قوله نعم له أن يعمل بحسابه به قال ابن قاسم على ابن حجر (سئل) الشهاب الرملي عن المرجح من جواز عمل الحاسب بحسابه في الصوم هل محله إذا قطع بوجوده ورؤيته أم بوجوده وإن لم تجز رؤيته فإن أئمتهم قد ذكروا للهلال ثلاث حالات: حالة يقطع فيها بوجوده وامتناع رؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ورؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ويجوزون رؤيته (فأجاب) بأن عمل الحاسب شمل للمسائل الثلاث. انتهى.
(وفي) شرح الرملي أيضا وشمل كلام المعد ثبوته "1- بالشهادة ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب ليلة الثالث على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافًا للسبكى ومن سبقه. انتهى.
(قلت) وعبارة والده في فتاواه (سئل) عن قول السبكى لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية وأطال الكلام في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبأن هل تقبل الشهادة أم لا لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصا يغيب ليلة. أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ (فأجاب) بأن المعمول به في المسائل الثلاثة ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين.
وما قاله السبكى مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم.
ووجه ما قلنا، أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) وقال ابن دقيق العيد الحساب لا يجوز اعتماد عليه في الصيام. انتهى.
والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات انتهى كلام الرملي الكبير.
(وفصل) المحقق ابن حجر بأن الذى يتجه فيما لو دل الحساب على كذب الشاهد بالرؤية أن الحساب أن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا.
وقال: وهذا أولى من إطلاق السبكي إلغاء الشهادة المذكورة وإطلاق غيره قبولها. انتهى ملخصًا.
(لكن) اعترضه محشية العلامة ابن القاسم بأنه إخبار عدد التواتر إنما يفيد القطع إذا كان الإخبار عن محسوس فيتوقف على حسية تلك المقدمات والكلام فيه. انتهى. يعني أن كون تلك المقدمات حسية غير مسلم بل هى عقلية أي غير مدركة بإحدى الحواس والعقلى لا يثبت بالتواتر لأنه مما يخطئ فيه الجمع الكثير كخطأ الفلاسفة في قِدم العالم وإلا لزم ثبوت قدمه لاتفاق معظمهم عليه وإن كانوا كفارًا إذ ليس من شرط التواتر إسلام المخبرين كما في شرح التحرير لابن أمير حاج. والله تعالى أعلم.
(وأما عند الحنابلة) ففي الغاية وشرحها من باب صلاة الكسوف: ولا عبرة بقول المنجمين في كسوف ولا غيره مما يخبرون به ولا يجوز عمل به لأنه من الرجم بالغيب فلا يجوز تصديقهم في شئ من المغيبات. انتهى
(فحيث) علم أنه لا اعتماد على ما يقوله علماء النجوم والحساب في إثبات الشهر لعدم اعتباره في الشرع المعلق فيه وجوب الصوم أو الفطر على الرؤية لا على القواعد الفلكية ظهر وتبين خطأ من عارض رؤية الشهر في عامنا هذا الثابتة بالبينة التي اعتبرها الشارع صلى الله عليه وسلم وبنى الأحكام عليها بمجرد الإخبار عن جماعة أنهم رأوا الهلال نهارًا واعتمد على ذلك حتى صام يوم عيده بلا مسوغ شرعى بل بمحض الاحتمال العقلي المخالف لنصوص الشرع التي اعتبرها الإئمة المجتهدون وأتباعهم المعتمدون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (1) .
(1) رسائل ابن عابدين ج2 ص244-249. رسالة تنبيه الغافل والوسنان في أحكام هلال رمضان.
الفصل الثاني
ما ذهب إليه المؤلف بدليله:
1-
ما ذهب إليه المؤلف في المطالع
2-
وما ذهب إليه في مسألة الحساب
المبحث الأول
ما ذهب إليه المؤلف في المطالع
بعد هذه الجولة في رياض الفقه وحدائقه الغناء، والاطلاع على ما كتب الفقهاء المسلمون في هذه القضية أقول - وبالله التوفيق -: " الذي ثبت لدى علماء الطبيعة اليوم في هذا القرن - القرن العشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري - وإني أكتب في يوم الأحد الواقع في 1 المحرم سنة 1406 هـ - الموافق (15 أيلول 1985 م) الذي ثبت بعد اكتشاف مجاهيل الأرض وقاراتها، لا سيما أمريكا، منذ قرابة أربعمائة سنة ونيف أن كلا من القولين (القول باتحاد المطلع لدى أهل المشرق والمغرب، والقول باختلاف المطالع بين كل بلد وبلد ومصر ومصر) كليهما مجانف عن الصحة، بعيد عن الحقيقة العلمية.
ذلك؛ لأن الأرض كما ثبت أهليليجية التكوين (بيضوية)(1) ولها وجهان؛ وجه منير باتجاه الشمس، ووجه معتم باتجاه العكس. فساعة يكون النهار في أوله في الوجه المنير يكون الليل في أوله في الوجه المعتم، ومن هنا يختلف توقيت الزمان، وتوقيت الساعات وما إلى ذلك
…
فتأسيسا على ذلك لا بد من معيار علمي مجرد، نمسك به في حل هذه المشكلة، ألا وهو خطوط الطول.
فلنقسم الأرض حسب هذا المعيار (خطوط الطول) إلى ثلاثة أقطار كبرى رئيسية، والفواصل بينها طبيعية كالبحار:
1-
القارة الأمريكية كلها قطر، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا والبرازيل وأمريكا الجنوبية والجزر التابعة لها إلى قناة بنما.
2-
من المغرب الأقصى وما يسامته شمالا من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا إلى الخليج العربي شرقا وما يسامته شمالا من العراق وتركيا وجبال الأورال. كل ذلك قطر وفيما بين ذلك مثل الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا وأروبا الشرقية والغربية والمغرب الأوسط والأدنى ومصر والسودان والحبشة وما إلى ذلك.
3-
ومن شرق الخليج العربي إلى اليابان قطر، بما فيه من إيران وبلاد الهند والباكستان والأفغان والجمهوريات السوفياتية الإسلامية وبلاد الصين وبلاد اليابان (جزر اليابان) .
فكل قطر من هذه الأقطار الثلاثة وحدة مكانية مستقلة عما عداه من القطرين الآخرين، إذا رؤي الهلال فيه لا يلزم القطر الثاني والثالث، بل يلزم ذلك القطر بكل ما فيه من أمصار ودول وبلاد. والله أعلم.
(1) قال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أي: جعلها كالدحية، وهي البيضة، فيظهر أن هذه النظرية الإهليليجية ثبتت بالقرآن الكريم منذ نزوله، وهو من دلائل الإعجاز، والدحية لغة: هي البيضة، ولا يزال بعض أهل المغرب الأدنى إلى يومنا هذا مثل ليبيا يقولون عن البيضة: دحية. وانظر تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي الجزء الأخير منه في تفسير هذه الآية
المبحث الثاني
خلاصة ما ذهب إليه المؤلف في شأن الحساب لإثبات الأهلة
ذهب الفقهاء الأقدمون رضي الله عنهم والمعاصرون - وفقنا الله وإياهم في هذه المسألة - إلى مذهبين: مذهب أخذ بالحساب مطلقا، ومذهب رفض الأخذ بالحساب مطلقا في شأن إثبات الأهلة.
والذي أراه أن كلا من هذين المذهبين - مع توقيري وتقديري لأصحابهما - إفراط وتفريط، والصواب هو الوسط بين هذا وذاك، لكن لا ضير على من اجتهد فلم يحالفه الصواب فأخطأ فله أجر واحد، وأسأله تعالى أن أكون من أصحاب الأجرين.
الصواب الذي يبدو لي، وهو ما ينبغي أن يصار إليه هو: أن الأصل في إثبات الأهلة الرؤية البصرية أو التلسكوبية من على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل، لقوله عليه الصلاة والسلام:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
فإذا حصل المقصود بهذا الأصل فيها ونعمت كأن جزمنا بالرؤية لوقوعها بأحد الأمرين المذكورين؛ العين المجردة والتلسكوب من على ظهر الأرض وسهلها، وكانت السماء مصحية.
وإذا كانت السماء مصحية ولم ير الهلال في القطر كله كما قدمت في مبحث المطالع، لم نعمد إلى الحساب لوضوح الأمر ولا نقلد قطرا مجاورا كما مر.
وأما إذا كانت السماء غير مصحية واحتمل الأمران ولادة الهلال وعدمها ولم تحدث رؤية معتبرة، فعندها نستطيع الأخذ بقول الفلكيين وأصحاب الأرصاد الجوية ذوي الحسابات الدقيقة لأنهم على علم شبه قطعي بذلك وغلطهم نادر، والعلم يتفق مع الدين ولا يتنافى معه بحال لا سيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعا وعشرين، واحتمل أن يكون ما بعده الثلاثين أو الواحد من الشهر الجديد.
أي مزيد الانمحاق أو الولادة الجديدة، وأعتقد أن هذا الأخذ بقول أهل الأرصاد الجوية وأصحاب الفلك في هذه المسألة رؤية قلبية تدخل تحت الرؤية الشرعية، لأن الرؤية القلبية مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة كما قرر الأصوليون (1) ، ونحن لا نصير إلى هذه الرؤية القلبية إلا عند تعذر الرؤية البصرية واحتمال الولادة وعدمها شرعا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
(1) انظر الوجيز في أصول استنباط الأحكام في الشريعة الإسلامية للمؤلف ج 1 ص 85 وما بعدها
خاتمة الرسالة
في هذه الرسالة يرى القارئ المنصف أن كل ما قيل في هاتين القضيتين: (المطالع والحساب) في إثبات الأهلة والشهور القمرية قديما وحديثا لم يوفق كله للصواب، فكان فيه ما يؤخذ وما يترك، وكان بمثابة دراسة نقلت للقارئ الكريم خلاصتها.
واستطعت بتوفيق الله تعالى أن أتحاشى الإفراط والتفريط وهو ما وقع فيه أكثر الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين في هاتين القضيتين المهمتين وأن أستخلص من ذلك كله عسلا لذة للشاربين.
وأرى أن يكون بحثي هذا مفتاحا للدراسات المستقبلية إن شاء الله تعالى في مجمعنا الفقهي العظيم وفي غيره فمن تلاقح الأفكار تتولد الحقيقة العلمية.
وإني إذ أتقدم ببحثي هذا بكل اعتزاز إلى مجمع الفقه الإسلامي العتيد ذي الصفة الرسمية العالمية (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) بجدة، لأبادر فأشكر للسادة القائمين عليه برئاسته الرشيدة وأمانته المخلصة ما هم أهل له، كفاء ما يقومون به هم وإخوانهم من خدمة للفقه الإسلامي العظيم أسأل الله تعالى أن يكافأهم عليها.
وما أحسن ما قال الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ماقدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق".
والحمد لله أولا وآخراً..
مسرد
أبرز المصادر والمراجع
1-
تفسير أحكام القرآن الإمام القرطبي ط دار الكتب المصرية
2-
أحكام القرآن الإمام الجصاص الرازي الحنفي ط القاهرة 3 مجلدات
3-
مدارك التنزيل ومحاسن التأويل الإمام النسفي (حافظ الدين أبو البركات)
4-
تفسير آيات الأحكام الشيخ محمد علي السايس
5-
مفاتيح الغيب الإمام الفخر الرازي
6-
شرح صحيح البخاري الإمام العيني ط القاهرة
7-
حاشية رد المحتار على الدر في فقه الحنفية العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط أميرية بولاق سنة 1272مع فهرس الخضر وموسوعة الكويت
8-
مجموع رسائل ابن عابدين / جزءان العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط محمد هاشم الكتبي / استانبول در سعادت سنة 1329
9-
رسالة (إرشاد الملة إلى إثبات الأهلة) العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديارالمصرية
(من مجموع رسائل) مط كردستان بمصر 1329
10-
العلم المنشور في إثبات الشهور العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي
(من مجموع رسائل) السبكي مع تعليقات للشيخ محمد جمال الدين القاسمي مط كردستان بمصر سنة 1329
11-
العلوم الطبيعية في القرآن الأستاذ يوسف مروة / منشورات مروة العلمية
12-
الفقه الإسلامي وأدلته الدكتور وهبه الزحيلي / دار الفكر بدمشق
13-
الوجيز في أصول استنباط الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
الأحكام في الشريعة الإسلامية
14-
ابن عابدين وأثره في الفقه الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
(دراسة مقارنة)(رسالة دكتوراه)
15-
مقال تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الأهلة} في مجلة (نهج الإسلام)
الزاهرة بدمشق