الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القواعد والضوابط التي تعين طالب العلم على استنباط الأحكام من أدلتها، فإنه في الحقيقة لا غنى لطالب العلم عما كتبه السلف في كيفية استخراج الأحكام من أدلتها.
وأما قول هذا الشيخ: (إن العالم لا يطلب منه الدليل) فهذا خطأ، بل العالم حقًا هو الذي يعرض الدليل أولاً بقدر ما يستطيع وبحسب فهم السائل، فإن لم يفعل وطلب منه الدليل فليكن منشرح الصدر في طلب الدليل، وليأتِ بالدليل، وكما أسلفت آنفًا أن تمرين الطلبة على استخراج الأحكام من أدلتها من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة من أكبر الوسائل التي تعين على انتشار الأحكام، واستخراج أحكام المسائل الجديدة التي لم تكن معروفة في سلفنا الصالح.
س 194: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله: لقد شاع في هذا الزمان التسرع بالفتوى من غير علم ولا بصيرة، فما حكم الشرع في نظركم في مثل هذا الموضوع
؟
فأجاب بقوله: حكم الشرع فيما نراه ويراه غيرنا من أهل العلم أنه لا يجوز التسرع في الفتوى بغير علم، بل إن الفتوى بغير علم من أعظم الذنوب قرنها الله تعالى بالشرك في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)) (1) .
فالفتي معبر عن الله عز وجل؛ لأنه يتكلم عن أحكام الله في عباد الله، والمفتي معبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء؛ فإذا كان الأمر كذلك فيا ويله إن افترى على الله كذبًا وعلى رسوله؛ فليتحرز الإنسان من التسرع في الفتوى، وليقتدِ بالسلف الصالح
حيث كانوا يتدافعونها، كل منهم يدفعها إلى الآخر ليسلم من مسئوليتها، وليعلم إن الإمامة في الدين لا تكون بمثل هذا، بل إن الناس إذا رأوا متسرعاً في الفتوى وعرفوا كثرة خطئه فإنهم سوف
ينصرفون عنه ولا يثقوا بفتواه، وأما إذا كان رصينًا متأنيًا لا يفتي إلا عن علم، أو عن غلبة ظن فيما يكفي فيه غلبة ظن، فنه حينئذ يكون وقورًا محترمًا بين الناس ويكون لكلامه اعتبار وقبول.
(1) سورة الأعراف، الآية:33.
رسالة حوله خطر الفتوى
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم صاحب الفضيلة
الشيخ..... حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: فإن كتابكم الكريم وصل وكان وقت وصوله زمن امتحان الطلبة وانشغالي بتصحيح أوراق إجابة الطلبة في دروسي.
وقد فهمت ما فيه من انشغالكم حين وفاة والدتي في التجول في بلدة...... على المدارس والتوعية أرجو الله تعالى أن يعينكم وينفع بكم.
هذا وأشكركم على مجيئكم للتعزية بها جزاكم الله عني خيرًا وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين.
ثم ما ذكرتم من خطر الفتوى وأن المفتي معبر عن شرع الله تعالى أمام المستفتين، فالأمر كما ذكرتم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، ونعوذ بالله أن نَزلّ أو نُزلّ، أو نَضلّ أو نُضل، أو نَجهل أو يُجهل علينا، أو نَظلم أن نُظلم.
ولولا معرة كتم العلم وخوف عقاب الله تعالى ما أفتيت أحدًا، ولكني أفتي أرجو أن أسلم من ذلك.
ولولا وجوب اتباع ما ظهر للإنسان أنه الحق ما أفتيت بما تفضلتم به في كتابكم الآنف الذكر.
ولا ريب أن سلوك الاحتياط أسلم للمرء، وأبرأ لذمته، ولكن الاحتياط ليس في لزوم الأشد، إنما الاحتياط في سلوك ما ظهر للمرء أنه الحق سواء كان الأشد أو الأسهل.
ولا يخفى على فضيلتكم أن الله تعالى ساوى بين تحليل الحرام وتحريم الحلال فيما خالف شرع الله فقال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)(1) .
وفي كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)(2)، فقلت له إنا لسنا نعبدهم قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون
ما حرم الله فتحلونه " فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم "(3) . ففي هذا الحديث أن تحريم الحلال كتحليل الحرام.
(1) سورة النحل، الآية:116.
(2)
سورة التوبة، الآية:31.
(3)
انظر: جامع الترمذي/كتاب تفسير القرآن/باب ومن سورة التوبة، برقم (3095) .
وعلى الإنسان أن يتثبت كل التثبت فيما يخالف الجمهور من أهل العلم من أهل مذهبه وغيرهم، لكن إذا تبين له الحق في قول الأخرين لم يكن له بد من القول به؛ لأن المسألة إذا لم يكن عليها
إجماع صارت من مسائل النزاع، ولا يخفى على فضيلتكم مرد النزاع، وكم من قول ظن الإنسان أنه ضعيف بادي الأمر، أو أنه قوي، وبعد التأمل والتثبت تبين له في خلاف ذلك.
وما الروايات المختلفة عن الإمام أحمد رحمه الله، وغيره من الأئمة في حكم المسألة الواحدة إلا من هذا الباب، ومن هذا يعرف الإنسان قصوره واضطراره إلى ربه في تثبته وتوفيقه للصواب.
هذا وقد كتبت لكم برفقة هذا الكتاب تعليقًا مختصرًا على كل مسألة ذكرتموها في كتابكم المشار له ليتبين مأخذ كل مسألة من الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، وأنه ما من مسألة منها إلا ولي فيها
سلف من أهل العلم، ودليل من الكتاب والسنة أو قواعد الشرع، فإن كنت مصيبًا في. ذلك فمن منّة الله وفضله والحمد لله على توفيقه، صان كنت مخطئًا فمن عند نفسي، وأسال الله أن يعفو عني ويلهمني الصواب.
وما ذكر فضيلتكم من أنكم لا تحبون التشهير بين طلبة العلم براد ومردود عليه وأنك نصحت من ردوا عليّ في مسألة المعية، فلا ريب
أن هذا من محاسن خلقك، وتمام نصيحتك لإخوانك وأمتك، فإن انشغال الإخوان بتتبع بعضهم بعضًا فيما يظنونه خطأ، ونشر الردود بينهم فيما هو من مسائل النزاع ومواقع الاجتهاد يحصل به ضرر كبير خاص وعام، وإضعاف لجبهة العلماء الراد والمردود عليه، حتى إنه قد يحصل التندر من بعض السفهاء في هذه الأمور والنزاعات.
أما ما ذكرت من مسألة المعية فقد حصل من جراء ذلك خير كثير خاص بيّ وعام ولله الحمد. وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.
وختامًا أسأل الله لي ولكم التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل في مساعيكم الخير والبركة. وبلغوا سلامي الأبناء ومن سأل عني. والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 12/6/1408 هـ