الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
س 216: سئل فضيلة الشيخ- رحمه الله: عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين
.
فأجاب بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باقٍ بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1) .
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف، ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ بل الواجب على من تمكن من
أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منهما، ولكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثًا في الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخًا أو مقيدًا وأنت تظنه مطلقًا، أو عامًا وأنت تظنه خاصًا وهكذا.
وأما أن نقول: لا تنظر في القرآن والسنة، لأنك لست أهلاً للاجتهاد، فهذا غير صحيح.
ثم إنه على قولنا: إن باب الاجتهاد مفتوح لا يجوز أبدًا أن تحتقر
(1) رواه البخاري/كتاب الاعتصام، برقم (7352) ، ومسلم/كتاب الأقضية برقم (1716) .
آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضًا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها؟! ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الخلاف بين العلماء
…
أسبابه وموقفنا منه
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء:1)) (2) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)) (3) .
أما بعد:
فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل
(1) سورة آل عمران، الآية:102.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:71.
البعض لماذا هذا الموضوع، وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟
ولكن هذا العنوان، وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف
بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لاسيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف؛ لهذا رأيت وبالله أستعين أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شان
كبير عند المسلمين.
إن من نعمة الله- تبارك وتعالى على هذه الأمة أن الخلاف بين الأمة لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية، وهو أمر لابد أن يكون، وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدين بيانَا شافيًا كافيًا، لا يحتاج بعده إلى بيان؛ لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله- عز وجل-
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده- صلوات الله وسلامه عليه- يرجعون عند التنازع إليه، فيحكم بينهم، ويبين لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل
القرآن مبينًا لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله:(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ)(1) فيجيب الله تعالى نبيه بالجواب الشافي، ويأمره أن يبلغه إلى الناس، قال تعالى:(يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(2) .
(وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(3) .
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)) " (4) .
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
(1) سورة البقرة، الآية:189.
(2)
سورة المائدة، الآية:4.
(3)
سورة البقرة، الآية:219.
(4)
سورة الأنفال، الآية:1.
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)) (1) .
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (2) .
إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة، وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه.
ونحن جميعا نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم، وأمانتهم، ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن عمد وقصد؛ لأن من اتصفوا بالعلم والديانة فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان رائده الحق فإن الله سييسره له. واستمعوا إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
(1) سورة البقرة، الآية:189.
(2)
سورة البقرة، الآية:217.
مُدَّكِرٍ (17)) (1) . وقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)) (2) .
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله- تبارك وتعالى لا في الأصول، والتي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابد أن يكون؛ لأن الإنسان كما وصفه الله تعالى
بقوله: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(3) .
الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابد أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور.
ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة، مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف
أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه. وهذا السبب ليس خاصًا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم. ونضرب مثالين وقعا للصحابة رضي الله عنهم من هذا النوع:
(1) سورة القمر، الآية:17.
(2)
سورة الليل، الآيات: 5-7.
(3)
سورة النساء، الآية:27.
الأول: أننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة- رضي الله عنهم فاستشار المهاجرين والأنصار، واختلفوا في ذلك على رأيين، وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه"(1) فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فأخبرهم بهذا الحديث.
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وعبد الله ابن عباس- رضي الله عنهما يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر، أو وضع الحمل، فإذا
وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر، لم تنقض العدة عندهما، وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشرا، وإذا انقضت أربعة أشهر
(1) رواه البخاري/كتاب أحاديث الأنبياء/باب (56) ، برقم (3473) ، ومسلم/كتاب السلام/باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، برقم (2218) .
وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(1) .
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(2) .
وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي، وابن عباس- رضي الله عنهما
- ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية (3) أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج.
ومعنى ذلك: أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى:(وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(4) .
(1) سورة الطلاق، الآية:4.
(2)
سورة البقرة، الآية:234.
(3)
رواه البخاري/كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى:(وأولات الأحمال) /برقم (4910) ، ومسلم/كتاب الطلاق/باب انقطاع عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، برقم (1485.) .
(4)
سورة الطلاق، الآية:4.
وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًا وابن عباس رضي الله عنهما لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فاخذ بما يراه أقوى منه.
ونحن نضرب مثلاً أيضًا، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.
فاطمة بنت قيس- رضي الله عنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه "لا نفقة لها ولا سكنى"(1) ، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى:(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)(2) .
عمر- رضي الله عنه ناهيك به فضلاً وعلمًا- خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم
(1) انظر: صحيح مسلم/كتاب الطلاق/باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، برقم (1480) .
(2)
سورة الطلاق، الآية:4.
نسيت؟ (1) وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر، ومَنْ دونه مِن الصحابة، ومَنْ دونهم مِن التابعين، يقع أيضًا لمن بعدهم من أتباع التابعين،
وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة فلا يأخذون بها نظرًا لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السبب الثالث:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجلَّ مَنْ لا ينسى، كم من إنسانٍ ينسى حديثًا، بل قد ينسى آية.
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسيانًا، وكان معه أبي بن كعب- رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال:"هلا ذكرتنيها"(2) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه:(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)) (3) .
(1) رواه مسلم/كتاب الطلاق/باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها برقم (1480) .
(2)
رواه أحمد 27/241 (16692) ، وأبو داود/كتاب الصلاة/باب الفتح على الإمام في الصلاة، برقم (907) .
(3)
سورة الأعلى، الآيتان: 6، 7.
ومن هذا- أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه- قصة عمر ابن الخطاب مع عمار بن ياسر- رضي الله عنهما حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر. أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر- رضي الله عنه فلم يصل ثم أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا- وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين،
وظاهر كفيه ووجه" وكان عمار- رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر رضي الله عنه، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟
فاخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا"(1) .
ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله علي من طاعتك ألا أحدث به فعلت، فقال له
(1) انظر: صحيح البخاري/كتاب التيمم/باب التيمم ضربة، برقم (347) ، وصحيح مسلم/كتاب الحيض/باب التيمم، برقم (368) .
عمر: نوليك ما توليت- يعني فحدث به الناس- فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه وحصل بينه وبين أبي موسى- رضي الله عنهما مناظرة في هذا
الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لاشك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثًا أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولاً يكون به معذورًا، لكن مَنْ علم الدليل فليس بمعذور.
السبب الرابع:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين.
الأول: من الكتاب.
والثاني: من السنة.
1-
من القرآن قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً) (1) .
اختلف العلماء- رحمهم الله في معنى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)(2) ففهم بعض منهم: أن المراد مطلق اللمس.
وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة.
وفهم آخرون: أن المراد به الجماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس- رضي الله عنهما.
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع مَنْ يرى أنه الجماع؛ لأن الله- تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله:(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(3)، أما الأكبر فقوله:(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(4) وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)(5) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر. وقوله: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)(6) إشارة إلى موجب طهارة
(1) سورة المائدة، الآية:6.
(2)
سورة المائدة، الآية:6.
(3)
سورة المائدة، الآية:6.
(4)
سورة المائدة، الآية:6.
(5)
سورة المائدة، الآية:6.
(6)
سورة المائدة، الآية:6.
الحدث الأكبر. ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض.
والصواب: عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ (1) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضًا.
2-
من السنة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاء جبريل عليه السلام فقال له: إنا لم نضع السلاح فأخرج إلى بني قريظة، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(2) الحديث، فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهمه.
فمنهم: من فهم أن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم
(1) رواه أبو داود/كتاب الصلاة/باب الوضوء من القُبلة، رقم (79) .
(2)
رواه البخاري/كتاب الخوف/باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماء، برقم (946) ، ومسلم/كتاب الجهاد والسير/باب المبادرة بالغزو، برقم (1770) .
في الطريق صلوها، ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.
ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة، فأخروها حتى وصلوا بني قريظة، فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه.
وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم، إذن من أسباب الخلاف أن يفهم الدليل على خلاف مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
السبب الخامس:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ، ولم يعلم بالناسخ فيكون الحد ش صحيحًا، والمراد منه مفهومًا، ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.
ومن هذا رأي ابن مسعود- رضي الله عنه ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟
كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه، ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن فسعود- رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان
يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما (1) ، ولكنه- رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق؛ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(2) .
السبب السادس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعًا.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد.
هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أنه لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص،
(1) انظر: صحيح مسلم/كتاب المساجد ومواضع الصلاة/باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، برقم (534) .
(2)
سورة البقرة، الآية:286.
فيجتمع في ذهنه دليلان:
النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس- رضي الله عنهما في ربا الفضل.
شت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"(1) .
وشت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: "أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة"(2) .
وأجمع العلماء بعد ابن عباس رضي الله عنهما على أن الربا قسمان: ربا فضل.
وربا نسيئة.
أما ابن عباس رضي الله عنهما فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله: لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد.
فإنه عند ابن عباس رضي الله عنهما لا بأس به، لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط. وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من
(1) رواه مسلم/كتاب المساقاة/باب بيع الطعام مثلاً بمثل، برقم (1596) .
(2)
انظر: صحيح مسلم/كناب المساقاة/باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، برقم (1587) .
الذهب يدًا بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال، ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا؛ لأن ابن عباس- رضي الله عنهما يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في
غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة رضي الله عنه يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من زاد أو استزاد فقد أربى"(1) .
إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضًا في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي
يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً)(2) .
إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين" إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف، أو يستدل استدلالاً ضعيفًا.
(1) رواه مسلم/كتاب المساقاة/باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، برقم (1587) .
(2)
سورة آل عمران، الآية:130.
وهذا كثير جدًا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف:
ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح (1) وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم
أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع.
ويرى آخرون: إن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لا يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد- رحمه الله وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها
شذوذًا حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما ألا تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم، أو كل أسبوع، أو كل شهر، أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سندًا ومتنًا، وأن من قال: إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب؛ ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.
(1) رواه أبو داود/كتاب الصلاة/باب صلاة التسبيح برقم (431) .
وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعًا، وإنما أقول:(بدعة) ، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس، لأننا نعتقد أن كل من دان لله- سبحانه وتعالى مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه بدعة.
كذلك أيضًا من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال.
الدليل قوي، لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث "زكاة الجنين زكاة أمه "(1) .
فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن زكاتها زكاة له- أي لا يحتاج إلى زكاة إذا أخرج منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد بالحديث: أن زكاة الجنين كزكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم- ولكن هذا بعيد، والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه "(2) . ومن المعلوم أنه لا يمكن
(1) رواه أحمد 17/362 (11260) ، والترمذي/كتاب الصيد/باب ما جاء في زكاة الجنين، برقم (1476) ، وأبو داود/كتاب الأضاحي/باب ما جاء في زكاة الجنين، برقم (2827) ، وابن ماجه/كتاب الذبائح/باب زكاة الجنين زكاة أمه، برقم (3199) .
(2)
رواه البخار/كتاب الشركة/باب قسمة الغنم/برقم (2488) ، ومسلم/كتاب الأضاحي/باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، برقم (1968) .
إنهار الدم بعد الموت.
هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة، وبحر لا ساحل له، ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء، أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون: مَنْ نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراشٌ ما يصيد وحينئذٍ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علمًا وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.
ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1-
كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحرًا في العلم.
2-
ما موقفنا من اتباعهم؟
ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إمامًا لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب.
أم يتبع ما ترجح عنده من دليل، ولو كان مخالفًا لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟
الجواب هو: الثاني. فالواجب على من علم بالدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة.
ومن اعتقد أن أحدَا غير رسول صلى الله عليه وسلم كل يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركًا بكل حال وزمان فقد شهد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم بخصائص الرسالة، لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر، لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟
هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل هو جيد: أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه،
فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، هذا يحصل فيه فساد الشريعة،
وفساد الخلق والمجتمع.
والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1-
عالم رزقه الله علمًا وفهمًا.
2-
طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.
3-
عامي لا يدري شيئًا.
أما الأول: الذي رزقه الله علمًا وفهمًا، فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتف الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس؛ لأنه مأمور بذلك، قال تعالى:(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(1) وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علمًا ولكنه لم يبلغ درجة الأول: فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزًا في ذلك، وألا يقصر عن سؤال مَنْ هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطئ، وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عامًا، أو قيد ما كان مطلقًا، أو نسخ ما يراه محكمًا، وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل
(1) سورة النساء، الآية:83.
العلم لقوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(1) وفي آية أخرى: (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) (2) فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَنْ يسأل؟
في البلد علماء كثيرون، وكلٌ يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم. فمَنْ الذي يسأل؟
هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفق للعلم في مسألة معينة، ولا يوفق من هو
أفضل منه وأعلم؟
اختلف في هذا أهل العلم:
فمنهم من يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه، فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب، فكذلك
هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علمًا إذ لا فرق.
ومنهم مَنْ يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن من هو أقوى علمًا قد
(1) سورة النحل، الآية:43.
(2)
سورة النحل، الآية: 43، 44.
لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرجح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة- رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية.
والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيرًا أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم ما يقول؛ لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"(1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن القضاة ثلاثة: قاض واحد في الجنة، وهو من
(1) رواه أحمد 36/46 (21715) ، والترمذي/كتاب العلم/باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم (2682) ، وأبو داود/كتاب العلم/باب الحث على طلب العلم، برقم (3641) ، وابن ماجه/في المقدمة/باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم (223) ..
علم الحق فحكم به (1) . كذلك أيضًا من المهم إذا نزلت بك نازلة أن تشد قلبك إلى الله، وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك، لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سُئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطًا من قوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)) (2) ، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل، كما قال تعالى:(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(3) .
وقد ذكر الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بان العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذٍ أن يكون الاستغفار سببًا لفتح الله على المرء.
(1) رواه الترمذي/كتاب الأحكام/باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، برقم (1322) ، وأبو داود/كتاب الأقضية/باب في القاضي يخطئ، برقم (3573) ، وابن ماجه/كتاب الأحكام/باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، برقم (2315) .
(2)
سورة النساء، الآية:105.
(3)
سورة المائدة، الآية:13.
وأسال الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وألَاّ يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيرًا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حسن الخلق وأهميته لطالب العلم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منير اً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الإخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن. والخلق كما يقول أهل العلم هو:
صورة الإنسان الباطنة؛ لأن الإنسان صورتين:
صورة ظاهرة، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليها.
وكما نعلم جميعاً أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك.
وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما
بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق.
فالخُلُق إذن هو:
"الصورة الباطنة التي طُبع الإنسان عليها"، وكما يكون الخلق طبيعة فإنه يكون كسباً. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعاً على الخلق الحسن الجميل قد يحصل على الخلق الحسن الجميل عن طريق
الكسب والمرونة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال يا رسول الله أهما خلقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما"(1) .
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعاً، وتكون تطبعاً، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع، لأن الخلق إذا كان طبيعياً صار سجية للإنسان وطبيعة له، لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن حرم هذا، أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر، فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق.
(1) رواه مسلم/كتاب الإيمان برقم (17) ..
فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق- جل وعلا-، ومعاملة الخلق أيضاً.
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور:
1-
تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق.
2-
وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3-
وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
فهذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله عز وجل.
أولاً: تلقي أخباره بالتصديق:
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى، لأن خبر الله سبحانه وتعالى صادر عن علم، وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه:(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(1) .
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها مدافعاً عنها مجاهداً بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله سبحانه وتعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا من غير المسلمين
(1) سورة النساء، الآية:87.
الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلاً:
ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء،)(1) .
هذا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق إلا بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له:(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)(2) . هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن خلق، وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول، وأن
نجزم بان ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق، وإن اعترض عليه من يعترض. ونعلم علم اليقين أن ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول:(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(3) .
ومثال أخر:
من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تدنو من
(1) أخرجه البخاري/كتاب بدء الخلق/باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه.
(2)
سورة الأنعام، الآية:50.
(3)
سورة يونس، الآية:32.
الخلائق يوم القيامة بقدر ميل (1) ، سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة، هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع هذا فإن الناس لا يحترقون بحرها، مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا، فقد يقول قائل:
كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث؟
حسن الخلق نحو هذا الحديث أن نقبله ونصدق به، وألَاّ يكون في صدورنا حرج منه، ولا ضيق، ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق، ولا يمكن أن نقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لوجود الفارق العظيم. فإذا كان كذلك فإن المؤمن
يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له.
ثانياً: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئًا من أحكام الله، فإذا رد شيئًا من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرًا حكمها، أو ردها مستكبرًا عن العمل بها، أو ردها متهاوناً بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله عز وجل.
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء/باب قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه
…
) ، ومسلم/كتاب الإيمان/باب أدنى أهل الجنة منزلاً.
ولنضرب لذلك مثلاً، الصوم لا شك أنه شاق على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاق، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه عز وجل، يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه، فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة، وهو بذلك راض منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخلق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية، ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمده عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر:
الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر"(1) ، لكن الصلاة بالنسبة
للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه، قال الله تعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (2) . فهي على هؤلاء غير كبيرة بل أنها سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"جعلت قرة عيني في الصلاة"(3) .
(1) أخرجه البخاري/كتاب الأذان/باب فضل العشاء في الجماعة، ومسلم/كتاب المساجد/باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2)
سورة البقرة، الآيتان: 45، 46.
(3)
أخرجه الإمام أحمد 3/128، والنسائي/كتاب النساء/باب عشرة النساء، والحاكم في المستدرك 2/175، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
فحسن الخلق مع الله عز وجل بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن، وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبساً بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائماً قلبك معلق بهذه الصلوات.
ونضرب مثالاً ثالثاً في المعاملات:
في المعاملات حرم الله علينا الربا، حرمه تحريماً صريحاً في القرآن كما قال الله تعالى:(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(1) . وقال فيه: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(2) . فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة، وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله.
المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم. وأما غير المؤمن؟
فإنه لا يقبله ويضيق صدره به، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم
(1) سورة البقرة، الآية:275.
(2)
سورة البقرة، الآية:275.
أن في الربا مكسباً متيقناً وليس فيه مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر. ولهذا قال الله تعالى:(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)(1) .
أمما الأمر الثالث من موضوع حسن الخلق مع الله، فهو تلقي أقداره بالصبر والرضا، وكلنا يعلم أن أقدار الله عز وجل التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم.
هل المرض يلائم الإنسان؟ أبداً فالإنسان يحب أن يكون صحيحاً. وهل الفقر يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنياً. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالماً.
لكن أقدار الله عز وجل بحكمته تتنوع، منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتف طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك.
فما هو حسن الخلق مع الله عز وجل نحو أقدار الله؟
حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدره الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محمودة يستحق عليه الحمد والشكر، وعلى هذا فإن حسن
الخلق مع الله نحو أقداره: هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن.
ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله
(1) سورة البقرة، الآية:279.
وإنا إليه راجعون. وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(1) .
ونوجز ما سبق:
نقول: إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق. وأن حسن الخلق في معاملة الخالق هو: تلقي أخباره بالتصديق، وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق، وتلقي أقداره بالصبر
والرضا. هذا حسن الخلق مع الله.
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم، ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه".
ثلاثة أمور:
1-
كف الأذى.
2-
بذل الندى.
3-
طلاقة الوجه.
ومعنى كف الأذى، أن الإنسان يكف أذاه عن غيره، سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس حسن الخلق، بل هو سيئ الخلق. وقد
أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا،
(1) سورة البقرة، الآية:155.
في شهركم هذا، في بلدكم هذا، (1) .
إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم،
ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهاً إلى من له حق عليك أكبر.
فالإساءة إلى الوالدين مثلاً أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا جيراناً لك. ولهذا قال النبي عليه
الصلاة والسلام: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه"(2) . وفي رواية لمسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" والبوائق هي
الشرور.
وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا
(1) أخرجه البخاري/كتاب الحج/باب الخطبة أيام منى، ومسلم/كتاب الإيمان/باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً
…
) .
(2)
أخرجه البخاري/كتاب الأدب/باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه، ومسلم/كتاب الإيمان/باب تحريم إيذاء الجار.
شخصاً يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شؤونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق؛ لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس
بخلق حسن" (1) .
ومعنى ذلك أنك إذا ظلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في أهل الجنة:(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(2) .
وقال الله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(3) . وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)(4) . وقال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(5) . وكل إنسان يتصل بالناس فلا بد أن يجد من الناس شيئاً من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة يعفو ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/153، والترمذي/كتاب البر والصلة/باب ما جاء في معاشرة الناس، والدارمي/كتاب الرقاق/باب حسن الخلق.
(2)
سورة آل عمران، الآية:134.
(3)
سورة البقرة، الآية:237.
(4)
سورة النور، الآية:22.
(5)
سورة الشورى، الآية:40.
أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(1) .
فما هو الأحسن، السيئة أم الحسنة؟ الحسنة. وتأملوا أنها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة بـ (إذا) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ولكن هل كل أحد يوفق إلى ذلك؟ لا، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(2) .
وهاهنا مسألة:
وهل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقاً محمود ومأمور به؟
قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقاً محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلوماً لديكم أن العفو إنما يحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى:(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الشورى: من الآية40)(3) .
فجعل العفو مقروناً بالإصلاح.
وهل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح؟
الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك، وجنى عليك رجل شرير، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى
(1) سورة فصلت، الآية:34.
(2)
سورة فصلت، الآية:35.
(3)
سورة الشورى، الآية:40.
في شره وفساده، فما هو الأفضل حينئذٍ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟
الأفضل أن نأخذ بالجريمة؟ لأن في ذلك إصلاحاً.
قال شيخ الإسلام: "الإصلاح واجب، والعفو مندوب".
فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوباً على واجب، وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني
الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود، ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.
لابد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول أنا لا أبالي أن أصدم شخصاً؛ لأن ديته في الدرج.
والعياذ بالله؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان، ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز
الثاني يجب أن نلاحظ، هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا
يمكن أن نعفو.
ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنه كثير من الناس.
لماذا نقول: إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟
لماذا نقول ذلك؟
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث، ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين؛ ولهذا لما ذكر الله الميراث قال:(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)(1) . هذه مسألة تخفي على كثير من الناس، وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادثة على شخص ما، فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر في حال المجني عليه، فإن كان عليه دَيْن لا وفاء له إلا من الدية فلا عفو؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني، فإن كان من المتهورين فترك العفو عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كانوا غير مرشدين فلا يملك أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانوا مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل.
والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو من بذل
(1) سورة النساء، الآية:11.
الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط.
وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"(1) .
طلاقة الوجه تدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك، وجرب تجد، لكن إذا كنت عبوساً فإن الناس ينفرون منك، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء
الضغط؛ ولهذا فإن الأطباء ينصحون من ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر، محبوباَ إلى
الخلق.
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق.
(1) أخرجه مسلم/كتاب البر/باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حسن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضيِّق عليهم، بل يدخل السرور
عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لابد منه، أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يُسَّر إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه.
لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (1) .
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله، وهذا خطأ وقلب للحقائق.
كيف تحسن الخلق مع الأباعد، وتسيء الخلق مع الأقارب؟
فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: يا رسول الله: "من أحق الناس بصحابتي أو بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال:
أبوك. في الثالثة أو الرابعة" (2) .
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/250-472، وابن ماجه/كتاب النكاح/باب حسن معاشرة النساء، والهيثمي 4/302-303.
(2)
أخرجه البخاري/كتاب الأدب/باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم/كتاب البر والصلة/باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
والحاصل: إن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه
المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية قد يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤدياً لنتيجته المقصودة.
ولهذا قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)(1) .
هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانياً، بمعنى مربياً لعباد الله على شريعة الله.
فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميداناً للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق.
فحسن الخلق يكون بالطبع، ويكون بالتطبع كما تقدم.
وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "بل جبلك الله عليهما"(2) . وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت الإنسان في مواطن
(1) سورة آل عمران، الآية:79.
(2)
أخرجه مسلم/كتاب الإيمان برقم (17) .
كثيرة؛ لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج إلى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان، ولهذا جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله أوصني، قال: "لا
تغضب" فردد مراراً قال: "لا تغضب" (1) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (2) .
والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة.
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحاسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب،
استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائماً فاجلس، وإذا كنت جالساً فاضجع، وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك.
والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع، وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
(1) أخرجه البخاري/كتاب الأدب/باب الحذر من الغضب.
(2)
أخرجه البخاري/كتاب الأدب/باب الحذر من الغضب، ومسلم/كتاب البر والصلة/باب فضل من يملك نفسه عند الغضب.
كذلك نقول إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟
يكون الإنسان حسن الخلق بالأتي:
أولاً: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئاً من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به.
ثانياً: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك:
إما تشتريه أو لمجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة" (1) .
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق.
ثالثاً: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح.
فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه.
(1) أخرجه البخاري/كتاب البيوع/باب في العطار وبيع المسك.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وألَاّ يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
حث طلبه العلم على الالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن الكريم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله عز وجل، تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين (جبريل) على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى:) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (1) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خيركم من تعلم القرآن
(1) سورة فاطر، الآيتان: 29، 30.
وعلمه، (1) متفق عليه، وعن عائشة- رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(2) متفق عليه، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا
يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها
…
" (3) .
وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي شافعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة ويل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما"(4) .
ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هب كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعلماً فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت
(1) البخاري/كتاب فضائل القرآن/باب خيركم من تعلم القرآن.
(2)
مسلم/كتاب صلاة المسافرين/باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(3)
أخرجه البخاري/كتاب فضائل القرآن/باب فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/باب فضيلة حافظ القرآن.
(4)
أخرجه مسلم/كتاب صلاة المسافرين/باب قراءة القرآن وسورة البقرة.
إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، والتحق بها- ولله الحمد- جم غفير من الشباب، ولم يقتصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضاً وحصل بذلك
خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين.
وإنني لأحث إخواني الذي من الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه
الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح، وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(1) .
ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات- أعني جماعات تحفيظ القرآن- يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد.
يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه.
ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله عز وجل (المساجد) .
ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل.
(1) أخرجه مسلم/كتاب الوصية/باب ما يلحق الإنسان بعد وفاته.
ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره.
ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته، فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة
وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وكلما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد.
يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضرراً من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت الذي هو أشد ضرراً من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه فيء، فإن كل وقت مضى لا
يرجع، كما قيل: أمس الدابر لا يعود.
تندرئ بهم مفسدة الفراغ، فإن للفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل: إن الشباب والفراغ والجدة (1) مفسدة للمرء أي مفسدة فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية
فيها.
ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سبباً للتخريب.
ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول،
(1) الجدة: الغنى.
الذي ربما يفضي إلى فساد الأخلاق.
ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن، ويكون الشاب سطحياً، ليس عنده تفكير عميق، ولا ذهن حاد. وإني لأحث إخواني الذين من الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما من الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر، كما جاء نحو ذلك فيمن جهز غازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا"(1) .
كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملاً بقول الله تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(2) .
وأسال الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن حقق ذلك بمقاله وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين
اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.
(1) أخرجه البخاري/كتاب الجهاد/باب فضل من جهَّز غازياً أو خلفه بخير. ومسلم/ كتاب الإمارة/باب فضل إعانة الغازي.
(2)
سورة المائدة، الآية:2.
رسالة: في التحذير من الحسد وبيان خطره
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه
وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحسد خلق ذميم، وهو: تمني زوال نعمة الله على الغير.
وقيل: الحسد كراهة ما أنعم الله به على غيره.
فالأول هو المشهور عند أهل العلم.
والثاني هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فمجرد كراهة ما أنعم الله به على الناس يعتبر حسداً، والحسد محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وحذر منه، وهو من خصال اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
والحسد مضاره كثيرة: منها: أنه اعتراض على قضاء الله وقدره، وعدم رضا بما قدره الله عز وجل؛ لأن الحاسد يكره هذه النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.
ومنها: أن الحاسد يبقى دائماً في قلق وحرقة ونكد؛ لأن نعم الله على العباد لا تحصى، فإذا كان كلما رأى نعمة على غيره حسده وكره أن تكون هذه النعمة حالة عليه فلا بد أن يكون في قلق دائم، وهذا
هو شأن الحاسد، والعياذ بالله.
ومنها: أن الغالب أن الحاسد يبغي على المحسود فيحاول أن يكتم نعمة الله على المحسود، أو يزيل نعمة الله على هذا المحسود، فيجمع بين الحسد وبين العدوان.
ومنها: أن الحسد يدل على دناءة الحاسد، وأنه شخص لا يحب الخير للغير؛ بل هو سافل ينظر إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرض عن هذا.
ولكن إذا قال قائل: إذا وقع الحسد في قلبي بغير اختياري، فما هو الدواء؟
فالجواب: أن الدواء يكون بأمرين:
الأول: الإعراض عن هذا بالكلية، وأن يتناسى هذا الشيء، وأن يشتغل بما يهمه في نفسه.
الثاني: أن يتأمل ويتفكر في مضار الحسد، فإن التفكر في مضار العمل يوجب النفور منه، ثم يجرب إذا أحب الخير لغيره واطمأن بما أعطاه الله، هل يكون هذا خيراً، أم الخير أن يتتبع نعمة الله على الغير، ثم تبقى حرقة في نفسه، وتسخطاً لقضاء الله وقدره؟!
وليختر أي الطريقين شاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بحسان إلى يوم الدين.
رسالة في بيان خطر التقول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ليس بغريب أن ينسب إلى أحد العلماء المعتبرين ما لم يقله بل ما يصرح بخلافه، وهذا معلوم من عهد السلف الصالح، ففي صحيح مسلم- في كتاب اللباس في باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة
3/1641- أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أرسلت مولاها إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقالت: "بلغني: عنك أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، وميثرة الأرجوان، وصوم رجب كله".
فقال عبد الله: أما ما ذكرت من رجب، فكيف بمن يصوم الأبد؟!
وأما ما ذكرت من العلم في الثوب فني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له"(1) ، فخفت أن يكون العَلمُ منه.
وأما ميثرة الأرجوان، فهذه ميثرة عبد الله، فإذا هي أرجوان.
فرجع مولى أسماء إليها فأخبرها بما قال عبد الله، فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج
(1) رواه البخاري/كعاب اللباس/باب من محمل للوفود برقم (5731) .
وفرجيها مكفوفين بالدبياج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت. فلما قبضت قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى ليستشفى بها.
الميثرة: وطاء يجعل على الرحل ليلين للراكب، من الوثارة. الأرجوان: بضم الهمزة والجيم هو الأحمر الشديد الحمرة.
ومعنى قول ابن عمر: "فكيف بمن يصوم الأبد" الإنكار على من نسب إليه تحريم صوم رجب كله؛ لأنه رضي الله عنه كان يصوم الأبد.
وقد أنكر رضي الله عنه كل ما نسب إليه من تحريم الثلاثة، فأنكر صوم رجب بأنه كان يصوم الأبد.
وتحريم علم الثوب بأنه كان تركه خوفاً من أن يكون من لبس الحرير فهو حكم احتياطي، وأنكر تحريم ميثرة الأرجوان بأنه كان له ميثرة أرجوان.
والمهم أن التقول على العلماء كان من قديم الزمان وله أسباب:
1-
منها أن يسأل الشخص عالماً سؤالاً يقصد به معنى، فيفهم العالم المجيب خلاف ما قصده السائل، فيجيب بحسب ما فهم من السؤال، ويفهم السائل الجواب على ما قصد من السؤال.
2-
ومنها أن يفهم العالم السؤال على ما قصده به السائل فيجيبه
بحسبه، لكن يفهم السائل منه خلاف ما قصده المجيب.
3-
ومنها أن يكون له هوى في حكم مسألة ما، فيشيع نسبته إلى عالم معروف؛ ليكون أدعى لقبوله.
4-
ومنها أن يكون الحكم غريباً منكراً، فينسبه إلى عالم ليشوه به سمعته ويتخذ من في ذلك وسيلة إلى غيبته، والإيقاع به، مع أن العالم لم يكن منه فتوى في ذلك.
إلى غير ذلك من الأسباب وشر الأسباب التي ذكرناها هذا الأخير والذي قبله.
ولكن الواجب على من سمع من ذلك أن يتثبت أولاً من صحة نسبة القول إلى العالم، ثم يتأمل في القول المنقول هل له حظ من النظر، فإن كان له حظ من النظر قبله ودافع عنه؛ لأنه حق والحق
يجب قبوله والدفاع عن القائل به.
وإن لم يكن له حظ من النظر، اتصل بقائله وناقشه بأدب، فيقول: بلغني كذا وكذا،. فما وجه ذلك في شريف علمكم، أو نحو هذه العبارة.
ثم يأخذ في النقاش معه بأدب واحترام، لقوله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(1) ،
(1) سورة النحل، الآية:125.
إلا أن يكون معاندًا ظالمًا فيجادل بما يستحق، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب:(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(1) .
وإذ تبين الحق بعد النقاش وجب على من تبين له اتباعه، والدفاع عمن قال به.
فإن لم يتبين لكل واحد أن الحق مع صاحبه، فالله تعالى حسيب الجميع، وهو تعالى عند قلب كل قائل وقوله، وليس قول كل واحد حجة على الآخر، فليذهب كل واحد إلى ما تبين له أنه الحق، ولا يشنع على صاحبه، أو يبدعه، أو يفسقه ما دامت المسألة تحت مجهر الاجتهاد.
نسأل الله التوفيق للصواب، والعمل بما يرضيه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة، إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بحسان إلى يوم الدين.
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22/6/1417 هـ.
(1) سورة العنكبوت، الآية:46.
رساله
في بيان الموقف الصحيح نحو العلماء
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأل الله لكم التوفيق والسداد والعناية وأن يجزيكم على ما قدمتموه لهذا الدين خير الجزاء.
سماحة الشيخ، نحن إخوانكم في إندونيسيا نحبكم في الله ونتابع أخباركم وفتاواكم، ونستفيد كثيراً من علومكم عن طريق كتبكم وأشرطتكم، وفي هذه المناسبة نستفتيكم فيما كتبه أحد الدعاة في
إحدى مجلات إندونيسيا المسماة بـ"سلفي" قال: "أهل الرأي هم أهل الفكر الذين يستدلون بالقياس أكثر من استدلالهم بالقرآن والحديث، وإمامهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت". وقال: "وأهم شيء في هذا المبحث هو: في أية مسألة نهينا أخذ مفاهيم دينية منه (أبو حنيفة) ، حتى لا نغتر بعده؟ روايات منقولة عنه ضل فيها هو" وقال: "بل أهل السنة يحترمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل احترام، لكن لا يمنعهم ذلك من انتقادهم بأسلوب علمي مؤدب فيما أخطئوا فيه من أجل ألا يتبعوا ما أخطئوا"، ثم قال: "في المسائل العقدية والفقهية كثيراً ما اعتمد أبو حنيفة على قياس، وينقصه
الاهتمام بالأدلة من السنة النبوية"، ثم قال: "هناك روايات تؤكد على أن أبا حنيفة مرجئي، والإرجاء مذهب بدعي مبني على أن الإيمان قول واعتقاد في القلب، دون جعل العمل من ضمنه"، ثم نقل أقوال العلماء الذين تكلموا على أبي حنيفة بكلام شديد التي رواها الإمام اللالكائي مثل قول الثوري، وابن أبي ليلى والحسن بن صالح، وشريك بن عبد الله، وأقوال الأئمة الأخرى مثل ابن قتيبة وابن أبي شيبة، ثم قال: "لكن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من مخالفة أبي حنيفة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقف الأوزاعي منها، حيث قال: "ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما
بظن وإما بهوى". (مجموع الفتاوى 20/304) ثم علق عليه وقال: (موقف شيخ الإسلام المذكور أعلاه لولا أنه خالف آراء الأئمة السابقين مثل الأوزاعي وابن قتيبة وابن أبي شيبة وغيرهم لقبلناه
واعتمدنا عليه في موقفنا نحو أخطاء أبي حنيفة في المسائل الفقهية، لكن عصر شيخ الإسلام بعيد عن أبي حنيفة، والأئمة الذين خالفهم أبو حنيفة عاصروه، أو جاءوا بعده بفترة قصيرة فيكون موقفهم نحو أبي حنيفة أرجح من موقف ابن تيمية نحوه") .
السؤال: ما الموقف الصحيح نحو الإمام أبي حنيفة؟ نرجو توجيهاتكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الموقف الصحيح نحو الأئمة الذين لهم أتباع، يشهدون بعدالتهم، واستقامتهم، ألا نتهجم عليهم، وأن نعتقد أن ما خالفوا فيه الصواب، صادر عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور.
وأبو حنيفة رحمه الله كغيره من الأئمة له أخطاء وله إصابات، ولا أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الإمام مالك: كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والواجب الكف عن أئمة المسلمين، لكن القول إذا كان خطأ، فيذكر القول دون أن يتعرض أحد لقائله بسب، يذكر القول إذا كان خطأ ويرد عليه، هذا هو الطريق السليم.
حرر في 12/2/1425 هـ.
***
تم بحمد الله تعالى المجلد السادس والعشرون
ويليه
بمشيئة الله تعالى المجلد السابع والعشرون