الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آداب طالب العلم
آداب طالب العلم
طالب العلم لابد له من التأدب بآداب، نذكر منها:
الأمر الأول: إخلاص النية لله- عز وجل:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حث عليه ورغب فيه، فقال تعالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(1) .
والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله- عز وجل وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله- عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"(2) يعني:
ريحها. وهذا وعيد شديد.
(1) سورة محمد، الآية:19.
(2)
رواه أحمد 14/169 (8457) ، وأبو داود/كتاب العلم/باب في طلب العلم لغير الله/ برقم (3664) ، وابن ماجه/كتاب الطهارة وسننها/باب الانتفاع بالعلم والعمل به/ برقم (252) .
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ الدنيا، ولكن لأن النظم أصبح مقياس العالم فيها شهادته. فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها فهذه نية سليمة لا تضره شيئا؛ لأنها نية حق.
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله- عز وجل لأن الله- عز وجل أمر بالعلم فقال تعالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(1) .
فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله- عز وجل.
الأمر الثاني: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طلبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:
1-
القرآن الكريم: فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءة وحفظًا وفهمًا وعملاً به، فإن القرآن هو حبل الله المتين، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر
عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر،
(1) سورة محمد، الآية:19.
وفي هذا دلالة على حرص السلف- رضوان الله عليهم- على القرآن، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم.
لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن، والعمل به، والدعوة إليه، وفهمه فهمًا مطابقًا لفهم السلف الصالح.
2-
السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص
الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل الباع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له- أي طالب العلم- كالجناحين للطائر إذا انكسرا لم يطر.
لذلك لا تراعي السنة وتغفل عن القرآن، أو تراعي القرآن وتغفل عن السنة، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءًا كاملاً، لكن لو سألته عن آية من
كتاب الله لرأيته جاهلاً بها، وهذا غلط كبير، فلابد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث مهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه؛ لأن العلماء أشد رسوخًا منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك، ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلاً شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولاً لا يعلم له قائلاً قال:(أنا أقول به إن كان قد قيل به) ، ولا يأخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يستعين بكلام العلماء.
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)) (1) .
لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ) وتدبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحكمة، وإذا كان نزل لذلك فلنرجع إلى
(1) سورة ص، الآية:29.
الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به، ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى:(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) (1) .
ولهذا لا تجد أحدًا أنعم بالاً، ولا أشرح صدرًا، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبدًا، حتى وإن كان فقيرًا، فالمؤمن أشد الناس انشراحًا، وأشد الناس اطمئنانًا، وأوسع صدرًا، واقرؤوا إن شئتم
قول الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2) .
ما هي الحياة الطيبة؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، ان أصابته ضراء
صبر فكان خيرًا له " (3) .
(1) سورة طه، الآيتان: 123، 124.
(2)
سورة النحل، الآية:97.
(3)
رواه مسلم/كتاب الزهد والرقائق/باب المزمن أمره كله خير/برقم (2999) .
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر؟
فالجواب: لا، بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحًا وطمأنينة، ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى:(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(1) . حياة طيبة في قلبه ونفسه.
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر رحمه الله وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول والبغال في موكب. فمر ذات
يوم برجل يهودي في مصر زيات- أي يبيع الزيت- وعادة يكون الزيات وسخ الثياب- فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر- رحمه الله: إن نبيكم يقول: "الدنيا سجن
المؤمن وجنة الكافر" (2) . وأنت قاضي قضاة مصر، وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا- يعني نفسه اليهودي- في هذا العذاب وهذا الشقاء.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله: "أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجنًا، وأما أنت بالنسبة للشقاء
(1) سورة النحل، الآية:97.
(2)
رواه مسلم/كتاب الزهد والرقائق، برقم (2956) .
الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة". فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأسلم.
فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
تال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) (1) .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا، فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف:"لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ".
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله:(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)) (2) .
(1) سورة العصر، الآيات: 1-3.
(2)
سورة التوبة، الآية:58.
وأما الرجوع إلى السنة النبوية: فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أهل العلم بينوا سنته، وبينوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة- ولله الحمد- ظاهرة محفوظة، يستطيع أي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب- إن تمكن- وإلا ففي سؤال أهل العلم.
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ مع أننا نجد أن أناسًا يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا، وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذا، فيقول: أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي.. وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعًا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فما معنى شهادة أن محمدًا رسول الله؟
قال العلماء: معناها: "طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ".
فإذا قال إنسان: أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا؛ فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدًا محضًا ويقولون: "متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه ".
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمدَا رسول الله، وتقتضى هذه الشهادة ألا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع
إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن يحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئًا كثيرًا؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلاً صحيح البخاري، فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام، ومخصص، ومطلق، ومقيد، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.
الأمر الثالث: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره:
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) . والواقع يشهد بذلك، فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(2) . فتنوي رفع الجهل عن نفسك؛ لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفى عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد حلقة؟
أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال.
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو آية"(3) ؛ لأنك إذا علمت رجلاً علمًا وعلمه رجلاً آخر صار لك أجر رجلين، ولو علم ثالثًا صار لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثم صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال:"اللهم اجعل ثوابها لرسول الله"؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل
أجرك.
(1) سورة النحل، الآية:78.
(2)
سورة فاطر، الآية:28.
(3)
رواه البخاري/كتاب أحاديث الأنبياء/باب ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل/ برقم (3461) .
قال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: "العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته ". قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره "؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا
تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.
الأمر الرابع: الدفاع عن الشريعة:
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلو أن رجلاً من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية
فيها ما لا يحصى من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتابًا واحدًا يرد عليه، لكن إذا تكلم عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه، ويدحض كلامه بالقرآن
والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تمامًا، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها، فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو، أو لا يكون ذلك إلا بالرجال؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:
إن مما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبتدعين وسائر أعداء الله- عز وجل ولا يكون ذلك إلا بالعلم
الشرير المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الخامس: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحبًا في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه، ويكون الأمر فيها واضحًا فهذه لا يعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقلنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسان فيه الخلاف، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي
للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتخذ من هذا الخلاف مطعن في
الآخرين، أو يتخذ منها سبب للعداوة والبغضاء.
فالصحابة- رضي الله عنهم يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه
الأيام ديدنًا للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزبًا بأن يقولوا: أنا مع فلان وأنا مع فلان، كان المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.
من ذلك مثلاً كأن يقول أحد: إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل ذلك فأنت مبتدع.
كلمة (مبتدع) ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهة؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول: هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد-
رحمه الله على أنه يخير بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائمًا، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع
الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" (1) . فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود أو يريد بذلك في حال الركوع؛ أو يريد بذلك في حالة القعود؟ لا، بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك
يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب ألا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سببًا للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق، وكلنا فعل ما أداه اجتهاده إليه، فمادام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سببًا للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفون حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يدًا واحدة، ولا يجعلوا
مثل هذا الخلاف سببًا للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفك هو بمقتضي الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
ولهذا فنحن نحب ونهنئ شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهًا قويًا إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل، وأن يبنوا علمهم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببًا للتحزب
والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
(1) رواه البخاري/كتاب الأذان/باب وضع اليمنى على اليسرى/برقم (740) .
شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (1) . فالذين يجعلون أنفسهم أحزابًا يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك؛ لأن حزب الله واحد، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع أحدهم في عرض أخيه.
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل
الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لاشك يفرح أعداء المسلمين، والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله
تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(2) .
وكان الصحابة.رضي الله عنهم يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة: إن الرجل إذا خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلاً منكما طالب للحقيقة، وبالتالي فالهدف واحد وهو
(1) سورة الأنعام، الآية:159.
(2)
سورة الأنفال، الآية:46.
الوصول إلى الحق عن دليل، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقر أنه إنما خالفك بمقتضي الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقى الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما من عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
الأمر السادس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة، وعبادة، وأخلاقًا، وآدابًا، ومعاملة؛ لأن هذا هو ثمرة العلم، وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"القرآن حجة لك أو عليك "(1) . لك إن عملت به وعليك إن لم تعمل
به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بتصديق الأخبار، وامتثال الأحكام، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدقه وخذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لِمَ؟ وكيف؟ فن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)) (2) .
(1) رواه مسلم/كتاب الطهارة/باب فضل الوضوء/برقم (223) .
(2)
سورة الأحزاب، الآية:36.
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول، لا يقولون: لِمَ؟ وكيف؟
بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حدث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحار عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يحال بينه وبين التوفيق، حتى يرد هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلاً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "(1) .
هذا الحديث حدث به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله، كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك؟
لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا، ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من
(1) رواه البخاري/كتاب الدعوات/باب الدعاء نصف الليل/برقم (6321) . ومسلم/ كتاب صلاة المسافرين/باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل/برقم (758) .
الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا: إن الله- عز وجل مستو على عرشه، والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالى لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم
يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب بالقبول والتسليم، وألا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن أمر الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه
الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول صدق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ)(1) .
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها، لا أقول لا مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها؛ لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفات الكمال، لابد أن يعمل بهذا العلم الذي مَنَّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله- عز وجل وكما يعلم كثير
(1) سورة البقرة، الآية:285.
منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين:
أحدهما: الإخلاص لله- عز وجل.
والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها، ولهذا نقول: لابد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، وفي عددها، وفي جنسها، فلابد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.
فلو أن أحدًا أثبت شيئًا من الأسباب لعبادة تعبَّد لله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول، لأنه لابد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة، وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحدًا شرع شيئًا من العبادات لم يأتِ به الشرع أو أتى بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا: إنها مردودة عليك؛ لأنه لابد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد لله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء: إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية، واستدلوا على ذلك بقوله:(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)(1) .
(1) سورة الشورى، الآية:21.
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة- رضي الله عنها: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(1) .
حتى لو كنت مخلصًا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقًا
للوصول إليه فإن ذلك مردود عليك.
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبدًا لله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله:(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ)(2) .
كذلك لابد أن يكون عاملاً بعلمه في الأخلاق والمعاملة، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق والوفاء، ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
(1) رواه مسلم/كتاب الأقضية/باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور/برقم (1718)(18) .
(2)
سورة فاطر، الآية:8.
يحب لنفسه " (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه" (2) ، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن لا يسعون الناس بأخلاقهم، نجد عنده شدة وعنف حتى
في مقام الدعوة إلى الله- عز وجل نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التي أمر بها الله- عز وجل.
واعلم أن حسن الخلق مما يقرب إلى الله- عز وجل، وأولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقًا كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، صان أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ". قالوا يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: االمتكبرون، (3) .
الأمر السابع: الدعوة إلى الله:
أن يكون داعيًا بعلمه إلى الله- عز وجل يدعو في كل مناسبة
(1) رواه البخاري/كتاب الإيمان/باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه/برقم (13) ، ومسلم/كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، برقم (45) .
(2)
رواه مسلم/كتاب الإمارة/باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، برقم (1844) .
(3)
رواه الترمذي/كتاب البر والصلة/باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم (2018) .
في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق، وفي كل مناسبة، هذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة لم يجلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخًا من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.
الأمر الثامن: الحكمة:
أن يكون متحليًا بالحكمة، حيث يقول الله تعالى:(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(1) .
والحكمة أن يكون طالب العلم مربياً لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله- عز وجل بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا- عز وجل:(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(2) .
والحكيم هو: الذي ينزل الأشياء منازلها؛ لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيمًا في دعوته.
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالما: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3) .
(1) سورة البقرة، الآية:269.
(2)
سورة البقرة، الآية:269.
(3)
سورة النحل، الآية:125.
وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(1) .
فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: جاء أعرابي فبال في جهة المسجد، فقام إليه الصحابة رضي الله عنهم يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قضى بوله دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن "(2) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال:"اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا "(3) .
وقصة أخرى: عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم
يصمتونني، سكتّ. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي! ما
(1) سورة العنكبوت، الآية:46.
(2)
رواه مسلم/كتاب الطهارة/باب وجوب غسل البول، برقم (284)(99) .
(3)
رواه البخاري/كتاب الوضوء/باب صب الماء على البول في المسجد برقم (220) .
رأيت معلمًا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله! ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن "(1) . ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله- عز وجل.
ومثال آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وفي يده خاتم ذهب، وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده ورمى به، وقال:
"يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده "(2) ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قيل للرجل: خذ خاتمك انتفع به. فقال: والله لا آخذ خاتمًا طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالاً، وهكذا ينبغي لكل من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها، وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى ينفر الناس من دعوته، لو وجد أحدًا يفعل شيئًا محرمًا لوجدته يشهر به بقوة وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما
أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد،
(1) رواه مسلم/كتاب المساجد/باب تحريم الكلام في الصلاة، برقم (537) .
(2)
رواه مسلم/كتاب اللباس/باب تحريم خاتم الذهب على الرجال، برقم (2090) .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله لما نقل عن الشافعي- رحمه الله ما يراه في أهل الكلام، حينما قال:"حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام ".
قال شيخ الإسلام: إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر، والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يرق
لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، أو أتوا فهومًا، وما أوتوا علومًا، أو أتوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع.
وعين القدر.
عين الشرع أي: لا تأخذنا في الله لومة لائم، كما قال تعالى عن الزانية والزاني:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)(1) .
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه
(1) سورة النور، الآية:2.
أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.
الأمر التاسع: أن يكون الطالب صابرًا على العلم أي مثابرًا عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمرًا في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابرًا على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله- عز وجل مخاطبًا نبيه:(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)) (1) .
الأمر العاشر: احترام العلماء وتقديرهم:
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة
مهمة جدًا؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقًا في حقهم، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا من أكبر
(1) سورة هود، الآية:49.
الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم، بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضًا، وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلاً بين الناس وبين علمه الشرعي، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما أخطؤوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ،
ليبينوا لهم هل الخطأ منهم، أو من الذين قالوا إنهم أخطؤوا؟ لأن الإنسان أحيانًا يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه. والإنسان بشر قال عليه الصلاة والسلام: "كل ابن آدم
خطاء، وخير الخطائين التوابون " (1) .
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فن هذا ليس من طريق السلف.
وكذلك أيضًا ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سلمًا للقدح فيهم في كل شيء، ونتغاضى عما لهم من
(1) رواه أحمد 2/344 (13049) . والترمذي/كتاب أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، برقم (2499) . وابن ماجه/كتاب الزهد/باب ذكر التوبة/برقم (4250) .
الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا)(1) .
يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء، أو العلماء، أو غيرهم فيشيعها بين الناس، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل.
وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحدًا سلط عليك وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويخفي حسناتك وإصاباتك، لعددت ذلك جناية منه عليك. فإذا كنت ترى ذلك في نفسك، فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفًا إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل
بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة.
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. "فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"(2) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه "(3) ، وهذا هو العدل والاستقامة.
(1) سورة المائدة، الآية:8.
(2)
رواه البخاري/كتاب الصلاة/باب تشبيك الأصابع في المسجد غيره، برقم (481) . ومسلم/كتاب البر والصلة/باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم (2585) .
(3)
رواه مسلم/كتاب الإمارة/باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، برقم (1844) .
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار، والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تثبت أولاً، هل صحت عمن نقلت إليه أو لا؟ ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنيًا على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ.
ولكن كيف العلاج في هذه الحال؟
العلاج: أن تتصل بمن نسب إليه الخبر وتقول: نقل عنك كذا وكذا، فهل هذا صحيح؟
ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته؛ لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال: إذا علم السبب بطل العجب.
فلابد أولاً: من التثبت في الخبر والحكم.
ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟
ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه، أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظًا، مختلفان معنى.
فالثبات معناه: الصبر والمثابرة وألا يمل، ولا يضجر، وألا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلاً بعض الطلاب يقرأ في النحو: في الأجرومية، ومرة في متن قطر الندى، ومرة في الألفية.
وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في ألفية العراقي.
وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني، ومرة في شرح المهذب.
وهكذا في كل كتاب، وهلم جرًا، هذا في الغالب لا يحصل علمًا، ولو حصل علمًا فإنه يحصل مسائل لا أصولاً، وتحصيل المسائل كالذي يلتقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتًا بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع، وثابتًا بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكن ذواقًا كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عند شيخ، قرر أولاً من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قررت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر، أو كل أسبوع لك شيخًا، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخًا في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخًا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخًا آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون كالرجل المطلاق كلما تزوج امرأة وجلس عندها أيامًا طلقها وذهب
يطلب أخرى.
أيضًا التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعة المنقول عنه قصدًا وعمدًا، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي
أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه: إذا نقل عن شخص ما ترى أنه خطأ فاسلك طرقًا ثلاثة على الترتيب:.
الأول: التثبت في صحة الخبر.
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صوابًا فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق.
الثالث: وهو الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه، وليكن ذلك بهدوء واحترام.
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم:
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله
عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيرًا من الناس أوتوا علمًا ولكن لم يؤتوا فهمًا. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لابد أن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطراً من الخطأ بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطئ بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم
مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:
المثال الأول: قال الله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)) (1) .
فضل الله- عز وجل سليمان على داود في هذه القضية بالفهم (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) ولكن ليس هناك نقص في علم داود (وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) .
(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 78-79.
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله- عز وجل ما امتاز به سليمان من الفهم، فنه ذكر أيضًا ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى:(وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ) وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم، ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان: أحدهما فيه ماء ساخن دافئ، والآخر فيه ماء بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة؛ فقال بعض الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات "، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره "(1) .
يعني إسباغ الوضوء في أيام البرد، فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء الدافئ المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
(1) رواه مسلم/كتاب الطهارة/باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، برقم (251) .
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إسباغ الوضوء على المكاره " ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين. لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال:"إسباغ الوضوء على المكاره ". أي أن الإنسان
لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد العسر؟
الجواب: في قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(1) . وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر"(2) .
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة؛ فعلينا أن نفهم ماذا أراد الله من عباده؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر؟
لاشك أن الله- عز وجل يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض الآداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثرًا بها في علمه حتى يكون قدوة صالحة، وحتى يكون داعيًا إلى الخير، وإمامًا في دين الله- عز وجل؛ فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما
(1) سورة البقرة، الآية:185.
(2)
رواه البخاري/كتاب الإيمان/باب الدين يسر، برقم (39) .