الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما لآبائهم وأجداهم العذاب المضاعف، لأن كلّا منهم ضلّ وأضلّ.. فالأبناء الذين ضلوا بمتابعة آبائهم، قد ضلّوا، إذ لم يستعملوا عقولهم، كما أنّهم أضلّوا أبناءهم من بعدهم.. وهكذا السابق منهم يضلّ اللاحق، واللاحق يضلّ من بعده.
وقوله تعالى: «وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» هو دفع لهذا الاتهام الذي اتهم به اللاحقون السابقين.. وأنه إذا كان السابقون قد ضلّوا فإن اللاحقين قد ضلوا أيضا، ولم يكن لهم من عقولهم ما يحجزهم عن هذا الضلال، فهم إذن جميعا على سواء فى الضلال.. فلم يضاعف العذاب للسابقين ولا يضاعف للاحقين؟
إنهم- سابقهم ولا حقهم- ضالون مجرمون.. ولكلّ ضعف من العذاب.
وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» هو من مقول القول الذي قاله السابقون للاحقين.. وأن هؤلاء اللاحقين إنما يذوقون العذاب بما كسبت أيديهم، ولن يحمل عنهم وزرهم أحد.
وهذا الخصام الذي بين أهل النار هو عذاب إلى عذاب، حيث يتبرأ بعضهم من بعضهم، ويتمنّى بعضهم لبعض مضاعفة البلاء والعذاب، وقد كانوا فى دنياهم أصدقاء، وأحباء، وأقارب.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .
الآيات: (40- 43)[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 43]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
التفسير: وإذ يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يكون بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأشقياء والسعداء فى الدنيا، من مشاعر مختلفة، ونظرات متصادمة! وفى هذا ما فيه من الكشف عن حال كل منهما، فيعرف أهل النار ما يجد أهل الجنة من نعيم، فتشتدّ حسرتهم وتتضاعف آلامهم، على حين يطّلع أهل الجنة على ما يلقى أهل النار من شدة وبلاء، فيزداد نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» تيئيس لأصحاب النار، وقطع لكل خيط من خيوط الأمل الواهية التي ينسجونها من الأوهام ليخلصوا من هذا البلاء الذي هم فيه.. وإنهم لن يخلصوا أبدا، ولن يخرجوا من النار أبدا.. ولقد سدّت عليهم منافذ السماء، فلا يقبل لهم عمل، ولا يسمع لهم دعاء:«لا تفتح لهم أبواب السماء» وأنهم لن يدخلوا الجنة التي ينظرون إليها وإلى أهلها، وما يلقون فيها من نعيم، وأنه إذا دخل الجمل فى سم الخياط، دخلوا هم الجنة، وهذا تعليق بمستحيل، حسب
طبيعة الأشياء، فلن يدخل الجمل فى ثقب الإبرة أبدا، ولن يدخلوا هم الجنة أبدا.. «وكذلك نجزى المجرمين» .
وقد قرىء «الجمّل» وهو الحبل المجدول، الذي جمع عدّة حبال، فكان حبلا واحدا فى جملته..
والسمّ: الثقب، ومنه سمى السّمّ لأنه ينفذ إلى جسم الإنسان من ثقب تثقبه حمة النحلة أو زنابى العقرب فى جسد اللديغ.
وقوله تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» .
المهاد: الفراش، يمهد ويعدّ للنوم عليه، ومنه: المهد، وهو فراش المولود..
والغواشي: جمع غاشية، وهى ما يغشى الإنسان ويظلله، حتى يكسر عنه حدّة الضوء أو يحجبه، ومنه الغاشية بمعنى الداهية التي تهجم على الإنسان، وقد همه.
فهؤلاء الأشقياء الذين ألقوا فى جهنم، سيكون لهم مهاد، كما لأهل الجنة مهاد، ولكن هذا المهاد من النار! وسيكون فوقهم ظلّة تظلهم، كما لأهل الجنة ظلال تظللهم، ولكنها ظلة من لهيب جهنم ودخانها..!
وفى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» تعليل لهذا التنكيل بهؤلاء المجرمين، لأنهم فوق أنهم مجرمون، قد جاوزوا حدود الإجرام، وبالغوا فيه، فبجرمهم دخلوا النار، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية السابقة «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» وبظلمهم ومجاوزتهم الحدّ فى الجرم نكلّ بهم فى جهنم، وضوعف لهم العذاب «وكذلك نجزى الظالمين» أي نبالغ فى عذابهم كما بالغوا هم فى إجرامهم.
ومما يضاعف فى عذاب أهل النار، هذا النعيم الذي ينعم به أهل الجنة فى مواجهتهم، فإذا هم أغمضوا أعينهم عن أن ينظروا إلى هذا النعيم، حسدا لأهله، امتلأت أسماعهم بكلمات تناجى أهل الجنة بنعيمهم، وتدعوهم إلى التمتع به كما يشاءون، غير مضيق عليهم فى شىء منه، ولا محظور عليهم منه شىء، فهو ملك خالص لهم، وفى هذا يقول الله تعالى:
فهذا هو شأن أهل الجنة، وما يلقون فيها من تكريم وتنعيم.. إنهم أصحاب الجنة، وملّاكها، لا ينازعهم فيها أحد، شأن المالك فيما يملك..
وإذا كان أصحاب النار فى خصام وشقاق، وفى تراشق بالسب واللعن، فإن أصحاب الجنة فى مودة وسلام، وفى أنس وإخاء.. «ونزعنا ما فى صدورهم من غل» فلا أضغان ولا أحقاد، ولا حسد، ولا بغضة.. وفيم يتحاسدون؟ وعلام يتباغضون؟ والخير يملأ كل ما حولهم، ليس لأحد منهم حاجة فى شىء إلا وجدها بين يديه.. فليس فيهم غنى وفقير، وشقى وسعيد، إذ كلهم أغنياء من فضل الله، سعداء برحمته ورضوانه.. لا يجرى على ألسنتهم إلا الحمد والشكران، لله رب العالمين، الذي هداهم إلى الإيمان، ووفقهم لمرضاة الله، والفوز بهذا النعيم الذي هم فيه. «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» يشغلهم حمد الله والثناء عليه والتقلب بالنعيم الذي هم فيه، عن النظر إلى ما خلفوا وراءهم فى الدنيا، وما أصابهم فيها من خير أو بلاء..
وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»
ما يكشف عن فضل الله، ورحمته بعباده، وأن ما يكلّفه المؤمنون من أعمال صالحة، من طاعات وعبادات، هو مما تحتمله النفس، ويطيقه كل إنسان.. فلكل إنسان عمل على قدر طافته، وما تسع نفسه، إذا هو آمن وأخلص الإيمان لله..
فقد رفع الله الحرج عن عباده، وأخذهم بلطفه فيما فرض عليهم من تكاليف.. فليس العمل الصالح المطلوب من لنؤمن عملا على إطلاقه، وإنما هو مقدور بقدر كلّ نفس وما تحتمل. فالمريض.. غير المعافى، والأعمى..
غير المبصر، والمقيد.. غير المطلق.. وهكذا.. فقوله تعالى:«لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» - اعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو بهذه الصفة قيد وارد على الإطلاق المفهوم من قوله تعالى:«وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. فما أوسع رحمة الله، وما أعظم فضله وكرمه!.
وفى قوله تعالى: «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» هو نداء من قبل الحقّ سبحانه وتعالى، يدعو به عباده المؤمنين إلى رحاب جناته، ثم يخلى بينهم وبينها، ويجعلها ميراثا لهم، يرثونه بسبب ما قدموا من أعمال صالحة، كما يرث الولد ما خلّف ولده، وما ثمّر له من مال..
فهذه أعمالهم التي عملوها فى دنياهم قد ثمّرت لهم هذا الميراث، وإنه لميراث عظيم.. جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وذلك فضل من فضل الله، ورحمة من رحماته، وما تلك الأعمال التي عملها المؤمنون إلا أسباب موصلة إلى مرضاة الله، أما هى فى ذاتها، فلا تعدّ شيئا إلى جانب هذا النعيم المقيم..