الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله سبحانه:
«وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» هو تقرير لهذه الحقيقة التي استقام عليها النبىّ ومن تبعه من المؤمنين، إذ أن كل إنسان محاسب على ما عمل، ومجزيّ به، وما تكسبه كل نفس فهو محسوب عليها:«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى.
إذ كل نفس بما كسبت رهينة.
والوزر: الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى:«وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» .
وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» هو تذكير للناس جميعا بربهم الذي أنشأهم، وربّاهم، وأنهم سيعرضون عليه بأعمالهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الآية: (165)[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة الأنعام.. وهى سورة كلها نعم وأفضال، تحدّث كلماتها وآياتها بما لا يحصى من آلاء الله ونعمه المبثوثة فى الوجود، والتي من شأنها أن تطلع ذوى الأبصار والبصائر على ما فى ملكوت الله من آيات القدرة، وروائع الحكمة، فيخبتوا لله ويخشعوا..
وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» بيان لنعمة من نعم الله الكبرى على بنى آدم خاصة، إذ جعلهم «خلائف الأرض» وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، وإحسان إليهم..
وفى قوله تعالى: «خَلائِفَ» إشارة إلى مكانة الإنسان، وسموّ قدره، وأنه ليس مكرّما فى جنسه وحسب، بل هو مكرّم فى كل فرد من أفراده..
فكل إنسان هو خليفة الله فى هذه الأرض، وأنه- وإن كان عضوا فى المجتمع الإنسانى- فليس ذلك بالذي يذهب بشىء من مقومات شخصيته، أو يجور على هذا الوضع الكريم الذي وضعه الله فيه.. فهو خليفة الله، أيّا كان مكانه فى المجتمع.. غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، قويا أو ضعيفا.. إنه خليفة الله فى الأرض، ومن واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة، ويجمع إلى يديه أسبابها ومقوّماتها..
هذا هو الإنسان كما تنظر إليه شريعة الإسلام.. إنسان كريم على الله، خلع عليه خلع الخلافة، وتوجه بتاجها، وجعل درة هذا التاج هو عقله الذي يستطيع به أن يبلغ من السموّ ما يشاء.
وإنه لمن ظلم الإنسان لنفسه، ومن استصغاره لوجوده، أن يسفّ وينحدر عن هذا المستوي الكريم الذي رفعه الله إليه، فيتحول إلى كائن حيوانىّ ذليل، يقاد فينقاد، ويستذل فيذلّ، حتى لينعزل عن العالم الإنسانى، ويصبح على غير الخلق السوىّ الذي خلقه الله عليه.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ..»
وفى قوله تعالى: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» إشارة إلى أن هذا المستوي الكريم الذي وضع الله سبحانه الإنسان فيه- ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجات، بعضها فوق بعض، وإن كان أدنى هذه الدرجات لا ينزل بالإنسان عن درجة الخلافة التي أعده الله لها. فإن نزل الإنسان عن هذه الدرجة فقد نزل عن إنسانيته، وتحلّى عن مكانه بين الناس..
أما هذا التفاوت الذي بين الناس فهو فى مراتب الفضل، ابتداء من
درجة الخلافة، إلى جميع الكمالات التي تمكّن من أسبابها وتؤكد من سلطانها.
وفى هذا التفاوت الذي بين الناس، وفى درجات التفاضل المقسومة بينهم، يتحرك الناس، فيلحق المتأخر بالمتقدم، ويسعى المتقدم ليلحق بمن تقدم عليه وفضله، أو ينزل عن مكانه الذي هو فيه ليأخذه غيره.. وهكذا يتحرك الناس فى الحياة صعودا وهبوطا، ويتبادلون المواقف، ويتنازعون منازل الفضل، وبهذا تظل ريح الحياة فى حركة دائمة مجدّدة. يتنفس فيها الناس أنفاس الأمل، والقوة، والحياة..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ليمتحنكم فيما أودع فى كل منكم من قوى، هى رصيد كل منكم فى سوق الحياة، وفى هذه السوق يكون العمل، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن كل عمل يحمل جزاءه معه، جزاء معجّلا، يجده الإنسان فى الدنيا، قبل أن يلقى الجزاء عليه فى الآخرة.
فالأعمال الطيبة تفوح منها ريح طيبة على صاحبها، فيجد فيها رضى النفس، وراحة الضمير، وحسن الأحدوثة، وسلامة العاقبة.. والأعمال الخبيثة تهب منها على صاحبها ريح خبيثة تزكم أنفه، وتخنق صدره، وتفسد حياته، وتضلّ سعيه..
هذا هو الجزاء السريع العاجل فى الدنيا لكل عمل.. «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» .
أما فى الآخرة، فهناك الحساب والجزاء، لأعمال الإنسان جميعها، حيث تسوّى أعماله خيرها وشرها، ويوفىّ الجزاء العادل عليها.
وهذا الجزاء المعجل والمؤجّل معا، تحفّه مغفرة الله، وتمسه رحمته، ولولا
ذلك لهلك الناس جميعا، ولما نجا منهم أحد.. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» : (61: النحل) وكون الله بصيرا بعباده، يقتضى أنه عالم بما فيهم من ضعف إنسانىّ، إن لم تمسسهم رحمة الله، وتحفّ بهم مغفرته لم يكن للناس جميعا سبيل إلى الخلاص والنجاة، وهذا ما يكشف عنه سرّ الجمع بين ما عند الله من عقاب سريع، وما عنده من مغفرة ورحمة:«إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .