الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (39- 41)[سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
التفسير: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» استدعاء لهؤلاء المكذبين الضّالين، من بين عوالم الأحياء كلها، التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، فى قوله تعالى:«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» .
وفى هذا الاستدعاء، ينعزل الضالون المكذبون بالله وآياته، عن هذا الوجود، كما يعزل المرضى بأمراض خبيثة عن الأصحاء! وهؤلاء الضالون المكذبون، هم فى حقيقتهم مصابون بأمراض خبيثة، لا فى أبدانهم، ولكن فى عقولهم..
إنهم كما وصفهم الحق جلّ وعلا: «صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» .
وانظر إلى هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يحتويه الظلام ويشتمل عليه! إنه أصمّ لا يسمع.. أي لا يصل إليه من العالم الخارجي مسموع.
وإنه أبكم، لا ينطق.. أي لا يصل منه إلى العالم الخارجي منطوق.
فهو- والحال كذلك- مصمت مغلق، لا يتصل بشىء، ولا يتصل به شىء.
ثم إنه- بعد هذا كله- أعمى، لا يرى شيئا، حتى جوارحه التي معه، من يد أو رجل!! هذا هو حال الذين كفروا بآيات الله..
إنهم كائنات ميّتة، وإن بدت حيّة، فى صورة الأحياء.. فقد تعطلت حواسّهم، وأظلمت قلوبهم وعقولهم، وبهذا لم يكن بينهم وبين آيات الله تعامل، بسمع، أو نظر، أو عقل! وقوله تعالى:«مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو عرض لمشيئة الله، وقدرته، وحكمته.. وأنه سبحانه وتعالى هو مالك الملك، إليه يرجع الأمر كلّه..
وهؤلاء اللذين عصوا الله، وضلّوا عن سبيله، لا يظنون أنّهم أصحاب قوة وسلطان.. إنهم أذلّاء ضعفاء لا يملكون شيئا.. حتى هذا الضلال الذي هم فيه.. إنه ليس لهم، وليس من واردات حولهم وقوّتهم.. إن هناك سلطانا فوق سلطانهم، وقدرة فوق قدرتهم، وبذلك السلطان وبتلك القدرة هم محكومون، وهم صائرون إلى هذا المصير المشئوم الذي هم فيه.. فليموتوا كمدا وحسرة.. إنهم ممن شاء الله أن يضلّهم، لأنهم أهل لما أراده الله بهم! وهؤلاء الذين استجابوا لله، وآمنوا، واستقاموا على طريقه القويم، إنما كانت استجابتهم، يدعوة من الله، وتوفيق لهم منه، إلى الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أخذ بأيديهم إليه، وأدخلهم فى عباده الصالحين، ولولا ذلك لكان شأنهم شأن هؤلاء الضالين، الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم،
وأن ينزلهم منازل الإكرام عنده.. فليهنئهم هذا الرضوان، وليسعدوا بما آتاهم الله من فضله..
وفى مشيئة الله، ومشيئة العباد، كثر القول، واختلفت المقولات، وتعدّدت الآراء، وتشعبت مذاهب الرأى، فكان من ذلك مقولات كثيرة:
فى الجبر والاختيار، وفى القضاء والقدر، وفى الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يتّصل بمشيئة الله، ومشيئة عباده.. وهل للعباد مع مشيئة الله مشيئة؟ وهل إذا كانت لهم مشيئة أفلا ينقص ذلك من كمال الله وقدرته؟ وإذا لم يكن لهم مشيئة فكيف يثابون ويعاقبون على ما لا مشيئة لهم فيه؟ إنهم مسيّرون لا مخيّرون.. وعدل الله يقضى ألا يحاسب إنسان على ما ليس من كسبه؟
وهكذا تتشعب مذاهب القول، وتختلف وجوه الرأى، ويحتدم الصراع بين أصحاب المقولات، ويلتحم القتال زمنا طويلا، يترامى فيه المقاتلون بكل ما يقع لأيديهم من أسلحة، فى مجال الرأى حينا، وفى ميدان الحرب بالرماح والسيوف حينا..
هذا، وسنعرض لهذا الموضوع، فى بحث خاص إن شاء الله.
وقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تسفية وتجريم لهؤلاء الذين أشركوا بالله، وضلّوا عن سبيله.. فإن هؤلاء الضالّين المشركين، إذا كربتهم الكروب، وأحاط بهم البلاء، وعاينوا الموت، تنبهت فيهم قوى الإدراك التي كانوا قد عطلوها، ووضحت لهم الحقيقة التي ضلّوا الطريق إليها، فرأوا أنه لا إله إلا الله وحده، وأنه هو الذي يملك دفع هذه الشدائد، ويقدر عليها.. هنالك يدعون الله، ويضرعون إليه، أن يكشف الضرّ، ويرفع البلاء!
وتلك هى حال الإنسان، فى الشدائد يجتمع رأيه، وتتفتح ملكاته، فيرى الواقع على حقيقته، فإذا زالت الشدة، وانفسح الأمل، أعطى زمامه لهواه، وأسلم وجوده لشيطانه، وعاد إلى ما كان فيه من ضلال وكفر.. «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (8: الزمر) وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَكُمْ» .. الاستفهام يراد به التقرير.. أي أجيبوا على هذا السؤال الذي أنا سائلكم عنه..
وأصل هذا الفعل «أرأيتم» مخاطبا به هؤلاء المشركين خطابا مباشرا..
ولكن لما كان بين هؤلاء المشركين وبين عقولهم حواجز من الضلالات والمنكرات، فقد جاء خطابهم على تلك الصورة، الفريدة، التي تجمع بين مخاطبين، والمخاطب واحد، حتى لكأنه ذاتان، أو ذات منقسمة على نفسها.
وفى قوله تعالى: «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» .. المراد بالعذاب هنا هو ما يأخذهم به لله من عقاب شديد فى الدنيا، كما أخذ به الضالين المكذبين من قبلهم..
وعطف قوله تعالى: «أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على قوله تعالى: «عَذابُ اللَّهِ» لبيان أن هذا العذاب الذي يندرون به، هو عذاب شديد، أشبه بأهوال يوم القيامة..
ومن أجل هذا، كان وقوع المشركين تحت وطأة هذا العذاب داعية لهم إلى أن ينخلعوا عما كانوا فيه من غفلة، واستخفاف، بما يشغلهم من مطالب الحياة الجسدية، التي أعطوها وجودهم كله..، وأن يولّوا وجوههم إلى الله.
ففى مواجهة الشدائد القاسية التي تتهدد وجود الإنسان، وتشرف به على
الهلاك، تنحلّ قوى الجسد، وتتبخر الأهواء المتسلطة عليه، وهنا يجد العقل سماء صافية تسطع فيها أنواره، كما تجد الروح مجالا للحركة والعمل، وإذا الإنسان بعقله وقد تخلص من الضباب الذي انعقد عليه، وبروحه التي انطلقت من قيود هذا الجسد المعربد، وإذا الإنسان هنا، يعاين الحقيقة، ويرى الحق، فيؤمن، إن كان كافرا، ويستيقن، إن كان مؤمنا.
وهذا أشبه بحال من يعالج سكرات الموت، فإنه يرى ماوراء المادة من شواهد الحياة الآخرة، فيؤمن إن كان كافرا، حيث لا ينفعه إيمانه، ويتوب إن كان عاصيا، حين لا تنفعه التوبة.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى لفرعون، وقد آمن بعد أن أدركه الغرق، وأشرف على الموت:«آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (91: يونس) ويقول سبحانه فيمن يتوب وهو فى مواجهة الموت: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» (18: النساء) .
وقوله: «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ اعتراف هؤلاء المشركين بالله.
وجوابهم فى تلك الحال التي يسألون فيها، وهم فى أمن عافية، لا يذكرون معها تلك الحال التي يكونون فيها تحت قهر البلاء والشدة، أو فى مواجهة أهوال القيامة- جوابهم فى تلك الحال، لا يكون إلا جحودا لله، وكفرا به، واستغناء عنه.
وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إشارة إلى هذا الجواب الذي سيعطونه فى تلك الحال، وأنه ليس الجواب الذي يعطونه لو كانوا فى مواجهة المحنة